You are on page 1of 55

‫أبي آدم‬

‫قصة الخليقة بين السطورة والحقيقة‬

‫المؤلف‪ :‬عبد الصبور شاهين ‪.‬‬


‫الناشر‪ :‬دار العتصام‬
‫سنة النشر ‪1998:‬‬
‫نسخة حديثة ‪2003 :‬‬
‫المقاس‪ 17×24 :‬سم‬
‫عدد الصفحات‪192 :‬‬

‫أبي آدم‬
‫قصة الخليقة بين السطورة والحقيقة‬

‫}} مقدمة الطبعة الثانية {{‬

‫حين صدرت الطبعة الولى من هذا الكتاب ) أبي آدم ( أحدثت من الدوي مايحدثه سقوط صخرة ضخمة في بركة آسنة ‪ ،‬وانبعث من‬
‫قلب البركة ‪ -‬أو المجتمع ‪ -‬أناس يتصدون للكتاب ‪ ،‬ولمؤلفه ‪ ،‬ظانين أن بوسعهم أن يخفتوا صوته ‪ ،‬ويخفوا أثره ‪ ،‬بالتشويش والتجريح ‪،‬‬
‫وعلم ال أنهم لم يكونوا يملكون فكرًا قادرًا على إستيعاب مضمون الكتاب ‪ ،‬بل لقد يصدق في وصفهم ما ذكره المرحوم الكاتب‬
‫السلمي مصطفى صادق الرافعي في وصف بعض خصومه ‪ ،‬بأنه )) يرى السماء الصافية فيظن أنها قبة من الزجاج ‪ ،‬وينظر إلى‬
‫النجمة البادية فيرى أنها بيضة من بيض الدجاج (( ‪.‬‬
‫هكذا سمعنا خلل تلك الفترة جعجعة ‪ ،‬ولم نر طحنًا ‪ ،‬وقد قذف وقع الصخرة في البركة بعضهم إلى ساحات القضاء في أربع زخات‬
‫متواليات ‪ ،‬تولى كبرها رجل قانون ‪ ،‬ورجل تدين ‪ ) :‬قضيتان في المحكمة البتدائية ‪ ،‬وأخريان أمام الستئناف العادي والعالي ‪ ،‬فلم يلق‬
‫الرجلن في قضاياهما سوى أحكام الرفض ‪ ،‬وكان سندنا المهم في تلك المواجهة الشرسة ‪ -‬ذات الهداف الخفية ‪ -‬تقرير مستنير أصدره‬
‫مجمع البحوث السلمية ) وهو منشور في ملحق الكتاب ( ‪ ،‬يقرر فيه المجمع أن الكتاب ل يحتوي على مايخالف القرآن الكريم أو‬
‫السنة النبوية ‪ ،‬ول ينكر معلومًا من الدين بالضرورة ‪ ،‬أو ثابتًا من ثوابت العقيدة ‪ ،‬وإنما هو إجتهاد توفرت شروطه في مؤلف الكتاب ‪،‬‬
‫والمجمع قد يختلف معه في بعض النتائج التي توصل إليها ‪ ) .‬أو كما قال ( ‪.‬‬
‫أما الكتاب فقد كان صخرة أردت بها أن أدق رأس الفعى السرائيلية اللبدة في الثقافة السلمية القديمة ‪ ،‬ممثلة فيما سمي‬
‫بالسرائيليات ‪ ،‬وهي ل تعدو أن تكون أساطير خرافية تسللت إلى الفكر السلمي ‪ ،‬وإلى عقل النسان المسلم ‪ ،‬فاعتمدها أئمة من أهل‬
‫التفسير ‪ ،‬ومن خلل تلك التفاسير سكنت في منطقة المسلمات من العقل المسلم ‪ ،‬وهي في الواقع أفعى إسرائيلية إعتنقها كثير من الرجال‬
‫‪ ،‬ممن لم يعملوا عقولهم في تحليل نصوص القرآن ‪ ،‬وممن لم يشعروا بالصدمة حين اتضحت من الرقام المسافات الزمنية الهائلة بين‬
‫معطيات الخرافة ‪ ،‬وتقديرات العلم لماد ما قبل التاريخ ‪ ..‬وأبعاد الحياة البشرية ‪ ..‬لقد خنقت الفعى أفهامهم حين طوقت أعناقهم ‪.‬‬
‫ولبد لنا أن نلتفت أمامنا الن ‪ ،‬فنحن في مواجهة غارة إسرائيلية تحاول استخدام كل الوسائل لتخريب العقل المسلم المعاصر ‪ ،‬وهي ل‬
‫تكف عن ترديد الساطير ‪ ،‬في محاولة لزعزعة يقيننا بأنفسنا ‪ ،‬ويكفي أن يقف رئيس الوزراء السرائيلي السبق مناحم بيجين ‪ -‬أمام‬
‫الهرامات الشامخة ‪ -‬ليردد بصوت عال مزاعمه السرائيلية ‪ ،‬بأن أجداده من بني إسرائيل هم الذين بنوا هذه الثار الخالدة ‪ ،‬وهي‬
‫عملية إغتصاب فاجرة ‪ ،‬يريد بها تجريد الجيال المصرية من كل ميزة أو فضيلة ‪ ،‬هذا على الرغم من أن مناحم بيجين ‪ ،‬وكل من‬
‫ل واحدًا على مايزعمونه إنجازًا لبني إسرائيل في مصر ‪ ،‬بل وأكثر من هذا‬ ‫تجمعوا في فلسطين تحت شعار الصهيونية ‪ ،‬ل يملكون دلي ً‬
‫ل واحدًا على إتصال نسبهم بإسرائيل أو بني إسرائيل ‪ ،‬فهم مجرد لملمة تناثرت في العالم قبل عشرات القرون ‪ ،‬وتجمعت‬ ‫ل يملكون دلي ً‬
‫في شكل مجموعات من الشذاذ ‪ ،‬لتحقيق خطة إستعمارية ‪ ،‬هي ضرب السلم بواسطة هذه الجيوش المرتزقة ‪.‬‬
‫والعجيب أنهم يسطون على التراث السلمي ‪ ،‬ليؤلفوا ملحمة إسرائيلية تتكامل مع العهد القديم ‪ ،‬ليبنوا لنفسهم وجودًا ثقافيًا مؤثرًا في‬
‫العقل المسلم وتاريخة ‪ ،‬وهذا هو شأن الغارة المستوطنة الن في فلسطين ‪ ،‬تحاول بما تثير من غبار الفتراءات والكاذيب‬
‫والسرائيليات ‪ ،‬أن تلهينا عن مرارة واقعنا ‪ ،‬الذي ينبغي أن نحتشد لمقاومته بكل مانملك من قوة وعزم وإصرار ‪ ،‬وأن نرفض كل‬
‫دعاوي السلم الزائفة ‪ ،‬التي ليست سوى وسائل يضحكون بها علينا ‪ ،‬وقد تبين لنا أن السلم الذي تعنيه إسرائيل ‪ ،‬ومن وراءها من‬
‫أمريكان وأوروبيين ‪ ،‬هي عبارة عن هدنة بين حربين ‪ ،‬أولهما سبقت ‪ ،‬والثانية آتية ل ريب فيها ‪.‬‬

‫بل إننا نرى لزامًا علينا أن نجاهد تلك الغارة السرائيلية على قلب عالمنا العربي ‪ -‬في فلسطين ‪ ،‬نجاهدها ماديًا وأدبيًا ‪ ،‬نجاهدها‬
‫ل وتأثيرًا فكريًا وإعلميًا ‪ ،‬وسياسيًا وإقتصاديًا ‪ ...‬لبد أن نقضى على هؤلء الغزاة قبل أن يقضوا علينا ‪ ..‬فقد جاءوا‬
‫إستيطانًا ‪ ،‬واحتل ً‬
‫إلى بلدنا قاتلين أو مقتولين وسنكون نحن قاتليهم ‪ ،‬وسيكونون هم المقتولين ‪ -‬بمشيئة ال تعالى ‪ ،‬حتى نسوقهم إلى حصير جهنم ‪.‬‬
‫لقد ابتلى العقل المسلم المعاصر من قبل مدرستين لهما وجود على الساحة ‪ ،‬ولهما ضجيج مزعج ‪ ،‬وقد آن أوان إخماد هذا الضجيج ‪:‬‬
‫أما أولهما فهي المدرسة الخرافية التي تتبنى الحكايات والسرائيليات ‪ .. ،‬وأما ثانيهما فهي المدرسة الحرفية ‪ ،‬والتي تشبثت بالمأثور ‪،‬‬
‫حتى ولو كان خرافيًا ‪ ،‬وهي المدرسة التي ترفع السيف في وجه أي إجتهاد ‪ ،‬بدعوى الخروج على قواعد اللعبة السلفية ‪ ،‬والسلفية براء‬
‫من كل أشكال الساطير والخرافات ‪.‬‬

‫ول مناص ‪ -‬إذا أردنا للسلم أن يتبوأ مكانة في عالم الغد ‪ -‬أن يتم القضاء على هاتين المدرستين وآثارهما ‪،‬فهناك تحالف بين الحرفيين‬
‫والخرافيين ‪ ،‬هو الذي يعوق حركة الجتهاد السلمي المعاصر ‪ ،‬وكثيرًا ما اختنقت آراء قيمة بإشاعة هذا الرعب ‪ ،‬مع أن السلم‬
‫يشجع على الجتهاد ‪ ،‬ويعد كل مجتهد بالجر ‪ -‬مادام ل يخالف ثابتًا من ثوابت العقيدة ‪ ،‬وما دام لينكر معلومًا من الدين بالضرورة ‪،‬‬
‫فلنجتهد ‪ ،‬ولتذهب الخرافية والحرفية إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم ‪.‬‬

‫== البـــــاب الول ==‬


‫القصة بين العقل والنقل‬

‫}} الفصــــل الول {{‬

‫القصـــــة والسرائيليات‬
‫‪------‬‬

‫قصة الخلق ‪ -‬كما أوردها القرآن الكريم ‪ -‬مليئة بالكثير من السرار الخفية ‪ ،‬والمعاني الظاهرة ‪ ،‬وقد تناولها المفسرون والمنصفون من‬
‫زاوية أو أخرى ‪ ،‬وتشابهت محاولت القدماء ‪ ،‬حين أخذ بعضهم عن بعض ‪ ،‬وحين جاء العصر الحديث بمعطياته الكثيرة في مجالت‬
‫علم الرض ) الجيولوجيا ( وعلم النسان ) النتروبولوجيا ( وعلوم الحياة ‪ ،‬والحياء ) البيولوجيا ( وغيرها ‪ -‬تغيرت مفاهيم كثيرة ‪،‬‬
‫وصار لزامًا على من يتصدى لكتابة شيء عن هذه القصة أن يأخذ في إعتباره ماكشف عنه العلم الحديث من حقائق نسبية ‪ ،‬وما قال به‬
‫من نظريات ‪ ،‬حتى ليبدو متخلفًا عن موكب المعرفة المعاصرة ‪ ،‬وذلك على الرغم من أن الذين حاولوا الكتابة في هذه القصة حديثًا‬
‫تعاملوا معها من منطلق المسلمات القديمة ‪ ،‬أو بمنطق الل مساس والتوفيق والحذر ‪.‬‬

‫إن هذه القصة كما وردت في القرآن الكريم تحتمل الكثير من التأويلت ‪ ،‬وهي حافلة باليماءات والشارات ذات الدللة التاريخية‬
‫والزمنية ‪ ،‬ونحن هنا نستخدم المصطلح ) التاريخ ( بالمفهوم العام ‪ ،‬الذي يشمل كل ما مضى من الزمان ‪ ،‬محددًا كان أو غير محدد ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬التاريخ وما قبل التاريخ ‪ ،‬منذ كان الزمان بأمر ال التكويني ) كن ( فكان ‪ ...‬ول معقب ‪..‬‬

‫إن نظرة القدماء إلى القصة قد تأثرت بالتصور السرائيلي لها ‪ ،‬وهو الوارد في سفر التكوين ‪ ،‬حيث يختزل الزمان كله إلى أقل من‬
‫ل هم المسافة بين آدم وإبراهيم ‪ ،‬وقد إنقسمت سلسلة النسب إلى مجموعتين ‪:‬‬
‫ثلثة آلف سنة تستغرق عشرين جي ً‬

‫الولى ‪:‬بين آدم ونوح )) وهي عشرة أجيال (( ‪.‬‬


‫الثانية ‪:‬بين نوح وإبراهيم )) وهي عشرة أجيال أيضًا ((‪.‬‬

‫مع ملحظة أن سياق النص يوحي بأن الجيال العشرة الولى قد بادت بسبب الطوفان ‪ ،‬ثم بدأت النسانية جولتها الثانية من سللة‬
‫نوح ‪ ،‬الب الثاني لها ‪ ،‬من خلل أولده الثلثة ‪ :‬سام ‪ -‬وحام ‪ -‬ويافث ) إرجع إلى سفر التكوين ‪ -‬العهد القديم ( ‪ ،‬ومع ملحظة أخرى‬
‫ل ‪ -‬يصل في تقدير العهد القديم إلى حدود الجيل التاسع تقريبًا ‪ ،‬أي ‪ :‬قبل نوح بجيل واحد ‪.‬‬
‫هي ‪ :‬أن العمر الذي عاشه آدم ‪ -‬مث ً‬

‫لسنا هنا بصدد مناقشة معلومات العهد القديم ونقدها ‪ ،‬فهي ذات طابع أسطوري غالبًا ‪ ،‬ول دليل على خطئها أو صوابها ‪ ،‬سواء في‬
‫السماء أو في الرقام ‪ ،‬وإن كانت إلى الحالة وعدم التصديق أقرب ‪.‬‬

‫ولكن الملحظ أن أصحاب السير قد إعتبروها من المسلمات ‪ ،‬فكرروها دون أدنى مناقشة ‪ ،‬أو حتى توقف ‪ ،‬وهذا هو إبن هشام في‬
‫سيرته يذكر نسب النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فبصل به إلى آدم عبر سلسلة العهد القديم ‪ ،‬فإذا بالنبي من الجيل الخمسين بعد آدم ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫إن المدة من آدم إلى محمد ‪ -‬ثم إلى زمننا هذا ‪ -‬ل تذيد على سبعة آلف عام ‪ ،‬هي كل مامضى من عمر البشرية ‪ ،‬وهو تقديري ل يليق‬
‫مع التقديرات القائمة على الرؤية العلمية ‪ ،‬التي تقرب ول تحدد ‪.‬‬
‫وحسبنا أن ننظر في تعليق محقق السيرة ) الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ( على ماذكره إبن هشام من نسب الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم فقال ‪ ) :‬روى عن عروة بن الزبير أنه قال ‪ :‬ما وجدنا أحدًا يعرف مابين عدنان وإسماعيل ( ‪..‬‬
‫وروى عن عمر رضي ال عنه أنه قال ‪ ) :‬إنما ننتسب إلى عدنان ‪ ،‬وما فوق ذلك ل ندري ماهو ( ‪ ،‬وقد صح عن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال ‪ -‬لما بلغ عدنان ‪ ) :‬كذب النسابون ( مرتين أو ثلثًا ‪.‬‬

‫ل أن هذا كله من باب التخرص والظنون التي ليمكن أن يوثق‬ ‫وقد كره مالك وجماعة من العلماء أن يرفع الرجل نسبه إلى آدم ‪ ،‬من ِقَب ِ‬
‫بها )) سيرة ابن هشام جـ ‪ 1‬ص ‪. ( 1‬‬
‫ل ‪ ،‬تستغرق في‬
‫ويلفت النظر في هذا التعليق الرواية عن ابن عباس ‪ ) :‬أن بين عدنان وإسماعيل ثلثين أبًا ل ُيعرفون ( ‪ ..‬أي ثلثين جي ً‬
‫المتوسط ثلثة آلف سنة على القل ‪.‬‬

‫فإذا لجعنا إلى حساب التاريخ للمدة من إبراهيم حتى الن وجدناها تقترب من أربعة آلف سنة وهي مدة تختلف تمامًا مع ظنون‬
‫النسابين ‪ ،‬المر الذي ل نعّول كثيرًا على رواة النساب ‪ ،‬ول على مصادرهم الكتابية‬

‫}} الفصــــل الثاني {{‬

‫النظـــــرة العلميــــــــــة‬
‫******‬

‫أما النظرة العلمية إلى هذه المسألة فإنها تضعنا في قلب تصور آخر ‪ ،‬تحسب أبعاده بمئات اللوف ‪ ..‬بل بمئات المليين من السنين ‪ ،‬وقد‬
‫جاء في موسوعة الثقافة العلمية ) صفحة ‪ ( 418 - 417‬أسماء العصور الجيولوجية ‪ ،‬وآمادها الزمنية ‪ ،‬وهي عصور مرت بكوكب‬
‫الرض ‪ ،‬وُقسمت إلى حقب ‪ ،‬بحسب معالمها السائدة ‪ -‬كما قرر العلماء ‪.‬‬

‫حقبة الحياة العتيقة ‪:‬‬


‫حقبة ماقبل الكمبري = ‪ 71،125،000،000‬سنة‬
‫حقبة الكمبري ‪ 500،000،000 = .....‬سنة‬
‫حقبة الردوفيشي ‪ 375،000،000 = ..‬سنة‬
‫حقبة السيلوري ‪ 235،000،000 =......‬سنة‬
‫حقبة الديفوني ‪ 300،000،000 = ......‬سنة‬
‫حقبة الكربوني ‪ 250،000،000 = ....‬سنة‬
‫حقبة البرمي ‪ 205،000،000 = .....‬سنة‬

‫حقبة الحياة المتوسطة ‪:‬‬


‫حقبة الطراياسي ‪ 170 = ....‬مليون سنة‬
‫حقبة الجوري ‪ 135 =.......‬مليون سنة‬
‫حقبة الطباشيري ‪ 95 = ...‬مليون سنة‬

‫حقبة الحياة الحديثة ‪:‬‬


‫حقبة الباليوسيني ‪ 80 = ...‬مليون سنة‬
‫حقبة اليوسين ‪ 50 = .....‬مليون سنة‬
‫حقبة الوليجوسين ‪ 42 = ..‬مليون سنة‬
‫حقبة الميوسين ‪ 25 = ......‬مليون سنة‬
‫حقبة البليوسين ‪ 8 = .....‬مليين سنة‬
‫حقبة البليستوسين ‪ 500 = ..‬ألف سنة‬

‫وكل هذه الحقب يعتبر وجود النسان فيها غامضًا ‪ ،‬ويمكن أن نتصور وجوده في شكل مخلوق فطري ) خام ( كالحيوان يستخلص‬
‫إدراكات شتى من الحاسيس المختلطة التي ل تحصى ‪.‬‬

‫حقبة الحياة الخيرة ‪:‬‬


‫الدور الخير ‪ ،‬دون تاريخ أو تقدير ‪ ،‬وهو دور إنحسار الجليد ‪ ،‬وقد شهد نباتات منزرعة ‪ ،‬وهي حقبة النسان الهوموسابينز أو النسان‬
‫المفكر ‪.‬‬
‫ومن الواضح أننا طبقًا لهذه المعلومات أمام أزمان متطاولة تحسب كما نرى بعشرات المليارات من السنين ‪ ،‬فقد بدأت حقبة الحياة‬
‫العتيقة بمرحلة ماقبل الكمبري ‪ ،‬أي ‪ :‬منذ واحد وسبعين مليار وخمسة وعشرين مليونا من السنين ‪ ،‬فهو أطول العصور أو الحقب‬
‫وأقدمها على الطلق في تقدير العلماء ‪.‬‬

‫وبدأت حقبة الحياة المتوسطة بالعصر الطراياسي ‪ ،‬منذ مائة وسبعين مليونًا من السنين )) من العلماء المعاصرين من ل يوافق على هذه‬
‫ل ‪ ،‬ويصف القائلين بها بأنهم مزيفون وكذابون ‪( .‬‬
‫التقديرات جملة وتفصي ً‬

‫وبدأت حقبة الحياة الحديثة مع بداية العصر الباليوسيني منذ ثمانين مليونًا من السنين ‪ ،‬وتأتي مرحلة حاسمة ضمن هذه الحقبة ‪ ،‬هذ حقبة‬
‫الحياة في العصر البليستوسيني ‪ ،‬وتقدر بدايتها منذ خمسمائة ألف سنة ‪ ،‬طبقًا لمعلومات موسوعة الثقافة العلمية ‪.‬‬

‫فإذا رجعنا إلى كتاب ) صور من حياة ما قبل التاريخ ( ‪ ،‬للمؤلفين ‪ :‬الستاذ الدكتور زغلول النجار ‪ ،‬والستاذ أحمد داود ‪ -‬وجدناه في‬
‫) صفحة ‪ ( 146‬يقرر أن فترات الجليد في عهد البليستوسين دامت حوالي ستمائة ألف سنة ‪ ،‬في فترات ثلث ‪ :‬مائة ألف ‪ ،‬ثم ثلثمائة‬
‫ألف ‪ ،‬ثم مائتي ألف ‪ ،‬فصلت بعضها عن بعض فترات أخرى تميزت بإنحسار الزحف الجليدي ‪ ،‬وعندما كان الجليد ينحسر من فوق‬
‫سطح الرض كانت تكسي بغطاء خضري مزدهر ‪ ،‬وهكذا ‪ ..‬وقد شهد ذلك العصر ظهور النباتات والغابات ‪ ،‬كما ظهرت الحيوانات‬
‫اللفقارية في البحار ‪ ،‬وانتشرت أنواع من القواقع الرضية ‪.‬‬
‫كما ظهرت بعض الحيوانات الفقارية من الثدييات ‪ ،‬ومنها حيوان الرنة ‪ ،‬والثعلب القطبي ‪ ،‬وانتشر بقر البحر في النهار ‪ ،‬ومرحت‬
‫السود والضباع في الغابات ‪ ،‬وانتشرت الدببة في الكهوف ‪ ،‬وبعض الحيوانات المنقرضة ‪ ،‬كذلك الفيل الضخم الذي يطلق عليه‬
‫) الماموث ( ‪ ،‬وحيوان الميجاثيريوم والجلبتودون والديناصورات ‪ ،‬وظهرت في ذلك العصر الفيلة والحصنة والثيران بكثرة ‪ ،‬مع‬
‫شيء من الختلف عما ظهر في حقبة الباليوسين ‪ ،‬أي ‪ :‬منذ تسعين مليون سنة ‪ ،‬والحقبة التالية لها وهي ) الميوسين ( منذ من خمسة‬
‫وعشرين مليون سنة ‪ ،‬وهي الحقبة التي شهدت ظهور بعض أنواع من الطيور ‪ ،‬كالبجع وبداية طائر البطريق ‪ ،‬وطيور الماء التي تشبه‬
‫) أبو قردان ( في العصر الحديث وغيرها ‪ ،‬وانتشرت الخراتيت ‪ ،‬والغزلن والزراف ‪ ،‬وبعض الكلب والدببة ‪ ،‬والنسانيس والقردة ‪،‬‬
‫وبعض الحيوانات المفترسة كالنمور ذوات الناب ‪ ،‬بل إن العلماء السوفييت عثروا على سمكة ضخمة متحجرة في باطن الرض ‪ ،‬عند‬
‫مدينة خاركوف ‪ ،‬حددوا عمرها بأنه حوالي ثلثين مليون سنة ‪ ،‬وغرابة الكشف أيضًا أن قشر السمكة مازال محتفظًا ببريقه ‪ ،‬كشفوا‬
‫عنها أثناء حفر نفق سكة حديد ‪ ،‬وتم نقلها إلى المتحف العلمي لجامعة خاركوف ‪.‬‬

‫كل ذلك وغيره سبق ظهور النسان ‪ ،‬وقد وجدت بقاياه في الصخور القديمة ‪ ،‬وقيعان البحار ‪ ،‬والكثبان الرملية ‪ ،‬ويقول مؤلفا كتاب‬
‫) صور من حياة ماقبل التاريخ ( ‪ -‬صفحة ‪: 148‬‬
‫) وقبل المليون سنة تقريبًا ‪ ،‬وجدت بقايا لكائنات شبيهه بالنسان مثل جنس ) اوسترالويشكس ( ‪ ،‬والذي وجدت بقاياه في أفريقيًا ‪،‬‬
‫وانتشر في عصر البليستوسين المتوسط عبر معظم قارات العالم القديم ‪.‬‬

‫وبعد ذلك وجدت بقايا ما يعرف بإنسان بكين ‪ ،‬وإنسان جاوة ‪ ،‬وإنسان هيدلبرج ‪ ،‬وإنسان نياندارثال ‪ ،‬وإنسان روديسيا ‪ ،‬وإنسان‬
‫سوانكومب ‪،‬‬
‫ويختار بعض العلماء من بين هؤلء الناسي إنسان هيدلبرج بإعتباره الحلقة الوسطى بين النسان الذي يتكلم والحيوانات التي تصيح ‪،‬‬
‫أما النسان النياندرتالي فيظهر أنه كان ذا مباديء فكرية من اللغة الملفوظة (‬

‫وكل هؤلء الناسي وجوه مختلفة لمخلوق واحد ‪ ،‬كان يتنقل من مرحلة إلى مرحلة في تسوية الخالق له ‪ ،‬فكلما مضت مرحلة من‬
‫التسوية تغيرت بعض أوصافه ‪ ،‬وأفرده الباحثون في الجيولوجيا والنثروبولوجيا بتسمية ‪ ،‬وقد وجدت تلك البقايا بصورة ناقصة‬
‫ونادرة ‪ ،‬مما يجعل معلوماتنا عن هذه المخلوقات الشبيهة بالنسان بعيدة كل البعد عن الكمال ‪.‬‬

‫وأول كائن إنسي له المميزات التشريحية للنسان المعاصر ‪ ،‬وله صفاته من الذكاء ‪ ،‬والقدرة على التعبير عن نفسه هو ) إنسان‬
‫كرومانيون ( والذي وجدت بقاياه في جنوب فرنسا ‪ ،‬في كهوف ترك آثاره على جدرانها رسومًا لبعض الحيوانات التي إصطادها ‪،‬‬
‫ويتضح منها أن هذا المخلوق تمتع بقدر من الذكاء يربطه بالنسان الحالي ‪.‬‬

‫وأقدم بقايا لنسان كرومانون ترجع إلى حوالي ثلثين ‪ ،‬إلى خمسة وثلثين ألف سنة مضت ‪ ،‬وهذه الفترة تعتبر من أقدم فترات التاريخ‬
‫المسجل ‪.‬‬

‫هذه النماذج التي عثر عليها من بقايا النسان على الرض تمتد كما رأينا منذ ماقبل مليون سنة ‪ ،‬وهي تؤرخ لمسيرة هذا المخلوق حتى‬
‫عهد ‪ ،‬قدره العلماء بخمسة وثلثين ألف سنة ‪.‬‬
‫وقد نشرت جريدة الوفد في ‪ )) 1996 / 10 / 6‬قد نعتمد بعض الصحف اليومية مرجعًا ننقل عنه بعض الخبار حين ل يتوافر لدينا‬
‫مؤلف نعتمده في توثيقها ‪ ،‬ومع ذلك فنحن نذكره في إطار أنه خبر ظني الدللة (( نشرت الجريدة أن النسان الول عاش أيضًا في جبل‬
‫طارق في عدة كهوف عثر عليها هناك ‪ ،‬وأن ذلك كان منذ مايقرب من ثلثين ألف سنة ‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد نفاجأ بوجود أحافير تدل على أن ظهور النسان كان أقدم من هذا التقديري ‪ ،‬فمازالت الرض محتوية على شواهد دالة‬
‫على بدء الخلق وكيفيته ‪ ،‬ولن يبلغ النسان مبلغ الحقيقة إل إذا داوم على البحث ‪ ،‬واستمر في السير تفتيشًا لى شواهدها وأدلتها ‪ ،‬وهو ما‬
‫أمرت به اليتان القرآنيتان ‪:‬‬

‫يٍء َقِديٌر ‪ - {{ 20‬العنكبوت ‪.‬‬


‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫خَرَة ِإ ّ‬
‫لِ‬‫شَأَة ا ْ‬
‫ئ الّن ْ‬
‫شُ‬‫ل ُين ِ‬
‫ق ُثّم ا ُّ‬
‫خْل َ‬
‫ف َبَدَأ اْل َ‬
‫ظُروا َكْي َ‬
‫ض َفان ُ‬
‫لْر ِ‬
‫سيُروا ِفي ا َْ‬
‫ل ِ‬
‫}} ُق ْ‬
‫وقوله تعالي ‪:‬‬

‫ن ‪ - {{ 20‬الذاريات ‪.‬‬
‫ت ّلْلُموِقِني َ‬
‫ض آَيا ٌ‬
‫لْر ِ‬
‫}} َوِفي ا َْ‬

‫وكل ماسجله العلم من مراحل الحياة على الرض هو ول شك من معطيات البحث والسير فيها ‪ ،‬فهي خطوات في الطريق الصحيحة ‪،‬‬
‫ن َتْقِويمٍ‬
‫سِ‬
‫حَ‬‫تهدي النسان إلى أصله ومنشئه ‪ ،‬عبر تلك الماد السحيقة ‪ ..‬لقد كانت تلك الماد ‪ -‬ولشك ‪ -‬مقدمات لخلق النسان }} ِفي َأ ْ‬
‫ل على وجود الرض ذاتها ‪ ،‬قبل مليارات السنين ‪ ،‬ثم كانت الرض ‪ ،‬وكان‬ ‫‪ - {{ 4‬التين ‪ ،‬أي ‪ :‬إن خلق النسان كان إرادة سابقة أز ً‬
‫مامر بها من عهود سحيقة يعجز العقل عن تصورها ‪ -‬هو التمهيد اللهي الباهر لظهور السللت البشرية ‪ ،‬الذي تضاربت الراء في‬
‫توقيته ‪ ،‬فليس من هذه العهود ما يعتبر حقيقة مطلقة ‪ ..‬بل هي جميعًا آراء نسبية ‪ ،‬تتفق في الحد الجامع بينها ‪ ،‬وتختلف في العهود‬
‫والحقب ‪ ،‬ول سبيل حتى الن إلى معرفة متى كانت بالضبط بدايتها ونهايتها ‪.‬‬

‫وأكبر دليل على نسبية المعلومات المدونة في المراجع العلمية حول النسان ‪ ،‬وعصر ظهوره على الرض ) قبل مليون سنة ( ‪ -‬ما‬
‫ل عن موسوعة الثقافة العلمية ‪ ،‬وعن كتاب‬
‫أعلنه مؤخرًا أحد العلماء النثروبولوجيين ‪ ،‬من أن وجود النسان كان أسبق مما سقناه نق ً‬
‫) صور من حياة ماقبل التاريخ ( وهو خبر لم ندهش له ‪ ،‬ونحن نؤمن بنسبية الصدق في معطيات العلم الحديث ‪ ،‬وبخاصة في هذا‬
‫المجال ‪.‬‬

‫لقد نشرت جريدة الهرام في عددها الصادر صباح الربعاء ) ‪ ) : ( 1972 / 11 / 8‬أن البروفيسور ريتشارد ليكي أحد العلماء‬
‫النثروبولوجيا ‪ -‬علم النسان ( ‪ ..‬أعلن في كينيا أنه تم إكتشاف بقايا جمجمة يرجع تاريخها إلى مليونين ونصف مليون عام ‪ ،‬وتعد أقدم‬
‫أثر من نوعه للنسان الول ‪.‬‬

‫وقال العالم ‪ ) :‬إن هذا الكتشاف يمتد في قدمه مليون ونصف مليون عام عن أقدم أثر أمكن العثور عليه حتى الن ‪ ،‬وقد تم إكتشاف‬
‫عظام الجمجمة ‪ ،‬مع عظام لساق بشرية ترجع إلى نفس الحقبة من التاريخ ‪ ،‬في جبل حجري ‪ ،‬بصحراء تقع شرق بحيرة رودلف في‬
‫كينيا ( ‪.‬‬

‫وقال العالم ‪ ) :‬إن هذا الثر يمكن أن يقلب النظريات القائمة بشأن تطور النسان عن أجداده فيما قبل التاريخ ‪ ،‬وكيف ؟ ومتى ؟ ( ‪.‬‬
‫وقد قدم ريتشارد ليكي ‪ ،‬وهو مدير المتحف الوطني في كينيا ‪ -‬تقريرًا عن إكتشافه إلى الجمعية الجغرافية الوطنية في واشنطن ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫) إن نظريات التطور الحالية ‪ -‬وعلى رأسها نظرية داروين ‪ -‬تفيد أن النسان تطور من خلوق بدائي ‪ ،‬كانت له سمات بدنية شبيهة‬
‫بسمات القرد ‪ ،‬وإن أقدم أثر للنسان كمخلوق منتصب يسير على رجلين ‪ ،‬وله مخ كبير ‪ -‬يرجع إلى نحو مليون سنة ( ‪.‬‬
‫هذا في حين أن الكشف الجديد يدل على أن المخلوق النساني المنتصب ذا الساقين لم يتطور عن المخلوق البدائي الذي يشبه القرد ‪ ،‬بل‬
‫كان يعاصره منذ أكثر من مليونين ونصف مليون عام ‪ ،‬وأنه يمكن على هذا العتبار إستبعاد المخلوق البدائي الول على أساس أن‬
‫النسان انحدر من سللته ‪.‬‬

‫وذكرت الجمعية الجغرافية في تعليق لها على هذا الكلم ‪ ) :‬أن نظرية ليكي تقوم على أساس أن المخلوق البدائي الول وإسمه العلمي‬
‫) أوسترالوبثيكوس ( وكان أساسًا من أكلة النباتات ‪ ،‬قد وصل إلى مرحلة تطويرية مسدودة ‪ ،‬بينما إستطاع النسان الذي استخدم اللحم‬
‫في غذائه ‪ ،‬وتمكن من صناعة الدوات الحجرية ‪ -‬أن يبقى على قيد الحياة ( ‪.‬‬

‫وأكد ليكي في تقريره ‪ ) :‬أنه أمكن إعادة بناء جمجمة من شظايا العظام التي عثر عليها ‪ ،‬وأنه بالرغم من أن هذه الجمجمة ل تشبه‬
‫جماجم الجنس البشري المعروف حاليًا ‪ ،‬إل أنها تختلف كذلك عن جميع أشكال الجماجم التي عثر عليها للنسان الول ‪ ،‬وبذلك تتفق مع‬
‫أي نظريات حالية عن تطور النسان ( ‪.‬‬

‫وواضح إذن أن الفرق الزمني هائل بين هذا الرأي ‪ ،‬وما تقوله نظرية داروين ‪ ،‬كما أن الفرق هائل أيضًا في جوهر التصور للنسان‬
‫الول بين النظريتين ‪ ،‬فهو عند داروين يمشي على أربع منذ مليون سنة ‪ ،‬ثم انتصبت قامته ‪ ،‬وعند ليكي يمشي منتصب القامه منذ‬
‫مليونين ونصف المليون من السنين ‪ ،‬وأنه كذلك منذ كان ‪.‬‬

‫فإذا رجعنا إلى ما أورده المؤلف سيد أحمد الكيلني في كتابه عن ) نظرية داروين بين التأييد والمعارضة ‪ -‬صفحة ‪ ( 21‬حين قال ‪:‬‬
‫) وقد أذاع البروفيسور جوهانس هورزلر ‪ -‬العالم الذري في سمنتبال بسويسرا ‪ -‬بيانًا في مارس ‪ ( 1956‬نجد أنه عارض نظرية‬
‫داروين بشدة ‪ ،‬وقال ‪ ) :‬إنه ليوجد دليل واحد من ألف على أن النسان من سللة القرد ‪ ،‬وإن التجارب الواسعة التي أجراها ‪ ،‬دلت على‬
‫أن النسان منذ عشرة مليين سنة وهو يعيش منفردًا ‪ ،‬وبعيدًا جدًا ( ‪.‬‬

‫وأضاف إلى ذلك ‪ ) :‬أن الهياكل التي درس عليها تؤكد نظريته ‪ ،‬وقد قدم البروفيسور المذكور للمتحف الطبيعي بمدينة بال ‪ ،‬قطعة من‬
‫الفحم بداخلها قطعة من فك إنسان يرجع تاريخها إلى عشرة مليين سنة ‪ ،‬وهذا هو التاريخ الذي أمكن الحصول فيه على هياكل آدمية ( ‪.‬‬

‫وبتاريخ ‪ 31‬مارس ‪ 1956‬أعلن في أمريكا أن الدكتور ) رويتر ( المشرف علي البحاب في جامعة كولومبيا ‪ -‬قد أيد البروفيسور‬
‫هورذلر في وجهة نظره ‪ ،‬واعتبرت نظرية داروين بذلك رأيًا ل يستند إلى أي دليل علمي ‪ ،‬وأن الكائنات إنما خلقت مستقلة النواع ‪،‬‬
‫ل تامًا ‪ ،‬فمنها النسان الذي يمشي على رجليه ‪ ،‬ومنها الدواب التي تمشي على أربع ‪ ،‬ومنها الزواحف التي تمشي علي بطونها ‪.‬‬‫إستقل ً‬
‫ل لنوع النسان في‬ ‫وإذا كان سياق الداروينية يقرر أن القردة خلقت هكذا مستقلة عن النواع الخرى قبلها ‪ ،‬فما الذي يجعلها أص ً‬
‫فرضية داروين ‪ ،‬في حين أن القرب للمنطق هو أن القدرة التي خلقت نوع القردة التي تمشي على أربع ‪ -‬قد خلقت نوعًا آخر يمشي‬
‫منتصبًا على رجلين ‪ ،‬وهو النسان ‪ ،‬وهي القدرة التي أوجدت مليين النواع من المخلوقات المتحركة ‪ ،‬لكل نوع عالمه وقدراته ‪،‬‬
‫وبدايته ونهايته ‪ ،‬فالكل صادر عن قدرة مطلقة واحدة ‪ ،‬تماما كما حدث القرآن عن وحدة الصل وإختلف الشكل ‪ -‬في قوله تعالى ‪:‬‬
‫شاء ِإ ّ‬
‫ن‬ ‫ل َما َي َ‬
‫ق ا ُّ‬
‫خُل ُ‬
‫عَلى َأْرَبٍع َي ْ‬
‫شي َ‬
‫ن َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫جَلْي ِ‬
‫عَلى ِر ْ‬
‫شي َ‬
‫طِنِه َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫عَلى َب ْ‬
‫شي َ‬‫ل َداّبٍة ِمن ّماء َفِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫ق ُك ّ‬
‫خَل َ‬
‫ل َ‬‫}} َوا ُّ‬
‫يٍء َقِديٌر ‪ -{{ 45‬سورة النور ‪.‬‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬‫عَلى ُك ّ‬ ‫ل َ‬
‫ا َّ‬

‫نحن إذن أمام جملة من النظريات المشتجرة والمتعارضة ‪ ،‬التي تركز نسبية المعلومات التي تضمنتها ‪ ،‬ولكل واحدة منها أدلتها التي‬
‫تستند إليها في تقرير جوانب التصور الزمنية والخلقية ‪ ،‬ول ريب أن في كل منها شيئًا من الحقيقة الذي يتراوح حتى الن مابين مليون‬
‫سنة ‪ ،‬وعشرة مليين من السنين ‪.‬‬

‫ومن أواخر ما نشرته جريدة الهرام في هذا الشأن ‪ ،‬خلل شهر يونيو ‪ ، 1966‬ماتضمنه بحث علمي آخر في بريطانيا ‪ ،‬قد يكون دلي ً‬
‫ل‬
‫آخر لهدم نظرية داروين القائلة بأن النسان أصله قرد ‪ ،‬أو منحدر من إحدى سللت القردة العليا ‪ ،‬تحدى العلماء البريطانيون الرأي‬
‫العلمي السائد بأن النسان الول كان يمشي معتمدًا على يديه ورجليه ‪ ،‬مثل الشمبانزي ‪.‬‬
‫وقال العلماء في جامعة ليفربول البريطانية ‪ ) :‬إن الرأي الرجح هو أن النسان الول كان يسير منتصب القامة ‪ ،‬تمامًا مثل النسان‬
‫اليوم ‪ ،‬وأوضحوا أنه لو كان النسان القديم يسير منحنيًا ‪ -‬كما تصور ذلك بعض النظريات العلمية ‪ -‬فإنه لم يكن من الممكن أن يعتدل‬
‫في قامته ‪ ،‬ويسير كما هو الن أبدًا ( ‪.‬‬

‫وأشار العلماء إلى أنهم أخذوا أحجام النسان القديم ومقاساته من هيكل كائن شبيه بالنسان ‪ ،‬وهو المعروف بإسم ) لوسي ( ‪ ،‬والذي‬
‫عثر عليه في أثيوبيا ‪ ،‬ويرجع إلى ثلثة مليين عام مضت ‪ ،‬ثم استخدموا الكمبيوتر في تطوير إنسان آلي صناعي ) روبوت ( لكي‬
‫يكون نموذجًا لكيفية تحرك ) لوسي ( ‪ ،‬وأوضح العلماء أن التجارب أثبتت أن ) لوسي ( ‪ -‬وهي أنثى ‪ -‬لم تكن لتتطور وتمشي منتصبة‬
‫القامة بعد ذلك ‪ ،‬وقال الدكتور ) روبن كرمبتون ( أحد المشاركين في البحث ‪ :‬إن ذلك يعنى أن النظريات العلمية التي تظهر النسان‬
‫ن في حاجة إلى إعادة كتابة ‪ ،‬وأشار إلى أنه ما إن بدأ النسان يقف على قدمين ‪ ،‬فإنه كانت هناك ضغوط‬ ‫حٍ‬
‫القديم يمشي في وضع ُمْن َ‬
‫قوية لكي يسير ويقف منتصبًا ‪.‬‬
‫وأوضح أن المشي بشكل منتصب يساعد النسان على التنفس بشكل جيد ‪ ،‬ومشيرًا إلى أن قرود الشمبانزي عندما تمشي منحنية فإنها‬
‫تسير لوقت قصير للغاية ‪ ،‬لن هذا الوضع ل يساعدها على التنفس الصحيح ‪ ..‬بل يصيبها بالجهاد ‪ .‬وقال ‪ :‬إن هذه القرود بعد خمسين‬
‫خطوة فقط من المشي في إنحناء تسارع بالجري ‪ ،‬بعكس النسان القديم الذي يظهر علم الثار أنه كان يمشي لكثر من مائتي كيلومتر ‪،‬‬
‫وهذه المسافة ل يمكن أن تتم وهو في حالة إنحناء ‪.‬‬
‫وهذا الرأي يلتقي في تقديره الزمني تقريبًا مع تقدير البروفيسور ) ليكي ( بناءًا على جمجمة كينيا ‪ ،‬غير أن مرتكز الستدلل لم يكن‬
‫البحث في عمر الحفورة ‪ ،‬بل قام على مناقشة القدرة على المشي منتصبًا أو منحنيًا لدى القردة والنسان ‪ ،‬كيما يصل في النهاية إلى‬
‫رفض نظرية داروين ‪ ،‬بأسلوب التقنية المعاصرة ‪.‬‬

‫وغني عن البيان أن كل الجهود العلمية حتى الن تنصب على معارضة داروين فيما ذهب إليه ‪ ،‬وأن ماقدمناه لم يكن سوى بعض‬
‫العينات التي جهد فيها العلماء ليدحضوا مذهب النشوء والرتقاء ‪ ..‬حتى إننا نستطيع أن نقول ‪ :‬إن نظرية داروين قد ثارت لكثرة‬
‫ماتعرضت له من نقد ‪ -‬مجرد مقولة هشة ‪ ..‬ل تعني شيئًا في مجال البحث عن أصل النسان ‪ ،‬وإن قدمت الكثير في مجال ) البيولوجيا (‬
‫أو علم النسان ‪.‬‬

‫لقد سقطت إذن فكرة ) التطور الخالق ( ‪ ،‬ونقول ‪ ) :‬فكرة ( ‪ ،‬ول نقول ‪ ) :‬نظرية ( ‪ ،‬ورغم أن الناس فتنوا بهذه النظرية لعدة عقود من‬
‫الزمان ‪ ...‬سقطت بكل مارتبط بها من أفكار أخرى ‪.‬‬
‫وانتصرت حقيقة ) الخلق المستقل ( التي قررها الدين ‪ ،‬كما أكدها العلم ‪ ،‬فما كان النسان إل بشرًا منذ كان ‪ ،‬وما كان القرد إل قردًا ‪.‬‬
‫وهنا يطرأ سؤال ‪ ،‬ربما يبدو سابقًا لوانه في سياق هذا البحث ‪ ،‬وهو ‪:‬‬

‫هل كان وجود هذه الخليقة البشرية إرادة إلهية وأمرًا إلهيًا واحدًا على الرض ‪ ،‬أرادته القدرة اللهية ؟ وتابعته في مراحله المتطاولة ؟‬
‫أو كان خلقًا متعددًا متقاطرًا على الساحة الرضية عبر الوجود الزمني الهائل ؟ وكان آدم أحد هذه المراحل ؟‬

‫ذلكم هو ما سنحاول بيانه فيما يلي من الحديث ‪.‬‬

‫ل ‪ :‬هو أن الخالق العظيم خلق هذا الكون الهائل حين قال ‪ ) :‬كن ( فكان ‪.‬‬
‫والذي نريد أن نقوله إجما ً‬
‫كان كل ما كان ‪ ،‬وما يكون ‪ ،‬وما سيكون ‪ ،‬في إطار من الزمان المطلق ‪ ،‬والمشيئة المطلقة ‪ ،‬والنكشاف المطلق ‪ ،‬فليس ‪ -‬بالنسبة إلى‬
‫الخالق ‪ -‬قيود من الزمان ‪ ،‬أو المكان ‪ ،‬أو أي عوامل أخرى ‪ ،‬أما النسان فهو نقطة في بحر الحقيقة ‪ ..‬نقطة محكومة بالزمان والمكان ‪،‬‬
‫وحدود الدراك ‪ -‬كما أراده ال ‪.‬‬

‫وقد خلق ال هذا الغنسان ليكون سيدًا في الكون الفسيح ‪ ،‬الذي يتذايد ضخامة وإتساعًا أو إمتدادًا ‪ ،‬دون توقف ‪ ..‬بأسرع من سرعة‬
‫الضوء ‪.‬‬
‫ثم جعل ال سبحانه وتعالى لهذا الكون نهاية ‪ ،‬كما أن له بداية ‪ ،‬وحين تحين هذه النهاية سوف تتغير معالم الكون كله كم قال سبحانه ‪:‬‬
‫جَر ْ‬
‫ت‬ ‫سّ‬‫حاُر ُ‬
‫ت ‪َ 5‬وِإَذا اْلِب َ‬
‫شَر ْ‬
‫حِ‬
‫ش ُ‬
‫حو ُ‬
‫ت ‪َ 4‬وِإَذا اْلُو ُ‬
‫طَل ْ‬
‫عّ‬
‫شاُر ُ‬
‫ت ‪َ 3‬وِإَذا اْلِع َ‬
‫سّيَر ْ‬
‫ل ُ‬ ‫جَبا ُ‬
‫ت ‪َ 2‬وِإَذا اْل ِ‬‫جوُم انَكَدَر ْ‬ ‫ت ‪َ 1‬وِإَذا الّن ُ‬‫س ُكّوَر ْ‬ ‫شْم ُ‬‫}} ِإَذا ال ّ‬
‫ت ‪ -{{8‬التكوير وقال تعالى ‪:‬‬ ‫سِئَل ْ‬
‫ت ‪َ 7‬وِإَذا اْلَمْوُؤوَدُة ُ‬‫ج ْ‬ ‫س ُزّو َ‬‫‪َ 6‬وِإَذا الّنُفو ُ‬
‫حِد اْلَقّهاِر ‪ - {{ 48‬إبراهيم هل يعقل أن يكون هذا الملك والملكوت من‬ ‫ل اْلَوا ِ‬
‫ت َوَبَرُزوْا ّ‬ ‫سَماَوا ُ‬‫ض َوال ّ‬‫لْر ِ‬ ‫غْيَر ا َ‬‫ض َ‬‫لْر ُ‬ ‫لا َ‬‫}} َيْوَم ُتَبّد ُ‬
‫أجل خليقة ل تدوم أكثر من عشرة أيام ‪ -‬بحساب الزمن اللهي الذي يقرر ‪:‬‬
‫ن ‪ - {{ 47‬الحج ‪!...‬‬ ‫سَنٍة ّمّما َتُعّدو َ‬
‫ف َ‬ ‫ك َكَأْل ِ‬
‫عنَد َرّب َ‬
‫ن َيْوًما ِ‬ ‫}} َوِإ ّ‬
‫وهب أن ذلك الزمان امتد إلى مليون سنة ‪ ،‬أو حتى عشرة مليين ‪ ،‬فإن ذلك ل يعدو أن يكون بضعة آلف من اليام اللهية ‪ ..‬ول المثل‬
‫العلى ‪.‬‬

‫إن ملك ال عظيم ‪...‬‬


‫وإن شأن ال أعظم ‪..‬‬

‫ولهذا الله ‪ -‬تقدست أسماؤه ‪ ،‬وتعاظمت آلؤه ‪ -‬سجدت له الجساد والرواح ‪ ،‬وعنت الوجوه والعقول ‪..‬‬
‫ومن أجل هذا كان موعد النهاية سرًا مكنونًا ل يعلمه إل هو ‪ ..‬إنه موعد الزلزال الكوني الذي يضع النهاية لرحلة مليين السنين ‪..‬‬
‫ويكفي أن نردد هنا قول ال سبحانه ‪:‬‬

‫ظيٌم ‪ - {{1‬سورة الحج ‪.‬‬


‫عِ‬
‫يٌء َ‬
‫ش ْ‬
‫عِة َ‬
‫سا َ‬
‫ن َزْلَزَلَة ال ّ‬
‫س اّتُقوا َرّبُكْم ِإ ّ‬
‫}} َيا َأّيَها الّنا ُ‬

‫النسان بين العلم والقرآن‬

‫مرة أخرى نكرر ول نمل التكرار ‪:‬‬


‫لبد أن نسلم بأن معطيات العلم ليست حقائق مطلقة في أغلب الحيان بل هي رؤى نسبية ‪ ،‬من حيث إن العقل الذي يتوصل إليها ُمْرَتِه ٌ‬
‫ن‬
‫بقيود من البيئة ‪ ،‬والزمان ‪ ،‬والقدرات الذاتية ‪ ،‬والدلئل المتاحة ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬

‫أما القرآن ‪ ،‬وهو الكلمة اللهية النهائية في الخطاب ما بين السماء والرض ‪ ،‬أو ما بين العلى والدنى ‪ -‬فإنه ول شك يقدم للعقل‬
‫النساني الحقائق النهائية في الموضوع ‪ ،‬ولكن الجيال تتفاوت في فهم النص المقدس ‪ ،‬حتى ليبدو ماستخرجه الفكر الديني ‪ -‬حتى الن‬
‫من النصوص ‪ -‬مناقضًا للعلم ‪ ،‬ول سبيل إلى تحقيق اللقاء بينهما ‪.‬‬

‫ونحن ‪ -‬باديء ذي بدء ‪ -‬نقرر أن التناقض بين القرآن ‪ ،‬وما توصل إليه العلم من حقائق نهائية ‪ -‬مستحيل ‪ ،‬وإنما التناقض من جهة أن‬
‫العلم لم يستقر بعد على بر الحقيقة الكاملة ‪ ،‬بل ما زال يدور في إطار النظريات الظنية الدللة ‪ ،‬إلى جانب أن التناقض قد يأتي من‬
‫ضعف التفكير الذي تتسم به معالجة الفكار ‪.‬‬

‫ل ‪ -‬إلى الجمود الذي اتسم به التفكير الديني حين توقف عند القول بالبداية الدمية للحياة على الرض ‪ ،‬وهي بداية قدرت في‬
‫ولننظر مث ً‬
‫حدود عشرة آلف عام ‪ ،‬وهو تقدير متواضع في مقابل القول بأن بداية الحياة النسانية تراوحت ما بين مليون سنة ‪ ،‬وعشرة مليين من‬
‫السنين ‪.‬‬
‫ن شاسع بين التقديرين ؟ وهل من سبيل إلى لقاء بينهما ؟‬‫أي َبْو ِ‬

‫نحن نرى أن ذلك ممكن من خلل فهم واعي للنصوص القرآنية ‪ ..‬فهم يخرج عن المذهب التقليدي الذي إلتزمت به التفاسير كلها ‪،‬‬
‫ويسعى إلى استنطاق النظم القرآني ‪ ،‬ما دام هناك إمكان للتقاء العلم بالقرآن ‪.‬‬

‫ولسوف نحاول السير مع القرآن في حديثه عن النسان والخلق ‪ ،‬منذ اليات الولى التي استهل بها الوحي المحمدي ‪ ،‬وسيرًا مع هذا‬
‫الوحي إلى شاطيء الحقيقة القرآنية ‪.‬‬

‫لكن ‪ -‬قبل أن نشرع في هذا العرض نحب أن نقدم نوعًا من الحافير ‪ ،‬أو العاجيب التي أشارت إليها المراجع العربية ‪ ،‬وهي ذات‬
‫دللة ومغزى ‪ ،‬يخدم سعينا لتحقيق إمكان اللقاء بين العلم والقرآن ‪ ،‬وإن غلب عليها طابع المبالغات ‪ ،‬وأسلوب الساطير ‪.‬‬

‫}} الفصــــل الثالث من الباب الول {{‬

‫نظرة القدماء إلى وجود الخليقة‬

‫إذا كان علماء السلف قد اتفق جمهورهم على أن آدم هو أول الخليقة ‪ ،‬وأول ما خلق من تراب ‪ - ،‬فإن بعضهم قد ذهب إلى ما هو أبعد‬
‫من ذلك ‪ ،‬فتصوروا لهذه الخليقة ممتدًا في أعماق الزمان ‪ ،‬قبل آدم ‪ ،‬ربما إلى مليين السنين ‪ ،‬والمهم أن أحدًا ممن قال بهذا المذهب لم‬
‫يلق نكيرًا من الفريق الخر ‪ ..‬بل عاشت الراء المتناقضة جنب إلى جنب ‪ ،‬حتى تلقيناها ورأينا كيف أنار ال بصيرة القدمين فامتدت‬
‫رؤيتهم إلى أعماق الغيب قبل التاريخ على هذه الرض ‪ ،‬وتنوعت رؤيتهم تبعًا لختلف التخيلت ‪ ،‬وما نحسب أنهم اعتمدوا على‬
‫شواهد مادية ‪ ..‬بل هي محض تخيلت هداهم إليها تأملهم المنطقي في أحوال الدنيا ‪ ) ..‬ذكر المسعودي في كتابه عن بعض العلماء ‪ :‬أن‬
‫ال سبحانه وتعالى خلق في الرض قبل آدم ثمانيًا وعشرين أمة على خلق مختلفة ‪ ،‬وهي أنواع ‪:‬‬
‫منها ذوات الجنحة ‪ ،‬وكلمهم قرقعة ‪.‬‬
‫ي‪.‬‬‫ومنها ما لها أبدان كالسود ‪ ،‬ورؤوس كالطير ‪ ،‬ولهم شعور وأذناب ‪ ،‬وكلمهم دو ّ‬
‫ومنها ما له وجهان ‪ ،‬واحد من أمامه ‪ ،‬والخر من خلفه ‪ ،‬وله أرجل كثيرة ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬وكلمهم مثل صياح الغرانيق ) جمع غرنوق وهو طائر مائي ( ‪.‬‬ ‫ومنها ما يشبه نصف النسان بيٍد ورج ٍ‬
‫عِوي الكلب ‪.‬‬‫ومنها ما وجهه كالدمي ‪ ،‬وظهره كالسلحفاة ‪ ،‬وفي رأسه قرن ‪ ،‬وكلمهم مثل َ‬
‫ومنها ما له شعر أبيض ‪ ،‬وذنب كالبقر ‪.‬‬
‫ومنها ما له أنياب بارزة كالخناجر ‪ ،‬وآذان طوال ‪.‬‬

‫ويقال ‪ :‬إن هذه المم تناكحت وتناسلت حتى صارت مائة وعشرين أمة ‪ ) .‬المستطرف ‪. ( 398 /‬‬

‫ل من المخلوقات ل دليل على أنها‬


‫هذه صورة من تفكير القدمين أو تخيلتهم عن الماضي السحيق قبل هذه الخليقة ‪ ،‬فقد لفقوا أشكا ً‬
‫وجدت إل في الحتمال الخيالي ‪ ،‬ومع ذلك يبقى ‪ -‬بعد استبعاد ما ل دليل عليه من الشكال ‪ -‬أن الرض كانت معمورة قبل آدم ‪ ،‬سواء‬
‫بمثل تلك الصناف ‪ ،‬أو بأصناف أخرى كالديناصورات ‪ ،‬أو الماموث أو بأوادم آخرين قبل آدم ‪ -‬أبينا ‪ -‬على ما قرره بعض العلماء ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬أن آدم لم يكن أول مخلوق عاقل على هذه الرض‬

‫ومن المؤكد أن أممًا كثيرة من المخلوقات كانت موجودة قبل ظهور النسان ‪ ،‬كأمم الطير ‪ ،‬والحيوان ‪ ،‬والنبات ‪ ،‬وهي كلها أمم بنص‬
‫يٍء ‪ {{ 38 ..‬سورة‬‫ش ْ‬
‫ب ِمن َ‬
‫طَنا ِفي الِكَتا ِ‬
‫ل ُأَمٌم َأْمَثاُلُكم ّما َفّر ْ‬
‫حْيِه ِإ ّ‬
‫جَنا َ‬
‫طيُر ِب َ‬
‫طاِئٍر َي ِ‬
‫ل َ‬
‫ض َو َ‬
‫لْر ِ‬‫الية الكريمة}} َوَما ِمن َدآّبٍة ِفي ا َ‬
‫النعام‪ ،.‬وإذا كان النص صريحًا في دواب الرض والطير ‪ ،‬فإن النبات في نظر العلماء كائن نام ) ينمو ( على إختلف أشكاله‬
‫ن ‪ -{{ 38‬سورة النعام ‪ ،.‬وفي ذلك‬ ‫شُرو َ‬‫حَ‬ ‫وفصائله ‪ ،‬والية الكريمة تشير إلى حقيقة مذهلة حين تأتي فاصلتها ‪ُ }} :‬ثّم ِإَلى َرّبِهْم ُي ْ‬
‫جملة من المناقشات حفلت بها كتب التفسير ‪.‬‬

‫أما عن إهتمام العلماء بالتفتيش أو بملحظة ما يجدون صدفة في الرض ‪ ،‬ومتابعة آثار الحياء فيها ‪ ،‬واستدللهم بشواهدها على معالم‬
‫الحياة البشرية وعهودها السحيقة ‪ -‬فذلك أمر لم تتوافر أدواته للقدمين ‪ ،‬ول تهيأت أسبابه إل في عصرنا الحديث مع تطور علوم‬
‫الرض ) الجيولوجيا ( والنسان ) النثروبولوجيا ( ‪ ،‬والتحليلت الكربونية ‪ ...‬وغيرها ‪.‬‬

‫ولكن كان للقدمين فكرة عن النسان القديم ‪ ،‬ولم تكن أفكارهم تذهب في تقدير تاريخ الحياة على الرض إلى أبعد من حديث القرآن‬
‫الكريم عن آدم ونوح ‪ ،‬وعاد وثمود ‪ ،‬وقوم إبراهيم وقوم لوط ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬

‫وهذه عهود قريبة نسبيًا كما سبق أن قررنا ‪ ،‬وهي لم تتجاوز ثلثين ألف عام ‪ ،‬وهم معذورون قطعًا فيما ذهبوا إليه ‪.‬‬
‫وقد اعتمد بعضهم على مشاهداته لقطع من العظام وبقايا هياكل عظمية ‪ ،‬حاولوا تفسيرها ووصفها بقدر ما رزقوا من القدرة على‬
‫تصور حياة الماضيين وأوصاف هيئاتهم الجسمية ‪ ،‬وهي تبعد كثيرًا عن الواقع الذي تصفه الحافير ) الحفريات ( التي عثر عليها‬
‫العلماء في عصرنا ‪ ،‬ولو أن هذه الحافير التي وصفها السلف ‪ -‬وجدت الن لتغيرت فكرتنا عن النسان ‪ ،‬في عهوده السحيقة ‪ ،‬لكن‬
‫المشكلة أن شيئًا من هذه الحافير ل وجود له الن ‪ ،‬فهو وجود مقرون بالمبالغة والتذييد ‪ ،‬حتى حجبت الحقيقة ‪ ،‬وضاعت معالمها‬
‫ضياعًا نهائيًا ‪.‬‬
‫ولنذكر عينة من هذه الخبار ‪ ،‬يذكر مؤلف كتاب ) المستطرف في كل فن مستظرف ( ‪ ) :‬قال الشيخ عبد ال ‪ ،‬صاحب كتاب تحفة‬
‫ن أحدهم طوله أربعة أشبار ‪ ،‬وعرضه شبران ‪ ،‬وكان عندي في باشقرد‬ ‫اللباب ‪ :‬دخلت إلى ) باشقرد ( ‪ ،‬فرأيت قبور عاد ‪ ،‬فوجدت س ّ‬
‫نصف ثنية أخرجت لي من فك أحدهم السفل فكان نصف الثنية شبرين ‪ ،‬ووزنها ألف ومائة مثقال ‪ ،‬وكان دور فك ذلك العادي سبعة‬
‫عشر ذراعًا ‪ ،‬وطول عظم عضد أحدهم ثمانية أذرع ‪ ،‬وعرض كل ضلع من أضلعهم ثلثة أشبار ‪ ،‬كلوح الرخام ( ‪.‬‬

‫ل ‪ -‬تبين لنا‬
‫وقد يكون هذا الوصف من باب المبالغة المسرفة ‪ ،‬لن مشاهدة المومياوات المتحفية التي مضى عليها خمسة آلف سنة مث ً‬
‫أن حجم النسان كان بنفس الحجم الحالي ‪ ،‬دون أدنى علقة بما يصفه الشيخ عبد ال في كتابه المشار إليه ‪ ،‬ولذلك يبدو لنا أن للخيال‬
‫دورًا في تضخيم حجم ما يزعم رؤيته من بقايا قوم عاد ‪ ،‬وربما كان ذلك من باب ) الحواديت ( التي جاء منها أشكال وألوان في كتاب )‬
‫ألف ليلة وليلة ( ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬أو الفيال الضخمة ‪ ،‬التي تقاس أنيابها بالشبار ‪ ،‬وزعم الواصف‬ ‫أو ربما كان ما وجدوه بهذا الوصف حيوانًا هائل ‪ ،‬كالديناصور مث ً‬
‫أنه يصف إنسانًا من قوم عاد ‪.‬‬

‫ل ‪ ،‬طوله أكثر من سبعة وعشرين ذراعًا‬ ‫ل طوي ً‬


‫ويستمر الشيخ فيقــــول ‪ ) :‬ولقد رأيت في بلغار ‪ ،‬سنة ثلثين وخمسمائة ‪ -‬نسل عاد رج ً‬
‫‪ ،‬كان يسمى دنقي أو ديقي ‪ ،‬وكان يأخذ الفرس تحت إبطه ‪ ،‬كما يأخذ الولد الصغير ‪ ،‬وكان من قوته يكسر بيده ساق الفرس ‪ ،‬ويقطع‬
‫جلده وأعضاءه كما يقطع باقة البقل ‪ ،‬وكان صاحب بلغار قد اتخذ له درعًا تحمل على عجلة ‪ ،‬وبيضة عادية لرأسه ‪ -‬كأنهما قطعة من‬
‫جبل ‪ ،‬وكان يأخذ في يده شجرة من البلوط كالعصا ‪ ،‬لو ضرب بها الفيل لقتله ‪ ،‬وكان خّيرا متواضعًا ‪ ،‬كان إذا لقيني يسلم عل ّ‬
‫ي‬
‫ويرحب ‪ ،‬ويكرمني ‪ ،‬وكان رأسي ليصل إلى ركبته ‪ ،‬رحمة ال عليه ‪ ،‬ولم يكن في بلغار حمام يمكنه دخولها ‪ ،‬إل حمام واحد ‪ ،‬وكانت‬
‫له أخت على طوله ‪ ،‬ورأيتها مرات في بلغار ‪ ،‬وقال لي قاضي بلغار ‪ ،‬يعقوب بن النعمان ‪ :‬إن هذه المرأة العادية قتلت زوجها ‪ ،‬وكان‬
‫اسمه آدم ‪ ،‬وكان أقوى أهل بلغار ‪ ،‬قيل ‪ ) :‬إنها ضمته إليها فكسرت أضلعه ‪ ،‬فمات من ساعته ( ) المستطرف ‪. ( 398 /‬‬

‫وقد تأثرت آراء القدمين من العلماء بما ورد في العهد القديم من أساطير عن النسان القديم ‪ ،‬ول سيما قصة عوج بن عنق ‪ ،‬وهي أحد‬
‫معالم الحياة القديمة التي كانوا يتسّلون بروايتها ‪ ،‬وقد كان المستمعون يبهرون بتفاصيلها ‪ ،‬ويتصورون أنها تعبر عن واقع شهدته‬
‫الجيال القديمة ‪.‬‬

‫) روى عن وهب بن منبه في عوج بن عنق أنه كان من أحسن الناس وأجملهم ‪ ،‬إل أنه كان ليوصف طوله ‪ ،‬قيل ‪ :‬إنه كان يخوض في‬
‫الطوفان فلم يبلغ ركبتيه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إن الطوفان عل على رؤوس الجبال أربعين ذراعًا ‪ ،‬وكان يجتاز بالمدينة فيتخطاها كما يتخطى أحدكم‬
‫ل حتى أدرك موسى عليه السلم ‪ ،‬وكان جبارًا في أفعاله ‪ ،‬يسير في الرض برًا وبحرًا ‪ ،‬ويفسد‬ ‫عّمره ال دهرًا طوي ً‬
‫الجدول الصغير ‪ ،‬و َ‬
‫ما شاء ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إنه لما حصرت بنو إسرائيل في التيه ذهب فأتى بقطعة من جبل على قدرهم ‪ ،‬واحتملها على رأسه ليلقيها عليهم ‪،‬‬
‫فبعث ال طيرًا في منقاره حجر مدور ‪ ،‬فوضعه على الحجر الذي على رأسه ‪ ،‬فانثقب من وسطه ‪ ،‬وانخرق في عنقه ‪ ،‬وأخبر ال عز‬
‫وجل نبيه موسى عليه السلم بذلك فخرج إليه وضربه بعصا فقتله ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إن مويى عليه السلم كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة‬
‫أذرع ‪ ،‬وقفز في الهواء عشرة أذرع وضربه فلم يصل إلي عرقوبه ‪ ،‬فتبارك ال أحسن الخالقين ( ‪.‬‬

‫والعجيب أن يزعم اوي السطورة أن عوجًا عاش ‪ -‬وهو الحفيد لدم ‪ -‬حتى عهد موسى ‪ ،‬أي أكثر من سبعة آلف سنة ‪ ...‬؟؟‬
‫وتمضي السطورة فتحكي عن عنق أم عوج فتقول ‪ ) :‬عنق بنت آدم عليه الصلة والسلم ؟؟ ( وكانت مفردة بغير أخ ‪ ،‬وكانت مشوهة‬
‫الخلقة لها رأسان ‪ ،‬وفي كل يد عشرة أصابع ‪ ،‬ولكل أصبع ظفران كالمنجلين ( ‪ ،‬وقال على إبن أبي طالب ‪ ) :‬هي أول من بغى في‬
‫الرض ‪ ،‬وعمل الفجور ‪ ،‬وجاهر بالمعاصي ‪ ،‬واستخدم الشياطين ‪ ،‬وصّرفهم في وجوه السحر ‪ ،‬فأرسل ال عليها أسدًا أعظم من الفيل‬
‫فهجم عليها وقتلها ‪ ،‬وذلك بعد ولدة عوج بسنتين ( ‪.‬‬

‫إننا لم نأت بكل ما قيل عن عنق وولدها عوج ‪ ،‬وقد اختصرنا شيئًا من أخبارهم لكي نظهر ما بلغته الساطير من السيطرة على عقول‬
‫الناس قديمًا ‪ ،‬وحين تأتي الساطير في كتاب مقدس مثل التوراة ‪ -‬فإنها تستبد بعقول التباع ‪ ،‬وتحجب عن أبصارهم بصيص العقل ‪،‬‬
‫وهو ما غرقت فيه عقول كثيرين طوال قرون عديدة ‪.‬‬

‫}} الفصل الرابع من الباب الول {{‬

‫حـــديـــث القـــرآن‬

‫جدير بنا أن نذكر السور القرآنية التي تعرضت لقصة الخلق ‪ ،‬وما يتصل بها ‪ ،‬مرتبة حسب النزول ‪ ،‬لنتابع من خلل هذا الترتيب تدافع‬
‫معاني الوحي القرآني ‪ ،‬ومنهجه في سوق الحداث والحقائق ‪ ،‬كما أراد ال للنسان أن يتعلمها ‪ ،‬وقد جاء الترتيب هكذا ‪:‬‬

‫رقم السورة حسب النزول ‪( 1 ) --‬‬


‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬العلق‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الشارة الولى للنسان‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 4 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬المدثر‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الشارة الولى للبشر‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 7 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬العلى‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الذي خلق فسوى ) لول مرة (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 27 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬التين‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة عامة لخلق النسان ) في أحسن تقويم (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 30 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬القيامة‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الذكر والنثى ‪ -‬نطفة من ) منى يمنى ‪ ،‬ثم كان علقة فخلق فسوى (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 32 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬المرسلت‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى الماء المهين ‪ ،‬والقرار المكين‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 33 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬ق‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى حضور ال في خلقه‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 35 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الطارق‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى مادة الخلق في الصلب والترائب والماء الدافق الذي يخرج من بينهما ‪.‬‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 37 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬ص‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬قصة الخلق والملئكة وإبليس للمرة الولى ) دون ذكر آدم (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 38 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬العراف‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق والتصوير ثم قصة آدم والملئكة وإبليس ‪ ) -‬آدم يذكر للمرة الولى (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 40 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬يس‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬أو لم ير النسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 41 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الفرقان‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الماء والبشر ‪ ،‬والنسب والصهر‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 42 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬فاطر‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬وال خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجًا (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 43 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬مريم‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬أو ل يذكر النسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئًا (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 44 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬طه‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ( ‪ /‬آدم وحياته الرضية‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 49 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬السراء‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إعتراض إبليس على السجود للطين ‪ ،‬وحوار بين ال وبينه‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 53 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الحجر‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق من صلصال من حمأ مسنون ‪ -‬إلى آخر القصة‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 54 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النعام‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى الخلق من الطين ل شك في هذا‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 55 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الصافات‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى الخلق من الطين اللزب‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 59 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬غافر‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إجمال مراحل الخلق والشيخوخة‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 68 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الكهف‬
‫ل(‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬علقة التراب بالنطفة ) ثم سواك رج ً‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 69 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النحل‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬خلق النسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 70 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬نوح‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الطوار ‪ ،‬والنبات في الرض والعودة إليها‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 72 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النبياء‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الحياة من الماء ) من الماء كل شيء حي (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 73 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬المؤمنون‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬تفصيل مراحل الخلق ) من سللة من طين (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 74 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬السجدة‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬بدأ خلق النسان من طين ‪ -‬ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 81 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النفطار‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬خلقك فسواك فعدلك (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 83 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الروم‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق من تراب ثم النتشار على الرض بشرًا‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 87 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬البقرة‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلفة والسجود من الملئكة والتمرد من إبليس‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 93 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النساء‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق من ) نفس واحدة وخلق منها زوجها (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 98 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الرحمن‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق والبيان ‪ ) -‬من صلصال كالفخار ( خلقه فعلمه فصار إنسانًا‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 99 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النسان‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬حين من الدهر ( هو الماضي البشري ) لم يكن شيئًا مذكورًا (‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 104 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النور‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ) --‬وال خلق كل دابة من ماء ( ‪ ،‬وأشكال الخلق‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 105 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الحج‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬تقرير كامل ونهائي عن خلق النسان ومراحله ‪.‬‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪( 108 ) --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الحجرات‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬ذكر وأنثى ‪ -‬شعوب وقبائل ‪ -‬تعارف ‪ :‬حضارة ‪.‬‬

‫لقد بدأ القرآن ومضته الولى باليتين الكريمتين‬


‫ق ‪ -{{ 2‬سورة العلق ‪ ،‬وهي بداية رائعة ‪ ،‬تتضمن تعريف ال سبحانه وتعالى لذاته‬ ‫عَل ٍ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خَل َ‬
‫ق‪َ 1‬‬‫خَل َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫سِم َرّب َ‬
‫}} اْقَرْأ ِبا ْ‬
‫‪ ،‬وهو يخاطب مصطفاه محمدًا خطابه الول ‪ ،‬ولتحقيق هذا الغرض يذكر من صفاته الحسنى صفة ) الخالق ( ‪ ،‬وليس دون هذه الصفة‬
‫إمكان للتعرف ‪ ،‬وفي الحديث القدسي ‪ ):‬كنت كنزًا مخفيًا فأردت أن أعرف ‪ ،‬فخلقت الخلق ‪ ،‬فبي عرفوني ( ‪ ،‬وبديهي أن يتعرف‬
‫ق {{ ‪،‬‬‫عَل ٍ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خَل َ‬
‫المخلوق على خالقه ‪ ،‬سّيـما وهو يخاطبه ‪ ،‬ويعرفه بنفسه ‪ ،‬ويذوده بأدق المعلومات عن أصل الصنعة ‪َ }} :‬‬
‫وهي معلومة موضوعية خالصة ‪.‬‬

‫وبديهي أيضًا أن يثير هذا السؤال في نفس المخاطب ) محمد ( أشواقًا إلى معرفة ل نهاية لها ‪ ،‬وتطلعًا إلى إدراك العلقة بين ) العلق (‬
‫في مهانته ‪ ،‬وقلة شأنه ‪ ،‬و ) النسان ( في مهابته وعظم شأنه ‪ ،‬في شخص المخاطب الول بهذا الكلم ) محمد المصطفى ( صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬

‫ويأتي بعد ذلك الحديث القرآني الثاني عن ) النسان ( فإذا هو ل يذكره بلفظه ‪ ..‬بل يستخدم لفظًا آخر يدل عليه ‪ ،‬هو ) البشر ( ‪ ،‬وذلك‬
‫ن َهَذا ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫في السورة الرابعة من التنزيل العزيز ‪ ،‬سورة ) المدثر ( ‪ ،‬وترد فيها لفظة ) البشر ( أربع مرات في اليات ‪ِ }} ( 25 ) :‬إ ْ‬
‫شِر ‪36‬‬‫شِر ‪ ، {{ 31‬و ) ‪َ }} ( 36‬نِذيًرا ّلْلَب َ‬
‫ل ِذْكَرى ِلْلَب َ‬
‫ي ِإ ّ‬
‫شِر ‪ ، {{ 29‬و ) ‪َ }} ( 31‬وَما ِه َ‬ ‫حٌة ّلْلَب َ‬
‫شِر ‪ ، {{ 25‬و ) ‪َ}} ( 29‬لّوا َ‬
‫ل اْلَب َ‬
‫َقْو ُ‬
‫{{ ‪ ،‬ول ريب أن مدلول الكلمة في اليات الربع يعني المخلوق المخاطب باليات المنزلة من الوحي ‪ ،‬أي ‪ :‬النسان في عمومه ‪ ،‬ثم لم‬
‫ترد كلمة ) البشر ( بعد ذلك في جملة من السور بترتيب النزول ‪ ،‬حتى السورة السادسة والثلثين ‪ ،‬وهي سورة القمر ‪ ،‬وذلك في سياق‬
‫حًدا ّنّتِبُعُه ‪{{24 ...‬‬
‫شًرا ّمّنا َوا ِ‬
‫قصة النبي صالح مع قومه ثمود ‪ ،‬حين قال قائلهم ‪َ }} :‬أَب َ‬

‫بيد أن الشارة التي تعتبر إضافة إلى المفهوم الول للخلق باعتباره المرحلة الولى ‪ -‬جاءت في السورة السابعة ) في ترتيب النزول ( ‪،‬‬
‫عَلى ‪ 1‬اّلِذي‬
‫لْ‬‫ك ا َْ‬
‫سَم َرّب َ‬
‫حا ْ‬
‫سّب ِ‬
‫وهي سورة العلى ‪ ،‬فذكرت المرحلة الثانية في إيجاد الخلق ‪ ،‬وهي مرحلة التسوية ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ }} :‬‬
‫سّوى ‪ ، {{ 2‬والتسوية هنا عمل إلهي سوف يرد ذكره باعتباره دائمًا الخطوة الثانية في بناء هذا الخلق ‪.‬‬
‫ق َف َ‬
‫خَل َ‬
‫َ‬

‫والمذكور هنا هو مطلق الخلق ‪ ،‬ومطلق التسوية ‪ ،‬دون ذكر لمحلهما ‪ ،‬وهل هو البشر ‪ ،‬أو النسان ‪ ،‬لكن السياق يصرف العبارة إلى‬
‫ق { الذي أشارت إليه السورة الولى ‪.‬‬
‫عَل ٍ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خَل َ‬
‫بيان } َ‬

‫ن ِفي‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫ل ‪ ،‬وذلك في قوله تعالى ‪َ }} :‬لَقْد َ‬ ‫ثم جاء ذكر ) النسان ( في سورة التين ‪ ،‬وهي السورة السابعة والعشرون نزو ً‬
‫ن ‪ -{{ 6‬سورة التين ‪ ،‬والشارة هنا إلى‬ ‫غْيُر َمْمُنو ٍ‬
‫جٌر َ‬
‫ت َفَلُهْم َأ ْ‬
‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ن ‪ِ 5‬إ ّ‬
‫ساِفِلي َ‬
‫ل َ‬
‫سَف َ‬
‫ن َتْقِويٍم ‪ُ 4‬ثّم َرَدْدَناُه َأ ْ‬
‫سِ‬‫حَ‬
‫َأ ْ‬
‫ن َتْقِويٍم { ‪ ،‬ومستوى‬ ‫سِ‬
‫حَ‬‫) النسان ( الذي خلق من علق ‪ ،‬وعلمه ال ما لم يكن يعلم ‪ ،‬فانقسم هذا النسان إلى مستوى رفيع } ِفي َأ ْ‬
‫ن { ‪ ،‬وهو وصف للواقع الذي يخاطبه الوحي القرآني في مكة ‪ :‬أناس آمنوا فارتفعوا ‪ ،‬وأناس كفروا فاتضعوا ‪.‬‬ ‫ساِفِلي َ‬
‫ل َ‬ ‫سَف َ‬
‫وضيع } َأ ْ‬

‫سانُ َأن ُيْتَر َ‬


‫ك‬ ‫لن َ‬
‫ب ا ِْ‬
‫س ُ‬
‫حَ‬
‫ل ‪ ،‬وذلك في قوله تعالى ‪َ }} :‬أَي ْ‬ ‫ثم يعود القرآن إلى خلق النسان في سورة القيامة ‪ ،‬وهي السورة الثلثون نزو ً‬
‫لنَثى ‪ -{{ 39‬سورة القيامة ‪، .‬وفي‬ ‫ن الّذَكَر َوا ُْ‬
‫جْي ِ‬
‫ل ِمْنُه الّزْو َ‬
‫جَع َ‬
‫سّوى ‪َ 38‬ف َ‬ ‫ق َف َ‬
‫خَل َ‬
‫عَلَقًة َف َ‬
‫ن َ‬
‫ي ُيْمَنى ‪ُ 37‬ثّم َكا َ‬
‫طَفًة ّمن ّمِن ّ‬
‫ك ُن ْ‬
‫سًدى ‪َ 36‬أَلْم َي ُ‬
‫ُ‬
‫ق {{ ‪ ،‬وهي مرحلة النطفة من المني يقذفها الرجل في رحم المرأة‬ ‫عَل ٍ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سا َ‬‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬‫خَل َ‬
‫هذه اليات إشارة إلى المرحلة السابقة على ‪َ }} :‬‬
‫‪ ،‬لتصبح من بعد علقة يتخلق منها الذكر والنثى ‪.‬‬

‫ي الرجل ‪ ،‬ل‬
‫وتضمنت اليات ‪ -‬مما أدركه العلم الحديث ‪ -‬إشارة دقيقة إلى أن تحديد نوع الجنين ‪ ،‬ذكرًا كان أو أنثى ‪ ،‬يتوقف على من ّ‬
‫على بويضة المرأة ‪.‬‬

‫وهكذا أفادت هذه اليات مزيدًا من المعرفة بعملية الخلق وتفسيره ‪ ،‬فهي في الحقيقة بيان لما أجمله النص الول في سورة العلق ‪.‬‬

‫وكان حرص القرآن في تلك المرحلة الولى على تأكيد العلقة بين الحياة والموت والبعث ‪ ،‬فهو في آيات القيامة يختمها بقوله ‪:‬‬
‫ل(‬ ‫ي اْلَمْوَتى ‪ -{{ 40‬القيامة ‪ ، .‬وهو في السورة التالية لها ‪ ،‬سورة المرسلت ) الثانية والثلثين نزو ً‬ ‫حِي َ‬
‫عَلى َأن ُي ْ‬
‫ك ِبَقاِدٍر َ‬
‫س َذِل َ‬
‫}} َأَلْي َ‬
‫ن ‪ِ 21‬إَلى َقَدٍر ّمْعُلوٍم ‪َ 22‬فَقَدْرَنا َفِنْعَم اْلَقاِدُرو َ‬
‫ن‬ ‫جَعْلَناُه ِفي َقَراٍر ّمِكي ٍ‬
‫ن ‪َ 20‬ف َ‬
‫خُلقّكم ّمن ّماء ّمِهي ٍ‬
‫يعيد هذه الحقيقة في قوله تعالى ‪َ }} :‬أَلْم َن ْ‬
‫ي ( المذكور في سورة القيامة بأنه ) ماء مهين ( ‪ ،‬ولكن المقدرة هي التي جعلت هذا الماء إنسانًا سويًا ‪.‬‬ ‫‪ ، {{ 23‬وهو هنا يصف ) المن ّ‬

‫ن َوَنْعَلُم َما‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫ونزلت بعد ذلك سورة ) ق ( وهي السورة الثالثة والثلثون ‪ -‬لتفيد حضور ال في نفس النسان ‪َ }} :‬وَلَقْد َ‬
‫ل اْلَوِريِد ‪ -{{ 16‬سورة ق ‪ ،‬فكيف يفلت النسان من قبضة ال ؟؟‬ ‫حْب ِ‬
‫ن َ‬
‫ب ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫ن َأْقَر ُ‬
‫حُ‬‫سُه َوَن ْ‬
‫س ِبِه َنْف ُ‬
‫سِو ُ‬
‫ُتَو ْ‬

‫ي ( الذي يخرج من بين الصلب والترائب ‪،‬‬


‫ثم يأتي النص في سورة ) الطارق ( ليضيف مذيدًا من المعلومات عن الماء الدافق ) المن ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫وهي معلومة لم تكن معروفة حتى عصرنا ‪ ،‬و ) الطارق ( هي السورة الخامسة والثلثون نزو ً‬

‫ل ‪ ،‬قال سبحانه وتعالى ‪:‬‬ ‫ثم نزلت سورة ) ص ( تذكر قصة الخلق لول مرة ‪ ،‬وهي السورة السابعة والثلثون نزو ً‬
‫لِئَكُة ُكّلُهمْ‬
‫جَد اْلَم َ‬
‫سَ‬‫ن ‪َ 72‬ف َ‬ ‫جِدي َ‬‫سا ِ‬
‫حي َفَقُعوا َلُه َ‬ ‫ت ِفيِه ِمن ّرو ِ‬‫خ ُ‬ ‫سّوْيُتُه َوَنَف ْ‬‫ن ‪َ 71‬فِإَذا َ‬‫طي ٍ‬‫شًرا ِمن ِ‬ ‫ق َب َ‬
‫خاِل ٌ‬
‫لِئَكِة ِإّني َ‬
‫ك ِلْلَم َ‬
‫ل َرّب َ‬
‫}} ِإْذ َقا َ‬
‫ن ‪75‬‬
‫ن اْلَعاِلي َ‬‫ت ِم َ‬‫ت َأْم ُكن َ‬‫سَتْكَبْر َ‬
‫ي َأ ْ‬
‫ت ِبَيَد ّ‬
‫خَلْق ُ‬‫جَد ِلَما َ‬
‫سُ‬‫ك َأن َت ْ‬
‫س َما َمَنَع َ‬ ‫ل َيا ِإْبِلي ُ‬‫ن ‪َ 74‬قا َ‬‫ن اْلَكاِفِري َ‬
‫ن ِم ْ‬‫سَتْكَبَر َوَكا َ‬
‫سا ْ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬‫ن ‪ِ 73‬إ ّ‬ ‫جَمُعو َ‬ ‫َأ ْ‬
‫ل َر ّ‬
‫ب‬ ‫ن ‪َ 78‬قا َ‬ ‫ك َلْعَنِتي ِإَلى َيْوِم الّدي ِ‬
‫عَلْي َ‬
‫ن َ‬‫جيٌم ‪َ 77‬وِإ ّ‬ ‫ك َر ِ‬
‫ج ِمْنَها َفِإّن َ‬‫خُر ْ‬ ‫ل َفا ْ‬‫ن ‪َ 76‬قا َ‬‫طي ٍ‬
‫خَلْقَتُه ِمن ِ‬ ‫خَلْقَتِني ِمن ّناٍر َو َ‬
‫خْيٌر ّمْنُه َ‬
‫ل َأَنا َ‬ ‫َقا َ‬
‫ك ِمْنُهُم‬
‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬
‫ن ‪ِ 82‬إ ّ‬
‫جَمِعي َ‬
‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬‫ك َُ‬
‫ل َفِبِعّزِت َ‬
‫ت اْلَمْعُلوِم ‪َ 81‬قا َ‬ ‫ن ‪ِ 80‬إَلى َيْوِم اْلَوْق ِ‬ ‫ظِري َ‬
‫ن اْلُمن َ‬
‫ك ِم َ‬
‫ل َفِإّن َ‬
‫ن ‪َ 79‬قا َ‬ ‫ظْرِني ِإَلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ‬
‫َفَأن ِ‬
‫ن ‪ -{{ 85‬سورة ص‬ ‫جَمِعي َ‬
‫ك ِمْنُهْم َأ ْ‬
‫ك َوِمّمن َتِبَع َ‬‫جَهّنَم ِمن َ‬
‫ن َ‬‫لّ‬‫لْم َ‬
‫ل ‪َ 84‬‬ ‫ق َأُقو ُ‬‫حّ‬ ‫ق َواْل َ‬
‫حّ‬
‫ل َفاْل َ‬
‫ن ‪َ 83‬قا َ‬ ‫صي َ‬
‫خَل ِ‬‫اْلُم ْ‬
‫هذا النص القرآني يتضمن لول مرة أساسيات القصة ‪ ،‬قصة الخلق ‪ ،‬من مبدئها إلى منتهاها ‪ ،‬وكل ما جاء بعد ذلك من نصوص القرآن‬
‫متحدثًا عن هذه القصة ‪ -‬يضيف بعض التفاصيل التي تثري جوها ‪ ،‬وتوضح بعض غوامضها ‪.‬‬

‫والساسيات التي نقصدها في القصة هي ‪:‬‬


‫‪ - 1‬إخبار ال للملئكة بأنه سيخلق البشر ‪.‬‬
‫‪ - 2‬خلق البشر من طين ‪ -‬التسوية ‪ -‬النفخ من روح ال ‪ -‬النسان ‪.‬‬
‫‪ - 3‬أمر الملئكة ومعهم إبليس بالسجود للمخلوق عند استوائه واكتماله ‪.‬‬
‫‪ - 4‬سجود الملئكة أجمعين ‪.‬‬
‫‪ - 5‬رفض إبليس للسجود إستكبارًا ‪.‬‬
‫‪ - 6‬إدعاء إبليس الخيرية على هذا المخلوق بخيرية النار على الطين ‪.‬‬
‫‪ - 7‬طرد إبليس وإمهاله إلى يوم الدين ‪.‬‬
‫‪ - 8‬توعد إبليس بغواية بني آدم ‪ ،‬إل المخلصين ‪.‬‬
‫‪ - 9‬وعيد ال بجهنم لمن اتبع إبليس ‪.‬‬
‫هذه الساسيات تتكرر في جميع المواضع الخرى في السورة التالية ‪ ،‬ولكنها تذيد بعض التفاصيل المثرية ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬وهو ما نلحظه‬
‫ل ‪ :‬السورة الثامنة والثلثين ‪ ،‬وهي سورة العراف ‪.‬‬ ‫ل في السورة التالية نزو ً‬
‫مث ً‬

‫غير أننا نلحظ بداية ‪ ،‬أن القصة في سورة ) ص ( لم تتضمن ذكر آدم ‪ ..‬بل اقتصرت على الشارة إلى أن المخلوق ‪ -‬موضوع الحديث‬
‫ل بعد إجمال ‪ ،‬ومع‬
‫‪ -‬هو ) بشر ( بحسب ‪ ،‬ثم جاءت سورة العراف لتذكر آدم للمرة الولى في الوحي القرآني ‪ ،‬فكان ذلك تفصي ً‬
‫ملحظة أن السورتين متتاليتان ‪ ،‬ولكي نعرض تفاصيل القصة نتابع مناقشة كل أساسية على حدة ‪.‬‬

‫}} الفصل الخامس من الباب الول {{‬

‫ل ‪ :‬إعــــلم الملئــــــكة‬
‫أو ً‬

‫شًرا {{ ‪ ،‬وهي عبارة تحمل كثيرًا من المعاني ‪ ،‬ذلك أن الية تبدأ بعبارة ‪ِ }} :‬إْذ‬‫ق َب َ‬
‫خاِل ٌ‬
‫‪ ،‬قول ال سبحانه وتعالى للملئكة ‪ِ }} :‬إّني َ‬
‫لِئَكِة {{ ‪ ،‬فهي تستخدم لفظة ) الرب ( مضافة إلى ضمير المخاطب ‪ ،‬وهو ‪ ) :‬محمد ( صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬على نسق‬ ‫ك ِلْلَم َ‬
‫ل َرّب َ‬
‫َقا َ‬
‫ق {{ ‪ ،‬وهي إضافة تقرب النبي من حضرة ربه ‪ ،‬وتدنيه من جلله ‪ ،‬وهو ما‬ ‫خَل َ‬
‫ك اّلِذي َ‬ ‫سِم َرّب َ‬
‫ماجاء في الخطاب الول ‪}} :‬اْقَرْأ ِبا ْ‬
‫جرى عليه الوحي في السور الولى بشكل عام ‪.‬‬

‫لكن ‪ ..‬كيف قال ) ربك ( ؟ وكيف تلقت الملئكة هذا القول ؟ وذلك ما ل سبيل إلى إدراكه ‪ ،‬وإن كان هنالك سبيل إلى تأويله ‪ :‬فالرب إذا‬
‫تكلم فكلمه ليس بحرف ‪ ،‬ول صوت ‪ ،‬وهذه صفة كلمه النفسي كما قررها علماء الكلم ‪ ،‬ولكن إدراك الخطاب اللهي يتحقق في كل‬
‫جنس بحسبه ‪ ،‬فإذا تلقى النسان ذلك الخطاب فمن خلل الحرف ‪ ،‬والصوت ‪ ،‬واللغة ‪ ،‬وإذا تلقته الملئكة فمن خلل قدراتها التي‬
‫تختلف عن قدرات النسان ‪ ،‬لختلف طبيعتها عن طبيعته ‪ ،‬ول مانع من أن يكون بلغة ما ‪ ..‬كيفما فطر ال ملئكته ‪.‬‬

‫أما كيف تم هذا الحوار فخوض في غمار الغيب المحجوب ‪ ،‬والحديث فيه اتباع لما تشابه من آيات ال ‪ ،‬ونسأل ال أن يباعد بيننا وبين‬
‫الفتن ‪ ،‬وأن يلهمنا القدرة على تأويل هذه المتشابهات بما يليق بجلله ‪ ،‬وكل ما يعنينا هو التسليم بصدق الخبر ‪ ،‬ووقوع الحوار ‪ ،‬ول في‬
‫ذلك حكمة هو أعلم بها ‪.‬‬

‫ول ريب أن تلقي النبي صلى ال عليه وسلم لهذا الخطاب كان مختلفًا عن تلقينا له ‪ ،‬باعتبار أنه أعلم بربه وأنه ذو إتصال بالمل العلى‬
‫) عالم الملئكة ( ‪ ،‬منذ جاء الروح المين بالوحي ‪ ،‬فإذا خاطب ال نبيه فإن لهذا الخطاب موقعه من نفس النبي ‪ ،‬حتى تكاد قدراته‬
‫الروحية ترفعه إلى مرتبة الشهود ‪ ،‬إستشفافًا لما وراء الكلمات المنزلة ‪ ،‬وإستشرافًا للحضور القدسي ‪ ،‬فهو مائل على الرض ‪ ،‬وهو في‬
‫نفس الوقت يعاين من آيات ربه ما ل يعاين الجلوس من حوله ‪ ،‬إن كان الوحي بمحضر منهم ‪.‬‬

‫ل َوُهم‬
‫سِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِ‬
‫ل َي ْ‬
‫ن {{ ‪ ،‬وهم ل يسبقون ال سبحانه }} َ‬ ‫عَباُد ّمكَرُمو َ‬
‫أما الملئكة فحسبنا من وصفهم ما جاء بشأنهم في القرآن }} ِ‬
‫ن ‪ -{{ 28‬سورة النبياء ‪ ،‬وهم‬ ‫شِفُقو َ‬
‫شَيِتِه ُم ْ‬
‫خْ‬
‫ن َ‬
‫ضى َوُهم ّم ْ‬‫ن اْرَت َ‬
‫ل ِلَم ِ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫شَفُعو َ‬
‫ل َي ْ‬
‫خْلَفُهْم َو َ‬
‫ن َأْيِديِهْم َوَما َ‬
‫ن ‪َ 27‬يْعَلُم َما َبْي َ‬ ‫ِبَأْمِرِه َيْعَمُلو َ‬
‫ن ‪ -{{ 6‬التحريم ‪.‬‬ ‫ن َما ُيْؤَمُرو َ‬ ‫ل َما َأَمَرُهْم َوَيْفَعُلو َ‬‫ن ا َّ‬‫صو َ‬ ‫ل َيْع ُ‬
‫كذلك ‪َ }} :‬‬

‫لِئَكِة‬
‫ل اْلَم َ‬
‫عِ‬
‫جا ِ‬
‫ض َ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫طِر ال ّ‬
‫ل َفا ِ‬
‫حْمُد ِّ‬
‫ووصفهم القرآن أيضًا في مطلع سورة فاطر أو ) الملئكة ( ‪ -‬بقوله تعالى ‪ }} :‬اْل َ‬
‫يٍء َقِديٌر ‪ -{{ 1‬سورة فاطر‪.‬‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫شاء ِإ ّ‬
‫ق َما َي َ‬
‫خْل ِ‬
‫ع َيِزيُد ِفي اْل َ‬
‫ث َوُرَبا َ‬
‫ل َ‬
‫حٍة ّمْثَنى َوُث َ‬
‫جِن َ‬
‫ل ُأوِلي َأ ْ‬
‫سً‬‫ُر ُ‬

‫ول ريب أن لهذه الوصاف معاني محددة ل نستطيع أن نحيط بها علمًا وحسبنا هنا أن ننقل عن تفسير ) المنار ( ما قرره الستاذ المام‬
‫محمد عبده ‪ ،‬حين تحدث عن الملئكة فقال ‪ ) :‬أما الملئكة فيقول السلف ‪ :‬إنهم خلق أخبرنا ال تعالى بوجودهم ‪ ،‬وببعض أعمالهم ‪،‬‬
‫فيجب علينا اليمان بهم ‪ ،‬ول يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم ‪ ،‬فنفوض علمها إلى ال تعالى ‪ ..‬فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك ‪،‬‬
‫ولكننا نقول ‪ :‬إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور ‪ ،‬إذ لو كانت كذلك لرأيناها ‪ ،‬وإذا ورد أنهم موكلون بالعوامل‬
‫الجسمانية ‪ ،‬كالنبات والبحار فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس ‪ ،‬وأن له علقة بنظامه‬
‫وأحكامه ‪ ،‬والعقل ل يحكم بإستحالة هذا ‪ ،‬بل يحكم بإمكانه ‪ ،‬ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به ( ‪.‬‬

‫ثم قال ‪ ) :‬وأما الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملئكة ‪ ،‬وكيفية الخطاب بينهم وبين ال تعالى فهي من وجوه ‪:‬‬

‫أحدها ‪ :‬أن ال تعالى في عظمته وجلله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه ‪ ،‬وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ‪ ،‬ول‬
‫سيما عند الحيرة ‪ ،‬والسؤال يكون بالمقال ‪ ،‬ويكون بالحال والتوجه إلى ال تعالى في إستفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت‬
‫سننه تعالى بأن يفيض منها ) كالبحث العلمي ‪ ،‬والستدلل العقلي ‪ ،‬واللهام اللهي ( ‪ ،‬وربما كان للملئكة طريق آخر لستفاضة‬
‫العلم ‪ ،‬غير معروف لحد من البشر ‪ ،‬فيمكننا أن نحمل سؤال الملئكة على ذلك‪ ) -‬تفسير المنار ‪. ( 213 - 212 / 1‬‬

‫ثـانـيـــــًا ‪ :‬خلق البشـــــر من طيـــن‬

‫ن ‪ -{{ 71‬سورة ص ‪ ،‬واستخدام الصيغة ) خالق ( هنا يفيد الحداث ‪..‬‬ ‫طي ٍ‬
‫شًرا ِمن ِ‬
‫ق َب َ‬
‫خاِل ٌ‬
‫ونص إعلم ال للملئكة يأتي هكذا }} ِإّني َ‬
‫أي ‪ :‬اليجاد من عدم ‪ ،‬والسؤال هو ‪ :‬هل هذه الصيغة في موقعها تفيد المضى ‪ ،‬أو المستقبل ؟‬
‫ونرى أنها تفيد المضى ‪ ،‬أي ‪ :‬إن ال كان قد خلق هذا البشر قبل العلم به ‪ ،‬وقد أراد أن يخبر الملئكة تهيئة لهم ‪ ،‬حتى يتابعوا أحوال‬
‫المخلوق ‪ ،‬خلل مراحل التسوية ‪ ،‬والنفخ اللهي ‪ -‬كيفما يقعوا له ساجدين ‪ -‬كما أمر ال ‪ ،‬ولعل ذلك ) الخلق ( داخل في المر الزلي‬
‫) الخالق ( ) كن ( وهو أمر لم تعرف الملئكة كل تفاصيله ‪ ،‬إل أن يأذن لها ال بذلك ‪ ،‬أما بقية العلم فيتضمن ذكر ) البشر ( و‬
‫) الطين ( ‪ ،‬والعلقة بينهما ‪.‬‬

‫فأما البشر فهي تسمية لذلك المخلوق الذي أبدعه ال تعالى من الطين ‪ ،‬وأصله في اللغة من ) ب ش ر ( ‪ ،‬وهو يفيد ) الظهور مع حسن‬
‫وجمال ( ‪ ،‬قال ابن فارس ‪ ) :‬هو أصل واحد ‪ :‬ظهور الشيء مع حسن وجمال ( ‪ ،‬وسمي البشر بشرًا لظهورهم ) مقاييس اللغة ‪/ 1‬‬
‫‪ ( 251‬وفي المعجم الكبير ‪ :‬البشر ‪ ..‬النسان ‪ ،‬للذكر والنثى ‪ ،‬وللواحد والمثنى والجمع ‪ ،‬وقد يثني كما جاء في القرآن ‪َ }} :‬أُنْؤِم ُ‬
‫ن‬
‫ن ِمْثِلَنا ‪{{ 47 ...‬سورة المؤمنون ‪ ،‬وقد يجمع على ) أبشار ( ‪ -‬المعجم الكبير ‪ 335 / 2‬وقد يتحدد المعنى في سياق المعالجة ‪-‬‬ ‫شَرْي ِ‬
‫ِلَب َ‬
‫لكن الغالب الكثير فيه إفراده ‪ ،‬مع ملحظة أن الكلمة جامدة ‪ ،‬ل تتصرف بوجه من الوجوه ‪ ،‬والمعنى المتناسب هنا هو ظهور هذا‬
‫المخلوق من بين تراب وماء ‪ ،‬أي ‪ :‬من طين ‪ ،‬كما ورد ذلك في السراء ‪ ،‬والنعام ‪ ،‬والصافات ‪ ،‬وكان خلقه بكل بساطة كما ظهرت‬
‫ض َنَباًتا ‪ -{{ 17‬سورة نوح ‪.‬‬
‫لْر ِ‬
‫ن ا َْ‬
‫ل َأنَبَتُكم ّم َ‬
‫ل ( ‪َ }} :‬وا ُّ‬
‫النباتات ‪ ،‬وهو قوله تعالى في سورة نوح ) السبعين نزو ً‬

‫ومع أن كل حيوان أو طير أو حشر ‪ -‬إلى آخر سلسلة الكائنات ‪ -‬هو من طين ‪ ،‬فإن البشر هو أبرز هذه المخلوقات ‪ ،‬وأكدها وجودًا ‪،‬‬
‫فلذلك أطلق عليه في القرآن ) البشر ( ‪ ..‬أي ‪ :‬الظاهر على كل الكائنات الطينية ‪ ..‬يسخرها لخدمته ‪ ،‬ويستمد منها ُقوتُه وُقّوًتُه ‪ ،‬ويصارع‬
‫وجودها تأمينًا لوجوده ‪.‬‬

‫ل لما يتصف به عالم الملئكة ‪ ،‬وعالم الجن ‪ ،‬من عدم‬


‫وربما كان إطلق كلمة ) بشر ( أيضًا بهذا المعنى ‪ ،‬وهو ) الظهور ( ‪ -‬مقاب ً‬
‫الظهور ‪ ،‬فهم خلق ل ُيَرى ‪ ،‬وقد قرر القرآن ذلك بشأن ) الجن ( ‪ ،‬إذ هي كلمة مشتقة من معنى ‪ ) :‬الجتنان ( وهو الستتار ‪ ،‬وال‬
‫ل َتَرْوَنُهْم ‪ ، {{ 27 ...‬فالظهور في البشر ‪ ،‬والخفاء في الجن ‪ -‬هما حقيقة‬
‫ث َ‬
‫حْي ُ‬
‫ن َ‬
‫يقول عن الشيطان وقبيله ‪ِ }} :‬إّنُه َيَراُكْم ُهَو َوَقِبيُلُه ِم ْ‬
‫الحياة التي تعمر هذه الرض ‪ ،‬على اليابسة ‪ ،‬والماء ‪ ،‬وفي جو السماء‬

‫الظهور في البشر ‪ ،‬والخفاء في الجن ‪ -‬هما حقيقة الحياة التي تعمر هذه الرض ‪ ،‬على اليابسة ‪ ،‬والماء ‪ ،‬وفي جو السماء ‪.‬‬
‫والعجيب أن للعربية هنا تميزًا وتفوقًا على اللغات الخرى ‪ ،‬فقد حققت بهذا اللفظ ) بشر ( ‪ ،‬تظابقًا عجيبًا مع معناه ‪ ،‬وكأنما كانت‬
‫تستملي الغيب ‪ ،‬وتستقريء أستاره ‪ ،‬ليمنحها هذه اللفظة ‪ ،‬دون اللغات الخرى في الفصيلة السامية ‪ ،‬بل دون ما عهدنا من اللغات‬
‫الوروبية ‪.‬‬

‫فاللغات السامية كالسريانية ‪ ،‬والحبشية ‪ ،‬والرامية ‪ -‬ل تعرف كلمة ) بشر ( ‪ ،‬بل ول تعرف كلمة ) إنسان ( ‪ ،‬وإنما المستخدم فيها هو‬
‫ل للدللة على ) النسان ( ‪ ،‬وأما ) بشر ( فقد جاء في‬
‫مايؤخذ من كلمة ) آدام ( ‪ ،‬أو ) بني آدام ( ‪ ،‬وقد عرفت العبرية هاتين الكلمتين فع ً‬
‫سفر التكوين لفظها بالسين ) بسر ( ‪ ،‬وهي بمعنى ) لحم ( ‪ ،‬وبمعنى ) نفس ( في عبارة العهد القديم ‪ ) :‬كل بسر حي ( ‪ ،‬أي ‪ :‬كل نفس‬
‫حية ‪.‬‬

‫غير أن هذه الكلمة ) بسر ( على خلف القاعدة الغالبة بين العربية والعبرية ‪ ،‬فنحن نعرف أن ما ينطق بالســين في العربية هو في‬
‫العبرية بالشــين ‪ ،‬مثل سلم وشالوم ‪ ،‬وسماء وشماي ‪ ،‬وطردًا لهذه القاعدة كان النسب أن تكون بالســين في العربية وبالشــين في‬
‫العبرية ‪ ،‬لكن ماحدث هو العكس ‪.‬‬
‫هذا من ناحية اللفظ ‪ ،‬وأما من ناحية المعنى فهناك إختلف كامل بين معنى الكلمة ) بشر ( في العربية ‪ ،‬ومعنى ) بسر ( في العبرية ‪..‬‬
‫وهي علمة إستفهام تحتاج إلى إجابة حاسمة ‪.‬‬
‫وفي الفارسية أستخدمت اللفاظ العربية ‪ ،‬مع كلمة ) َمرْد ( ‪ ،‬وهي الوحيدة في اللسان الفارسي بمعنى ) رجل ونفر وشخص وإنسان ( ‪،‬‬
‫وهي أيضًا كلمات مستخدمة فيها ‪.‬‬

‫وفي اللغة الردية أستخدمت كلمة ) آدمي ( في ترجمة كلمة ) بشر ( ‪ ،‬واستخدمت كلمة ) إنسان (‪.‬‬

‫وأما في اللغات الغربية فمنها النجليزية ‪ ،‬وقد استخدمت كلمة ) ‪ ( man‬بمعنى ) بشر وإنسان ( ‪ ،‬وقد استخدم محمد بكثال في ترجمته‬
‫للقرآن كلمة ‪ mortal‬بمعنى ) بشر ( ‪ ،‬وكلمة ‪ man‬بمعنى ) إنسان ( ‪ ،‬في حين استخدم المترجم عبدال يوسف كلمة ‪ man‬في كل‬
‫المعنيين ‪ ،‬كذلك في الفرنسية والمجرية والتركية ‪..‬إلخ ‪.‬‬

‫ومهما تتبعنا ترجمات القرآن في اللغات المختلفة فإننا ل نجد سوى كلمة منه في مراجعتنا لمجموعة الترجمات التي أصدرها مجمع‬
‫الملك فهد ابن عبدالعزيز بالمدينة المنورة ‪ ،‬وقد بلغت عدتها تسع عشرة ترجمة باللغات السلمية وغيرها ‪ ،‬وهو دليل على أن مترجمي‬
‫القرآن ل يجدون في لغاتهم سوى كلمة واحدة للمعنيين ‪ ،‬وهي دائمًا بمعنى ) إنســــــــان (‪.‬‬

‫استعمالت القرآن لكلمة ) بشر (‬

‫ولو أننا تابعنا استعمال القرآن لهذه الكلمة فسنجد أنها استخدمت في نفس السياق ‪ ،‬وبنفس المعنى ) مخلوق ظاهر مع حسن وجمال ( ‪،‬‬
‫في أربعة مواضع هي قوله تعالى ) على ترتيب النزول ( ‪:‬‬

‫ن ‪ - {{ 71‬ص‬ ‫طي ٍ‬
‫شًرا ِمن ِ‬ ‫ق َب َ‬‫خاِل ٌ‬
‫لِئَكِة ِإّني َ‬ ‫ك ِلْلَم َ‬
‫ل َرّب َ‬ ‫‪ِ }} - 1‬إْذ َقا َ‬
‫ك َقِديًرا ‪ - {{ 54‬الفرقان‬
‫ن َرّب َ‬‫صْهًرا َوَكا َ‬‫سًبا َو ِ‬ ‫جَعَلُه َن َ‬
‫شًرا َف َ‬ ‫ن اْلَماء َب َ‬
‫ق ِم َ‬‫خَل َ‬ ‫‪َ }} - 2‬وُهَو اّلِذي َ‬
‫ن ‪ - {{ 28‬الحجر‬ ‫سُنو ٍ‬‫حَمٍإ ّم ْ‬
‫ن َ‬‫ل ّم ْ‬‫صا ٍ‬
‫صْل َ‬ ‫شًرا ّمن َ‬ ‫ق َب َ‬‫خاِل ٌ‬
‫لِئَكِة ِإّني َ‬‫ك ِلْلَم َ‬‫ل َرّب َ‬‫‪َ }} - 3‬وِإْذ َقا َ‬
‫ن ‪ - {{ 20‬الروم‬ ‫شُرو َ‬ ‫شٌر َتنَت ِ‬
‫ب ُثّم ِإَذا َأنُتم َب َ‬
‫خَلَقُكم ّمن ُتَرا ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫ن آَياِتِه َأ ْ‬
‫‪َ }} - 4‬وِم ْ‬

‫أما بقية المواضع فقد استخدمت فيها الكلمة بمعنى عام ‪ ،‬هو ) مخلوق غير متميز ( ‪ ،‬أو بمعنى أعم ‪ ) :‬مخلوق ( ‪ ،‬فإذا أريد تمييز هذا‬
‫ل ‪ ،‬ل إفراط‬
‫سِوّيا ‪ - {{ 17‬مريم ‪ ، .‬أي ‪ :‬مخلوقًا معتد ً‬
‫شًرا َ‬
‫ل َلَها َب َ‬
‫المخلوق ألحقت الكلمة بوصف مميز ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪َ }} :‬فَتَمّث َ‬
‫ل من ال ‪ ،‬وقوله‬ ‫ل ‪ - {{ 93‬السراء ‪ ،‬أي ‪ :‬مخلوقًا مرس ً‬ ‫سو ً‬ ‫شًرا ّر ُ‬ ‫ل َب َ‬
‫ت َإ ّ‬
‫ل ُكن ُ‬
‫ن َرّبي َه ْ‬‫حا َ‬
‫سْب َ‬
‫ل ُ‬
‫ول تفريط ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ُ }} :‬ق ْ‬
‫ي ‪ - {{ 6 ....‬فصلت ‪ ،‬فهو مخلوق متميز على كل المخلوقات بالوحي المنزل ‪.‬‬ ‫حى ِإَل ّ‬
‫شٌر ّمْثُلُكْم ُيو َ‬
‫ل ِإّنَما َأَنا َب َ‬
‫تعالى ‪ُ }} :‬ق ْ‬

‫ك َكِريٌم ‪ - {{ 31‬يوسف ‪ ،‬فمع أن كلمة‬


‫ل َمَل ٌ‬
‫ن َهـَذا ِإ ّ‬
‫شًرا ِإ ْ‬
‫ضَمُر الوصف ويبرزه السياق ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪َ }} :‬ما َهـَذا َب َ‬
‫وقد ُي ْ‬
‫) بشرًا ( هنا نكرة ‪ ،‬فإن السياق يفيد أن المشار إليه ‪ ،‬وهو ) الجمال ( ليس جمال مخلوق بشر ‪ ..‬بل هو جمال ملك كريم ‪ ،‬وهي جملة‬
‫تأتي على سبيل المبالغة ‪ ،‬وإل فالملك الكريم مخلوق أيضًا كالبشر ‪ ،‬والمعنى في النهاية ‪ :‬هذا بشر جميل فائق الجمال ‪ ،‬حتى فاق‬
‫جنسه ‪ ،‬ودخل في جنس آخر أجمل وأرقى ‪.‬‬

‫حًدا ّنّتِبُعُه ‪ - {{ 24 ...‬القمر ‪ ،‬وهو إنكار من قوم ثمود أن يكون‬ ‫شًرا ّمّنا َوا ِ‬
‫وقد جاء استخدام اللفظة بالمعنى العام في قوله تعالى ‪َ }} :‬أَب َ‬
‫شٌر ّمْثُلَنا ‪- {{ 154 ...‬‬
‫ل َب َ‬
‫ت ِإ ّ‬
‫صالح بشرًا متميزًا عليهم ‪ ،‬وهو قول تكررت روايته في القرآن في نفس السياق الفصصي ‪َ }} :‬ما َأن َ‬
‫الشعراء ‪ ،‬فعدم التميز هنا يعتبر وصفًا كالتميز تمامًا ‪.‬‬

‫شٌر ‪ - {{ 20 ...‬مريم ‪ ،‬أي‬


‫سِني َب َ‬
‫سْ‬
‫لٌم َوَلْم َيْم َ‬
‫غَ‬‫ن ِلي ُ‬
‫واستخدمت الكلمة بالمعنى العم في مثل قوله تعالى على لسان مريم ‪َ }} :‬أّنى َيُكو ُ‬
‫‪ :‬مخلوق على الطلق ‪.‬‬

‫ولم تخرج الكلمة في الستعمالت القرآنية عن هذا الطار ‪ ،‬مع ملحظة أنها وردت في الوحي المكي في سبعة وعشرين موضعًا ‪ ،‬ولم‬
‫ترد في الوحي المدني إل في أربعة مواضع ‪ ،‬مقتصرة على إفادة معنى ) مخلوق ( فقط ‪ ،‬وهي اليـات ‪:‬‬

‫شٌر ‪ - {{ 47 ...‬آل عمران ‪.‬‬


‫سِني َب َ‬ ‫سْ‬‫ن ِلي َوَلٌد َوَلْم َيْم َ‬
‫ب َأّنى َيُكو ُ‬ ‫ت َر ّ‬ ‫‪َ }} - 1‬قاَل ْ‬
‫حْكَم َوالّنُبّوَة ‪ - 79 ...‬آل عمران ‪.‬‬
‫ب َواْل ُ‬ ‫ل اْلِكَتا َ‬
‫شٍر َأن ُيْؤِتَيُه ا ّ‬ ‫ن ِلَب َ‬
‫‪َ - 2‬ما َكا َ‬
‫شٌر َيْهُدوَنَنا ‪ - 6 ...‬التغابن ‪.‬‬ ‫‪َ - 3‬فَقاُلوا َأَب َ‬
‫ق ‪ - 18 ...‬المائدة ‪.‬‬ ‫خَل َ‬‫ن َ‬ ‫شٌر ّمّم ْ‬ ‫ل َأنُتم َب َ‬
‫‪َ - 4‬ب ْ‬

‫‪ ،‬وخلصة القول أن الكلمة جاءت في القرآن بمعان أربعة ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬البشر هو ‪ :‬الظاهر على كل الكائنات ) وهو المعنى الصلي (‬

‫الثاني ‪ :‬المخلوق بإطلق ) وهو المعنى العم (‬

‫الثالث ‪ :‬المخلوق غير المتميز ) وصف سلبي (‬


‫الرابع ‪ :‬المخلوق المتميز ) وصف إيجابي (‬

‫ومن الواضح أن المعنى الصلي الحقيقي هو المعنى الول ‪ ،‬أما المعاني الثلثة الخرى فهي معاني سياقية يمكن إعتبارها توسعًا في‬
‫استخدام المعنى الصلي ‪ ،‬وهو فيما لحظنا أكثر شيوعًا في الستعمال القرآني ‪.‬‬

‫}} الفصل السادس من الباب الول {{‬

‫ل ‪ :‬حقيقة الطين‬
‫أو ً‬

‫ل ‪ ) :‬تراب ‪ +‬ماء ( ‪ .‬وقد بادر النص الكريم إلى ذكر ) الماء (‬ ‫أما الطين فقد جاء في مواضع مختلفة بهذا اللفظ ‪ ،‬والمقصود به إجما ً‬
‫ل ( قال سبحانه ‪َ }} :‬وُهوَ‬ ‫ل لخلق البشر ‪ -‬والماء أحد طرفي المعادلة ‪ -‬في قوله تعالى في سورة الفرقان ) الحادية والربعين نزو ً‬ ‫أص ً‬
‫ن اْلَماء ُك ّ‬
‫ل‬ ‫جَعْلَنا ِم َ‬
‫صْهًرا ‪ - {{ 54 ...‬الفرقان ‪ ، .‬وهي إشارة تدخل في عموم قوله تعالى ‪َ }} :‬و َ‬ ‫سًبا َو ِ‬
‫جَعَلُه َن َ‬
‫شًرا َف َ‬
‫ن اْلَماء َب َ‬
‫ق ِم َ‬
‫خَل َ‬
‫اّلِذي َ‬
‫ل ‪ ،‬إلى أن ينزل النص الكريم بتفصيل حاسم في سورة‬ ‫ي ‪ - {{ 30 ...‬النبياء ‪ ، .‬وسورة النبياء هي الثانية والسبعون نزو ً‬ ‫حّ‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬‫َ‬
‫عَلى‬ ‫شي َ‬ ‫طِنِه َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫عَلى َب ْ‬
‫شي َ‬
‫ل َداّبٍة ِمن ّماء َفِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫ق ُك ّ‬
‫خَل َ‬
‫ل َ‬
‫النور ‪ ،‬وهي السورة الثانية بعد المائة ‪ ،‬فيقول سبحانه ‪َ }} :‬وا ُّ‬
‫عَلى َأْرَبٍع ‪ - {{ 45 ...‬النور ‪ ، .‬وليس وراء ذلك شكل من أشكال الحياة فيما يدب على الرض ‪ ،‬وإن تنوعت‬ ‫شي َ‬ ‫ن َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬‫جَلْي ِ‬‫ِر ْ‬
‫الشكال فيما ل يدب على الرض ‪.‬‬

‫ل للبشر ‪ -‬لنجد أن السورة التالية لها مباشرة في‬ ‫ل ‪ -‬والتي ذكر فيها ) الماء ( أص ً‬ ‫عْوٌد إلى سورة الفرقان ‪ -‬الحادية والربعين نزو ً‬ ‫َو َ‬
‫التنزيل ‪ ،‬وهي الثانية والربعون ) سورة فاطر ( ‪ -‬تذكر ) التراب ( ‪ ،‬وهو الطرف الثاني للمعادلة الطينية ‪ ،‬فيقول سبحانه ‪َ }} :‬والُّ‬
‫ل ِفي‬
‫عُمِرِه ِإ ّ‬
‫ن ُ‬
‫ص ِم ْ‬
‫ل ُينَق ُ‬
‫ل ِبِعْلِمِه َوَما ُيَعّمُر ِمن ّمَعّمٍر َو َ‬
‫ضُع ِإ ّ‬
‫ل َت َ‬
‫ن ُأنَثى َو َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫حِم ُ‬
‫جا َوَما َت ْ‬
‫جَعَلُكْم َأْزَوا ً‬
‫طَفٍة ُثّم َ‬
‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬
‫خَلَقُكم ّمن ُتَرا ٍ‬
‫َ‬
‫سيٌر ‪ - {{ 11‬فاطر ‪ ، .‬وهي آية تتضمن الكثير من إختصاصات القدرة اللهية ‪ ،‬ففيه ‪ -‬إلى جانب ) التراب ( و‬ ‫ل َي ِ‬
‫عَلى ا ِّ‬
‫ك َ‬‫ن َذِل َ‬
‫ب ِإ ّ‬
‫ِكَتا ٍ‬
‫) النطفة ( ‪ -‬إشارة إلى الزوجية }} ثم جعلناكم أزواجًا {{ ‪ ،‬وكأنها تفسير بوجه آخر لعبارة السورة السابقة ) الفرقان ( التي ذكرت‬
‫}} فجعله نسبًا وصهرًا {{ ‪ ..‬أي ‪ :‬في شكل أزواج تتكامل فيما بينها )) ل يرد على هذا ما توصل إليه العلم أخيرًا في مجال استنساخ‬
‫الحيوان ‪ ،‬وهو ما فوجيء به العالم في قضية النعجة ) دوللي ( ‪ ،‬فإن إشارة القرآن إلى إنتاج النسان عن طريق الزوجية تعبير عن‬
‫الطريق الرسمي لعبور الناس إلى مجال الحياة المرضية ‪ ،‬وهو ل ينفي وجود طرق أخرى يحاول العلم معرفتها (( ‪.‬‬

‫ل ( ‪ ،‬فيقول‬ ‫ثم تكتمل معادلة الطين بردها إلى الرض ‪ ،‬باعتبارها منبت الخلق ‪ ،‬وذلك في سورة ) طه ( الرابعة والربعين نزو ً‬
‫ل ) نوح ( ‪ُ }} :‬ثّم‬ ‫خَرى ‪ - {{ 55‬طه ‪ ، .‬كما قال في السورة السبعين نزو ً‬ ‫جُكْم َتاَرًة ُأ ْ‬
‫خِر ُ‬‫خَلْقَناُكْم َوِفيَها ُنِعيُدُكْم َوِمْنَها ُن ْ‬
‫سبحانه ‪ِ }} :‬مْنَها َ‬
‫جا ‪ - {{ 18‬نوح ‪.‬‬ ‫خَرا ً‬ ‫جُكْم ِإ ْ‬
‫خِر ُ‬
‫ُيِعيُدُكْم ِفيَها َوُي ْ‬
‫حُبُه َوُهَو‬
‫صا ِ‬
‫ل َلُه َ‬
‫ل ( ‪ ،‬في قوله تعالى ‪َ }} :‬قا َ‬
‫‪ ،‬ويتكرر ذكر التراب بعد سورة ) فاطر ( في سورة الكهف ) الثامنة والستين نزو ً‬
‫ل ‪ ،‬ثم يفصلها‬ ‫ل ‪ - {{ 37‬الكهف ‪ ، .‬وهكذا يقدم القرآن الحقيقة إجما ً‬ ‫جً‬ ‫ك َر ُ‬ ‫سّوا َ‬‫طَفٍة ُثّم َ‬
‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬ ‫ك ِمن ُتَرا ٍ‬ ‫خَلَق َ‬
‫ت ِباّلِذي َ‬ ‫حاِوُرُه َأَكَفْر َ‬
‫ُي َ‬
‫تدريجيًا على مسار الوحي ‪.‬‬

‫ل ‪ ،‬وذلك في الية الثامنة والعشرين ‪ -‬يتعرض لبعض أوصاف‬ ‫ويتعرض القرآن في سورة الحجر ‪ ،‬وهي السورة الثالثة والخمسون نزو ً‬
‫الطين ‪ :‬المادة البشرية ‪ ،‬وهي قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن ‪ - {{ 28‬سورة الحجر ‪ ، .‬لقد زادت هذه الية المادة وضوحًا‬ ‫سُنو ٍ‬
‫حَمٍإ ّم ْ‬
‫ن َ‬
‫ل ّم ْ‬
‫صا ٍ‬
‫صْل َ‬
‫شًرا ّمن َ‬
‫ق َب َ‬
‫خاِل ٌ‬
‫لِئَكِة ِإّني َ‬
‫ك ِلْلَم َ‬
‫ل َرّب َ‬
‫}} َوِإْذ َقا َ‬
‫حين ذكرت أن الطين كان في شكل ) صلصال من حمأ مسنون ( ‪ ،‬و ) الصلصال ( هو الطين اليابس ‪ ،‬أو هو الطين الحر خلط بالرمل ‪،‬‬
‫صا ٍ‬
‫ل‬ ‫صْل َ‬‫ن ِمن َ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خَل َ‬
‫ل ( ‪َ }} :‬‬
‫فصار يتصلصل إذا جف ‪ ،‬فإذا طبخ بالنار فهو فخار ‪ ،‬وآية سورة الرحمن ) السادسة والتسعين نزو ً‬
‫شّبَهْتُه بالفخار في جفافه ‪ ،‬والحمأ ‪ :‬هو الطين السود ‪،‬‬
‫خاِر ‪ - {{ 14‬الرحمن ‪ ، .‬تنفي عن الصلصال أن يكون طبخ بالنار ‪ ،‬وإن َ‬ ‫َكاْلَف ّ‬
‫طي ٍ‬
‫ن‬ ‫ل ( فذكر أنه ‪ِ }} :‬‬ ‫والمسنون ‪ :‬هو المبتل المنتن ‪ ،‬وقد زاد من صفات هذا الطين في سورة الصافات ) الخامسة والخمسين نزو ً‬
‫ب ‪ - {{ 11‬الصافات ‪ ، .‬بمعنى ‪ :‬متلصق أملس متماسك ‪.‬‬ ‫لِز ٍ‬ ‫ّ‬

‫وسواء ‪ -‬في الحقيقة ‪ -‬أن يستخدم القرآن في تعبيره عن أصل البشر ‪ ،‬الرض أو التراب ‪ ،‬أو الطين ‪ ،‬أو الصلصال ‪ ،‬أو الحمأ‬
‫المسنون ‪ ،‬فكل ذلك ل يختلف ‪ ،‬لن المكونات واحدة تمامًا ‪ ،‬في التراب وأشكاله السابقة ‪ ،‬وفي الجسد البشري أو المادة الحية ‪.‬‬

‫يقول الستاذ البهي الخولي ‪ ) :‬لو أنك أخذت قبضة من تراب الرض الخصبة ‪ ،‬وأجريت عليها عمليات التحليل الكيماوي لوجدتها‬
‫تتركب من ستة عشر عنصرًا ‪ ،‬ولو أخذت قطعة من جسم النسان وأجريت عليها عمليات هذا التحليل لوجدتها كذلك تتركب من ستة‬
‫عشر عنصرًا ‪ -‬هي نفس العناصر التي تتركب منها تربة الرض ‪ ،‬وهذه العناصر هي ما يأتي ‪:‬‬

‫‪ - 1‬الكسجين = ‪% 63.03‬‬
‫‪ - 2‬الكربـــــــون = ‪% 20.20‬‬
‫‪ - 3‬اليدروجين = ‪% 9.90‬‬
‫‪ - 4‬النيتروجـين = ‪% 2.50‬‬
‫‪ - 5‬الكلســــــيوم = ‪% 2.45‬‬
‫‪ - 6‬الفســـــــفور = ‪% 1.01‬‬
‫‪ - 7‬الكـــــــــلور = ‪% 0.16‬‬
‫‪ - 8‬الفــــــــــلور = ‪% 0.14‬‬
‫‪ - 9‬الكبـــــريت = ‪% 0.14‬‬
‫‪ -10‬البوتاسـيوم = ‪% 0.11‬‬
‫‪ -11‬الصـوديوم = ‪% 0.10‬‬
‫‪ -12‬المغنسـيوم = ‪% 0.07‬‬
‫‪ -13‬الحــــــــديد = ‪% 0.01‬‬

‫اليود ‪ +‬السليكون ‪ +‬المنجنيز = آثار ضئيلة‬


‫) أنظر آدم عليه السلم ‪ -‬للبهي الخولي ص ‪ 15‬وما بعدها (‬

‫وقد تبين من جمع النسب المختلفة أن الثار الضئيلة من ) اليود ‪ ،‬والسليكون ‪ ،‬والمنجنيز ( ل تتجاوز ‪ % 0.18‬للمواد الثلث ‪ ،‬وقد‬
‫أضافت قوائم أخرى مواد أرضية دخلت في تكوين النسان ‪ ،‬وهي النحاس والكوبالت ‪ ،‬والتوتيا ‪ ،‬والموليديوم ‪ ،‬واللمونيوم ‪،‬‬
‫والسيلنيوم ‪ ،‬والكادميوم ‪ ،‬والكروم ‪ ،‬وبذلك تصل العناصر الترابية في النسان إلى أربعة وعشرين عنصرًا ‪.‬‬

‫ل ‪ -‬أي في الوحي المكي المبكر ‪: -‬‬ ‫فخلق البشر كان من معدن الرض ‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى في السورة الثانية والعشرين نزو ً‬
‫ض ‪ - {{ 32 ...‬سورة النجم ‪ ، .‬أي ‪ :‬من معدن الرض ‪ ،‬وهو الصلصال المأخوذ من الطين السود‬ ‫لْر ِ‬‫ن ا َْ‬
‫شَأُكم ّم َ‬
‫عَلُم ِبُكْم ِإْذ َأن َ‬
‫}} ُهَو َأ ْ‬
‫المنتن ‪ -‬هكذا شاءت إرادة ال ‪ ،‬ول يستطيع أحد أن ينكر هذه الحقيقة ‪ ،‬أو أن يكذب بها ‪ ،‬مع أن هناك في مرأى العين مسافة هائلة بين‬
‫الطين واللحم والبشري ‪ ..‬الطين مادة خامدة ‪ ،‬واللحم البشري نسيج حي متناِم ‪ ،‬وهي مسافة لم يقطعها العقل النساني حتى الن ‪ ،‬ولن‬
‫يقطعها في المستقبل ‪ ،‬بمعنى أن العقل لن يكشف عن سر التحول الذي جعل التراب لحمًا حيًا متناميًا ‪ ،‬ومن ثّم لن يكون بوسع النسان ‪-‬‬
‫مهما تقدم في دراساته عن الخلية الحية ‪ ،‬وعن الهندسة الوراثية ‪ -‬أن يحول التراب إلى خليا حية ‪ ،‬فالمسافة بينهما برزخ يستحيل‬
‫عبوره على قدرات النسان ‪ ،‬لنها في الواقع تعبير عن أمكانيات قدرة ال المتفردة بالخلق والبداع ‪ ،‬بالحياء والفناء ‪.‬‬

‫هذا عن المسافة بين التراب والمادة الحية ‪ ،‬فأما عن المسافة بين التراب والمخلوق البشري فيقول الستاذ سيد قطب ‪ ،‬وهو يعلق على‬
‫ب ‪ - {{ 7‬الطارق ‪ ) ، .‬فالمسافة الهائلة‬
‫ب َوالّتَراِئ ِ‬
‫صْل ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ج ِمن َبْي ِ‬
‫خُر ُ‬
‫ق ‪َ 6‬ي ْ‬
‫ق ِمن ّماء َداِف ٍ‬
‫خِل َ‬
‫ق‪ُ 5‬‬
‫خِل َ‬
‫ن ِمّم ُ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ظِر ا ِْ‬
‫قوله تعالى ‪َ }} :‬فْلَين ُ‬
‫بين المنشأ والمصير ‪ ،‬بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب ‪ ،‬وبين النسان المدرك العاقل ‪ ،‬المعقد التركيب‬
‫العضوي ‪ ،‬والعصبي ‪ ،‬والعقلي ‪ ،‬والنفسي ‪ ..‬هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى النسان الناطق ‪ ..‬توحي بأن هناك يدًا‬
‫خارج ذات النسان ‪ ،‬هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي ل قوام له ‪ ،‬ول إرادة ‪ ،‬ول قدرة في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة ‪،‬‬
‫حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة ‪ ،‬وتشي بأن هناك حافظًا من أمر ال يرعي هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل ‪ ،‬ومن الرادة‬
‫والقدرة ‪ ،‬في رحلتها الطويلة والعجيبة ‪ ،‬وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للنسان من العجائب ‪ ،‬من مولده إلى مماته ( ‪-‬‬
‫) في ظلل القرآن ‪ -‬سورة طارق ( ‪.‬‬

‫ول يفوتنا هنا الشارة إلى أن الماء قد يقصد به ما يخلط بالتراب ليصير طينًا ‪ ،‬وقد يقصد به الماء المهين الذي يبدو في ظاهره ل علقة‬
‫ل بموجودات ترابية ‪ -‬طينية ‪ ،‬متمثلة في الكائنات الحية التي تعتبر ‪ ) :‬كبسولة الحياة ( ‪ ،‬ويتحدث‬‫له بالطين ‪ ،‬وإن كان في الحقيقة حاف ً‬
‫ي الرجل ‪ ..‬في الدفقة الواحدة تندفع في رحم المرأة ‪ ،‬في نهاية التصال الجنسي ‪..‬‬ ‫العلم عن مئات المليين من هذه الكائنات الحية في من ّ‬
‫وكل هذا صادر عن التراب ‪ ،‬وعائد إلى التراب ‪.‬‬

‫خلق النفسي‬
‫ثانيًا ‪ :‬ال َ‬

‫وتبقى بعد ذلك آيتان تحدثتا عن خلق النسان من نفس واحدة ‪ ،‬وهما ‪:‬‬
‫ن ِإَلْيَها‬
‫سُك َ‬
‫جَها ِلَي ْ‬
‫ل ِمْنَها َزْو َ‬
‫جَع َ‬
‫حَدٍة َو َ‬
‫س َوا ِ‬
‫خَلَقُكم ّمن ّنْف ٍ‬ ‫ل ‪ ..‬قوله تعالى ‪ُ }} :‬هَو اّلِذي َ‬ ‫آية العراف ‪ ،‬وهي السورة الثامنة والثلثون نزو ً‬
‫جَع َ‬
‫ل‬ ‫صاِلحًا َ‬ ‫ن ‪َ 189‬فَلّما آَتاُهَما َ‬ ‫شاِكِري َ‬‫ن ال ّ‬
‫ن ِم َ‬
‫صاِلحًا ّلَنُكوَن ّ‬
‫ن آَتْيَتَنا َ‬
‫ل َرّبُهَما َلِئ ْ‬
‫عَوا ا ّ‬
‫ت ِبِه َفَلّما َأْثَقَلت ّد َ‬
‫خِفيًفا َفَمّر ْ‬
‫ل َ‬
‫حْم ً‬‫ت َ‬ ‫حَمَل ْ‬
‫شاَها َ‬ ‫َفَلّما َتَغ ّ‬
‫ن ‪ - {{ 190‬سورة العراف ‪.‬‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫عّما ُي ْ‬
‫ل َ‬‫شَرَكاء ِفيَما آَتاُهَما َفَتَعاَلى ا ّ‬‫َلُه ُ‬

‫ل ‪ ..‬قوله تعالى ‪:‬‬ ‫وآية النساء ‪ ،‬وهي السورة الثالثة والتسعون نزو ً‬
‫ساء ‪ - {{ 1 ...‬سورة النساء ‪.‬‬
‫ل َكِثيًرا َوِن َ‬
‫جا ً‬
‫ث ِمْنُهَما ِر َ‬
‫جَها َوَب ّ‬
‫ق ِمْنَها َزْو َ‬
‫خَل َ‬
‫حَدٍة َو َ‬
‫س َوا ِ‬‫خَلَقُكم ّمن ّنْف ٍ‬
‫س اّتُقوْا َرّبُكُم اّلِذي َ‬
‫}} َيا َأّيَها الّنا ُ‬

‫واليتان تقرران وحدة الصل النساني ‪ ،‬إذ المخاطب ها هنا هو الناس ‪ ،‬كما هو نص الية الثانية ‪ ،‬وكما هو مفهوم الية الولى ‪ ،‬لن‬
‫الخطاب في القرآن لم يوجه مطلقًا إلى البشر ‪ ..‬بل إلى النسان ‪ ،‬وبديهي أن نعرف أننا جميعًا منتمون لدم ‪ ،‬كما قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ) :‬كلكم لدم ( ‪ ،‬أي ‪ :‬لدم وحواء ‪ ،‬باعتبارهما المصدر الوحيد الذي تناسلت منه كل الزريات النسانية ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬كما هو شأن آدم ؟‬
‫غير أن خلق زوج آدم من نفسه مشكل ‪ ،‬فهل حواء من ضلع آدم كما وردت بذلك آثار ؟ أو أن حواء خلقت مستق ً‬
‫الحتمال الخير هو الراجح في نظرنا لمرين ‪:‬‬

‫‪ :‬أن كثيرًا من العلماء اعتبروا مسألة الضلع مجرد رمز لطبيعة المرأة وفطرتها ‪.‬‬ ‫أولـهما‬

‫ثانيهما ‪ :‬أن خلق حواء من نفس آدم مؤول على أنها من نوعه وجنسه ‪ ،‬وقد جاء ذلك بالنسبة إلى كل زوج في قوله تعالى ‪َ }} :‬وِم ْ‬
‫ن‬
‫سُكُنوا ِإَلْيَها ‪ - {{ 21 ...‬سورة الروم ‪.‬‬
‫جا ّلَت ْ‬
‫سُكْم َأْزَوا ً‬
‫ن َأنُف ِ‬
‫ق َلُكم ّم ْ‬
‫خَل َ‬
‫ن َ‬
‫آَياِتِه َأ ْ‬

‫ومن المؤكد أن المقصود بآية العراف ليس آدم وزوجه ‪ ،‬لن اليات بعدها تتحدث عن أن الزوجين جعل ل شركاء فيما آتاهما من‬
‫الذرية ‪ ،‬ولم يكن هذا من آدم وزوجه ‪.‬‬

‫وتبقى آية النساء معبرة عن الصل النفسي الذي انبثقت منه كل النفوس ‪ ،‬وعلى الرغم من إختلف القوال في حقيقة هذه النفس ‪ ،‬فإننا‬
‫نميل إلى أنها هي سر ال في النسان ‪ ،‬وبها صار إنسانًا ‪ ،‬دونما سواه ‪ ،‬فالخلق فيما انتهى إليه تأملنا في هذه المسألة يتم على مستويين ‪:‬‬

‫مادي من تراب ‪ ،‬وهو الخلق البشري الظاهر ‪.‬‬ ‫خلق‬

‫وخلق نفسي من روح ال ‪ ،‬وهو الخلق الباطن ‪ ،‬ونحن على يقين من أنه لول تلك النفخة اللهية لما كان ذلك المخلوق سوى دابة من‬
‫دواب الرض ‪.‬‬

‫فلماذا أغرق العلماء أنفسهم في البحث عن ماهية النفس ‪ ،‬دون أن يصلوا فيها إلى شيء ‪ ،‬مع أن الحقيقة واضحة بين أيديهم ‪ ،‬وهي في‬
‫غاية الوضوح بقدر ما هي في منتهى الغموض ؟!!‬

‫إنها غيب من غيب ال ‪ ،‬وسر من أسراره ‪ ،‬وهذا هو الوضوح الذي نقصده ‪ ،‬كالكهرباء ل تعرف حقيقتها إل بآثارها ‪ ،‬والعقل والروح‬
‫والنفس قوى أودعها ال كيان هذا النسان ‪ -‬ل تدرك حقائقها ‪ ،‬وإن استدل على وجودها بآثارها ‪ ،‬ومن آثارها أن تنبثق منها زوج الرجل‬
‫التي يسكن إليها ‪.‬‬

‫}} الفصل السابع من الباب الول {{‬

‫البشر والنســـــان‬

‫إذا كان القرآن قد ذكر خلق ) البشر ( في أربع آيات ‪ ،‬فقد ذكر خلق ) النسان ( في خمس وثلثين آية ‪ ،‬هي على ترتيب النزول موزعة‬
‫بين المكي والمدني ‪ :‬فاليات المكية هي ‪:‬‬

‫‪ - 1‬في السورة الولى ‪:‬‬

‫ق ‪{{ 2‬‬
‫عَل ٍ‬
‫ن َ‬
‫سانَ ِم ْ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خَل َ‬
‫ق‪َ 1‬‬
‫خَل َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫سِم َرّب َ‬
‫}} اْقَرْأ ِبا ْ‬

‫سورة ‪ :‬العلق ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 2‬وفي السورة السابعة ‪:‬‬


‫سّوى ‪{{ 2‬‬
‫ق َف َ‬
‫خَل َ‬
‫عَلى ‪ 1‬اّلِذي َ‬
‫لْ‬
‫ك ا َْ‬
‫سَم َرّب َ‬
‫حا ْ‬
‫سّب ِ‬
‫}} َ‬

‫سورة ‪ :‬العلى ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 3‬وفي السورة السابعة والعشرين ‪:‬‬

‫ن ‪{{ 5‬‬
‫ساِفِلي َ‬
‫ل َ‬
‫سَف َ‬
‫ن َتْقِويٍم ‪ُ 4‬ثّم َرَدْدَناُه َأ ْ‬
‫سِ‬‫حَ‬
‫ن ِفي َأ ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫}} َلَقْد َ‬

‫سورة ‪ :‬التين ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 4‬وفي السورة الثلثين ‪:‬‬

‫لنَثى‬
‫ن الّذَكَر َوا ُْ‬
‫جْي ِ‬
‫ل ِمْنُه الّزْو َ‬
‫جَع َ‬
‫سّوى ‪َ 38‬ف َ‬
‫ق َف َ‬
‫خَل َ‬
‫عَلَقًة َف َ‬
‫ن َ‬
‫ي ُيْمَنى ‪ُ 37‬ثّم َكا َ‬
‫طَفًة ّمن ّمِن ّ‬
‫ك ُن ْ‬
‫سًدى ‪َ 36‬أَلْم َي ُ‬
‫ك ُ‬
‫ن َأن ُيْتَر َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ب ا ِْ‬
‫س ُ‬
‫حَ‬‫}} َأَي ْ‬
‫‪{{ 39‬‬

‫سورة ‪ :‬القيامة ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 5‬وفي السورة الثانية والثلثين ‪:‬‬

‫ن ‪{{ 23‬‬
‫ن ‪ِ 21‬إَلى َقَدٍر ّمْعُلوٍم ‪َ 22‬فَقَدْرَنا َفِنْعَم اْلَقاِدُرو َ‬
‫جَعْلَناُه ِفي َقَراٍر ّمِكي ٍ‬
‫ن ‪َ 20‬ف َ‬
‫خُلقّكم ّمن ّماء ّمِهي ٍ‬
‫}} َأَلْم َن ْ‬

‫سورة ‪ :‬المرسلت ‪.‬‬


‫********‬

‫‪ - 6‬وفي السورة الثالثة والثلثين ‪:‬‬

‫ل اْلَوِريِد ‪{{ 16‬‬


‫حْب ِ‬
‫ن َ‬
‫ب ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫ن َأْقَر ُ‬
‫حُ‬‫سُه َوَن ْ‬
‫س ِبِه َنْف ُ‬
‫سِو ُ‬
‫ن َوَنْعَلُم َما ُتَو ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫}} َوَلَقْد َ‬

‫سورة ‪ :‬ق ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 7‬وفي السورة الخامسة والثلثين ‪:‬‬

‫ب ‪{{ 7‬‬
‫ب َوالّتَراِئ ِ‬
‫صْل ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ج ِمن َبْي ِ‬
‫خُر ُ‬
‫ق ‪َ 6‬ي ْ‬
‫ق ِمن ّماء َداِف ٍ‬
‫خِل َ‬
‫ق‪ُ 5‬‬
‫خِل َ‬
‫ن ِمّم ُ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ظِر ا ِْ‬
‫}} َفْلَين ُ‬

‫سورة ‪ :‬الطارق ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 8‬وفي السورة الثامنة والثلثين ‪:‬‬

‫س ‪{{ 11 ...‬‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوْا ِإ ّ‬
‫سَ‬‫جُدوْا لَدَم َف َ‬
‫سُ‬‫صّوْرَناُكْم ُثّم ُقْلَنا ِلْلَملِئَكِة ا ْ‬
‫خَلْقَناُكْم ُثّم َ‬
‫}} َوَلَقْد َ‬

‫سورة ‪ :‬العراف ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 9‬وفي السورة الربعين ‪:‬‬

‫خْلَقُه ‪{{ 78 ...‬‬


‫ي َ‬
‫سَ‬‫ل َوَن ِ‬
‫ب َلَنا َمَث ً‬
‫ضَر َ‬
‫ن ‪َ 77‬و َ‬
‫صيٌم ّمِبي ٌ‬
‫خ ِ‬
‫طَفٍة َفِإَذا ُهَو َ‬
‫خَلْقَناُه ِمن ّن ْ‬
‫ن َأّنا َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫}} َأَوَلْم َيَر ا ِْ‬
‫سورة ‪ :‬يس ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 10‬وفي السورة الثانية والربعين ‪:‬‬

‫ل ِبِعْلِمِه ‪{{ 11 ...‬‬


‫ضُع ِإ ّ‬
‫ل َت َ‬
‫ن ُأنَثى َو َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫حِم ُ‬
‫جا َوَما َت ْ‬
‫جَعَلُكْم َأْزَوا ً‬
‫طَفٍة ُثّم َ‬
‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬
‫خَلَقُكم ّمن ُتَرا ٍ‬
‫ل َ‬
‫}} َوا ُّ‬

‫سورة ‪ :‬فاطر ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 11‬وفي السورة الثالثة والربعين ‪:‬‬

‫شْيًئا ‪{{ 67‬‬


‫ك َ‬
‫ل َوَلْم َي ُ‬
‫خَلْقَناُه ِمن َقْب ُ‬
‫ن َأّنا َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ل َيْذُكُر ا ِْ‬
‫}} َأَو َ‬

‫سورة ‪ :‬مريم ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 12‬وفي السورة الرابعة والربعين ‪:‬‬

‫خَرى ‪{{ 55‬‬


‫جُكْم َتاَرًة ُأ ْ‬
‫خِر ُ‬
‫خَلْقَناُكْم َوِفيَها ُنِعيُدُكْم َوِمْنَها ُن ْ‬
‫}} ِمْنَها َ‬

‫سورة ‪ :‬طه ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 13‬وفي نفس السورة ‪:‬‬


‫عْزًما ‪{{ 115‬‬
‫جْد َلُه َ‬
‫ي َوَلْم َن ِ‬
‫سَ‬‫ل َفَن ِ‬
‫عِهْدَنا ِإَلى آَدَم ِمن َقْب ُ‬
‫}} َوَلَقْد َ‬

‫سورة ‪ :‬طه ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 14‬وفي السورة الخامسة والربعين ‪:‬‬

‫ن ‪{{ 59‬‬
‫خاِلُقو َ‬
‫ن اْل َ‬
‫حُ‬‫خُلُقوَنُه َأْم َن ْ‬
‫ن ‪َ 58‬أَأنُتْم َت ْ‬
‫}} َأَفَرَأْيُتم ّما ُتْمُنو َ‬

‫سورة ‪ :‬الواقعة ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 15‬وفي السورة التاسعة والربعين ‪:‬‬

‫طيًنا ‪{{ 61‬‬


‫ت ِ‬
‫خَلْق َ‬
‫ن َ‬
‫جُد ِلَم ْ‬
‫سُ‬‫ل َأَأ ْ‬
‫س َقا َ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوْا َإ ّ‬
‫سَ‬‫جُدوْا لَدَم َف َ‬
‫سُ‬‫}} َوِإْذ ُقْلَنا ِلْلَملِئَكِة ا ْ‬

‫سورة ‪ :‬السراء ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 16‬وفي السورة الثالثة والخمسين ‪:‬‬

‫ن ‪{{ 26‬‬
‫سُنو ٍ‬
‫حَمٍإ ّم ْ‬
‫ن َ‬
‫ل ّم ْ‬
‫صا ٍ‬
‫صْل َ‬
‫ن ِمن َ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِ‬
‫}} َوَلَقْد َ‬

‫سورة ‪ :‬الحجر ‪.‬‬

‫********‬
‫‪ - 17‬وفي السورة الرابع والخمسين ‪:‬‬

‫ن ‪{{ 2‬‬
‫عنَدُه ُثّم َأنُتْم َتْمَتُرو َ‬
‫ل ّمسّمى ِ‬
‫جٌ‬‫ل َوَأ َ‬
‫جً‬‫ضى َأ َ‬
‫ن ُثّم َق َ‬
‫طي ٍ‬
‫خَلَقُكم ّمن ِ‬
‫}} ُهَو اّلِذي َ‬

‫سورة ‪ :‬النعام ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 18‬وفي السورة الخامسة والخمسين ‪:‬‬

‫ب ‪{{ 11‬‬
‫لِز ٍ‬
‫ن ّ‬
‫طي ٍ‬
‫خَلْقَناُهم ّمن ِ‬
‫خَلْقَنا ِإّنا َ‬
‫ن َ‬
‫خْلًقا َأم ّم ْ‬
‫شّد َ‬
‫سَتْفِتِهْم َأُهْم َأ َ‬
‫}} َفا ْ‬

‫سورة ‪ :‬الصافات ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 19‬وفي السورة التاسعة والخمسين ‪:‬‬

‫شّدُكْم ‪{{ 67 ...‬‬


‫ل ُثّم ِلَتْبُلُغوا َأ ُ‬
‫طْف ً‬
‫جُكْم ِ‬
‫خِر ُ‬
‫عَلَقٍة ُثّم ُي ْ‬
‫ن َ‬
‫طَفٍة ُثّم ِم ْ‬
‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬
‫خَلَقُكم ّمن ُتَرا ٍ‬
‫}} ُهَو اّلِذي َ‬

‫سورة ‪ :‬غافر ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 20‬وفي السورة الثامنة والستين ‪:‬‬

‫ل ‪{{ 37‬‬
‫جً‬‫ك َر ُ‬
‫سّوا َ‬
‫طَفٍة ُثّم َ‬
‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬
‫ك ِمن ُتَرا ٍ‬
‫خَلَق َ‬
‫ت ِباّلِذي َ‬
‫حاِوُرُه َأَكَفْر َ‬
‫حُبُه َوُهَو ُي َ‬
‫صا ِ‬
‫ل َلُه َ‬
‫}} َقا َ‬

‫سورة ‪ :‬الكهف ‪.‬‬


‫********‬

‫‪ - 21‬وفي السورة التاسعة والستين ‪:‬‬

‫ن ‪{{ 4‬‬
‫صيمٌ ّمِبي ٌ‬
‫خ ِ‬
‫طَفٍة َفِإَذا ُهَو َ‬
‫ن ِمن ّن ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫قا ِ‬
‫خَل َ‬
‫}} َ‬

‫سورة ‪ :‬النحل ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 22‬وفي السورة السبعين ‪:‬‬

‫طَواًرا ‪{{ 14‬‬


‫خَلَقُكْم َأ ْ‬
‫ل َوَقاًرا ‪َ 13‬وَقْد َ‬
‫ن ِّ‬
‫جو َ‬
‫ل َتْر ُ‬
‫}} ّما َلُكْم َ‬

‫سورة ‪ :‬نوح ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 23‬وفي نفس السورة ‪:‬‬

‫جا ‪{{ 18‬‬


‫خَرا ً‬
‫جُكْم ِإ ْ‬
‫خِر ُ‬
‫ض َنَباًتا ‪ُ 17‬ثّم ُيِعيُدُكْم ِفيَها َوُي ْ‬
‫لْر ِ‬
‫ن ا َْ‬
‫ل َأنَبَتُكم ّم َ‬
‫}} َوا ُّ‬

‫سورة ‪ :‬نوح ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 24‬وفي السورة الثالثة والسبعين ‪:‬‬


‫عَلَقًة ‪{{ 14 ...‬‬
‫طَفَة َ‬
‫خَلْقَنا الّن ْ‬
‫ن ‪ُ 13‬ثّم َ‬
‫طَفًة ِفي َقَراٍر ّمِكي ٍ‬
‫جَعْلَناُه ُن ْ‬
‫ن ‪ُ 12‬ثّم َ‬
‫طي ٍ‬
‫لَلٍة ّمن ِ‬
‫سَ‬‫ن ِمن ُ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫}} َوَلَقْد َ‬

‫سورة ‪ :‬المؤمنون ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 25‬وفي السورة الرابعة والسبعين ‪:‬‬

‫حِه ‪...‬‬
‫خ ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫سّواُه َوَنَف َ‬
‫ن ‪ُ 8‬ثّم َ‬
‫لَلٍة ّمن ّماء ّمِهي ٍ‬
‫سَ‬‫سَلُه ِمن ُ‬
‫ل َن ْ‬
‫جَع َ‬
‫ن ‪ُ 7‬ثّم َ‬
‫طي ٍ‬
‫ن ِمن ِ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خْل َ‬
‫خَلَقُه َوَبَدَأ َ‬
‫يٍء َ‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫ن ُك ّ‬
‫سَ‬‫حَ‬
‫}} اّلِذي َأ ْ‬
‫‪{{ 9‬‬

‫سورة ‪ :‬السجدة ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 26‬وفي السورة الحادية والثمانين ‪:‬‬

‫ك ‪{{ 8‬‬
‫شاء َرّكَب َ‬
‫صوَرٍة ّما َ‬
‫ي ُ‬
‫ك ‪ِ 7‬في َأ ّ‬
‫ك َفَعَدَل َ‬
‫سّوا َ‬
‫ك َف َ‬
‫خَلَق َ‬
‫ك اْلَكِريِم ‪ 6‬اّلِذي َ‬
‫ك ِبَرّب َ‬
‫غّر َ‬
‫ن َما َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫}} َيا َأّيَها ا ِْ‬

‫سورة ‪ :‬النفطار ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 27‬وفي السورة الثالثة والثمانين ‪:‬‬

‫حِييُكْم ‪{{ 40 ...‬‬


‫خَلَقُكْم ُثّم َرَزَقُكْم ُثّم ُيِميُتُكْم ُثّم ُي ْ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫}} ا ُّ‬

‫سورة ‪ :‬الروم ‪.‬‬

‫********‬
‫‪ - 28‬وفي نفس السورة ‪:‬‬

‫ف ُقّوًة ‪{{ 54 ...‬‬


‫ضْع ٍ‬
‫ل ِمن َبْعِد َ‬
‫جَع َ‬
‫ف ُثّم َ‬
‫ضْع ٍ‬
‫خَلَقُكم ّمن َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫}} ا ُّ‬

‫سورة ‪ :‬الروم ‪.‬‬

‫********‬

‫********‬

‫واليـــــات المدنية هي ‪:‬‬

‫‪ - 29‬في السورة السابعة والثمانين ‪:‬‬

‫خِليَفًة ‪{{ 30 ...‬‬


‫ض َ‬
‫لْر ِ‬
‫ل ِفي ا َ‬
‫عٌ‬‫جا ِ‬
‫لِئَكِة ِإّني َ‬
‫ك ِلْلَم َ‬
‫ل َرّب َ‬
‫}} َوِإْذ َقا َ‬

‫سورة ‪ :‬البقرة ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 30‬وفي السورة الثالثة والتسعين ‪:‬‬

‫ساء ‪{{ 1 ...‬‬


‫ل َكِثيًرا َوِن َ‬
‫جا ً‬
‫ث ِمْنُهَما ِر َ‬
‫جَها َوَب ّ‬
‫ق ِمْنَها َزْو َ‬
‫خَل َ‬
‫حَدٍة َو َ‬
‫س َوا ِ‬
‫خَلَقُكم ّمن ّنْف ٍ‬
‫س اّتُقوْا َرّبُكُم اّلِذي َ‬
‫}} َيا َأّيَها الّنا ُ‬

‫سورة ‪ :‬النساء ‪.‬‬

‫********‬
‫‪ - 31‬وفي السورة الثامنة والتسعين ‪:‬‬

‫ن ‪{{ 4‬‬
‫عّلَمُه اْلَبَيا َ‬
‫ن‪َ 3‬‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خَل َ‬
‫}} َ‬

‫سورة ‪ :‬الرحمن ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 32‬وفي نفس السورة ‪:‬‬

‫خاِر ‪{{ 14‬‬


‫ل َكاْلَف ّ‬
‫صا ٍ‬
‫صْل َ‬
‫ن ِمن َ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خَل َ‬
‫}} َ‬

‫سورة ‪ :‬الرحمن ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 33‬وفي السورة التاسعة والتسعين ‪:‬‬

‫صيًرا ‪{{ 2‬‬


‫سِميًعا َب ِ‬
‫جَعْلَناُه َ‬
‫ج ّنْبَتِليِه َف َ‬
‫شا ٍ‬
‫طَفٍة َأْم َ‬
‫ن ِمن ّن ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫شْيًئا ّمْذُكوًرا ‪ِ 1‬إّنا َ‬
‫ن الّدْهِر َلْم َيُكن َ‬
‫ن ّم َ‬
‫حي ٌ‬
‫ن ِ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫عَلى ا ِْ‬
‫ل َأَتى َ‬
‫}} َه ْ‬

‫سورة ‪ :‬النسان ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 34‬وفي السورة الخامسة بعد المائة ‪:‬‬

‫عَلَقٍة ‪{{ 5 ...‬‬


‫ن َ‬
‫طَفٍة ُثّم ِم ْ‬
‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬
‫خَلْقَناُكم ّمن ُتَرا ٍ‬
‫ث َفِإّنا َ‬
‫ن اْلَبْع ِ‬
‫ب ّم َ‬
‫س ِإن ُكنُتْم ِفي َرْي ٍ‬
‫}} َيا َأّيَها الّنا ُ‬

‫سورة ‪ :‬الحج ‪.‬‬


‫********‬

‫وفي السورة الثامنة بعد المائة ‪:‬‬

‫ل ِلَتَعاَرُفوا ‪{{ 13 ...‬‬


‫شُعوًبا َوَقَباِئ َ‬
‫جَعْلَناُكْم ُ‬
‫خَلْقَناُكم ّمن َذَكٍر َوُأنَثى َو َ‬
‫س ِإّنا َ‬
‫}} َيا َأّيَها الّنا ُ‬

‫سورة ‪ :‬الحجرات ‪.‬‬

‫********‬

‫ويلحظ في نصوص هذه اليات أن ) خلق النسان ( جاء بلفظه في ستة عشر موضعًا ‪ ،‬وأن بقية المواضع ‪ -‬وهي تسعة عشر موضعًا‬
‫‪ -‬يدل السياق فيها على أن المراد بها هو ) النسان ( ‪ ،‬وليس ) البشر ( ‪ ،‬حيث اكتفى النص بالشارة دون العبارة ‪ ،‬أو جاء الخطاب‬
‫للناس ل للنسان ‪ ،‬أو كان النص على آدم ‪ ،‬وهو ‪ -‬فيما نرى ‪ -‬أول إنسان ‪ ،‬وكل ذلك جاء في سور ‪ ) :‬العلى ‪ ،‬والمراسلت ‪،‬‬
‫والعراف ‪ ،‬وفاطر ‪ ،‬وطه ‪ -‬في موضعين ‪ -‬وفي السراء ‪ ،‬والنعام ‪ ،‬والصافات ‪ ،‬وغافر ‪ ،‬والكهف ‪ ،‬ونوح ‪ -‬في موضعين ‪-‬‬
‫ي(‪.‬‬ ‫والروم ‪ ،‬والبقرة ‪ ،‬والحج ‪ ،‬والحجرات ‪ ،‬وانفردت الواقعة بدعوة الناس إلى التأمل فيما يفرزون من من ّ‬

‫ولسوف يتضح لنا فيما بعد ‪ -‬أن المراد في هذه المواضع هو ) النسان ( ‪ ،‬وليس البشر ‪ ،‬واليات الست عشرة تتحدث عن ) خلق‬
‫النسان ( تارة من علق ‪ ،‬وأخرى من نطفة ‪ ،‬أو من ) نطفة أمشاج ( ‪ ،‬وثالثة من ) طين ( ‪ ،‬أو من ) سللة من طين ( ‪ ،‬أو من‬
‫) صلصال من حمأ مسنون ( أو من ) صلصال كالفخار ( ‪ -‬هو من صلصال ‪ ،‬وليس فخار ‪ ،‬لن الفخار هو الطين المحروق ‪ ،‬وكأن‬
‫التشبيه يحتفظ في السياق بهذا الفرق في الدالة ‪.‬‬

‫ب ّمنَ‬
‫س ِإن ُكنُتْم ِفي َرْي ٍ‬
‫وتأتي آية سورة الحج ) السورة الخامسة بعد المائة ( فتخاطب الناس نصًا وصراحة ‪ ،‬فتقول ‪َ }} :‬يا َأّيَها الّنا ُ‬
‫طَفٍة ‪ {{ ...‬إلى آخر الية وهي تجمع إشارتين إلى الصل الول ‪ ،‬وهو التراب ‪ ،‬وإلى الصل‬ ‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬
‫خَلْقَناُكم ّمن ُتَرا ٍ‬
‫ث َفِإّنا َ‬
‫اْلَبْع ِ‬
‫البديل ‪ ،‬وهو النطفة ‪.‬‬

‫و ) الناس ( ‪ :‬اسم جمع لبني آدم ‪ ،‬مفرده ) إنسان ( من غير لفظه ‪.‬‬

‫القرآن المــكي‬

‫فإذا تابعنا بناء السورة التي تأتي لبناتها في اليات المكية المتتابعة وجدنا الحديث عن البداية المرئية للنسان ‪ ،‬وهي ) العلق ( في‬
‫سّوى {{ ‪ ،‬ثم تأتي لمحة عن المستوى الخلقي ‪ -‬في‬ ‫ق َف َ‬
‫خَل َ‬
‫السورة الولى ‪ ،‬ثم تأتي إضافة في السورة السابعة ‪ ،‬تشير إلى }} اّلِذي َ‬
‫ن {{ ‪ ،‬ثم استثنى من هؤلء السفلة‬
‫ساِفِلي َ‬
‫ل َ‬
‫سَف َ‬
‫ن َتْقِويٍم {{ ‪ ،‬ثم ارتد إلى }} َأ ْ‬
‫سِ‬‫حَ‬
‫ل }} ِفي َأ ْ‬
‫خلق أو ً‬
‫السورة السابعة والعشرين ‪ -‬فهو قد ُ‬
‫ت {{ ‪ ،‬وهي رسالة موجهه إلى معارضي الدعوة والمكذبين بالدين من كفار قريش ‪.‬‬ ‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫جماعة }} اّلِذي َ‬

‫ويعود الوحي إلى بيان آليات الخلق في السورة الثلثين ) القيامة ( ‪ :‬مني يفرز نطفة تتحول إلى علقة تحمل عناصر الذكورة والنوثة ‪،‬‬
‫بحسب تقدير ال وتحديده للنوع ‪ ،‬وتشير السورة الثانية والثلثون ) المرسلت ( إلى نفس المعنى ‪ ،‬لكنها تذكر المكان الذي تتم فيه عملية‬
‫الخلق ‪ ،‬وهو ) القرار المكين ( أو ) الرحم ( ‪.‬‬

‫ثم يأتي الحديث في السورة التالية مباشرة ‪ ،‬وهي الثالثة والثلثون ) ق ( ليؤكد حضور ال سبحانه وتعالى في وجود هذا النسان ‪ ،‬وهو‬
‫خِل َ‬
‫ق‬ ‫ملمح تربوي ‪ ،‬يستطرد بعده الوحي في السورة الخامسة والثلثين ) الطارق ( ليقرر أن هذا الخلق العظيم ‪ ) ،‬خلق النسان ( }} ُ‬
‫ب ‪ - {{ 7‬سورة الطارق ‪ ،‬والصلب ‪ :‬فقار الظهر ‪ ،‬وهي منبع الماء الدافق عند الرجل ‪،‬‬ ‫ب َوالّتَراِئ ِ‬
‫صْل ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ج ِمن َبْي ِ‬
‫خُر ُ‬
‫ق ‪َ 6‬ي ْ‬
‫ِمن ّماء َداِف ٍ‬
‫والترائب ‪ :‬جمع ‪ ..‬مفرده تريبة ‪ ،‬وهي عظام الصدر مما يلي الترقوتين ‪ ،‬وهي منبع ماء المرأة ‪ ،‬وهذه المعلومة كانت مجهولة‬
‫للنسان ‪ ،‬وبقيت مجهولة حتى منتصف القرن العشرين ‪ ،‬وقد تضمنها الوحي القرآني منذ أوائل هذا الوحي ‪ ،‬أي منذ ‪ :‬أكثر من أربعة‬
‫عشر قرنًا ‪.‬‬
‫صّوْرَناُكْم {{ ‪ ،‬وهما مرحلتان في‬
‫خَلْقَناُكْم ُثّم َ‬
‫خْلق والتصوير }} َوَلَقْد َ‬
‫ثم تأتي السورة الثامنة والثلثون ) العراف ( لتتحدث عن ال ً‬
‫عمر البشرية ‪ ،‬لعلهما استغرقتا بضعة مليين من السنين ‪ ،‬والتصوير هنا يقابل التسوية في مواضع أخرى ‪ ،‬ومع ملحظة استعمال‬
‫الداة ) ثم ( التي تفيد التراخي بين المرين ‪ ،‬وهو ماسنفرد له معالجة أخرى ‪.‬‬

‫وتنزل في السورة الربعين ) يس ( إشارة إلى مايسبق العلق ‪ ،‬وهو ) النطفة ( مرة أخرى ‪ ،‬ولكن يقرن ذلك بالعجب من أن ل يعرف‬
‫خْلَقُه َقا َ‬
‫ل‬ ‫ي َ‬
‫سَ‬‫ل َوَن ِ‬
‫ب َلَنا َمَث ً‬
‫ضَر َ‬
‫ن ‪َ 77‬و َ‬
‫صيٌم ّمِبي ٌ‬
‫خ ِ‬
‫طَفٍة َفِإَذا ُهَو َ‬
‫خَلْقَناُه ِمن ّن ْ‬
‫ن َأّنا َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬ ‫هذا المخلوق قدره في مواجهة خالقه ‪َ }} ..‬أَوَلْم َيَر ا ِْ‬
‫عِليٌم ‪ - {{ 79‬سورة يس ‪.‬‬ ‫ق َ‬ ‫خْل ٍ‬‫ل َ‬‫ل َمّرٍة َوُهَو ِبُك ّ‬‫شَأَها َأّو َ‬‫حِييَها اّلِذي َأن َ‬
‫ل ُي ْ‬
‫ي َرِميٌم ‪ُ 78‬ق ْ‬
‫ظاَم َوِه َ‬
‫حِيي اْلِع َ‬
‫ن ُي ْ‬
‫َم ْ‬

‫ويواصل الوحي تعريف النسان بأصله في السورة الثانية والربعين ) فاطر ( فيجمع لول مرة بين التراب والنطفة ‪ ،‬ويضيف آية من‬
‫آياته ‪ ،‬وهي خلق الزوج ليأتلف مع زوجه ‪ ،‬وهو يتابع بعلمه مايتم بين الزواج ‪ ،‬وما يترتب عليه من حمل ووضع ‪ ،‬كما يتابع العمار‬
‫‪ -‬طويلة وقصيرة ‪.‬‬

‫ثم يساعف التنزيل ذلك النسان فيخاطب عقله وذاكرته في السورة الثالثة والربعين ) مريم ( ويسأله عن مرحلة ما قبل وجوده ‪ ،‬إن كان‬
‫شْيًئا {{ ‪ ،‬فالية ترد النسان إلى ما سبقه من عدم ‪ ،‬وهو‬
‫ك َ‬
‫ل َوَلْم َي ُ‬
‫خَلْقَناُه ِمن َقْب ُ‬
‫ن َأّنا َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ل َيْذُكُر ا ِْ‬
‫لديه شيء يذكره غير العدم ‪َ }} :‬أَو َ‬
‫ث بيد القدرة ‪ ،‬وهي إشارة تشبه إلى حد كبير ما استهلت به سورة ) النسان ( ‪ -‬التاسعة والتسعون ) المدنية (‬ ‫حَد ٌ‬
‫أنصع برهان على أنه ُم ْ‬
‫‪.‬‬

‫خَلْقَناُكْم َوِفيَها ُنِعيُدُكْم‬


‫ويلي سورة ) مريم ( في ترتيب النزول ) طه ( وهي السورة الرابعة والربعون ‪ ،‬وذلك في قوله تعالى }} ِمْنَها َ‬
‫خَرى {{ ‪ ،‬وكأنها تدل النسان الباحث عن مبدأ خلقه إلى نقطة البداية التي ليس وراءها شيء يذكره مهما حاول ‪.‬‬ ‫جُكْم َتاَرًة ُأ ْ‬
‫خِر ُ‬
‫َوِمْنَها ُن ْ‬

‫فإذا نظر النسان إلى الرض ‪ -‬ومنها خلقه الول ‪ -‬أدركه ‪ -‬سؤال السورة الخامسة والربعين ) الواقعة ( ليقرب إليه صورة من الحقيقة‬
‫ن {{؟؟ ‪.‬‬
‫‪َ }} .‬أَفَرَأْيُتم ّما ُتْمُنو َ‬

‫فإذا نظر إلى الرض ليبحث عن أصله فليعلم أن جزءًا من هذه الرض قفز إلى صلب أبيه ‪ ،‬وترائب أمه ‪ ،‬فلقحت ‪ -‬فيهما ‪ -‬الر ُ‬
‫ض‬
‫ن ‪- {{ 21‬‬
‫صُرو َ‬
‫ل ُتْب ِ‬
‫سُكْم َأَف َ‬
‫ض ‪ ،‬فكان ذلك المخلوق الباحث عن الحقيقة ‪ ،‬يحسبها بعيدة ‪ ،‬وهي بين يديه ‪ ،‬وفي إهابه }} َوِفي َأنُف ِ‬
‫الر َ‬
‫الذاريات ‪.‬‬

‫النسان يخرج من البشر‬

‫ن {{ ‪،‬‬ ‫سُنو ٍ‬ ‫حَمٍإ ّم ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ل ّم ْ‬


‫صا ٍ‬
‫صْل َ‬
‫وهنا يأتي النص الكريم في السورة الثالثة والخمسين ) الحجر ( ليرد النسان إلى أصل ) البشر ( ‪َ }} :‬‬
‫حَمٍإ‬
‫ن َ‬ ‫ل ّم ْ‬
‫صا ٍ‬ ‫صْل َ‬ ‫ن ِمن َ‬ ‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِ‬
‫ولما كان السياق في السورة يذكر ) النسان ( في مقابل ) الجان ( في آيتي الحجر ‪َ }} :‬وَلَقْد َ‬
‫لِئَكِة‬
‫ك ِلْلَم َ‬‫ل َرّب َ‬ ‫ن {{ ‪ ،‬فإن الحديث عن الصل الترابي يرتبط غالبًا ) بالبشر ( ‪ ،‬ولذلك يعود النص إلى الصل فيقول ‪َ }} :‬وِإْذ َقا َ‬ ‫سُنو ٍ‬
‫ّم ْ‬
‫ن ‪ - {{ 29‬الحجر‪.‬‬ ‫جِدي َ‬
‫سا ِ‬ ‫حي َفَقُعوْا َلُه َ‬
‫ت ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫خ ُ‬
‫سّوْيُتُه َوَنَف ْ‬
‫ن ‪َ 28‬فِإَذا َ‬
‫سُنو ٍ‬
‫حَمٍإ ّم ْ‬
‫ن َ‬
‫ل ّم ْ‬
‫صا ٍ‬
‫صْل َ‬
‫شًرا ّمن َ‬
‫ق َب َ‬
‫خاِل ٌ‬
‫ِإّني َ‬
‫والربط بين ) النسان ( و ) الصلصال ( سياق تتولى تفسيره اليات التالية التي تحدد المراد بالنسان ‪ ،‬وهو ) البشر ( ‪.‬‬

‫سْوق الحقيقة هنا ‪ ،‬فهو يذكر ) النسان ( هكذا معرفًا ‪ ،‬باعتباره الموضوع الساسي المقصود‬
‫وينبغي أن نلحظ أسلوب القرآن في َ‬
‫بالذكر ‪ ،‬والمخاطب باليات ‪ ،‬وهو في مقابل ) الجان ( المشارك للنسان في التكليف والمسئولية على هذه الرض ‪.‬‬

‫فإذا شرع في بيان حقيقة الخلق منذ البداية ‪ ،‬ذكر أن هذه البداية كانت في صورة ) بشر ( ‪ ..‬هكذا ُمنّكرًا ‪ ..‬باعتباره النموذج الذي‬
‫أجريت عليه عمليات التسوية ‪ ،‬والتصوير ‪ ،‬والنفخ من روح ال ) أو التذويد بالملكات العليا التي كان بها البشر إنسانًا ‪ -‬وهي العقل ‪،‬‬
‫واللغة ‪ ،‬والدين ( ‪.‬‬

‫فقبل التسوية لم يكن المخلوق البشري إنسانًا ‪ ..‬بل كان بداية خلق إنسان في حيز القوة ‪ ،‬قبل أن يكون إنسانًا في حيز الفعل ‪.‬‬

‫لم يكن أحد من الجن أو الملئكة يعلم شيئًا عن سر ذلك المخلوق البشري ‪ ،‬أو عما سيؤول إليه أمره ‪ ،‬فذلك كله كان غيبًا في علم ال‬
‫وحده ‪ ،‬وهو من إختصاص قدرته التي تابعت تنفيذ المخطط ‪ ،‬وتحقيق التسويات المطلوبة عبر الجيال ‪ ،‬كما زودته تلك القدرة العظمى‬
‫بعوامل التألق حتى صار البشر الغشيم ) إنسانًا ( صالحًا للتكليف ‪ ،‬وحمل المانة اللهية ‪.‬‬

‫وكل ذلك الفرق الهائل بين البشر والنسان يشي به الستعمال القرآني ‪ ،‬وهو فرق ما بين التعريف والتنكير في هاتين اليتين من سورة‬
‫الحجر ‪.‬‬

‫خَلَقُكم ّمن‬
‫ل للتذكير في سورة ) النعام ( التي جاءت بعد الحجر مباشرة وهي الرابعة والخمسون ‪ُ }} :‬هَو اّلِذي َ‬ ‫ويرد هذا المعنى إجما ً‬
‫عنَدُه {{ ‪ ..،‬فهو ) طين لزب ( ‪ ،‬كما في السورة التالية مباشرة ) الصافات ( ‪ ،‬غير أن بقية آية النعام‬ ‫ل ّمسّمى ِ‬
‫جٌ‬‫ل َوَأ َ‬
‫جً‬‫ضى َأ َ‬
‫ن ُثّم َق َ‬
‫طي ٍ‬
‫ِ‬
‫عنَدُه {{ ‪ ،‬وقد كان تحديد المقصود بالجلين موضع‬ ‫ل ّمسّمى ِ‬
‫جٌ‬‫ل َوَأ َ‬
‫جً‬‫ضى َأ َ‬
‫تتحدث كما رأينا عن ) أجلين ( في قوله تعالى ‪ُ }} :‬ثّم َق َ‬
‫اجتهاد المفسرين ‪ ،‬فحصروه في ثلث احتمالت ‪:‬‬
‫فإما أن يكون الجل الول ‪ :‬أجل الموت ‪ ،‬والخر ‪ :‬القيامة ‪..‬‬

‫وإما أن يكون الول ‪ :‬ما بين أن يخلق إلى أن يموت ‪ ،‬والثاني ‪ :‬ما بين الموت إلى البعث ) وهو البرزخ ( ‪.‬‬

‫وقيل الول ‪ :‬النوم ‪ ،‬والثاني ‪ :‬الموت ) الكشاف ‪. ( 4 / 2‬‬

‫وذكر تفسير المنار ) ‪ ( 248 / 7‬أن الجل الثاني هو أجل حياة مجموع الناس الذي ينقضب بقيام الساعة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الجل الخاص بكل‬
‫فرد ‪ ،‬والجل العام وهو عمر الدنيا ‪.‬‬

‫ل غاب عن هذه التقديرات ‪ ،‬وهو أن الجل الول ) النكرة ( هو أجل الحياة البشرية السابقة على العهد‬
‫ونحسب أن هناك احتما ً‬
‫النساني ‪ ،‬وأما الجل المسمى ‪ ،‬فهو أجل كل فرد من المكلفين ‪ ،‬فالول مجمل يندمج فيه الكل في واحد ‪ ،‬والثاني مفصل لكل فرد ‪،‬‬
‫لتعلقه بالمسئولية والحساب والمصير ‪ ،‬ول مانع في نظرنا من إرادة ذلك في الية ‪.‬‬

‫طَفٍة ُثّم‬
‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬
‫خَلَقُكم ّمن ُتَرا ٍ‬
‫ثم تأتي السورة التاسعة والخمسون ) غافر ( فتربط لول مرة بين التراب والنطفة والعلقة ‪ُ }} :‬هَو اّلِذي َ‬
‫ل {{ ‪ ،‬وهنا يذكر المرحلتين ‪ :‬مرحلة الخلق من تراب ‪ ،‬ومرحلة الخلق من نطفة ‪ ،‬وهما مرحلتان منفصلتان‬ ‫طْف ً‬
‫جُكْم ِ‬
‫خِر ُ‬
‫عَلَقٍة ُثّم ُي ْ‬
‫ن َ‬
‫ِم ْ‬
‫في الظاهر ‪ ،‬وقد ربط القرآن بينهما بحرف التراخي ) ثم ( للتعبير عن المسافة الزمنية بينهما ‪.‬‬

‫ويلحظ أن هذا الموضوع لم يرد له ذكر في القرآن بعد سورة غافر ‪ ،‬إل بعد عشر سور ‪ ..‬أي ‪ :‬حتى نزلت سورة ) النحل ( بإشارتها‬
‫ن {{ ‪ ،‬وهي السورة التاسعة والستون ‪ ،‬ثم تنزل السورة الحادية والسبعون ‪،‬‬ ‫صيٌم ّمِبي ٌ‬
‫خ ِ‬
‫طَفٍة َفِإَذا ُهَو َ‬
‫ن ِمن ّن ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫قا ِ‬
‫خَل َ‬
‫المقتضبة ‪َ }} :‬‬
‫سورة ) نوح ( وفيها إشارة ذات دللة تاريخية ومادية معًا ‪ ،‬هي قوله تعالى ‪َ }} :‬وَقْد َخَلَقُكْم َأْطَواًرا {{ ‪ ،‬فمن الناحية التاريخية‬
‫‪ ، :‬قد يراد بالطوار المراحل الزمنية المتطاولة التي مر بها خلق البشر ‪ ،‬وتقلبهم في أطوار التسوية والتصوير والنفخة من روح ال ‪:‬‬
‫لْفِئَدَة {{ ‪ ،‬ومن الناحية المادية ‪ ، :‬قد يراد بالطوار ما جاء بعد ذلك مباشرة من حديث‬ ‫لْبصـَر َوا َْ‬
‫سْمَع َوا َْ‬
‫ل َلُكُم ال ّ‬ ‫جَع َ‬
‫}} َو َ‬
‫جَم عن ذكر‬
‫القرآن عن الجنين وأطواره في ) القرار المكين ( وهو رحم الم ‪ ،‬فحديث سورة ) المؤمنون ( هو بمثابة الجابة عن سؤال َن َ‬
‫الطوار في سورة نوح ‪ ..‬ماهي هذه الطوار ؟؟ ‪ ..‬فجاء الرد في السورة الثالثة والسبعين ) المؤمنون ( ‪ ،‬وذلك في قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن {{ ‪ ،‬وكأن الية تدفع عن العقل احتمال إدماج العمليتين في عملية واحدة ‪ ،‬فالنسان خلق من‬ ‫طي ٍ‬
‫لَلٍة ّمن ِ‬‫سَ‬
‫ن ِمن ُ‬ ‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫}} َوَلَقْد َ‬
‫) سللة ( نسلت من ) طين ( ‪ ،‬أي ‪ :‬إنه لم يخلق مباشرة من الطين ‪ ،‬فأما ابن الطين مباشرة فهو ) أول البشر ( ‪ ،‬وكان ذلك منذ مليين‬
‫السنين ‪.‬‬

‫وهذا المعنى هو الذي عبرت عنه السورة الخامسة والسبعون ) السجدة ( وهي إضافة مهمة للرد على السؤال المثار عن المقصود بــ‬
‫ن ‪ُ 7‬ثّم‬ ‫طي ٍ‬
‫ن ِمن ِ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خْل َ‬
‫خَلَقُه َوَبَدَأ َ‬
‫يٍء َ‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫ن ُك ّ‬
‫سَ‬‫حَ‬‫) الطوار ( في السورة الرابعة والسبعين ‪ ..‬يقول ال سبحانه وتعالى ‪ }} :‬اّلِذي َأ ْ‬
‫حِه ‪ - {{ 9 ...‬السجدة ‪.‬‬ ‫خ ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫سّواُه َوَنَف َ‬
‫ن ‪ُ 8‬ثّم َ‬
‫لَلٍة ّمن ّماء ّمِهي ٍ‬
‫سَ‬‫سَلُه ِمن ُ‬
‫ل َن ْ‬
‫جَع َ‬
‫َ‬

‫ن {{ ‪ ،‬ثم كانت التسوية‬


‫لَلٍة ّمن ّماء ّمِهي ٍ‬
‫سَ‬‫ل }} ِمن ُ‬
‫فخلق النسان ) بدأ من طين ( ‪ ،‬أي ‪ :‬عند البداية البشرية ‪ ،‬ثم استخرج ال منه نس ً‬
‫ونفخ الروح ‪ ،‬فكان ) النسان ( هو الثمرة في نهاية المطاف ‪ ..‬عبر تلكم الطوار التاريخية السحيقة العتيقة ‪.‬‬

‫لْبصـرَ‬‫سْمَع َوا َْ‬


‫ل َلُكُم ال ّ‬
‫جَع َ‬
‫حِه َو َ‬
‫خ ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫سّواُه َوَنَف َ‬
‫وحسبنا أن نلحظ هنا ما يشير إلى بعض مراحل التسوية في قوله تعالى ‪ُ }} :‬ثّم َ‬
‫ل خلل مراحل التسوية ‪ ،‬وهو مايفترض أن ) البشر ( كان في المراحل الولى بل سمع‬ ‫جْع ُ‬
‫لْفِئَدَة ‪ - {{ 9 ..‬السجدة ‪ ، .‬فقد تم هذا ال َ‬ ‫َوا َْ‬
‫ول بصر ول فؤاد ) عقل ( ‪ ،‬تمامًا كما هو حال المولود ‪ ،‬حين يخرج من بطن أمه ‪ ..‬ل يسمع ول يبصر ول يعقل ‪ ..‬لنعدام الحاجة إلى‬
‫هذه الدوات في المرحلة الولى من الوجود ‪ ،‬فكل ما يحتاجه الوليد هو أن تكون له شفتان ‪ ،‬يمتص بهما غذاءه من ثدي أمه ‪ ،‬وبعد فترة‬
‫جُكم ّمن‬
‫ل َأخَْر َ‬‫‪ -‬وبالتدريج ‪ -‬يبدأ في استخدام عينيه وأذنيه وعقله في التعامل مع ما حوله من عناصر الحياة ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪َ }} :‬وا ّ‬
‫ن ‪ - {{ 78‬النحل ‪.‬‬ ‫شُكُرو َ‬
‫لْفِئَدَة َلَعّلُكْم َت ْ‬
‫صاَر َوا َ‬
‫لْب َ‬
‫سْمَع َوا َ‬‫ل َلُكُم اْل ّ‬
‫جَع َ‬
‫شْيًئا َو َ‬
‫ن َ‬
‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫ن ُأّمَهاِتُكْم َ‬
‫طو ِ‬ ‫ُب ُ‬

‫ل أو كالطفال ‪ ..‬بل أسماع ول أبصار ول عقول ‪ ،‬ثم جعل لهم هذه الدوات في مراحل التسوية المتطاولة ‪،‬‬ ‫لقد خلق ال البشر أطفا ً‬
‫حين شاءت القدرة أن تذود هذا المخلوق البشري بما يحتاج إليه من أدوات الكمال ‪.‬‬

‫بيد أن الحديث في السورة الرابعة والسبعون ) المؤمنون ( لم يقتصر على الشارة التاريخية السابقة ‪ ..‬بل قدم وصفًا ومتابعة لطوار‬
‫عَلَقًة‬
‫طفََة َ‬
‫خَلْقَنا الّن ْ‬
‫ن ‪ُ 13‬ثّم َ‬ ‫طَفًة ِفي َقَراٍر ّمِكي ٍ‬
‫جَعْلَناُه ُن ْ‬
‫تكوين الجنين ‪ ،‬وهو إضافة لم تسبق في أي سياق مكي ‪ ،‬فقال سبحانه ‪ُ }} :‬ثّم َ‬
‫ن ‪ - {{ 14‬المؤمنون ‪.‬‬ ‫خاِلِقي َ‬
‫ن اْل َ‬
‫سُ‬
‫حَ‬‫ل َأ ْ‬
‫ك ا ُّ‬
‫خَر َفَتَباَر َ‬‫خْلًقا آ َ‬
‫شْأَناُه َ‬
‫حًما ُثّم َأن َ‬
‫ظاَم َل ْ‬
‫سْوَنا اْلِع َ‬
‫ظاًما َفَك َ‬
‫عَ‬
‫ضَغَة ِ‬
‫خَلْقَنا اْلُم ْ‬
‫ضَغًة َف َ‬
‫خَلْقَنا اْلَعَلَقَة ُم ْ‬
‫َف َ‬

‫لقد مر النص الكريم بالمراحل المختلفة التي تبدأ بالنطفة ‪ ،‬وتنتهي بالنسان ‪ ،‬في هذا اليجاز المحكم الذي يتضمن حقائق الطوار في‬
‫ن {{ ‪.‬‬
‫خاِلِقي َ‬
‫ن اْل َ‬
‫سُ‬‫حَ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ك ا ُّ‬
‫عَبَر البشر كل الطوار ‪ ،‬فصار خلقًا آخر ‪ ) :‬إنسانًا ( }} َفَتَباَر َ‬
‫ذلك القرار المكين ‪ ..‬رحم المرأة ‪ ،‬وهكذا َ‬

‫وقد نلحظ هنا أن نص ) السجدة ( يتلقى مع هذا النص ‪ ،‬مع فارق الجمال والتفصيل ‪ ،‬ومع انفراد سورة ) المؤمنون ( بمراحل‬
‫التكوين الجنيني ‪ ،‬وانفراد سورة ) السجدة ( بمراحل التكوين الطيني ‪.‬‬

‫ك اْلَكِريِم ‪6‬‬
‫ك ِبَرّب َ‬
‫غّر َ‬
‫ن َما َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ويبقى من الوحي المكي ماورد في السورة الثانية والثمانون ) النفطار ( من قوله تعالى ‪َ }} :‬يا َأّيَها ا ِْ‬
‫ك ‪ - {{ 8‬النفطار ‪.‬‬
‫شاء َرّكَب َ‬
‫صوَرٍة ّما َ‬
‫ي ُ‬
‫ك ‪ِ 7‬في َأ ّ‬
‫ك َفَعَدَل َ‬
‫سّوا َ‬
‫ك َف َ‬
‫خَلَق َ‬
‫اّلِذي َ‬

‫ف ُقّوًة ُثّم‬
‫ضْع ٍ‬
‫ل ِمن َبْعِد َ‬
‫جَع َ‬
‫ف ُثّم َ‬
‫ضْع ٍ‬
‫خَلَقُكم ّمن َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫وأيضًا ما ورد في السورة الرابعة والثمانين ) الروم ( من قوله تعالى ‪ }} :‬ا ُّ‬
‫شاء َوُهَو اْلَعِليُم اْلَقِديُر ‪ - {{ 54‬الروم ‪ ، .‬وهما تنزيلن وردا في مقام التذكير بقدرة ال ‪،‬‬ ‫ق َما َي َ‬
‫خُل ُ‬
‫شْيَبًة َي ْ‬
‫ضْعًفا َو َ‬
‫ل ِمن َبْعِد ُقّوٍة َ‬ ‫جَع َ‬
‫َ‬
‫ك{{ ‪ ) ،‬يخلق ما يشاء ( ‪ ،‬وتنفرد الية الولى بمفهوم قوله ‪:‬‬ ‫شاء َرّكَب َ‬
‫صوَرٍة ّما َ‬
‫ي ُ‬
‫وهيمنته على النسان ‪ ،‬ومشيئته المطلقة ‪ِ }} ..‬في َأ ّ‬
‫ك {{ ‪ ،‬وهو معنى خاص باختياره الصورة التي يظهر بها النسان على الرض ‪ ،‬بين سائر الصور ‪ ،‬وتنفرد الية الثانية بذكر‬ ‫}} َفَعَدَل َ‬
‫الضعف والقوة ‪ ،‬وضابطهما من المشيئة اللهية ‪ ،‬فل ضعف إل بمشيئته ‪ ،‬ول قوة إل باختياره وإرادته }} َوُهَو اْلَعِليُم اْلَقِديُر {{‪.‬‬

‫وبذلك ينتهي الحديث المكي عن خلق النسان ‪.‬‬

‫القرآن المـــدني‬

‫ثم تأتي المرحلة المدنية ‪ ،‬وتبدأ بالسورة السابعة والثمانين ) البقرة ( ‪ ،‬فتذكر مرحلة أخرى من مراحل الملحمة الخالدة ‪ ،‬دون أن تذكر‬
‫) البشر أو النسان ( ‪ ..‬بل هي تركز على ) آدم ( الذي يهيأ لوظيفة ) الخلفة ( ) البقرة ‪ 30 :‬وما بعدها ( وهو من أجل ذلك يعلم من‬
‫اللغة ما لم تعلمه الملئكة ‪ ،‬وسيأتي في ذلك حديث ‪.‬‬
‫وفي السورة الثامنة والتسعين ) الرحمن ( إشارتان ‪..‬‬

‫ن ‪ - {{ 4‬الرحمن ‪.‬‬
‫عّلَمُه اْلَبَيا َ‬
‫ن‪َ 3‬‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬ ‫‪ ، :‬إلى علقة النسان باللغة في مستواها البياني ‪َ }} :‬‬
‫خَل َ‬ ‫أولهما‬

‫ن {{ ‪،‬‬
‫سُنو ٍ‬
‫حَمٍإ ّم ْ‬
‫ن َ‬
‫ل ّم ْ‬
‫صا ٍ‬ ‫وثانيهما ‪ ، :‬مذيد من التعريف بالصلصال الذي ذكر في السورة المكية ) الحجر ( على أنه ‪َ }} :‬‬
‫صْل َ‬
‫ن ّنار {{ ‪ ،‬كما سبق أن قابل ) الحمأ‬ ‫ج ِم ّ‬
‫خاِر {{ ‪ ،‬وذلك في مقابل أن الجان خلقوا }} ِمن ّماِر ٍ‬
‫ل َكاْلَف ّ‬
‫صا ٍ‬
‫صْل َ‬
‫فتصفه بأنه ‪َ }} :‬‬
‫المسنون ( بــ ) نار السموم ( في سورة الحجر أيضًا ‪ ،‬وللتكرار هنا قائدة هي مذيد من التعريف بطبيعة المادة التي هي أصل الخلق ‪،‬‬
‫وهي ) الطين اللزب ( كما جاء في سورة الصافات ‪.‬‬

‫عَلى‬
‫ل َأَتى َ‬
‫وتبقى في المرحلة المدنية إشارة سورة ) النسان ( ‪ ،‬وهي السورة التاسعة والتسعون ‪ ،‬وقد جاءت في قوله تعالى ‪َ }} :‬ه ْ‬
‫صيًرا ‪ - {{ 2‬النسان ‪.‬‬ ‫سِميًعا َب ِ‬
‫جَعْلَناُه َ‬
‫ج ّنْبَتِليِه َف َ‬
‫شا ٍ‬
‫طَفٍة َأْم َ‬
‫ن ِمن ّن ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫شْيًئا ّمْذُكوًرا ‪ِ 1‬إّنا َ‬
‫ن الّدْهِر َلْم َيُكن َ‬
‫ن ّم َ‬
‫حي ٌ‬
‫ن ِ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫ا ِْ‬

‫وهو كما نرى ‪ ،‬نص يضيف وصفًا تحليليًا للنطفة ‪ ،‬فالمشاج تطلق على الخليا الذكرية ‪ ،‬كالحيوان المنوي ‪ ،‬وتطلق على الخليا‬
‫النثوية ‪ ،‬كالبيضة أو البويضة ‪ ،‬قبل أن تندمجا لتكوين اللقحة ) وهي البويضة الملقحة ( التي تّكون الجنين ) المعجم الوسيط ‪:‬‬
‫مشج ( ‪ ،‬والنسان خليط من هذه الخليا ‪ ،‬أو المشاج ‪ ،‬وهي حقيقة لم تذكر من قبل في أي سياق ‪ ،‬إل ما جاء إشارة عامة عن ) الماء‬
‫المهين ( ‪ ،‬و ) الماء الدافق ( من الصلب والترائب ‪.‬‬

‫س ِإن ُكنُتْم ِفي‬ ‫وأخيرًا تأتي السورة الخامسة بعد المائة ‪ ) :‬الحج ( ‪ -‬لتقدم التقرير النهائي عن قصة الخلق في قوله تعالى ‪َ }} :‬يا َأّيَها الّنا ُ‬
‫شاء ِإَلى‬ ‫حاِم َما َن َ‬
‫لْر َ‬
‫ن َلُكْم َوُنِقّر ِفي ا َْ‬
‫خّلَقٍة ّلُنَبّي َ‬
‫غْيِر ُم َ‬
‫خّلَقٍة َو َ‬
‫ضَغٍة ّم َ‬‫عَلَقٍة ُثّم ِمن ّم ْ‬
‫ن َ‬
‫طَفٍة ُثّم ِم ْ‬‫ب ُثّم ِمن ّن ْ‬
‫خَلْقَناُكم ّمن ُتَرا ٍ‬ ‫ث َفِإّنا َ‬ ‫ن اْلَبْع ِ‬
‫ب ّم َ‬‫َرْي ٍ‬
‫شْيًئا َوَتَرى‬
‫عْلٍم َ‬‫ل َيْعَلَم ِمن َبْعِد ِ‬
‫ل اْلُعُمِر ِلَكْي َ‬ ‫شّدُكْم َوِمنُكم ّمن ُيَتَوّفى َوِمنُكم ّمن ُيَرّد ِإَلى َأْرَذ ِ‬ ‫ل ُثّم ِلَتْبُلُغوا َأ ُ‬
‫طْف ً‬
‫جُكْم ِ‬‫خِر ُ‬ ‫سّمى ُثّم ُن ْ‬ ‫ل ّم َ‬‫جٍ‬‫َأ َ‬
‫ج ‪ - {{ 5‬الحج ‪.‬‬ ‫ج َبِهي ٍ‬
‫ل َزْو ٍ‬
‫ت ِمن ُك ّ‬ ‫ت َوَأنَبَت ْ‬
‫ت َوَرَب ْ‬‫عَلْيَها اْلَماء اْهَتّز ْ‬ ‫ض َهاِمَدًة َفِإَذا َأنَزْلَنا َ‬
‫لْر َ‬ ‫ا َْ‬

‫‪ ،‬وهي آية تتضمن تفاصيل مهمة ‪ ،‬وبخاصة فيما يتعلق بالمضغة ‪ ،‬فليست كل مضغة تتحول جنينًا ‪ ..‬بل قد تكون مخلقة ‪ ،‬وقد تكون‬
‫جَلِئٍذ ‪ ،‬وقد تمتد به الحياة إلى أرذل العمر ‪ ،‬وهي حقائق‬
‫ل ‪ ،‬فبالغًا ‪ ،‬وقد يحين موته أ َ‬
‫غير مخلقة ‪ ،‬وكذلك فيما يتعلق بحياة النسان ‪ :‬طف ً‬
‫سبق اليماء إليها في سورة ) غافر ‪ ، ( 61 :‬ولكنها جاءت هنا في خاتمة التقرير عن إمكان البعث ‪ ،‬ودفع الريب فيه من العقول والقلوب‬
‫‪ ،‬وتلكم هي الغاية التي سيقت من أجلها كل هذه النصوص عن ) خلق البشر ‪ -‬النسان ( ‪:‬‬

‫ث َمن ِفي اْلُقُبوِر ‪{{ 7‬‬


‫ل َيْبَع ُ‬
‫ن ا َّ‬
‫ب ِفيَها َوَأ ّ‬
‫ل َرْي َ‬
‫عَة آِتَيٌة ّ‬
‫سا َ‬
‫ن ال ّ‬
‫يٍء َقِديٌر ‪َ 6‬وَأ ّ‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫حِيي اْلَمْوَتى َوَأّنُه َ‬
‫ق َوَأّنُه ُي ْ‬
‫حّ‬
‫ل ُهَو اْل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ك ِبَأ ّ‬
‫}} َذِل َ‬
‫‪ -‬الحج ‪.‬‬

‫وأخيرًا ‪ ،‬يختم الوحي حديثه بخطاب عام موجه إلى ) النسانية ( جمعاء ‪ ،‬من كل اللوان ‪ ،‬والجناس ‪ ،‬والصقاع ‪ ،‬تحقيقًا لعموم‬
‫الرسالة ‪ ،‬وتأكيدًا لمبدأ المساواة المطلقة بين جميع الناس ‪ ،‬وإعلنًا للقاعدة اللهية التي سيتم على أساسها محاسبة الخلئق ‪ ..‬يوم الموقف‬
‫خَلْقَناُكم ّمن َذَكٍر َوُأنَثى‬
‫س ِإّنا َ‬
‫العظيم ‪ ..‬جاء ذلك في سورة الحجرات ‪ ،‬وهي السورة الثامنة بعد المائة ‪ ،‬في قوله تعالى ‪َ }} :‬يا َأّيَها الّنا ُ‬
‫خِبيٌر ‪ - {{ 13‬الحجرات ‪.‬‬ ‫عِليٌم َ‬
‫ل َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل َأْتَقاُكْم ِإ ّ‬
‫عنَد ا ِّ‬
‫ن َأْكَرَمُكْم ِ‬
‫ل ِلَتَعاَرُفوا ِإ ّ‬
‫شُعوًبا َوَقَباِئ َ‬
‫جَعْلَناُكْم ُ‬
‫َو َ‬

‫إن هذا البيان اللهي نداء إلى جميع ) الناس ( يذكرهم بوحدة الصل ‪ ،‬فهم جميعًا قد نسلوا من ذكر وأنثى ‪ ،‬هما آدم وزوجه حواء ‪،‬‬
‫باعتبارهما أول من تألقت فيه صفات ) النسان ( من سللت البشر ‪ ،‬ول إلتفات إلى ماسبقهما من السللت والجيال ‪ ،‬فهما في الواقع‬
‫المنبع الذي تدفقت منه جماعات ) الناس ( على هذه الرض ‪ ،‬من بني آدم ‪ ..‬أي ‪ :‬من ظهره ‪ ،‬وقد جعلهم ال شعوبًا وقبائل ‪ ،‬فهم أصل‬
‫واحد ‪ ،‬ووجود متنوع ‪ ،‬وعليهم ‪ -‬وقد أدركوا هذه الحقيقة ‪ -‬أن يتعارفوا بحكم ما بينهم من قرابة ‪ ،‬فل فضل لحد منهم على غيره من‬
‫شركائه في الصل بأي اعتبار مادي ‪ ،‬وإنما يتفاضلون عند ال بالتزامهم لوامره ‪ ،‬واجتنابهم لمحارمه ‪ ،‬وطاعتهم المطلقة له ‪،‬‬
‫المعصية ‪ ،‬التي حّرمت على أبويهم في الجنة ‪ ،‬وهي‬ ‫وبعبارة أوضح ‪ ، :‬بأل يأكلوا من الشجرة التي حرمها عليهم ‪ ،‬شجرة‬
‫محرمة عليهم إلى أن يرث ال الرض ومن عليها ‪.‬‬
‫الـطريـــق إلى الجـــنة‬

‫ملحظات على العلقة بين البشر والنسان ‪:‬‬


‫حقيقة ل ريب فيها ‪ ،‬هي أن بين ) البشر والنسان ( عمومًا وخصوصًا مطلقًا ‪ ،‬فــ ) البشر ( لفظ عام في كل مخلوق ظهر على سطح‬
‫الرض ‪ ،‬يسير على قدمين ‪ ،‬منتصب القامة ‪ ،‬و ) النسان ( لفظ خاص بكل من كان من البشر مكلفًا بمعرفة ال وعبادته ‪ ،‬فكل إنسان‬
‫بشر ‪ ،‬وليس كل بشر إنسان ‪.‬‬
‫والمقصود هو طبعًا المعنى الول الذي استعملت فيه الكلمة ) بشر ( في آيات القرآن ‪ ،‬وهو الظاهر أو المتحرك مع حسن وجمال ‪.‬‬

‫ل أو غير‬
‫وقد جاءت في القرآن كلمة أعّم من ‪ :‬البشر والنسان ‪ ،‬وهي كلمة ) النام ( ‪ ،‬وتعني كل مخلوق على ظهر الرض ‪ ،‬عاق ً‬
‫لَناِم ‪ - {{ 10‬سورة الرحمن ‪ : .‬الجن‬
‫ضَعَها ِل َْ‬
‫ض َو َ‬
‫لْر َ‬‫عاقل ‪ ،‬وإن كان المفسرون يرون أن الكلمة تعني في قوله تعالى }} َوا َْ‬
‫والنس ‪ ،‬وهما الثقلن المخاطبان ‪ ،‬كما هو وارد في هذه السورة المدنية ‪.‬‬

‫ل ‪ -‬إطلق لفظة ) البرية ( على ) الخلق ( ‪،‬‬ ‫وجاء أيضًا في سورة ) البينة ( ‪ ،‬وهي سورة مدنية ‪ ،‬وهي السورة الحادية بعد المائة نزو ً‬
‫شّر اْلَبِرّيِة ‪ - {{ 6‬البينة ‪ ، .‬وقال في وصف‬‫ك ُهْم َ‬
‫والجمع ‪ :‬برايا ‪ ،‬قال ال سبحانه وتعالى في وصف الكافرين والمشركين ‪ُ }} :‬أْوَلِئ َ‬
‫خْيُر اْلَبِرّيِة ‪ - {{ 7‬البينة ‪.‬‬
‫ك ُهْم َ‬
‫المؤمنين ‪ُ }} :‬أْوَلِئ َ‬

‫ونستطيع أن نقرر مع علماء النسان ) النثروبولوجيين ( أن الرض عرفت هذا الخلق الذي ظهر على سطحها منذ مليين السنين ‪،‬‬
‫تختلف في تقديرات العلم باختلف عمر الحافير ) الحفريات ( ‪ ،‬ونتائج التحليلت العلمية ‪ .‬وقد أطلق العلماء على هذا المخلوق خطأ أو‬
‫تجاوزًا لقب ‪ ) :‬إنسان ( ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنسان بكين ‪ ،‬أو إنسان جاوة ‪ ،‬أو إنسان كينيا ‪ ،‬أو ما سوى ذلك من الطلقات التي تعني مراحل‬
‫تكوين ) البشر ( بإطلق القرآن ‪ ،‬واستخدام كلمة ) إنسان ( في وصف هؤلء ليس إل على سبيل التوسيع ‪ ،‬كما استخدمت كلمة ) بشر (‬
‫للدللة على معنى ) النسان ( توسعًا أيضًا ‪ ،‬وإل فاللفظ الدقيق بلغة القرآن ‪ ،‬والذي ينبغي أن يستخدم في تسمية تلك المخلوقات العتيقة‬
‫التي تدل عليها الحافير ‪ -‬هو ) البشر ( ‪ ،‬فواجب أن يقال ‪ :‬بشر بكين ‪ ،‬وبشر جاوة ‪ ،‬وبشر كينيا ‪ ،‬وبشر النياندارتال ‪ ..‬ألخ ‪.‬‬

‫أما ) النسان ( فل يطلق بمفهوم القرآن إل على ذلك المخلوق المكلف بالتوحيد والعبادة ل غير ‪ ،‬وهو الذي يبدأ بوجود آدم عليه السلم ‪،‬‬
‫وآدم ‪ -‬على هذا ‪ -‬هو ) أبو النسان ( ‪ ،‬وليس ) أبو البشر ( ‪ ،‬ول علقة بين آدم والبشر الذين بادوا قبله ‪ ،‬تمهيدًا لظهور ذلك النسل‬
‫الدمي الجديد ‪.‬‬
‫اللهم إل تلك العلقة العامة أو التذكارية ‪ ،‬باعتباره من نسلهم ‪.‬‬

‫ولمر ما وجدنا أن القرآن ل يخاطب البشر ‪ ..‬بل يخاطب النسان ‪ ،‬والتكليف الديني منوط بصفة ) النسانية ( ‪ ،‬ل بصفة ) البشرية ( ‪،‬‬
‫فلم يعد للبشر القديم وجود منذ ظهر آدم عليه السلم ‪ ،‬وتناسلت ذريته ‪ ،‬وورثت الرض وما عليها ‪.‬‬

‫ولمر ما أيضًا وجدنا أن كلمة ) البشر ( جامدة ل تتصرف ‪ ،‬اللهم إل بالتثنية والجمع في قليل الستعمال ‪ ،‬على حين أن كلمة ) إنسان (‬
‫متصرفة مرنة ‪ ،‬وردت في القرآن بصور مختلفة ‪ ،‬وهي مفرد ‪ ،‬جمعه ‪ :‬أناسين ‪ ،‬وأناسي ‪ ،‬وقد استعمل مصغرًا فقيل ‪ :‬أنيسان ‪،‬‬
‫والنس ‪ :‬اسم جماعة الناس ‪ ،‬والجمع أناس ‪ ،‬والواحد إنسي ‪.‬‬

‫والناس ‪ :‬اسم جمع من النوس ‪ ،‬وهو الحركة ‪ ..‬مفرده ‪ :‬إنسان من غير لفظه ‪ ،‬ويقال للمرأة إنسان ‪ ،‬ول يقال ‪ :‬إنسانة ‪ ،‬وإن شاعت على‬
‫ألسنة العامة ‪ ،‬وكل ذلك أكسب الكلمة مرونة في الستعمال ‪.‬‬

‫وليس يبعد أن نفترض أن الخالق سبحانه ‪ -‬وقد مضت مشيئته بتفرد آدم وذريته بالسيادة على الرض ‪ ،‬والنهوض بأمر الدين ‪ ،‬وإقامة‬
‫سْبحانه فناَء كل البشر ‪ ،‬من غير ولد آدم ‪ ،‬وذلك بعد عزل السللة الجديدة المنتقاة في الجنة ‪ ،‬وبدأ‬
‫التكاليف ‪ ،‬وفي مقدمتها التوحيد ‪َ -‬قّدَر ُ‬
‫الصراع بعد أن أخليت ساحته من العناصر الطفيلية التي لم يعد لها دور ‪ ..‬بل التي انتهى دورها ‪ ،‬ليبدأ على الرض دور جديد ‪ ..‬لكن ‪،‬‬
‫كيف بدأ هذا الدور ؟ ‪ ..‬أو كيف استهل ذلكم العهد ؟‬

‫ذلك ما ل سبيل إلى تصويره إل من خلل الكلمات المجردة ‪ ،‬ول دور أيضًا للخيال في رسم صورته إل من خلل اليمان المطلق بعالم‬
‫الغيب ‪ ،‬فذلكم مشهد غيبي تم قبل الزمان النساني بزمان إلهي ‪ ،‬حين صدر أمر بأن يكون الكون ‪ ..‬فكان ‪ ..‬كان كل ماكان ‪ ،‬وكل‬
‫لْر ِ‬
‫ض‬ ‫غْيَر ا َ‬
‫ض َ‬
‫لْر ُ‬
‫لا َ‬
‫مايكون أو سيكون على طول الزمان ‪ ،‬وبعد أن ينتهي هذا الزمان ‪ ،‬فيبدأ للوجود تقويم زمني آخر }} َيْوَم ُتَبّد ُ‬
‫حِد اْلَقّهاِر ‪ - {{ 48‬سورة ابراهيم ‪.‬‬
‫ل اْلَوا ِ‬
‫ت َوَبَرُزوْا ّ‬
‫سَماَوا ُ‬
‫َوال ّ‬

‫حينذاك أمر ال سبحانه كل الذراري التي قدر أن تخرج من صلب آدم ‪ ،‬وأصلب بنيه ‪ -‬أمرها أن تخرج على ساحة الغيب ‪ ،‬وأن تمثل‬
‫ق ‪ - {{ 14 ...‬الملك ‪ ، .‬و }}‬
‫خَل َ‬
‫ن َ‬
‫ل َيْعَلُم َم ْ‬
‫بين يديه ‪ ،‬كانت أنذاك مجرد ذرات ل يحصيها ول يحصرها حد ‪ ،‬إل علم ال وحده ‪َ }} ..‬أ َ‬
‫عّدا ‪َ 94‬وُكّلُهْم آِتيِه َيْوَم اْلِقَياَمِة َفْرًدا ‪ - {{ 95‬مريم ‪.‬‬
‫عّدُهْم َ‬
‫صاُهْم َو َ‬
‫ح َ‬
‫َلَقْد َأ ْ‬

‫ل واحدًا هو الذي من أجله كانت الدعوة‬


‫‪ ،‬وأسرعت الذرات بالمثول أمام الجلل اللهي ‪ ،‬فألقى ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬على المشهد الهائل سؤا ً‬
‫إلى الحضور ‪:‬‬
‫ت ِبَرّبُكْم ؟‬
‫س َ‬
‫قال تعالى ‪َ :‬أَل ْ‬

‫شِهْدَنا ‪.‬‬
‫وتلقوا السؤال ووعوه فقالوا جميعًا في صوت واحد ‪َ :‬بَلى ‪َ ..‬‬

‫ل َوُكّنا‬
‫ك آَباُؤَنا ِمن َقْب ُ‬
‫شَر َ‬
‫ن ‪َ 172‬أْو َتُقوُلوْا ِإّنَما َأ ْ‬
‫غاِفِلي َ‬
‫ن َهَذا َ‬
‫عْ‬‫وقال ال مبينًا الحكمة من هذا الحشد ‪َ }} :‬أن َتُقوُلوْا َيْوَم اْلِقَياَمِة ِإّنا ُكّنا َ‬
‫ن ‪ -{{ 173‬العراف ‪.‬‬ ‫طُلو َ‬
‫ل اْلُمْب ِ‬
‫ُذّرّيًة ّمن َبْعِدِهْم َأَفُتْهِلُكَنا ِبَما َفَع َ‬

‫‪ ،‬إن النص القرآني يروي حكاية هذا المشهد الكوني الرهيب ‪ ،‬وهو يطلب من النبي صلى ال عليه وسلم أن يذكر المؤمنين به }} َوِإْذ‬
‫سِهْم ‪ - {{ 172 ...‬العراف ‪.‬‬
‫عَلى َأنُف ِ‬
‫شَهَدُهْم َ‬
‫ظُهوِرِهْم ُذّرّيَتُهْم َوَأ ْ‬
‫ك ِمن َبِني آَدَم ِمن ُ‬
‫خَذ َرّب َ‬
‫َأ َ‬

‫ل بصورة من هذا المشهد ‪ ..‬تبين موقعه بين من‬ ‫‪ ،‬ول ريب أن سجل كل آدمي ‪ ،‬أو كتابه الذي سيقدم إليه يوم القيامة ‪ -‬سوف يكون مسته ً‬
‫حضروا هذا اللقاء ‪ ،‬وتثبت وجوده ‪ ،‬وشهادته على نفسه بالقرار بعبوديته ل ‪ :‬إلهًا ‪ ،‬وربًا ‪ ،‬وحاكمًا ‪ ،‬وستكون هذه الصورة هي‬
‫سيًبا ‪ - {{ 14‬السراء ‪.‬‬
‫حِ‬‫ك َ‬‫عَلْي َ‬
‫ك اْلَيْوَم َ‬
‫سَ‬
‫ك َكَفى ِبَنْف ِ‬
‫المرجع الول أو المستند الرئيسي في محاكمة كل آدمي يوم القيامة }} اْقَرْأ َكَتاَب َ‬

‫هكذا بدأ العهد الدمي في ملحمة الخليقة ‪ ،‬وهكذا كان الذين وتكاليفه نقطة البداية في رحلة النسان نحو الموعد ‪ ،‬موعد اللقاء مع ال ‪،‬‬
‫فهو يسير بين جدارين متوازيين ‪ ،‬جدار المسئولية الجماعية في الدنيا ‪ ..‬وجدار المسئولية الفردية في الخرة ‪ ..‬وبهذا اختلف النسان‬
‫عن البشر ‪.‬‬

‫إن الدين يتضمن تكاليف تخص ) النسان ( باعتباره فردًا ‪ ،‬كما تخص ) الناس ( باعتبارهم مجتمعًا ‪ ،‬وليس هذا التفريق بين الفرد‬
‫والمجتمع بوارد في استعمال كلمة ) البشر ( ‪ ،‬ففي إطار ) البشرية ( ل تفريق بين المستويات أو السماء ‪ ،‬إذا افترضنا أن البشر عرفوا‬
‫شيئًا اسمه ) اللغة ( ‪ ،‬وهو أمر غير بعيد ‪ ،‬لنهم كانوا مجتمعًا حيوانيًا ‪ ،‬كل فرد فيه ككل فرد ‪ ،‬وكل فرد بمثابة أية جماعة ‪ ،‬ل اعتبار‬
‫للفروق الفردية ‪.‬‬

‫ل في‬
‫لقد كان ) البشر ( خلل الحقاب والعهود المتطاولة مجرد مخلوقات متحركة ‪ ،‬حيوانية السلوك ‪ ،‬ولكنها تزداد في كل مرحلة تعدي ً‬
‫سلوكها ‪ ،‬ونضجًا في خبرتها ‪ ،‬وتلونًا في طرائق التفاهم اللغوي فيما بينها ‪ ،‬وربما كان هذا هو المقصود بسؤال الملئكة للرب ‪ -‬جل‬
‫ك الّدَماء {{ ‪ -‬البقرة ‪ ، ..‬كان هذا هو الواقع المشاهد ‪ ،‬فتعجب الملئكة من استخلف هؤلء‬
‫سِف ُ‬
‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬
‫ل ِفيَها َمن ُيْف ِ‬
‫جَع ُ‬
‫وعل ‪َ }} -‬أَت ْ‬
‫المفسدين المتوحشين !!‬

‫سنة ‪ ،‬وألف سنة ‪ ،‬أو حتى مليون سنة ‪ -‬كيوم واحد ‪،‬‬
‫سَنٌة كال ّ‬
‫وطبيعي أن ندرك كذلك أن الزمن في هذا الحال لم يكن له معنى أيضًا ‪ ،‬ال ّ‬
‫لمعنى لبدايته أو نهايته ‪ ،‬ول وظيفة له وقد عدم موضوعه ‪ ،‬ومن المعروف أن بعض الكائنات التي عاشت في الكهوف المظلمة فقدت‬
‫قدرتها على البصار ‪ ،‬إذ كانت الحياة بالنسبة إليها ظلم في ظلم ‪.‬‬

‫وقد عشنا في حياتنا تجربة تقرب إلينا هذا المعنى ‪ ،‬حيث ساقتنا الظروف التعيسة إلى محبس ) زنزانة ( في العتقال السياسي ) عام‬
‫‪ .. ( 1955‬كانت زنزانة مظلمة ‪ ..‬لم نكن ندري فيها مرور اليام ‪ ،‬ول حدود الشهور ‪ ،‬فقد تساوى الليل والنهار ‪ ،‬وضاعت المعالم‬
‫والثار ‪.‬‬

‫وبين أيدينا شواهد قرآنية على صواب ما نذهب إليه ‪ :‬ذلك أن قصة الخلق التي جاءت في سورة ) ص ( تعطينا الشارة الولى إلى‬
‫ل َرّب َ‬
‫ك‬ ‫الدليل على تمادي العهود التي عاشتها البشرية في ظلم الزمن السحيق ‪ ،‬أو في زنزانة َذّياك الزمن ‪ ..‬يقول ال تعالى ‪ِ }} :‬إْذ َقا َ‬
‫ن ‪ - {{ 72‬سورة ص ‪ ، .‬وقد ذهب أكثر‬ ‫جِدي َ‬
‫سا ِ‬
‫حي َفَقُعوا َلُه َ‬
‫ت ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫خ ُ‬
‫سّوْيُتُه َوَنَف ْ‬
‫ن ‪َ 71‬فِإَذا َ‬
‫طي ٍ‬
‫شًرا ِمن ِ‬
‫ق َب َ‬
‫خاِل ٌ‬
‫لِئَكِة ِإّني َ‬
‫ِلْلَم َ‬
‫المفسرين إلى أن هذا ) البشر ( هو ) آدم ( عليه السلم ‪ ،‬وأن ال سبحانه وتعالى كّلف بعض ملئكته أن يجمعوا له من تراب الرض ‪،‬‬
‫ل عن السرائيليات ‪ ،‬ونقل عنه من جاء بعده ‪ ،‬وأن ال خلق‬ ‫من جميع أخلطه وألوانه ‪ ،‬كما ذكرت الروايات الواردة في الطبري ‪ ،‬نق ً‬
‫هذا البشر ‪ ،‬وسواه ‪ ،‬ونفخ فيه من روحه ‪ ،‬فكان آدم الذي أسجدت له الملئكة ‪.‬‬

‫والواقع الذي عّبرت عنه اليتان ‪ -‬في نظرنا ‪ -‬هو أن ال سبحانه خلق ) أو أراد خلق ( البشر من الطين ‪ ،‬وأخبر ملئكته بهذا الخبر ‪ ،‬أو‬
‫شرًا {{ ‪ ،‬وهذه هي المرحلة الولى في بداية الخلق اللهي ‪ .‬وكلمة ) البشر ( هنا ل تعني فردًا واحدًا ‪،‬‬ ‫ق َب َ‬
‫خال ٌ‬ ‫الرادة العلوية ‪ِ }} :‬إّني َ‬
‫بل هي ‪ -‬بحسب الصل ‪ -‬تطلق على أكثر من واحد ‪ ،‬لدللتها على الجنس ‪ ،‬وقد حدد القرآن الصورة الولى لخلق الكائنات بأنها خلقت‬
‫ض َنَباًتا ‪ - {{ 17‬نوح ‪، .‬‬‫لْر ِ‬ ‫ن ا َْ‬
‫ل َأنَبَتُكم ّم َ‬
‫جا ‪ - {{ 8‬النبأ ‪ ، .‬وذلك إنطلقًا من الرض }} َوا ُّ‬ ‫خَلْقَناُكْم َأْزَوا ً‬‫أزواجًا ‪ ،‬فقال سبحانه }} َو َ‬
‫فمن الرض كان انطلق الحياة في شكل أزواج متنوعات ‪:‬‬
‫ن ‪ – {{ 3 ...‬الرعد‬ ‫ن اْثَنْي ِ‬
‫جْي ِ‬
‫ل ِفيَها َزْو َ‬ ‫جَع َ‬
‫ت َ‬ ‫ل الّثَمَرا ِ‬
‫ن ‪ - {{ 49‬الذاريات ‪َ }} .‬وِمن ُك ّ‬
‫ن َلَعّلُكْم َتَذّكُرو َ‬
‫جْي ِ‬
‫خَلْقَنا َزْو َ‬
‫يٍء َ‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫}} َوِمن ُك ّ‬

‫البرهان القوي‬

‫حي {{ وهي آية مصدرة بأداة ظرفية زمانية هي ) إذا ( ‪،‬‬‫ت ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫خ ُ‬
‫سّوْيُتُه َوَنَف ْ‬
‫وتأتي بعد ذلك مرحلتان في قوله تعالى ‪َ }} :‬فِإَذا َ‬
‫ل ‪ ،‬والقدرة التي تنجز هذا‬
‫ظرف لما يستقبل من الزمان ‪ ،‬ويمكن أن يكون هذا الزمان لحظة ‪ ،‬كما يمكن أن يكون ضهرًا طوي ً‬ ‫وهي َ‬
‫الخلق هي القدرة التي تقول للشيء ) كن فيكون ( ‪ ،‬أي ‪ :‬القدرة الُكّنّية التي ل يحكمها الزمان ول المكان ‪ ..‬بل هي التي خلقت الزمان‬
‫والمكان ‪ ،‬ونحسب أن استخدام ) إذا ( في هذا السياق ليبعد عن أن يراد به مليين السنين بحساب الزمن الدنيوي ‪ ،‬وإن كانت هذه‬
‫المليين ل تعدو أن تكون أيامًا معدودة في حساب الزمن اللهي ‪ ،‬كما أنها مرت مجرد كتلة في ظلم دائم ‪ ،‬لم تلمع خلله أشعة العقل ‪،‬‬
‫ول أضواء المعرفة ‪.‬‬

‫ل َلُهُم اْرَكُعوا َ‬
‫ل‬ ‫وقد استخدمت ) إذا ( في القرآن الكريم للدللة على المستقبل القريب والمستقبل البعيد سواًء ‪ ،‬فقوله تعالى ‪َ }} :‬وِإَذا ِقي َ‬
‫ن ‪ - {{ 48‬المرسلت ‪ ، .‬ل تذيد فيه مساحة ) إذا ( الزمنية على لحظة ينطق فيها المر ‪ ) :‬أركعوا ( ‪ ،‬ولكن قوله تعالى ‪:‬‬ ‫َيْرَكُعو َ‬
‫ت ‪ - {{ 24 ...‬يونس ‪ ، .‬تمتد فيه المساحة إلى زمان غير معلوم ‪ ،‬وكذلك في اليات ‪:‬‬ ‫خُرَفَها َواّزّيَن ْ‬
‫ض ُز ْ‬
‫لْر ُ‬ ‫تا َ‬ ‫خَذ ِ‬
‫ى ِإَذا َأ َ‬
‫حّت َ‬
‫}} َ‬
‫حَدٌة ‪{{ 13‬‬ ‫خٌة َوا ِ‬ ‫صوِر َنْف َ‬ ‫خ ِفي ال ّ‬
‫ت ‪ - {{ 1‬النفطار ‪ ، .‬و }} َفِإَذا ُنِف َ‬
‫طَر ْ‬
‫سَماء انَف َ‬
‫ت ‪ - {{ 1‬التكوير ‪ ، .‬و }} ِإَذا ال ّ‬ ‫س ُكّوَر ْ‬ ‫شْم ُ‬ ‫}} ِإَذا ال ّ‬
‫‪ -‬الحاقة ‪ .. .‬تتراحب في هذه اليات مساحة الظرف إلى ما شاء ال ‪ ،‬وهو استخدام قرآني مستقبلي ‪ ..‬تحسب أبعاده بالسنين المعروفة لنا‬
‫‪ ،‬فأما إذا عبرت عن المستقبل في داخل الماضي السحيق فتلكم هي المشكلة التي يستحيل حسابها ‪ ،‬ومن هذا القبيل تأتي ) إذا ( في قوله‬
‫حي {{ ظرفًا زمنيًا تعبيرًا عن إرادة أزلية تمضي في تحققها عبر مليين السنين ‪ ،‬تسوي ذلك‬ ‫ت ِفيِه ِمن ّرو ِ‬ ‫خ ُ‬‫سّوْيُتُه َوَنَف ْ‬‫تعالى ‪َ }} :‬فِإَذا َ‬
‫المخلوق ‪ ،‬وهو جنس ) البشر ( ‪ ،‬ثم تذوده بنفخة ال الروحية ليكون عندئذ ) النسان ( الذي تسجد له الملئكة ‪ ،‬النسان الذي يدخل‬
‫بوابة الزمان ‪ ،‬ويبدأ حضوره وحضارته ‪.‬‬

‫ومعنى ذلك أن خلق النسان تم عبر ثلث مراحل هائلة ‪ ،‬هي ) الخلق ‪ ،‬والتسوية ‪ ،‬والنفخ ( ‪ ،‬ومن السذاجة أن نفسر هذا النفخ بأنه بث‬
‫الروح في الجسد ‪ ،‬فقد حدث ذلك في مرحلة ) الخلق ( الولى ‪ ،‬التي أحالت التراب أو الطين إلى مخلوق ظاهر ) بشر ( يتحرك على‬
‫الرض بالروح الحيواني ‪ ،‬كما تتحرك سائر الكائنات من حشر ‪ ،‬وطير وحيوان ‪ ،‬ثم تناولت القدرة ذلك المخلوق في المرحلة الثانية‬
‫) بالتسوية ( أو ما يمكن تشبيهه بهندسة البناء وتجميله ‪ ،‬وهي مرحلة التعديل المادي أو الظاهري ‪ ،‬وقد استغرقت مليين السنين ‪ ،‬وال‬
‫أعلم بتفاصيلها ‪ ،‬ثم جاءت المرحلة الثالثة للهندسة الداخلية ‪ ،‬وهي المتمثلة في تذويد المخلوق السوي بالملكات والقدرات العليا ‪ ،‬التي‬
‫جوهرها ) العقل ( ‪ ،‬والحياة الجتماعية ثمرة العقل ‪ ،‬واللغة وسيلة التصال بين أفراد المجتمع من العقلء ‪ ،‬وبذلك اكتمل بناء ) النسان‬
‫( ‪ ،‬فكان ) آدم ( هو أول ) إنسان ( ‪ ،‬وطليعة سللة التكليف بتوحيد ال وعبادته ‪.‬‬

‫ل في قوله‬‫ومما يستدل به على هذه المراحل وتكاملها استعمال القرآن لداة التراخي ) ثم ( في ربط أجزاء الجملة في سورة السجدة ‪ ،‬مث ً‬
‫حِه ‪ - {{ 9 ...‬السجدة ‪.‬‬
‫خ ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫سّواُه َوَنَف َ‬
‫ن ‪ُ 8‬ثّم َ‬
‫لَلٍة ّمن ّماء ّمِهي ٍ‬
‫سَ‬‫سَلُه ِمن ُ‬
‫ل َن ْ‬
‫جَع َ‬
‫ن ‪ُ 7‬ثّم َ‬
‫طي ٍ‬
‫ن ِمن ِ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خْل َ‬
‫تعالى ‪َ }} :‬وَبَدَأ َ‬
‫‪،‬والداة ) ثم ( للترتيب مع التراخي ‪ ،‬وكأن استعمالها في هذا السياق ترجمة لمفهوم الزمان المتطاول عبر عنه الظرف ) إذا ( ‪ ،‬في‬
‫مقابل استخدام الفاء أو الواو في ربط أجزاء أخرى من اليات ‪ ،‬تعبيرًا عن التعقيب أو مطلق الجمع ) التعقيب تعبير عن تتابع الحداث ‪،‬‬
‫ل ‪ ،‬ومطلق الجمع هو وظيفة ) الواو ( فهي ل‬ ‫بعضها في إثر بعض دون فاصل طويل من الزمن ‪ ،‬وهو وظيفة ) الفاء ( العاطفة أص ً‬
‫تفيد ترتيبًا ول تعقيبًا ( ‪.‬‬

‫طَفًة ِفي‬
‫جَعْلَناُه ُن ْ‬
‫ن ‪ُ 12‬ثّم َ‬ ‫طي ٍ‬ ‫لَلٍة ّمن ِ‬ ‫سَ‬‫ن ِمن ُ‬ ‫سا َ‬‫لن َ‬ ‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫بل إن هذا التراخي يتجلى في سورة ) المؤمنون ( في قوله تعالى ‪َ }} :‬وَلَقْد َ‬
‫خَر‪- {{ 14 ...‬‬ ‫خْلًقا آ َ‬
‫شْأَناُه َ‬
‫حًما ُثّم َأن َ‬
‫ظاَم َل ْ‬
‫ظاًما َفَكسَْوَنا اْلِع َ‬ ‫عَ‬ ‫ضَغَة ِ‬
‫خَلْقَنا اْلُم ْ‬
‫ضَغًة َف َ‬
‫خَلْقَنا اْلَعَلَقَة ُم ْ‬
‫عَلَقًة َف َ‬
‫طَفَة َ‬
‫خَلْقَنا الّن ْ‬
‫ن ‪ُ 13‬ثّم َ‬
‫َقَراٍر ّمِكي ٍ‬
‫طَفةً ِفي َقَراٍر‬
‫جْعل ( }} ُن ْ‬ ‫المؤمنون‪ ، .‬ولنتأمل استعمال ) ثم ( في اليات ‪ ،‬بجانب استعمال ) الفاء ( ‪ ،‬فبين ) الخلق ( من الطين و ) ال َ‬
‫جْعل ( تعبير عن جانب من استكمال ) الخلق ( ‪ ،‬ثم‬ ‫ن {{ ‪ -‬مسافة زمنية ‪ ،‬ل يعلمها إل ال ‪ ،‬استغرقتها عمليات التسوية ‪ ،‬وهذا ) ال َ‬ ‫ّمِكي ٍ‬
‫تكون النطفة علقة ‪ ،‬ولعل تقدير ذلك تم في زمان متطاول أيضًا ‪.‬‬

‫وتذكر الية بعد ذلك عمليات تخليق الجنين ‪ ،‬وهي عمليات متتابعة ل يفصل بينها سوى أشهر أو أيام معدودات ‪ ..‬زمن قصير نسبيًا ‪..‬‬
‫بين العلقة والمضغة ‪ ،‬وبين المضغة والعظام ‪ ،‬وبين العظام واللحم ‪ ،‬وذلك كله معطوف بالفاء ‪ ،‬ويعود السياق بعد ذلك إلى استخدام ) ثم‬
‫ن {{ ‪ ،‬والمعنى‬ ‫خاِلِقي َ‬
‫ن اْل َ‬
‫سُ‬
‫حَ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ك ا ُّ‬
‫خَر َفَتَباَر َ‬ ‫خْلًقا آ َ‬
‫شْأَناُه َ‬ ‫( للتعبير عن طول الفترة الزمنية بين ما سبق وما سوف يأتي بعد ‪ُ }} :‬ثّم َأن َ‬
‫ل ‪ ،‬إلى جانب احتمال أن يكون المراد هو المولود الجديد‬ ‫التاريخي لنشاء هذا الخلق هو النقلة من البشر إلى النسان ‪ ،‬وهو خلق آخر فع ً‬
‫‪.‬‬
‫ن ‪ - {{ 16‬المؤمنون ‪ ، .‬لقد‬ ‫ن ‪ُ 15‬ثّم ِإّنُكْم َيْوَم اْلِقَياَمِة ُتْبَعُثو َ‬ ‫ك َلَمّيُتو َ‬
‫ويمضي السياق ملتزمًا نفس اليقاع البطيء ‪ُ }} :‬ثّم ِإّنُكْم َبْعَد َذِل َ‬
‫عبرت ) ثم ( في اليتين الخيرتين عن زمن طويل ‪ ،‬هو في الية الولى ) عمر النسان ( الذي يعيشه حتى الموت ‪ ،‬الذي يضع نهاية‬
‫للحياة المقدورة لذلك الكائن ‪ ،‬وهو في الية الثانية مدة ما بيننا وبين القيامة والبعث ‪.‬‬

‫جُدوْا لَدَم ‪ - {{ 11 ...‬العراف ‪ ، .‬وهي آية‬ ‫سُ‬


‫صّوْرَناُكْم ُثّم ُقْلَنا ِلْلَملِئَكِة ا ْ‬
‫خَلْقَناُكْم ُثّم َ‬
‫ولنقرأ أخيرًا آية العراف ‪ ،‬قوله تعالى ‪َ }} :‬وَلَقْد َ‬
‫تعبر عن مرحلتين ‪ ،‬هما ‪ ) :‬الخلق والتصوير ( ‪ ،‬وبينهما فيما نتصور آماد هائلة ‪ ،‬تعبر عنها الداة ) ثم ( ‪ ،‬ويعطف القرآن خطاب ال‬
‫سبحانه للملئكة باستخدام ) ثم ( ‪ ،‬وهو في رأينا تعبير عن أن المر بالسجود لم يكن بعد مرحلة التصوير مباشرة ‪ ،‬وهو مايعني مرحلة‬
‫جُدوْا‬
‫سُ‬‫التسوية ‪ ..‬بل جاءت قبله مرحلة ) النفخ من روح ال ( ‪ ،‬وقد أومأ اليها استخداُم ) ثم ( في صدر الجملة }} ُثّم ُقْلَنا ِلْلَملِئَكِة ا ْ‬
‫لَدَم {{ ‪ ،‬دون أن يصرح بها ‪ ،‬لنه ل سجود إل لمن زود بروح ال ‪.‬‬

‫وبرغم ذلك قد يعبر النص القرآني عما شأنه التراخي ‪ -‬بالفاء ‪ ،‬فهو يضمنها معنى ) ثم ( ‪ ،‬أو بتعبير أدق ‪ :‬يوظفها في موقع ) ثم ( ‪ ،‬كما‬
‫ك ‪- {{ 8‬‬‫شاء َرّكَب َ‬
‫صوَرٍة ّما َ‬
‫ي ُ‬
‫ك ‪ِ 7‬في َأ ّ‬‫ك َفَعَدَل َ‬
‫سّوا َ‬
‫ك َف َ‬
‫خَلَق َ‬
‫ك اْلَكِريِم ‪ 6‬اّلِذي َ‬
‫ك ِبَرّب َ‬
‫غّر َ‬
‫ن َما َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫جاء في قوله تعالى ‪َ }} :‬يا َأّيَها ا ِْ‬
‫ل ‪ ،‬فهو‬
‫النفطار ‪ ، .‬وقد يسوغ هذا التضمين أن المخاطب ‪ -‬وهو النسان ‪ -‬ل يرى في ذاته سوى مخلوق مكتمل ‪ ،‬خلقًا وتسوية ‪ ،‬وعد ً‬
‫يرى إندماج هذه المراحل في ذاته ‪ ،‬ولذلك لق أن يضمن ) الفاء ( معنى ) ثم ( المتراخية ‪.‬‬

‫{ ‪..‬‬ ‫خَلقَكَ‬
‫وقد تفسر هذه المراحل في سورة النفطار على أنها خاصة بأحوال الجنين في بطن أمه ‪ ،‬كما يقول المام القرطبي ‪َ } :‬‬
‫واك { ‪ :‬في بطن أمك ‪ ،‬وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك ‪ } ،‬فعـدلك { ‪ ..‬أي ‪:‬‬ ‫أي ‪ :‬قدر َخْلَقَك من نطفة ‪ } ،‬فس ّ‬
‫ك { ‪ ..‬م َ‬
‫خَفـَفـًا ‪ ،‬أي ‪ :‬أمالك وصرفك إلى أي صورة‬ ‫جعلك معتدًل سوي الخلق ‪ ..‬وقرأ الكوفيون ‪ :‬عاصم وحمزة والكسائي ‪َ } :‬فَعـَدلَ َ‬
‫ل وإما قصيرًا ( ‪.‬‬
‫شاء ‪ ،‬إما حسنًا وإما قبيحًا ‪ ،‬وإما طوي ً‬
‫ولسنا مع هذا التــوجيه ‪ ،‬مع أنه يحل مشكلة التراخي مع الفاء ‪ ،‬لن السلوب القرآني درج على استخدام كلمات الخلق والتسوية والنفخ‬
‫‪ -‬خاصة بأحوال البشر منذ وجدوا ‪ ،‬إلى أن صار البشر سويًا ‪ ..‬أي ‪ :‬إنسانًا اصطفاه ال ‪ ،‬وناط به تحقيق رسالة العبودية ل رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫ترى ‪ ،‬كم من الجيال البشرية لزم لعمليتي التسوية ‪ ،‬والنفخ ‪ ،‬حتى كان آدم ذلك النسان الكامل الناطق ؟!‬

‫ل نبالغ إذا قلنا ‪ :‬إن ذلك اقتضى مئات اللوف من الجيال ‪ ،‬وقد سجل كل جيل بصمته المتميزة ‪ ،‬على طريق الكتمال ‪ ،‬ول سيما في‬
‫مجال العقل ‪ ،‬واللسان ‪ ،‬والجمال ‪.‬‬

‫}} الفصل التاسع والخير من الباب الول {{‬

‫برهان التكرار‬

‫النسان مرة أخرى‬

‫وضح لنا مما سبق أن ) النسان ( هو المقصود من التكليف الديني ‪ ،‬وأن ) البشر ( وهم طلئع الخليقة ‪ ،‬ل مكان لهم في عالمنا ‪ ،‬لنهم‬
‫بادوا ‪ ،‬ودرست آثارهم ‪ ،‬فلم تبق منهم سوى أحاديث وأحافير تدل على أنهم كانوا موجودين ‪ ،‬منذ عصور جيواوجية متقادمة ‪ ،‬فلما‬
‫قضت إرادة ال بإجاد هذا الخلق النساني ‪ -‬قدر خلق آدم ‪ ،‬وهو مستوى خاص جدًا من ) البشر ( ‪ ،‬مزود بأدوات كاملة من العقل واللغة‬
‫والعاطفة ‪ ،‬وملكات الدراك والضمير ‪ ،‬والرادة ‪ ،‬والستعدادات الفطرية والغريزية ‪ ،‬للتفرقة بين الخير والشر ‪ ،‬وكل ذلك ثمرة من‬
‫ثمرات النفخة اللهية التي أتم ال بها خلقة ‪ ،‬وهيأه ليعيش في ضوء المعايير الدينية التي أرسل بها النبياء ‪ ،‬منذ آدم إلى محمد عليهم‬
‫جميعًا أفضل الصلة والسلم ‪ ،‬وذلك قوله تعالى ‪ }} :‬ص {{ ‪ -‬آل عمران ‪.‬‬

‫ومقتضى ذلك أن النوع البشري قد انقرض ليحل محله رتبة أرقى هي رتبة ) النسان ( باعتباره الطور المحسن من أطوار البشر ‪،‬‬
‫والجيل المختار للمسيرة الجديدة على طريق التوحيد ومعرفة ال ‪ ،‬ثم أطلق على أفراد هذه الرتبة ‪ :‬بنو آدم ‪.‬‬

‫ل قاطعًا على صحة هذا المذهب ‪ ،‬حين نجده محتفيًا بالنسان متابعًا لوصف كل أحواله ‪ ،‬في ثلثة وثلثين‬
‫ولقد نجد في القرآن دلي ً‬
‫موضعًا ‪ ،‬على حين أنه لم يذكر ) البشر ( بوصف واحد ‪ ،‬وهو سلوك واضح الدللة على صدق التفرقة بين المستويين ‪.‬‬
‫وللنظر الن إلى نصوص القرآن الواردة بشأن النسان ‪ ،‬بحسب ورودها في ترتيب المصحف ‪:‬‬

‫ضِعيًفا ‪ - {{ 28‬النساء ‪.‬‬


‫ن َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫قا ِ‬
‫خِل َ‬
‫عنُكْم َو ُ‬
‫ف َ‬
‫خّف َ‬
‫ل َأن ُي َ‬
‫‪ُ }} - 1‬يِريُد ا ّ‬

‫سِرِفي َ‬
‫ن‬ ‫ن ِلْلُم ْ‬
‫ك ُزّي َ‬
‫سُه َكَذِل َ‬
‫ضّر ّم ّ‬
‫عَنا ِإَلى ُ‬
‫ضّرُه َمّر َكَأن ّلْم َيْد ُ‬
‫عْنُه ُ‬
‫شْفَنا َ‬
‫عًدا َأْو َقآِئًما َفَلّما َك َ‬
‫جنِبِه َأْو َقا ِ‬
‫عاَنا ِل َ‬
‫ضّر َد َ‬
‫ن ال ّ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ساِ‬
‫‪َ }} - 2‬وِإَذا َم ّ‬
‫ن ‪ - {{ 12‬يونس ‪.‬‬ ‫َما َكاُنوْا َيْعَمُلو َ‬

‫س َكُفوٌر ‪ - {{ 9‬هود ‪.‬‬


‫عَناَها ِمْنُه ِإّنُه َلَيُئو ٌ‬
‫حَمًة ُثّم َنَز ْ‬
‫ن ِمّنا َر ْ‬
‫سا َ‬
‫لْن َ‬
‫ن َأَذْقَنا ا ِ‬
‫‪َ }} - 3‬وَلِئ ْ‬

‫ن ‪ - {{ 5‬يوسف ‪.‬‬
‫عُدّو ّمِبي ٌ‬
‫ن َ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫ن ِل ِ‬
‫طا َ‬
‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫‪ِ }} - 4‬إ ّ‬

‫ظُلوٌم َكّفاٌر ‪ - {{ 34‬إبراهيم ‪.‬‬


‫ن َل َ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫نا ِ‬
‫‪ِ }} - 5‬إ ّ‬

‫ن ‪ - {{ 4‬النحل‬
‫صيٌم ّمِبي ٌ‬
‫خ ِ‬
‫طَفٍة َفِإَذا ُهَو َ‬
‫ن ِمن ّن ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫قا ِ‬
‫خَل َ‬
‫‪َ }} - 6‬‬

‫ل ‪ - {{ 11‬السراء ‪.‬‬
‫جو ً‬
‫عُ‬
‫ن َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫نا ِ‬
‫‪َ }} - 7‬وَكا َ‬

‫ن َكُفوًرا ‪ - {{ 67‬السراء ‪.‬‬


‫سا ُ‬
‫لْن َ‬
‫نا ِ‬
‫‪َ }} - 8‬وَكا َ‬

‫سا ‪ - {{ 83‬السراء ‪.‬‬


‫ن َيُؤو ً‬
‫شّر َكا َ‬
‫سُه ال ّ‬
‫جاِنِبِه َوِإَذا َم ّ‬
‫ض َوَنَأى ِب َ‬
‫عَر َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫عَلى ا ِ‬
‫‪َ }} - 9‬وِإَذآ َأْنَعْمَنا َ‬

‫ن َقُتوًرا ‪ - {{ 100‬السراء ‪.‬‬


‫سا ُ‬
‫ن الن َ‬
‫‪َ }} -10‬وَكا َ‬

‫ل ‪ - {{ 54‬الكهف ‪.‬‬
‫جَد ً‬
‫يٍء َ‬
‫ش ْ‬
‫ن َأْكَثَر َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ن ا ِْ‬
‫‪َ }} -11‬وَكا َ‬
‫ل ‪ - {{ 37 ...‬النبياء ‪.‬‬
‫جٍ‬‫عَ‬
‫ن َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خِل َ‬
‫‪ُ }} -12‬‬

‫ن َلَكُفوٌر ‪ - {{ 66‬الحج ‪.‬‬


‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ن ا ِْ‬
‫‪ِ }} -13‬إ ّ‬

‫ل ‪ - {{ 29‬الفرقان ‪.‬‬
‫خُذو ً‬
‫ن َ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫ن ِل ِْ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫‪َ }} -14‬وَكا َ‬

‫ل ‪ - {{ 72‬الحزاب ‪.‬‬
‫جُهو ً‬
‫ظُلوًما َ‬
‫ن َ‬
‫ن ِإّنُه َكا َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫حَمَلَها ا ِْ‬
‫‪َ }} -15‬و َ‬

‫ن ‪ - {{ 77‬يس ‪.‬‬
‫صيٌم ّمِبي ٌ‬
‫خ ِ‬
‫طَفٍة َفِإَذا ُهَو َ‬
‫خَلْقَناُه ِمن ّن ْ‬
‫ن َأّنا َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫‪َ }} -16‬أَوَلْم َيَر ا ِْ‬

‫عن‬
‫ضلّ َ‬
‫ل َأنَداًدا ّلُي ِ‬
‫ل ِّ‬
‫جَع َ‬
‫ل َو َ‬
‫عو ِإَلْيِه ِمن َقْب ُ‬
‫ن َيْد ُ‬
‫ي َما َكا َ‬
‫سَ‬‫خّوَلُه ِنْعَمًة ّمْنُه َن ِ‬
‫عا َرّبُه ُمِنيًبا ِإَلْيِه ُثّم ِإَذا َ‬
‫ضّر َد َ‬
‫ن ُ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫س ا ِْ‬
‫‪َ }} -17‬وِإَذا َم ّ‬
‫سِبيِلِه ‪ - {{ 8 ..‬الزمر ‪.‬‬ ‫َ‬

‫ي ِفْتَنٌة ‪ - {{ 49 ..‬الزمر ‪.‬‬


‫ل ِه َ‬
‫عَلى عِْلٍم َب ْ‬
‫ل ِإّنَما ُأوِتيُتُه َ‬
‫خّوْلَناُه ِنْعَمًة ّمّنا َقا َ‬
‫عاَنا ُثّم ِإَذا َ‬
‫ضّر َد َ‬
‫ن ُ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫س ا ِْ‬
‫‪َ }} -18‬فِإَذا َم ّ‬

‫ط ‪ - {{ 49‬فصلت ‪.‬‬
‫س َقُنو ٌ‬
‫شّر َفَيُؤو ٌ‬
‫سُه ال ّ‬
‫خْيِر َوِإن ّم ّ‬
‫عاء اْل َ‬
‫ن ِمن ُد َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫سَأُم ا ِْ‬
‫ل َي ْ‬
‫‪َ }} -19‬‬

‫ض ‪ - {{ 51‬فصلت ‪.‬‬
‫عِري ٍ‬
‫عاء َ‬
‫شّر َفُذو ُد َ‬
‫سُه ال ّ‬
‫جاِنِبِه َوِإَذا َم ّ‬
‫ض َوَنأى ِب َ‬
‫عَر َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫عَلى ا ِْ‬
‫‪َ }} -20‬وِإَذا َأْنَعْمَنا َ‬

‫ن َكُفوٌر ‪ - {{ 48‬الشورى ‪.‬‬


‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ن ا ِْ‬
‫ت َأْيِديِهْم َفِإ ّ‬
‫سّيَئٌة ِبَما َقّدَم ْ‬
‫صْبُهْم َ‬
‫‪َ }} -21‬وِإن ُت ِ‬

‫ن ‪ - {{ 15‬الزخرف ‪.‬‬
‫ن َلَكُفوٌر ّمِبي ٌ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ن ا ِْ‬
‫جْزًءا ِإ ّ‬
‫عَباِدِه ُ‬
‫ن ِ‬
‫جَعُلوا َلُه ِم ْ‬
‫‪َ }} -22‬و َ‬

‫عا ‪ - {{ 21‬المعارج ‪.‬‬


‫خْيُر َمُنو ً‬
‫سُه اْل َ‬
‫عا ‪َ 20‬وِإَذا َم ّ‬
‫جُزو ً‬
‫شّر َ‬
‫سُه ال ّ‬
‫عا ‪ِ 19‬إَذا َم ّ‬
‫ق َهُلو ً‬
‫خِل َ‬
‫ن ُ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ن ا ِْ‬
‫‪ِ }} -23‬إ ّ‬

‫صيَرٌة ‪ - {{ 14‬القيامة ‪.‬‬


‫سِه َب ِ‬
‫عَلى َنْف ِ‬
‫ن َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ل ا ِْ‬
‫‪َ }} -24‬ب ِ‬

‫سًدى ‪ - {{ 36‬القيامة ‪.‬‬


‫ك ُ‬
‫ن َأن ُيْتَر َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ب ا ِْ‬
‫س ُ‬
‫حَ‬‫‪َ }} -25‬أَي ْ‬

‫ن َما َأْكَفَرُه ‪ - {{ 17‬عبس ‪.‬‬


‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ل ا ِْ‬
‫‪ُ }} -26‬قِت َ‬

‫ك اْلَكِريِم ‪ - {{ 6‬النفطار ‪.‬‬


‫ك ِبَرّب َ‬
‫غّر َ‬
‫ن َما َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫‪َ }} -27‬يا َأّيَها ا ِْ‬

‫لِقيِه ‪ - {{ 6‬النشقاق ‪.‬‬


‫حا َفُم َ‬
‫ك َكْد ً‬
‫ح ِإَلى َرّب َ‬
‫ك َكاِد ٌ‬
‫ن ِإّن َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫‪َ }} -28‬يا َأّيَها ا ِْ‬

‫ن ِفي َكَبٍد ‪ - {{ 4‬البلد ‪.‬‬


‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫‪َ }} -29‬لَقْد َ‬

‫ت ‪ - {{ 6 ..‬التين ‪.‬‬
‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ن ‪ِ 5‬إ ّ‬
‫ساِفِلي َ‬
‫ل َ‬
‫سَف َ‬
‫ن َتْقِويٍم ‪ُ 4‬ثّم َرَدْدَناُه َأ ْ‬
‫سِ‬‫حَ‬
‫ن ِفي َأ ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫‪َ }} -30‬لَقْد َ‬

‫سَتْغَنى ‪ - {{ 7‬العلق ‪.‬‬


‫طَغى ‪َ 6‬أن ّرآُه ا ْ‬
‫ن َلَي ْ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ن ا ِْ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫‪َ }} -31‬ك ّ‬

‫شِديٌد ‪ - {{ 8‬العاديات ‪.‬‬


‫خْيِر َل َ‬
‫ب اْل َ‬
‫ح ّ‬
‫شِهيٌد ‪َ 7‬وِإّنُه ِل ُ‬
‫ك َل َ‬
‫عَلى َذِل َ‬
‫ن ِلَرّبِه َلَكُنوٌد ‪َ 6‬وِإّنُه َ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ن ا ِْ‬
‫‪ِ }} -32‬إ ّ‬

‫صْبِر ‪ - {{ 3‬العصر ‪.‬‬


‫صْوا ِبال ّ‬
‫ق َوَتَوا َ‬
‫حّ‬
‫صْوا ِباْل َ‬
‫ت َوَتَوا َ‬
‫حا ِ‬
‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬
‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫سٍر ‪ِ 2‬إ ّ‬
‫خْ‬‫ن َلِفي ُ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫ن ا ِْ‬
‫صِر ‪ِ 1‬إ ّ‬
‫‪َ }} -33‬واْلَع ْ‬

‫هذه هي المواضع التي ذكر فيها ) النسان ( في القرآن الكريم بصفات مختلفة ‪ ،‬بين الخير والشر ‪ ،‬والقوة والضعف ‪ ،‬واليمان والكفر ‪،‬‬
‫والحكمة والحمق ‪ ،‬والعلم والجهل ‪ ،‬والطهر والدنس ‪ ،‬والعرفان والجحود ‪ ،‬وأخيرًا فهو مستهدف دائمًا لعداوة الشيطان ‪ ..‬هذا كله عن‬
‫النسان ‪.‬‬

‫على حين أن القرآن كله لم يذكر البشر بشيء من هذا أو غيره ‪ ،‬مع أن كلمة ) البشر ( وردت في القرآن مفردة ثلثين مرة ‪ ،‬ثم ذكرت‬
‫مثناة مرة واحدة ‪ ،‬أما ) النسان ( فقد ورد لفظه في القرآن الكريم اثنتين وستين مرة ‪ ،‬بالضافة إلى ورود لفظة ) النس ( سبع عشرة‬
‫مرة ‪ ،‬وجاءت لفظة ) أناس ( سبع مرات ‪ ،‬ولفظة ) الناس ( مائتين وأربعًا وثلثين مرة ‪ ،‬ولفظة ) أناسي ( مرة واحدة ‪ ،‬فمجموع ورود‬
‫لفظ النسان وأمثاله ثلثمائة وإحدى وعشرين مرة ‪.‬‬
‫سبق القول أن مجموع ورود لفظ النسان وأمثاله ‪ -‬ثلثمائة وإحدى وعشرين مرة ‪...‬‬
‫فإذا علمنا أن ) الناس ( قد خوطبوا في القرآن الكريم بلقب ) بني آدم ( ‪ ،‬وأن ذلك قد جاء سبع مرات في القرآن ‪ ،‬إذا علمنا ذلك كله ‪،‬‬
‫تأكد لدينا أن ) النسان ( هو المرحلة الخيرة والحاسمة في تاريخ الحياة على الرض ‪ ،‬وأن وجود ) البشر ( إنما كان بمثابة المراحل‬
‫التحضيرية لذلكم المخلوق الذي قضى على الرض مليين السنين بين عوامل التسوية ‪ ،‬وتحصيل خواص الجمال ‪ ،‬والكمال ‪ ،‬بروح‬
‫من ال الذي الذي قدر له أن يكون سيد الكون ‪ ،‬حتى صار جديرًا بأن يحمل أمانة ال على هذه الرض ‪ ،‬وينفرد بذلك من دون السموات‬
‫شَفْق َ‬
‫ن‬ ‫حِمْلَنَها َوَأ ْ‬
‫ن َأن َي ْ‬
‫ل َفَأَبْي َ‬
‫جَبا ِ‬
‫ض َواْل ِ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫عَلى ال ّ‬
‫لَماَنَة َ‬
‫ضَنا ا َْ‬
‫عَر ْ‬
‫والرض والجبال جميعًا ‪ ،‬فكان قوله تعالى بشأنه ‪ِ }} :‬إّنا َ‬
‫ل ‪ - {{ 72‬الحزاب ‪.‬‬
‫جُهو ً‬
‫ظُلوًما َ‬
‫ن َ‬
‫ن ِإّنُه َكا َ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫حَمَلَها ا ِْ‬
‫ِمْنَها َو َ‬

‫لقد خفيت هذه التفرقة على أجيال العلماء من قبل ‪ ،‬سواء ذلك القدماء والمحدثون ‪ ،‬بعد أن طغى طوفان السرائيليات ‪ ،‬وأصبحت‬
‫المصدر الوحيد للحديث عن العالم القديم ‪ ،‬والخلق ‪ ،‬حتى تصور العلمانيون وأحلسهم وأشباههم أن الدين مناقض للعلم في هذه القضية‬
‫الخطيرة ‪ ،‬وأن الدين ل يملك سوى بعض القصص السطوري ‪ ،‬وبعض التصورات الخرافية ‪ ،‬وأن الدين بذلك يقف أمام حائط‬
‫مسدود ‪ ،‬يجب تجاوزه للحاق بركب العلم والتقدم ‪.‬‬

‫وها نحن أولء نجد الدين في نصوصه الحقه ) القرآن ( يسبق العلم سبقًا بعيدًا ‪ ،‬ويحدد هوية الحياة على الرض تحديدًا ل يتصادم مع‬
‫العقل والرؤية العلمية اللحقة ‪ ..‬بل إنه يتوافق مع الحقائق العلمية ‪ ،‬ويدعو إلى العتماد عليها في فهم قضية ) بدء الخليقة ( ‪ ،‬كما سبق‬
‫خَرَة ‪- {{ 20 ...‬‬
‫لِ‬‫شَأَة ا ْ‬
‫ئ الّن ْ‬
‫شُ‬‫ل ُين ِ‬
‫ق ُثّم ا ُّ‬
‫خْل َ‬
‫ف َبَدَأ اْل َ‬
‫ظُروا َكْي َ‬
‫ض َفان ُ‬
‫لْر ِ‬
‫سيُروا ِفي ا َْ‬
‫ل ِ‬
‫أن قرأنا ذلك في آية سورة العنكبوت ‪ُ }} :‬ق ْ‬
‫العنكبوت ‪ ، .‬وبذلك يكون العلم بيانًا لنصوص القرآن ‪ ،‬فيما توصل إليه من حقائق ‪ ،‬كما أنه في طريقه إلى موافقة القرآن في كل ما قرر‬
‫من نظريات تحتاج إلى مزيد من البحث والتحقيق ‪.‬‬

‫آدم أبـو النسان‬

‫هل آن الوان لنجيب عن السؤال الذي طرحناه من قبل ‪ ،‬وهو ‪ :‬هل كان وجود هذه الخليقة البشرية شيئًا واحدًا في الرض ‪ ..‬أرادته‬
‫القدرة اللهية ‪ ،‬وتابعته في مراحله المتطاولة ‪ ،‬وسارت به حتى انتهى إلى آدم عليه السلم ؟ ‪ ..‬أم كان وجود الخليقة في صورة‬
‫مجموعة من الشكال المتنوعة أو المتقاطرة على الساحة الرضية عبر الوجود الزمني الهائل ‪ ،‬وكان آدم أحد هذه الشياء ؟‬

‫إننا نبادر إلى نفي الشق الثاني من السؤال نفيًا قاطعًا لسباب تفرض نفسها ‪ :‬أن البشرية تعني في المفهوم الديني القرآني جنسًا واحدًا ‪،‬‬
‫ل عدة أجناس مقتبس بعضها من بعض على ما قررته النظرية الداروينية ‪ ..‬التي أسقطها العلماء في الشرق والغرب على السواء ‪.‬‬

‫وقد تميزت هذه الخليقة بصفات ثابتة في كل المراحل ‪ ..‬مشتركة بين أفرادها وأجيالها ‪ ..‬مختلفة عما عرفت به أجناس الخلئق الخرى‬
‫طِنِه َوِمْنُهم ّمن‬
‫عَلى َب ْ‬
‫شي َ‬
‫ل َداّبٍة ِمن ّماء َفِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬
‫ق ُك ّ‬
‫خَل َ‬
‫ل َ‬
‫من خصائص وميزات وصفات ‪ ،‬وهو ما يعنيه قول ال تعالى ‪َ }} :‬وا ُّ‬
‫عَلى َأْرَبٍع {{ ‪ -‬النور ‪ ، .‬والعلم يؤكد صدق هذه الية بتقريره أن البشر منذ وجدوا كانوا يسيرون‬ ‫شي َ‬ ‫ن َوِمْنُهم ّمن َيْم ِ‬ ‫جَلْي ِ‬
‫عَلى ِر ْ‬ ‫شي َ‬ ‫َيْم ِ‬
‫منتصبي القامة ‪ ،‬بعكس الجناس الخرى ‪ ،‬والختلف في هذه الخاصية يعني تعدد أجناس الخلق ‪ ،‬وهو الحقيقة المقررة حتى الن فيما‬
‫ل‪.‬‬
‫جّ‬‫ق منها وما َ‬ ‫نشاهد من أصناف الخلق ‪ ،‬ما َد ّ‬
‫طين {{ ‪ ،‬وأن هذا البشر سوف يتعرض للتسوية والتعديل في‬ ‫ن ِ‬‫شرًا ِم ّ‬
‫ق َب َ‬
‫خـاِل ٌ‬
‫ل أنه }} َ‬
‫ثم إن ال سبحانه وتعالى أخبر الملئكة أز ً‬
‫أطوار نضجه ‪ ،‬حتى يكتمل ‪ ،‬وحينئذ يتعين على الملئكة أن تسجد له ‪ ،‬فلو تعددت النواع الخلقية لما تقررت حكمة الخالق في أمره‬
‫بالسجود لهذا المخلوق بالذات ‪ ،‬دون غيره من أجناس الخلق الخرى ‪ ،‬فهو متعين منذ كان طينًا ‪ ،‬لم يخف أمره على ملئكة الرحمن ‪،‬‬
‫ل ‪ ،‬هو آدم عليه السلم‬ ‫وهي تتابع ما يطرأ عليه من تغير وتنام عبر الدهور ‪ ،‬حتى أصبح بشرًا سويًا ‪ ..‬أي ‪ :‬إنسانا متكام ً‬
‫س ‪ - {{ 74 ...‬ص ‪.‬‬ ‫ل ِإْبِلي َ‬
‫ن ‪ِ 73‬إ ّ‬
‫جَمُعو َ‬ ‫لِئَكُة ُكّلُهْم َأ ْ‬
‫جَد اْلَم َ‬
‫سَ‬‫}} َف َ‬

‫ن‪8‬‬ ‫لَلٍة ّمن ّماء ّمِهي ٍ‬


‫سَ‬‫سَلُه ِمن ُ‬
‫ل َن ْ‬
‫جَع َ‬
‫إن منطوق القرآن ومفهومه يؤكدان وحدة الخلق البشري الذي بدأ بأول بشر خلق من طين ‪ُ }} :‬ثّم َ‬
‫لْفِئَدَة ‪ - {{ 9 ...‬السجدة ‪ ، .‬ول مانع في نظرنا من أن نتصور البشر الول‬ ‫صاَر َوا َْ‬
‫لْب َ‬
‫سْمَع َوا َْ‬
‫ل َلُكُم ال ّ‬
‫جَع َ‬
‫حِه َو َ‬
‫خ ِفيِه ِمن ّرو ِ‬‫سّواُه َوَنَف َ‬
‫ُثّم َ‬
‫ل َلُكُم‬
‫جَع َ‬
‫بل وظيفة سمع ول بصر ‪ ،‬ول فؤاد ‪ ،‬ثم كان ذلك في مراحل مختلفة على طريق استكمال مقومات هذا الخلق البشري ‪َ }} :‬و َ‬
‫لْفِئَدَة {{ ‪ ) ،‬يجب أن نلحظ الفرق بين الخلق وهو اليجاد من عدم ‪ ،‬والجعل وهو تمكين الحاسة من أداء وظيفتها (‬ ‫صاَر َوا َْ‬
‫لْب َ‬‫سْمَع َوا َْ‬
‫ال ّ‬
‫‪ ، .‬وقد سبقت الشارة إلى مغزى هذه المرحلة ‪ ،‬واللغة من أخطر مقومات هذا الخلق ‪ ،‬ويبدو أنها بلغت درجة من الكمال في المرحلة‬
‫الدمية الحاسمة ‪ ،‬حتى تفوق آدم على الملئكة في أول إختبار ‪.‬‬

‫لقد كانت ملحمة هائلة !! تلك التي استغرقها خلق البشر وتسويته وتزويده بالملكات العليا التي أصبح بها ) إنسانًا ( تتألق فيه كمالت‬
‫طَفى آَدَم ‪ - {{ 33 ...‬آل عمران ‪ ، .‬فصار آدم نبيًا ‪ ،‬كما قال سبحانه ‪ُ }} :‬ثّم‬
‫صَ‬
‫لا ْ‬
‫نا ّ‬
‫النبوة ‪ ،‬فاختاره ال واصطفاه كما قال ‪ِ }} :‬إ ّ‬
‫عَلْيِه َوَهَدى ‪ - {{ 122‬طه ‪.‬‬
‫ب َ‬
‫جَتَباُه َرّبُه َفَتا َ‬
‫اْ‬

‫لقد استغرقت هذه الملحمة ‪ -‬كما سبق أن قلنا مليين السنين ‪ ،‬ولكنها مرت ظلمًا في ظلم ‪ ،‬أو ‪:‬‬
‫غيبًا في غيب ‪ ،‬حتى أذن ال للصبح أن ينبلج ‪ -‬فأشرق النسان من سللة البشر ‪ ،‬واكتمل الخلق ‪،‬‬
‫وجاء آدم !!‬

‫وليس غريبًا أن نتصور ‪ -‬بناء على هذا ‪ -‬أن آدم جاء مولودًا لبوين ) ذكر الشيخ رشيد رضا أن‬
‫وثنيي الهند يزعمون أن لدم أمًا ‪ ،‬ولها في مدينتهم المقدسة ‪ -‬بنارس ‪ -‬قبر عليه قبة بجانب قبة قبره‬
‫‪ -‬المنار ‪ ، . ( 308 / 8‬وأن حواء جاءت كذلك ‪ ،‬على الرغم مما سوف يلقى هذا التصور من‬
‫معارضة تلقائية ‪ ،‬ورفض عنيف !! وبل تفكير !!‬
‫إن هذا التصور ل يتصادم في رأينا مع حقيقة خلق النسان من طين ‪ ،‬ذلك أن الخلق الذي بدأ منذ مليين السنين بالجسد الطيني ‪ -‬كان‬
‫هدفه النهائي والوحيد خلق ) آدم ( ‪ ،‬وكل ما مضى من أحداث بين التاريخين ‪ -‬إن كان ثمة تاريخ ‪ -‬إنما هو وقائع بناء جسد آدم ‪،‬‬
‫سَنٌة استمرت‬
‫وعقله ‪ ،‬وروحه ‪ ،‬وملكاته ‪ ،‬وخصائصه ‪ ،‬وقد تم ذلك كله في غيبوبة الزمان ‪ ،‬حيث استوى الصفر والمليون ‪ ،‬فما هي إل ِ‬
‫بضعة مليين من السنين حتى استوى النسان ‪ ) ..‬آدم ( الذي نبت من التراب ‪ ،‬وانبثق من الرض ‪ ،‬لقد تبددت الحداث والوقائع ‪ ،‬ولم‬
‫يبق منها سوى الحقيقة الترابية ‪.‬‬

‫ل ‪ -‬عن الخرة حين قال تعالى ‪َ }} :‬كَأّنُهْم َيْوَم َيَرْوَنَها َلْم َيْلَبُثوا ِإلّ‬ ‫وهو تصور ليس غريبًا ‪ ،‬ول بعيدًا عن الواقع الذي قرره القرآن ‪ -‬مث ً‬
‫جّبه كل الحداث مهما تعاظمت ‪ ،‬واستغرقت‬ ‫حاَها ‪ - {{ 46‬النازعات ‪ .. .‬أي ‪ :‬إن الزمان يكون قد انطوى ‪ ،‬وسقطت في ُ‬ ‫ضَ‬ ‫شّيًة َأْو ُ‬ ‫عِ‬ ‫َ‬
‫ل ّلْو‬
‫ل َقِلي ً‬‫ل ِإن ّلِبْثُتْم ِإ ّ‬
‫ن ‪َ 113‬قا َ‬ ‫ل اْلَعاّدي َ‬
‫سَأ ْ‬
‫ض َيْوٍم َفا ْ‬
‫مئات السنين ‪ ،‬وهو كذلك ما قرره القرآن في قوله تعالى ‪َ }} :‬قاُلوا َلِبْثَنا َيْوًما َأْو َبْع َ‬
‫ن ‪ - {{ 114‬المؤمنون ‪.‬‬‫َأّنُكْم ُكنُتْم َتْعَلُمو َ‬

‫ت‪-‬‬
‫وبهذا تكون الحقيقة الترابية أثبت الحقائق وأبرزها في وجود كل مخلوق يدخل في مضمون الضمائر ) أنا ‪ -‬ونحن ‪ -‬وأنت ‪ -‬وأن ِ‬
‫حَمٍإ‬
‫ن َ‬
‫ل ّم ْ‬
‫صا ٍ‬
‫صْل َ‬
‫وأنتما ‪ -‬وأنتم ‪ -‬وأنتن ‪ -‬وهو ‪ -‬وهي ‪ -‬وهما ‪ -‬وهم ‪ -‬وهن ( ‪ ،‬وخبرها جميعًا ) من تراب ( ‪َ }} :‬‬
‫ن {{‬
‫سُنو ٍ‬
‫ّم ْ‬

‫== البـــــاب الثاني ==‬


‫وقائـــع القصــة‬

‫}} الفصــــل الول {{‬

‫البشـــر واللغـــــــة‬
‫‪------‬‬

‫كانت اللغة هي معجزة الخلقالتي أثمرها تزويد المخلوق البشري بالملكات العليا ‪ ،‬وفي قمتها ‪ :‬العقل ‪ ..‬وإذا كان البشر قد عاشوا مليين‬
‫خْلَقي أن يدرك الفراد معنى العلقات المتبادلة فيما‬
‫السنين حتى تتم عملية التسوية ‪ ،‬والنفخ اللهي ‪ -‬فإن من أخطر مظاهر الكمال ال ِ‬
‫بينهم ‪ ،‬وهي علقات ل يمكن أن تتحقق إل من خلل اللغة ‪ ،‬ونحن نستخدم ) اللغة ( هنا بالمفهوم العام الذي يشمل الجاذبية الجنسية ‪،‬‬
‫وهي أقدم لغة وصلت مابين طرفي النوع البشري من أول لحظة ‪ ،‬كما يشمل التدافع والحتكاك المادي ‪ ،‬والشارة والصوت المبهم ‪..‬‬
‫إلخ ‪ ،‬وعلى طريق النضج البشري بدأت الجوارح تصل ما بين الفرد والفرد ‪ ،‬وما بين الذكر والنثى ‪ ،‬ونحسب أن صوت الجنس كان‬
‫أقدم الصوات التي صدرت عن البشر أو صرخوا بها ‪.‬‬

‫وكما بدأت وظائف الجوارح تتحدد في سلوكيات مادية ‪ ،‬قابلة للترقي والتطوع والتنويع ‪ ،‬وما أشبه البشر آنذاك ‪ -‬والزمان طفل لم‬
‫طونِ‬‫جُكم ّمن ُب ُ‬
‫خَر َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫يتجاوز بضعة مليين من السنين ‪ -‬بأطفالنا الن في أيامهم الولى ‪ ،‬وهو ما عبرت عنه الية الكريمة ‪َ }} :‬وا ّ‬
‫ن ‪ - {{ 78‬النحل ‪.‬‬
‫شُكُرو َ‬
‫لْفِئَدَة َلَعّلُكْم َت ْ‬
‫صاَر َوا َ‬
‫لْب َ‬
‫سْمَع َوا َ‬
‫ل َلُكُم اْل ّ‬
‫جَع َ‬
‫شْيًئا َو َ‬
‫ن َ‬
‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫ُأّمَهاِتُكْم َ‬

‫ومن المسلم به علميًا أن وجود البشر كان مسبوقًا بوجود الكائنات الخرى من الطير والحيوان في البر والبحر ‪ ،‬وكانت هذه تشكل عالمًا‬
‫من الكائنات بأشكالها وأنواعها ‪ ،‬كما كان لها تأثير مباشر على الوجود البشري ‪ ،‬فمنها كان قوت البشر ووسائل عملهم ‪ ..‬بل تولى بعض‬
‫الطيور مهمة تعليم هذا المخلوق ما هو بحاجة إليه من سلوكيات ‪ ،‬ودور الغراب في قصة أبني آدم ذو دللة ظاهرة في هذا المجال ‪:‬‬
‫خيِه ‪ - {{ 31 ...‬المائدة ‪ ، .‬أي ‪ :‬إن النسان في مطلع فجره لم يكن‬
‫سْوءَة َأ ِ‬
‫ف ُيَواِري َ‬
‫ض ِلُيِرَيُه َكْي َ‬
‫لْر ِ‬
‫ث ِفي ا َ‬
‫ح ُ‬
‫غَراًبا َيْب َ‬
‫ل ُ‬
‫ثا ّ‬
‫}} َفَبَع َ‬
‫يدفن جثث الموتى من جنسه ‪ ،‬حتى شاهد ‪ -‬وهو في قمة مأساته ‪ -‬الغراب يلقنه درس الدفن ‪ ،‬بعدما بلغ سن الرشد ‪ ،‬ودخل في المرحلة‬
‫الدمية الجديدة ‪ ،‬ول يبعد أن نتصور أن البشر كانوا في بداية وجودهم ‪ ،‬وقبل رشدهم يتآكلون ويتفارسون ‪ ..‬أي ‪ :‬يأكل بعضهم بعضًا ‪.‬‬

‫ولو أننا تصورنا حياة الصدام ‪ ،‬والصراع بين البشر وسائر أجناس الخلق ‪ -‬فإن ذلك يعني أن العلقات بين الموجودات والبشر كانت‬
‫هي القوت اليومي ‪ ،‬بوجهيها ‪ :‬السلبي واليجابي ‪.‬‬

‫وقد كانت هذه العلقات تتنامى دائمًا ‪ ،‬كمًا وكيفًا ‪ ، ،‬وهي تحدث بصماتها ‪ ،‬وتحفر في العقل البشري آثارها ‪ ،‬وكان البشر قد مـيزوا‬
‫بالفـؤاد ‪ ،‬أي ‪ :‬بالعقل ‪ ،‬وهو ما يعني أنهم كانوا قادرين على الحتفاظ بالتجربة في ذاكرتهم ‪ ،‬ثم صاروا يفيدون من رصيد التجارب‬
‫المتراكمة ‪ ،‬في الحركة ‪ ،‬وفي الصوت ‪.‬‬
‫لقد كانت للطير أو للحيوان طريقته التي ل تتغير في التعامل مع جنسه ‪ ،‬وغير جنسه ‪ ،‬ولكنه يأتيمن ذلك ما يوصف بالتلقائية البدية ‪،‬‬
‫والثبات الغريزي المتواصل عبر مليين السنين ‪ ،‬وإن حدث تغير أحيانًا في الشكل ‪ ،‬أما رصيد التجارب البشرية فقد كان في نمو دائم ‪،‬‬
‫وتغير مستمر ‪ ،‬رغبة في تحسين الداء ‪ ،‬وتمكين الجنس البشري من السيطرة على سائر الجناس ‪ ،‬ومن هنا كان التوجه إلى استخدام‬
‫الدوات الحجرية لمضاعفة القدرة ‪ ،‬وتأمين السيطرة ‪ ..‬هذا من جانب الحركة ‪.‬‬

‫فأما من جانب الصوت فقد كان أغزر مادًة ‪ ،‬وأكثر حدوثًا ‪ ،‬إذ كانت الضوضاء ‪ -‬وما زالت ‪ -‬هي غذاء الحياة وقوتها ‪ ،‬ودليلها ‪ ،‬سواء‬
‫صدرت الضوضاء عن البشر ‪ ،‬أم صدرت عن المادة المتعلقة بالحركة ‪ ،‬وليس بوسع مخلوق أن يأتي بحركة إل مقترنة بصوت ‪،‬‬
‫ينبعث من أثر إحتكاك المادة بعضها ببعض ‪ ،‬أو يصدر عن النسان ‪ ،‬وهو يتعامل معها ‪ ،‬ثم يتحول الصوت إلى مقطع ‪ ،‬ثم إلى كلمة ‪،‬‬
‫ل عن الحركة ‪ ،‬وقد‬ ‫ثم إلى درجات من التركيب المتنوع ‪ ،‬ثم تتطور هذه الحالة التي اقترن فيها الصوت بالحركة ‪ ،‬ليصدر الصوت مستق ً‬
‫يكون في هذا الحال مجرد صوت ‪ ،‬وقد يرتبط بهدف حيوي ‪ ،‬أو تعبير عاطفي ‪ ،‬وهكذا نشأت اللغة البشرية ‪ ،‬مع التجاوز البالغ عن‬
‫تفاصيل كثيرة ‪ ..‬كثيرة جدًا تتعلق بأوعية الزمان والمكان ‪ ،‬واحتمالت الفعل والترك ‪ ،‬واليجاب والسلب ‪ ،‬والعطاء والمنع ‪ ،‬والذكاء‬
‫والغباء ‪ ،‬والتناقض والستواء ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬

‫ول شك أن البشر كانوا محوطين بأصوات أخرى تصدر عن الطيور والحيوانات ‪ ،‬ولهم من دون الخلئق جميعًا قدرة على تقليد‬
‫الصوات ‪ ،‬ونادر من الطيور ما عرف بتقليد الصوات ) الببغاء ( ‪ ،‬أما النسان فقد لذ له دائمًا التخاطب مع تلك الكائنات ‪ ،‬أو التجارب‬
‫معها من باب التسلية أو الترويض ‪ ،‬وقد لحظ أولئك البشر أن لكل كائن نوعًا من الضوضاء يستخدمه في قيادة القطيع ‪ ،‬أو نداء‬
‫النثى ‪ ،‬أو تحذير الصغار ‪ ،‬أو مواجهة الخطار ‪ ،‬فلم ل يكونوا كذلك ‪ ،‬وهم يملكون قدرة هائلة على التنويع ‪ ،‬وهم ‪ -‬كذلك ‪ -‬يعقلون‬
‫المعنى الوظيفي للصوت حين ينطلق بوجه من الوجوه ‪ ،‬ولم ل يكون تعاملهم مع هذه الكائنات من قناة اللغة ‪ ،‬بحيث يضعون لها أسماء‬
‫تميزها عند التعامل معها ‪.‬‬

‫هكذا تخلقت اللغة خلل مليين السنين ‪ ،‬حتى صارت مكونة من أصوات متشخصة ‪ ،‬وكلمات متخصصة ‪ ،‬وحتى أصبحت تضم‬
‫اللوف من الكلمات ‪ ..‬بل حتى تنوعت فبلغت عدة اللغات أكثر من ألفي لغة ينطقها النسان الن ‪ ،‬وكلها مبنية على عدد محدد من‬
‫الصوات هو غاية ما يصدره جهاز النطق ‪ ،‬ل يزيد ول يتنوع ‪.‬‬

‫لقد أولع كثيرون بالبحث عن أصل اللغة ‪ ،‬فمن قائل ‪ :‬إنها من وحي ال ‪ ..‬نّزله على بعض عباده من النبياء ‪ ،‬كآدم ‪ ،‬وإسماعيل !!‬
‫وللجاحظ هنا مقولة ‪ :‬إن ال فتق لهاة إسماعيل بالعربية على غير مثال سبق ) مختارات فصول الجاحظ ‪ /‬مخطوط بدار الكتب ( ‪.‬‬
‫وقائل ‪ :‬إنها مواضعة حددت لكل شيء اسمه المتفق عليه ‪ -‬وهو قول ابن جنى في ) الخصائص ‪. ( 44 / 1‬‬
‫وقائل ‪ :‬إنها محاكاة لصوات الطبيعة !!‬
‫وقائل ‪ :‬إنها نتيجة إنفعالت تعرض لها النسان !!‬

‫وتصور أستاذنا الدكتور إبراهيم أنيس ‪ -‬رحمة ال عليه ‪ ) -‬أن الكلمات النسانية الناشئة كانت كثيرة المبنى ‪ ،‬قليلة المعنى ‪ ،‬فالمجتمع‬
‫جماعة من الشباب يمرحون ‪ ،‬ويلعبون ‪ ،‬ويستمتعون بالنطق ‪ ،‬دون هدف معين سوى المتعة واللعب بألسنتهم ‪ ،‬كما كانوا يلعبون بأيديهم‬
‫وأرجلهم ‪ ،‬أي ‪ :‬إن اللغة نشأت في صورة لعب ممتع ‪ ،‬ل يهدف إلى إيصال معنى إلى السامع ‪ ..‬بل كانت أشبه بمناغاة الطفل وأصواته‬
‫المبهمة ‪ ..‬فلم يكن النسان الول معنيًا بالفكار ‪ ،‬ولكن عنايته كانت مقصورة على الغرائز والعواطف ‪ ،‬ولعل الحب والغريزة الجنسية‬
‫أقوى هذه العواطف ‪ ،‬فهو ينطق أو يصوت ليستلفت انتباه الليف ‪ ،‬ويثبت وجوده واستقلله ‪ ،‬كالطير حين ينتقل من فنن إلى فنن ‪ ،‬وهو‬
‫ل ‪ ،‬لعله بهذا ينال الحظوة لدى أليفة من الطيور ‪.‬‬
‫يغني غناًء متواص ً‬

‫كذلك كان النسان الول يغني في أثناء صيده ‪ ،‬وفي حربه ‪ ،‬وفي كل ما يقوم به ‪ ..‬غناًء ل كغنائنا ‪ -‬يهدف إلى الطرب ‪ -‬وإنما هو‬
‫تصويت منسجم تتردد فيه الصوات والمقاطع ‪.‬‬

‫ثم تطور هذا النطق من مجرد اللعب والمتعة ‪ ،‬وأصبح ذا هدف فيما بعد ‪ ،‬واستغل في التعبير عن كل ما يدور بخلد النسان من خير أو‬
‫شر ) دللة اللفاظ صفحة ‪ 23‬وما بعدها ( ‪.‬‬

‫والواقع أن كل افتراض لتفسير نشأة اللغة له نصيب ‪ ،‬ولو ضئيل ‪ ،‬من الصواب ‪ ،‬فكل الراء تجتمع لتنسج ثوب اللغة في صورة مكتملة‬
‫‪ ،‬غير أنها جميعًا وقعت في خطأ مشترك هو خلطها بين البشر والنسان من ناحية ‪ ،‬وتصورها أن اهتداء النسان للغة كان خلل الفترة‬
‫الزمنية القريبة التي عاشها النسان منذ آدم عليه السلم باعتباره أول المخلوقات ‪ ..‬من ناحية أخرى ‪.‬‬

‫والحق الذي نؤمن به هو أن اللغة ظاهرة بشرية معقدة شديدة التعقيد ‪ ،‬ظهرت في حياة البشر على مدى المليين من السنين التي عاشوها‬
‫قبل ظهور آدم عليه السلم ‪ ،‬وقد بلغت درجة من الكمال باعتبارها أداة تعامل على مشارف العهد النساني الدمي ‪ ،‬حتى تحملت ما دار‬
‫من حوار بين ال وملئكته ‪ ،‬وبين ال وإبليس ‪ ،‬وبين ال وآدم وجواء ‪ ،‬بكل ما حوته هذه الحوارات من معان دقيقة وراقية ‪ ..‬أقرب‬
‫شيء إلى التجريد ‪ ،‬والتجريد مستوى من الرقي اللغوي ل تعرفه سوى اللغات الحضارية الناضجة التي تجاوزت المحسوس من المجرد‬
‫‪.‬‬

‫بل إننا حين نقرأ قصة ابني آدم ) هابيل وقابيل ( يبهرنا فيها غزارة التجريد في المعنى ‪ ،‬وثراء اللفظ ‪ ،‬حتى إن النسانية مازالت دون‬
‫بلوغ الفق الخلقي والقيمي الذي عبرت عنه تلك القصة ‪ ،‬مما يدل على درجة من الحضارة الدينية ‪ ،‬بلغها النسان في ذلك الزمان ‪،‬‬
‫بعد أن كافح مليين السنين في مرحلة البشرية ‪.‬‬

‫لْقُتَلّنكَ‬
‫ل َ‬
‫خِر َقا َ‬
‫ن ال َ‬
‫ل ِم َ‬ ‫حِدِهَما َوَلْم ُيَتَقّب ْ‬
‫ل ِمن َأ َ‬‫ق ِإْذ َقّرَبا ُقْرَباًنا َفُتُقّب َ‬
‫حّ‬‫ي آَدَم ِباْل َ‬ ‫عَلْيِهْم َنَبَأ اْبَن ْ‬
‫ل َ‬‫ولنقرأ نص القصة ‪ .‬بقول ال تعالى ‪َ }} :‬واْت ُ‬
‫ن ‪ِ 28‬إّني ُأِريُد َأن‬ ‫ب اْلَعاَلِمي َ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫فا ّ‬ ‫خا ُ‬‫ك ِإّني َأ َ‬
‫لْقُتَل َ‬‫ك َ‬ ‫ي ِإَلْي َ‬
‫ط َيِد َ‬
‫سٍ‬ ‫ك ِلَتْقُتَلِني َما َأَنْا ِبَبا ِ‬
‫ي َيَد َ‬ ‫ت ِإَل ّ‬
‫سط َ‬‫ن ‪َ 27‬لِئن َب َ‬
‫ن اْلُمّتِقي َ‬
‫ل ِم َ‬
‫لا ّ‬
‫ل ِإّنَما َيَتَقّب ُ‬
‫َقا َ‬
‫ن ‪َ 30‬فَبَعثَ‬ ‫سِري َ‬‫خا ِ‬
‫ن اْل َ‬
‫ح ِم َ‬
‫صَب َ‬‫خيِه َفَقَتَلُه َفَأ ْ‬
‫ل َأ ِ‬
‫سُه َقْت َ‬
‫ت َلُه َنْف ُ‬
‫ع ْ‬‫طّو َ‬
‫ن ‪َ 29‬ف َ‬ ‫ظاِلِمي َ‬‫جَزاء ال ّ‬ ‫ك َ‬‫ب الّناِر َوَذِل َ‬
‫حا ِ‬‫صَ‬ ‫ن َأ ْ‬ ‫ن ِم ْ‬
‫ك َفَتُكو َ‬
‫َتُبوَء ِبِإْثِمي َوِإْثِم َ‬
‫صَب َ‬
‫ح‬ ‫خي َفَأ ْ‬
‫سْوءَة َأ ِ‬
‫ي َ‬ ‫ب َفُأَواِر َ‬‫ل َهـَذا اْلُغَرا ِ‬ ‫ن ِمْث َ‬‫ن َأُكو َ‬ ‫ت َأ ْ‬‫جْز ُ‬‫عَ‬‫ل َيا َوْيَلَتا َأ َ‬
‫خيِه َقا َ‬
‫سْوءَة َأ ِ‬
‫ف ُيَواِري َ‬ ‫ض ِلُيِرَيُه َكْي َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ث ِفي ا َ‬ ‫ح ُ‬ ‫غَراًبا َيْب َ‬
‫ل ُ‬
‫ا ّ‬
‫ن ‪ - {{ 31‬المائدة ‪.‬‬ ‫ن الّناِدِمي َ‬
‫ِم َ‬

‫لقد ذكرت القصة ‪ :‬القربان ‪ ،‬وهو معنى ديني خاص ‪ ،‬وذكرت قبول القربان أو عدم قبوله ‪ ،‬ودللة ذلك على التقوى ‪ ،‬والتهديد بالقتل‬
‫والتسامح في مواجهة التهديد ‪ ،‬خوفًا من ال ‪ ،‬رب العالمين ‪ ،‬وذكرت ‪ :‬مفهوم الثم ‪ ،‬ومضاعفته ‪ ،‬وعاقبة الظلم ‪ ،‬وهي النار ‪ ،‬وسيطرة‬
‫النفس المارة بالشر على القاتل حتى قتل أخاه ‪ ،‬وصار بذلك خاسرًا دنياه وأخراه ‪ ،‬وأخيرًا ذكرت الدرس الذي تلقاه القاتل من الغراب ‪،‬‬
‫فتحول فعل الطير إلى معنى كبير من لوم النفس ‪ ،‬والندم العميق ‪.‬‬

‫وكل هذه المعاني الدينية ذات دللة على الرقي النسبي الذي بلغه النسان ‪ ،‬لعهد آدم ‪ ..‬لقد اجتازت اللغة مرحلة التعبير المادي فأصبحت‬
‫معبرة عن المعاني الغيبية ‪ ..‬أي ‪ :‬إنها عبرت مستوى الحقيقة إلى المجاز ‪ ،‬وهو تقدم خطير ‪ ،‬لم تبلغه البشرية إل عبر مليين السنين ‪،‬‬
‫وقد توجت هذه المرحلة باصطفاء آدم ‪ ،‬نبيًا يحمل رسالة ال إلى بنيه ‪ ،‬وهم الجيل الول من أجيال النسانية ‪.‬‬

‫ومن المعاني الغيبية المجردة ذات الدللة العميقة على مذهبنا هذا ‪ -‬ما جرى على لسان إبليس وهو يغري آدم وزوجه بالكل من الشجرة‬
‫ن ‪ - {{ 20‬العراف ‪ !! .‬فمتى عرف آدم‬‫خاِلِدي َ‬
‫ن اْل َ‬
‫ن َأْو َتُكوَنا ِم َ‬
‫ل َأن َتُكوَنا َمَلَكْي ِ‬
‫جَرِة ِإ ّ‬
‫شَ‬‫ن َهـِذِه ال ّ‬
‫عْ‬
‫المحرمة ‪ -‬قال ‪َ }} :‬ما َنَهاُكَما َرّبُكَما َ‬
‫وزوجه معنى الخلود ؟ وكيف لهما أن يتخيله ‪ ،‬وهو معنى مرتبط بواقع لم يحدث من قبل ‪ ،‬على فرض أنهما أول المخلوقات‬
‫البشرية ؟؟ ونعني به واقع ) الموت ( وهو ضد الخلود ؟‬

‫ل سابقة حصدها الموت ‪ ،‬وابتلعها الفناء ‪ ،‬ولعل الخلود أو البقاء كان حلمًا يراودهما ‪ ،‬فجاءهما الشيطان من‬ ‫إن ذلك يؤكد أنهما عاينا أجيا ً‬
‫لُهَما ِبُغُروٍر ‪ - {{ 22 ...‬العراف ‪.‬‬
‫ن ‪َ 21‬فَد ّ‬
‫حي َ‬
‫صِ‬‫ن الّنا ِ‬
‫هذا الباب وقد عرف حلمهما ‪ ،‬أو نقطة ضعفهما ‪ ،‬فقاسمهما ‪ِ }} :‬إّني َلُكَما َلِم َ‬

‫إننا ل نشك في أن آدم قد صنع على عين ال ‪ ،‬وأنه ظفر برعاية ربانية استثنائية جعلته في ذاته معجزة إلهية ‪ ،‬وكان آدم بذلك مددًا‬
‫للمرحلة القادمة التي بدأت به مع زوجه حواء ‪ ،‬ومن خلل آدم بدأت النسانية مسيرتها بخطوات قاصدة راشدة ‪ ،‬على حين بادت‬
‫الموجودات البشرية الطليقة الشاردة لتبدأ المرحلة الجديدة ‪ ..‬مرحلة التكليف الديني ‪ ..‬بعبادة الله الخالق الواحد ‪ ،‬بعد‬
‫أن تم للنسان التعرف على الكون من حوله ‪ ،‬من خلل السماء التي تحدد وجود كل شيء والتي أعانه ال سبحانه على استيعابها ‪.‬‬

‫ونعود إلى حديث اللغة فنقول ‪:‬‬


‫لقد اقترنت نشأة اللغة بمجموعة هائلة من الصدف العشوائية ‪ ،‬يجل حصرها ‪ ،‬وكان المخلوق البشري أشبه بطفل جلس إلى جهاز كمتور‬
‫) الكمتور ‪ :‬نحت عربي ‪ -‬للمؤلف ‪ -‬من كلمة كمبيوتر ( ضخم ذي مفاتيح كثيرة ‪ ،‬فأخذ الطفل في البداية يلمس هذه المفاتيح ‪ ،‬ويرقب‬
‫أثر لمساته ‪ ،‬وكلما وجد أثرًا على شاشة الجهاز كرر اللمس ليستمتع به أو بغيره ‪ ،‬حتى تكونت بينه وبين الجهاز ُأْلَفة أغرته بالمذيد ‪،‬‬
‫فمضى يستخدم خبراته المثبتة نتيجة التكرار ‪ ،‬ويبني تجارب أخرى مركبة من تجاربه البسيطة ‪ ،‬إلى أن سيطر على الجهاز مع تقدمه‬
‫في العمر ‪ ،‬وصار به خبيرًا ‪ ..‬فكذلك النسان الذي ورث التراث البشري ‪ ،‬وتألقت في شخصه كل المواهب البشرية ‪ ،‬وزاده ال مددًا‬
‫وتعليمًا ‪ ،‬فكان آدم عليه السلم العلمة الولى لبدء عهد جديد ‪ ،‬هو عهد النسان المتدين ‪ :‬آدم وبنيه ‪.‬‬

‫وبقى سؤال لم يطرحه أحد ممن تناولوا هذه القصة في القديم والحديث ‪ ،‬وهو ‪ :‬من أين جاءت تسمية آدم ؟‬

‫ل في الرقي اللغوي قبل مرحلة‬‫والسم رمز المسمى ؛ فهل يمكن أن يطلق على آدم هذا السم دون أن تكون البشرية قد قطعت شوطًا هائ ً‬
‫سَماء ُكّلَها ‪ - {{ 31 ...‬البقرة ‪ - .‬فهل ل يوحى منطوق الية على هذا النحو‬
‫لْ‬‫عّلَم آَدَم ا َ‬
‫النسانية الدمية ؟ وإذا قرأنا قوله تعالى ‪َ }} :‬و َ‬
‫بأن الساحة كانت حافلة بأسماء كثيرة لموجودات مادية ‪ ،‬أو أسماء لمعان مجردة ‪ ،‬وأن حصيلة ذلك كانت في عقل آدم ؟ أو استطاع آدم‬
‫أن يحصلها !!‬

‫قد يقول قائل ‪ :‬إن اسم ) آدم ( هو اختيار ال ‪ ،‬أطلقه على أول خليقة في الرض !!‬

‫ولكن التناسب الذي نجده بين السم والمسمى ‪ ..‬أي ‪ :‬بين معنى كلمة ) آدم ( والمادة التي ينتمي إليها وهي ) أديم الرض ( ‪ -‬هذا‬
‫التناسب ل يمكن أن يتصور حدوثه على سبيل الصدفة أو الفجاءة ‪ ،‬فالفجاءة خروج على سنة ال في الخلق والتسوية والبداع ‪ ،‬وهو‬
‫آيات العظمة اللهية ودلئلها ‪ .‬فلم يبق إل أن نفترض مستوى من النضج اللغوي بلغته البشرية في أواخر مرحلتها ‪ ،‬وفي بواكير العهد‬
‫النساني ‪ ،‬وهو ما يعني أن العربية قديمة ‪ ..‬قدم التاريخ النساني على هذه الرض ‪ ..‬على القل ‪.‬‬

‫لقد زعم العبرانيون أن لغتهم هي أقدم اللغات وأصلها وهو ما لم يسّلم به أحد من علماء اللغات لنعدام الدليل على صحة مقولتهم ‪ ،‬أما‬
‫نحن فنرى ‪ -‬انطلقًا من ملحظاتنا السابقة ‪ -‬أن العربية هي الصل والقدم ‪ ،‬ولذا كان اختيار ال لها في كل ما دار من حوار جرت به‬
‫أحداث هذه القصة ‪.‬‬

‫}} الفصل الثاني من الباب الثاني {{‬

‫النســــان والملئـــــكة‬
‫الملئكة عالم من عوالم الكون التي برأها ال ‪ ،‬خلقهم من مادة النور ‪ ،‬بهذا جاء الحديث الشريف برواية أحمد ومسلم رضي ال عنهما ‪:‬‬
‫) خلقت الملئكة من نور ‪ ،‬وخلق الجان من نار ‪ ،‬وخلق النسان مما وصف لكم ( ‪ ،‬وليس بلزم أن نبحث‬
‫في ماهية هذا النور ‪ ،‬وهل هو النور الذي نألفه من مصدر كالقمر ‪ ،‬أو الضوء الذي عهدناه من مصدر الشمس ‪ ،‬أو هو نور آخر مختلف‬
‫العناصر والطياف ل ندري كنهه ؟ ويكفي أن نذكر قياسًا َيقِـــُفنا عند حدود أقدارنا ‪ ،‬فقد خلقنا ال من تراب ‪ ،‬وشتان ما بين هذا التراب‬
‫واللحم الدمي في الشكل ‪ ،‬وإن اتحدت عناصرهما عند التحليل ‪ ،‬فالمسافة هائلة ل يمكن للعقل أن يقطعها ‪ ،‬وكذلك الملئكة ‪ ..‬هم من‬
‫النور ‪ ،‬ومع ذلك نتصور أن هيئتهم التي خلقوا عليها بعيدة جدًا عن مادة النور التي نألفها ‪ ،‬وكل مانملكه هو أن نؤمن بهم كما أخبر ال‬
‫عنهم ‪ ،‬وكما طلب منا اليمان بهم ‪ ،‬فهم ملئكة ال وجنده ‪ ،‬وهم جزء من عالم الغيب الذي حجبت عنا حقيقته ‪ ،‬واستحالت علينا رؤيته ‪،‬‬
‫ولعلنا نتذكر هنا أن البشر قد كانوا في أقدار الخلق هم العالم الظاهر ‪ ،‬في مقابل العالمين المخلوقين الخفيين ‪ ،‬عالم الملئكة وعالم الجن ‪،‬‬
‫وما شاء ال من خلق ل نعلمه ‪.‬‬

‫ونحن من خلل الدين ندرك الدور الذي تؤديه الملئكة في عالمنا النساني ‪ ،‬فمنهم ملهمون بالخير ‪ ،‬ومنهم حفظة ‪ ..‬سفرة ‪ ..‬كرام‬
‫كاتبون ‪ ،‬ومنهم حملة العرش ‪ ،‬ومنهم ملئكة السماء والسحاب والمطر والرزاق والقدار ‪ ،‬ومنهم الموكلون بحياة العباد وموتهم ‪ ..‬إلى‬
‫عنَدُه‬
‫ن ِ‬
‫لْرضِ َوَم ْ‬
‫ت َوا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ما ل يحصى من مهام خصهم ال بالقيام عليها في إدارة الكون ‪ ،‬في السموات والرض ‪َ }} :‬وَلُه َمن ِفي ال ّ‬
‫ن ‪ - {{20‬النبياء ‪.‬‬
‫ل َيْفُتُرو َ‬
‫ل َوالّنَهاَر َ‬
‫ن الّلْي َ‬
‫حو َ‬
‫سّب ُ‬
‫ن ‪ُ 19‬ي َ‬
‫سُرو َ‬
‫حِ‬‫سَت ْ‬
‫ل َي ْ‬
‫عَباَدِتِه َو َ‬
‫ن ِ‬
‫عْ‬
‫ن َ‬
‫سَتْكِبُرو َ‬
‫ل َي ْ‬
‫َ‬

‫علقة النســــان بالملئـــــكة‬

‫بدأت علقة النسان بالملئكة على مشارف المرحلة البشرية ‪ ،‬وذلك حين أعلم ال الملئكة أنه خلق أو أنه يريد خلق ) بشر من طين ( ‪،‬‬
‫وإعدادًا لهم في مواجهة ما سوف يحدث من متغيرات على ساحة الرض ‪ ،‬وقد إختارها ال ليجاد هذه الخليقة البشرية ‪ ،‬بعد أن جعلها‬
‫مهدًا ‪ ،‬وكان البلغ اللهي منطويًا على جملة من العناصر المستقبلية إضافة إلى ما كان منجزًا منه ‪ ..‬كان ) خلق البشر ( قد أنجز ‪ ،‬أو‬
‫شًرا {{ ‪ ،‬ثم جاءت المور المستقبلية في شكل هذا السلوب الشرطي‬ ‫ق َب َ‬
‫خاِل ٌ‬
‫هو بسبيله إلى النجاز ‪ ،‬وهو دللة الجملة الولى ‪ِ }} :‬إّني َ‬
‫ن {{ ‪ ،‬وكأن ال يريد من الملئكة أن تراقب ما يحدث من تغييرات في أحوال‬ ‫جِدي َ‬
‫سا ِ‬
‫حي َفَقُعوا َلُه َ‬
‫ت ِفيِه ِمن ّرو ِ‬
‫خ ُ‬
‫سّوْيُتُه َوَنَف ْ‬
‫‪َ }} :‬فِإَذا َ‬
‫هذا المخلوق الظاهر وصفاته ومقوماته ‪ ،‬حتى يسجدوا له كما أمرهم ‪ ،‬إذعانًا لمره ‪ ،‬وإعظامًا لروعة إبداعه ‪ ،‬ومضت مليين السنين ‪،‬‬
‫وطحنت عشرات اللوف من الجيال ‪ ،‬وربما مئاتها في عملية التسوية والتزويد بالملكات العليا والملئكة تراقب أحوال ذلكم المخلوق‬
‫وتحركاته ‪ ،‬حتى آن أوان السجود ‪.‬‬

‫خِليَفًة ‪ - {{ 30 ...‬البقرة ‪، .‬‬


‫ض َ‬
‫لْر ِ‬
‫ل ِفي ا َ‬
‫عٌ‬‫جا ِ‬
‫كان المدخل إلى معرفتهم بأن السجود قد آن أوانه خطاب ال سبحانه لهم بقوله ‪ِ }} :‬إّني َ‬
‫وهو خطاب يتضمن إخبارهم بأن التسوية قد تمت ‪ ،‬وقد صار البشر مزودًا بالنفخة من روح ال ‪ ،‬وكان لهذا القول وقع المفاجئة على‬
‫أسماعهم ‪ ،‬فهم يتابعون منذ مليين السنين أحوال هذا المخلوق ) البشر ( ‪ ،‬ويعاينون من شئونه ما يحيرهم ‪ ،‬ولذلك بادروا إلى سؤال‬
‫ك ‪ - {{ 30 ...‬البقرة ‪ ، .‬وكأنهم يقولون‬ ‫س َل َ‬
‫ك َوُنَقّد ُ‬
‫حْمِد َ‬
‫ح ِب َ‬
‫سّب ُ‬
‫ن ُن َ‬
‫حُ‬‫ك الّدَماء َوَن ْ‬
‫سِف ُ‬
‫سُد ِفيَها َوَي ْ‬
‫ل ِفيَها َمن ُيْف ِ‬
‫جَع ُ‬
‫المولى عز وجل ‪َ }} :‬أَت ْ‬
‫لربهم ‪ :‬أهذا هو المخلوق الذي أمرتنا بالسجود له ‪ ،‬حين أخبرتنا بخبره منذ مليين السنين ؟ لقد راقبنا أحواله منذ ذلك العهد السحيق ‪،‬‬
‫فما رأينا منه غير الفساد في الرض ‪ ،‬وسفك الدماء ‪ ،‬وهم يشيرون بذلك إلى السلوكيات الحيوانية التي كان عليها البشر في مختلف‬
‫مراحل تسويتهم ‪ ،‬حتى إكتمال ملكاتهم بالنفخة اللهية وثمراتها ‪.‬‬

‫ويحلوا لبعض المفسرين ‪ -‬أو لجمهورهم ‪ -‬أن يفترضوا أن الملئكة كانوا يرون أنهم جديرون بهذه الخلفة دون البشر ‪ ،‬وهو افتراض‬
‫ل يقبله العقل ‪ ،‬فقد كانوا يتمتعون بميزات الشهود والقرب من ال سبحانه وتعالى ‪ ،‬وهي مرتبة عليا في سلم المخلوقات ‪ -‬لم يبلغها‬
‫غيرهم من الكائنات الخرى !! إن الكون كله صفحة مبسوطة بين أيديهم وأنوارهم ‪ ،‬يرتادون آفاقه ‪ ،‬ويجوبون أنحاءه ‪ ،‬ويعلمون من‬
‫أمره ما أذن ال لهم بعلمه ‪ ،‬وأين هذا البهاء والسناء من أحوال ذلك المخلوق الحيواني ‪ ،‬اللزق بالرض ‪ ،‬النابت من التراب ‪ ،‬المعربد‬
‫في ممالك الطير والحيوان ‪ ،‬السافك لدماء جنسه وغير جنسه ؟!‬

‫فما الذي تتمناه الملئكة أكثر مما هي فيه من اتصال بالمل العلى ؟ ‪ ..‬إن معنى سؤال الملئكة ل يتضمن رغبتهم في تلك الخلفة ‪ ،‬أو‬
‫حسد البشر عليها ‪ ..‬بل هو تعبير عن إستغرابهم لما يتوقعونه من استمرار الفساد ‪ ،‬وتذايد التشويش في الرض على تسبيحهم وتحميدهم‬
‫ك {{ ‪ -‬موقع الحال ‪ ،‬أي ‪ :‬إننا غارقون في‬ ‫س َل َ‬
‫ك َوُنَقّد ُ‬
‫حْمِد َ‬
‫ح ِب َ‬
‫سّب ُ‬
‫ن ُن َ‬
‫حُ‬‫وتقديسهم لجلل ال وعظمته ‪ ،‬فموقع الجملة الملئكية ‪َ }} :‬وَن ْ‬
‫أنوار التقديس ‪ ،‬في حين أن هؤلء والغون في بحار الدماء ‪ ،‬ل يعرفون دينًا ‪ ،‬ول يعبدون إلهًا ‪.‬‬
‫ن {{ ‪ ،‬وسكتت الملئكة ‪.‬‬‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫عَلُم َما َ‬
‫وقال ال ‪ِ }} :‬إّني َأ ْ‬

‫ك الّدَماء {{ ‪ ،‬فهي إشارة إلى إنتشار جرائم القتل في تلك العهود‬


‫سِف ُ‬
‫ونبادر هنا على إلى تسجيل ملحظة على عبارة الملئكة ‪َ }} :‬وَي ْ‬
‫بين البشر ‪ ،‬ولم يكن قتل قابيل لهابيل إل استئنافًا لسفك الدماء في العهد النساني ‪ ،‬عهد التكليف بعبادة ال وحده ‪ ،‬بعد انقراض بقية‬
‫البشر ‪ ،‬وانتهاء العهد البشري الذي لم يعرف تكليفًا ول تلقى رسالة ول اتبع دينًا ‪.‬‬

‫فهذه الجريمة كانت أولى الجرائم في العهد النساني ‪ ،‬وتميزت بالهتداء إلى دفن الموتى من بني آدم لول مرة ‪ ،‬بعد أن كانت الجثث‬
‫تترك في العراء كسائر الحيوانات النافقة ‪ ،‬تأكلها الضراوي ‪ ،‬أو تتآكل ‪.‬‬

‫وقول الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فيما رواه البخاري والنسائي عن مسروق عن عبد ال ‪ ) :‬ل تقتل نفسًا ظلمًا إل كان على ابن آدم‬
‫ل من دمها ‪ ،‬وذلك أنه أول من سن القتل ( ‪ -‬يشير أيضًا إلى موقع ذلك الجرم من المسئولية ‪ ،‬فقبل ارتكاب هذه الجريمة لم‬
‫الول كـفْـ ٌ‬
‫تكن هناك مسئولية عن قتل النفس ‪ ،‬لنه ل مسئولية إل بعد إرسال الرسل ‪ ،‬وقبل آدم لم يكن رسول ول دين ‪ ،‬فل مسئولية ‪ ،‬وبعد آدم بدأ‬
‫العهد النساني فكانت المسئولية الدينية ‪ ،‬فتحمل ابن آدم الول وزر قتل أخيه ‪ ،‬وعليه كفل من دم كل نفس تقتل ظلمًا ‪ ،‬لنه أول من سن‬
‫القتل ‪ ،‬أي ‪ :‬هو أول من خرج على الدين ‪ ،‬واتخذ لنفسه سنة أخرى ‪ ،‬هي سنة الظلم والقتل ‪ ،‬ل سنة الدين والعدل ‪ ،‬وفي الحديث ‪:‬‬
‫) من سن سنة حسنة فله أجرها ‪ ،‬وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ‪ ،‬ومن سن سنة سيئة فعليه‬
‫وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ( ‪.‬‬
‫ن {{ ومضمون هذا الخبر أمر لهم بالسكوت ‪ ،‬ودارت القدار على نهج المشيئة ‪،‬‬ ‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫عَلُم َما َ‬
‫لقد قال ال سبحانه لملئكته ‪ِ }} :‬إّني َأ ْ‬
‫سَماء ُكّلَها {{ ‪ ..‬وحتى هذه اللحظة لم تكن الملئكة تعلم ‪:‬‬
‫لْ‬‫عّلَم آَدَم ا َ‬
‫وبدأ الدرس الول ‪ ،‬أو الرسالة الولى في تاريخ النسانية ‪َ }} :‬و َ‬
‫ن ذلك الذي جعله ال من بين البشر خليفة في الرض ؟!! ولم يكن آدم قد ظهر على المسرح ‪ ،‬فاصطفاؤه كان في علم ال وحده ‪ ..‬وهم‬ ‫َم ْ‬
‫معذورون لنهم ل يرون في تلك الخليقة إل الجانب السلبي ‪ ،‬أما الجانب اليجابي فمحجوب عنهم ‪ ،‬ولم يكشف ال لهم شيئًا من أسراره ‪.‬‬

‫سَماء ُكّلَها {{ وهذه أول مرة يذكر فيها لفظ ) آدم ( ‪ ،‬وتعليم ال له هو‬
‫لْ‬‫عّلَم آَدَم ا َ‬
‫وجاء وحي ال بالرسالة والصطفاء إلى آدم ‪َ }} ،‬و َ‬
‫حا َوآلَ‬
‫طَفى آَدَم َوُنو ً‬
‫صَ‬
‫لا ْ‬
‫نا ّ‬
‫فحوى رسالته التي لم تذكر إل في هذه الية ‪ ،‬وهي آية ل يمكن تفسيرها إل في ضوء قوله تعالى ‪ِ }} :‬إ ّ‬
‫ن ‪ - {{ 33‬آل عمران ‪.‬‬ ‫عَلى اْلَعاَلِمي َ‬
‫ن َ‬
‫عْمَرا َ‬
‫ل ِ‬
‫ِإْبَراِهيَم َوآ َ‬

‫إن آدم رسول مصطفى من ال ‪ ،‬تمامًا كنوح وإبراهيم ‪ ،‬ولقد كانت لنوح ملحمة كبيرة تحدث عنها القرآن في أكثر من موضع ‪ ،‬وكانت‬
‫لدم ‪ -‬قبل نوح ‪ -‬ملحمته الكبرى التي بدأت بهذه اللمحة اللهية ‪ ،‬فقد علمه ما ل تعلم الملئكة ‪ ..‬علمه الدين ‪ ،‬والرسالة التي سوف‬
‫يبلغها لبنيه ‪ ،‬وهو ما بدا متألقًا في الحوار الذي دار بين أبنيه متضمنًا كل المفاهيم التوحيدية ‪ ،‬وأمهات الخلق الدينية ‪ ،‬وتلكم هي‬
‫السماء التي تعلمها آدم عن ربه ‪.‬‬
‫سَماء ُكّلَها {{ ‪ ،‬فلعل آدم كان يعرف بعض السماء فتولى ال سبحانه تعليمه كل‬‫لْ‬‫ص القرآن على أن يؤكد أنه تعلم }} ا َ‬ ‫حــَر َ‬
‫ولمر ما َ‬
‫السماء ‪ ،‬فيما يتصل بالمهمة التي سينهض بها ‪ ،‬خليفة في الرض ‪ ،‬ومن بين السماء التي تعلمها أسماء الملئكة المشاركين في هذا‬
‫الحوار ‪ ،‬وقد تضمن القرآن بعض هذه السماء فتعلمها المؤمنون من الوحي ‪.‬‬

‫وكان اصطفاء آدم للرسالة النسانية الولى غيبًا محجوبًا عن الملئكة ‪ ،‬ل يعلمه إل رب العزة ‪ ،‬وكانت السماء التي تعلمها متعلقة‬
‫بالمانة التي ناطها ال بآدم وذريته ‪ ،‬وهو ما لم تعلمه الملئكة من قبل ‪ ..‬إنها بداية عهد جديد ‪ ،‬وإشراقة جيل النسان على أنقاض‬
‫ن ‪َ 31‬قاُلوْا‬ ‫صاِدِقي َ‬‫سَماء َهـُؤلء ِإن ُكنُتْم َ‬ ‫الركام البشري ‪ ،‬وحين عرض ال سبحانه هذه المضامين على الملئكة ‪َ }} :‬فَقالَ َأنِبُئوِني ِبَأ ْ‬
‫حِكيُم ‪ - {{ 32‬البقرة ‪.‬‬ ‫ت اْلَعِليُم اْل َ‬‫ك َأن َ‬
‫عّلْمَتَنا ِإّن َ‬
‫ل َما َ‬
‫عْلَم َلَنا ِإ ّ‬
‫ل ِ‬
‫ك َ‬ ‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬‫ُ‬
‫ول مانع من أن يشار إلى المعروضات الماثلة في الموقف بإشارة العقلء ) هؤلء ( ‪ ،‬لن السماء تتعلق باشخاص وأشياء تفرد آدم‬
‫ل َأَلْم َأُقل‬
‫سَمآِئِهْم َقا َ‬
‫سَمآِئِهْم َفَلّما َأنَبَأُهْم ِبَأ ْ‬
‫ل َيا آَدُم َأنِبْئُهم ِبَأ ْ‬
‫بعلمها ‪ ،‬وأقرت الملئكة بأنها ل تعلم إل ما سمحت به من قبل مشيئة ال ‪َ }} ،‬قا َ‬
‫ن ‪ - {{ 33‬البقرة ‪.‬‬ ‫ن َوَما ُكنُتْم َتْكُتُمو َ‬
‫عَلُم َما ُتْبُدو َ‬
‫ض َوَأ ْ‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َ‬ ‫سَماَوا ِ‬
‫ب ال ّ‬‫غْي َ‬ ‫عَلُم َ‬
‫ّلُكْم ِإّني َأ ْ‬

‫ووضح من الموقف تفوق آدم ‪ ،‬واختصاصه بالرسالة والصطفاء ‪ ،‬وهنا حانت لحظة السجود لدم ‪ ،‬تنفيذًا للمر الصادر منذ بضعة‬
‫مليين من السنين ‪.‬‬

‫فسجود الملئكة كان في تقديرنا سجودًا لدم النبي المصطفى ‪.‬‬

‫}} الفصل الثالث من الباب الثاني {{‬

‫السجــــود للنبـــي النســـــان‬

‫ورد موضـــوع السجود لدم في ســبع صور من القــرآن ‪ ،‬وهي بترتيب النزول ‪:‬‬

‫ن ‪ - {{ 74‬ص ‪.‬‬
‫ن اْلَكاِفِري َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫سَتْكَبَر َوَكا َ‬
‫سا ْ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫ن ‪ِ 73‬إ ّ‬
‫جَمُعو َ‬
‫لِئَكُة ُكّلُهْم َأ ْ‬
‫جَد اْلَم َ‬
‫سَ‬‫‪ - 1‬السورة السابعة والثلثون ) ص ( ‪َ }} :‬ف َ‬

‫س َلْم َيُكن ّم َ‬
‫ن‬ ‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوْا ِإ ّ‬
‫سَ‬‫جُدوْا لَدَم َف َ‬
‫سُ‬‫صّوْرَناُكْم ُثّم ُقْلَنا ِلْلَملِئَكِة ا ْ‬
‫خَلْقَناُكْم ُثّم َ‬
‫‪ - 2‬السورة الثامنة والثلثون ) العراف ( ‪َ }} :‬وَلَقْد َ‬
‫ن ‪ - {{ 11‬العراف ‪.‬‬ ‫جِدي َ‬
‫سا ِ‬
‫ال ّ‬

‫س َأَبى ‪ - {{ 116‬طه ‪.‬‬


‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوْا ِإ ّ‬
‫سَ‬‫جُدوْا لَدَم َف َ‬
‫سُ‬‫لِئَكِة ا ْ‬
‫‪ - 3‬السورة الرابعة والربعون ) طه ( ‪َ }} :‬وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم َ‬

‫طيًنا ‪- {{ 61‬‬
‫ت ِ‬
‫خَلْق َ‬
‫ن َ‬
‫جُد ِلَم ْ‬
‫سُ‬‫ل َأَأ ْ‬
‫س َقا َ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوْا َإ ّ‬
‫سَ‬‫جُدوْا لَدَم َف َ‬
‫سُ‬‫‪ - 4‬السورة التاسعة والربعون ) السراء ( ‪َ }} :‬وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَملِئَكِة ا ْ‬
‫السراء ‪.‬‬

‫ن ‪ - {{ 31‬الحجر ‪.‬‬
‫جِدي َ‬
‫سا ِ‬
‫ن َمَع ال ّ‬
‫س َأَبى َأن َيُكو َ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫ن ‪ِ 30‬إ ّ‬
‫جَمُعو َ‬
‫جَد اْلَملِئَكُة ُكّلُهْم َأ ْ‬
‫سَ‬‫‪ - 5‬السورة الثالثة والخمسون ) الحجر ( ‪َ }} :‬ف َ‬
‫ن َأْمِر َرّبِه ‪...‬‬
‫عْ‬
‫ق َ‬
‫سَ‬
‫ن َفَف َ‬
‫جّ‬
‫ن اْل ِ‬
‫ن ِم َ‬
‫س َكا َ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوا ِإ ّ‬
‫سَ‬‫لَدَم َف َ‬
‫جُدوا ِ‬
‫سُ‬‫لِئَكِة ا ْ‬
‫‪ - 6‬السورة الثامنة والستون ) الكهف ( ‪َ }} :‬وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم َ‬
‫‪ - {{ 50‬الكهف ‪.‬‬

‫ن ‪- {{ 34‬‬
‫ن اْلَكاِفِري َ‬
‫ن ِم َ‬
‫سَتْكَبَر َوَكا َ‬
‫س َأَبى َوا ْ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوْا ِإ ّ‬
‫سَ‬‫جُدوْا لَدَم َف َ‬
‫سُ‬‫لِئَكِة ا ْ‬
‫‪ - 7‬السورة السابعة والثمانون ) البقرة ( ‪َ }} :‬وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم َ‬
‫البقرة ‪.‬‬

‫ويلحظ على ماسبق من النصوص القرآنية ما يأتي ‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن النصوص الستة الولى مكية ‪ ،‬والنص السابع مدني ‪.‬‬

‫سّوْيُتُه {{ ‪ ،‬وكذلك‬
‫‪ - 2‬أن النص في سورة ) ص ( يجعل السجود عقب تمام النفخ من روح ال ‪ ،‬وكأنه جزاء وجواب للشرط }} َفِإَذا َ‬
‫أيضًا السياق في نص سورة ) الحجر ( ‪ ،‬أما النص في سورة ) العراف ( فيوحي بوجود مسافة زمنية بين مرحلة التصوير ) أو‬
‫التسوية ( وبين المر بالسجود ‪ ،‬كما سبقت ملحظته ‪ ،‬ولكن استجابة الملئكة للمر كانت في سياقها فورية مقرونة بالفاء ‪.‬‬

‫وتتشابه النصوص في بقية السور المكية في ) طه والسراء والحجر والكهف ( ‪ -‬إذ يأتي السجود جوابًا للمر ‪ ) :‬اسجدوا ( ) فسجدوا (‬
‫‪.‬‬
‫أما النص المدني في سورة البقرة فيجعل المر بالسجود عقب فصل هام من القصة ‪ ،‬هو الحوار بين رب العزة والملئكة في شأن‬
‫) الخلفة في الرض ( ‪ ،‬وهي إضافة بارزة لم ترد في أي نص قرآني سابق أو لحق ‪.‬‬

‫ي ( ‪ ،‬وهو‬
‫لقد كان أهل التفسير يرون دائمًا أن السجود الملئكي قد حدث عقب نفخة ال سبحانه وتعالى ‪ ،‬التي أنهضت آدم ) بشرًا ُمســَو ّ‬
‫رأي سائد في كل التفاسير ‪ ،‬إذ إن الملئكة رأت في تحرك هذا المخلوق الطيني آية إلهية تستوجب السجود ‪ -‬تكريمًا لدم ‪ ،‬وطاعة ل‬
‫عز وجل ‪ ،‬بحسب الرؤية القديمة ‪ ،‬وهو ما يقوله الستاذ البهي الخولي ) ص ‪ : ( 59‬سجدوا ‪ -‬الملئكة ‪ -‬له بأمر من ال عز وجل‬
‫عندما نفخ فيه سبحانه من روحه ( ‪.‬‬

‫أما نحن فنرى طبقًا لتصورنا أن نص سورة البقرة ‪ ،‬وهو النص الخير الذي يحكم جميع النصوص السابقة ‪ ،‬ويهيمن عليها ‪ -‬هذا‬
‫النص ‪ ،‬قد طرح تريبًا آخر للحداث ‪ ،‬فجاء بالمر بالسجود بعد مشهد الحوار بين ال وملئكته عن اتخاذ خليفة في الرض ‪ ،‬ولم يكن‬
‫آدم معلومًا آنذاك للملئكة ‪ ،‬رغم أنه كان موجودًا على الساحة بين أغمار البشر ‪ ،‬وأنهم يفسدون ويسفكون الدماء ‪ ،‬ولو كانت الملئكة‬
‫ن {{ ‪.‬‬‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫عَلُم َما َ‬
‫تعرف أن المقصود آدم ‪ ،‬فربما استثنته من هذا التعميم ‪ ،‬ولذلك قال ال تعالى ‪ِ }} :‬إّني َأ ْ‬

‫لِئَكِة ‪ - {{ 31 ...‬البقرة ‪ ، .‬كان التعليم هو الوحي الذي‬


‫عَلى اْلَم َ‬
‫ضُهْم َ‬
‫عَر َ‬
‫سَماء ُكّلَها ُثّم َ‬
‫لْ‬‫عّلَم آَدَم ا َ‬
‫وهنا دخل آدم إلى مسرح الحوار }} َو َ‬
‫علم آدم ما لم يكن يعلمه ‪ ،‬وهو اصطفاؤه نبيًا ‪ ،‬وتزويده بالضرورة من التعاليم الدينية ‪ ،‬ليبدأ الموكب الجديد ‪ ،‬موكب النسان المكرم في‬
‫شخص آدم ‪َ }} :‬وَلَقْد َكّرْمَنا َبِني آَدَم ‪ - {{ 70 ...‬السراء ‪ ، .‬وموقف آدم عليه السلم في هذا هو موقف محمد صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫ن َتْعَلُم ‪ - {{ 113 ...‬النساء ‪.‬‬ ‫ك َما َلْم َتُك ْ‬
‫عّلَم َ‬
‫وقد قال ال له ‪َ }} :‬و َ‬

‫عِلمـَـت الملئكة لول مرة أن المقصود بالخليفة هو ) آدم ( ‪ ،‬وليس غير ‪ ..‬إنها النبوة ‪ ،‬طليعة الموكب النساني ‪،‬‬
‫وفي هذا الموقف َ‬
‫وقاعدة إنطلق الخلق الذي بدأت خطواته التنفيذية منذ مليين السنين ‪ ،‬فوجد كماله في شخص آدم ‪ ،‬النبي المصطفى ‪ ..‬يا لها من قدرة‬
‫ل في شخص آدم الرسول ‪ ،‬الذي تفوق‬ ‫هائلة ؛ تابعت عملية الخلق خلل هذا الزمن المتطاول !! ويا له من إنجاز رائع تجلى أعظم تج ٍ‬
‫على ملئكة الرحمن !!‬

‫ن {{ ‪ -‬إنه‬
‫ن اْلَكاِفِري َ‬
‫ن ِم َ‬
‫سَتْكَبَر َوَكا َ‬
‫س َأَبى َوا ْ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫في هذا المشهد الكوني العظيم أمر ال ملئكته بالسجود لدم ‪ ،‬تكريمًا وتكليفًا ‪ِ }} :‬إ ّ‬
‫موقف يثير من العماق كوامن الطاعة والعجاب ‪ ،‬كما يحرك دوافع الحقد ودفائنه ‪ ،‬وفي هذا المشهد ولد الشيطان !! الكافر المتآبى‬
‫المستكبر !! ‪..‬‬

‫ول بد أن نتعرض هنا لمعنى السجود والمراد به في هذا الموقف ‪ ،‬وننقل من الستاذ البهي الخولي ما قاله في كتابه ) آدم عليه السلم‬
‫ص ‪ ) : ( 59‬ومن البديهي أن هذا السجود لم يكن سجود عبادة ونسك ‪ ،‬فإن ذلك ل يكون لغير ال ‪ ،‬إنما هو سجود تحية وتكريم‬
‫ومؤانسة ‪ ،‬وليس ضروريًا أن يكون سجودًا وضعوا له الجباه على الرض ‪ ،‬كما نفعل في سجودنا ل عز وجل ‪ ،‬فللسجود هيئات كثيرة‬
‫ن ‪ - {{ 6‬الرحمن ‪ ، .‬ويقول على لسان يوسف‬ ‫جَدا ِ‬
‫سُ‬‫جُر َي ْ‬
‫شَ‬‫جُم َوال ّ‬ ‫تتنوع بتنوع أصناف الخلئق ‪ ،‬وال سبحانه يقول في ذلك ‪َ }} :‬والّن ْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ت‬ ‫جُد َما ِفي ال ّ‬‫سُ‬‫ل َي ْ‬
‫ن ‪ - {{ 4‬يوسف ‪ ، .‬ويقول ‪َ }} :‬و ِّ‬ ‫جِدي َ‬‫سا ِ‬ ‫س َواْلَقَمَر َرَأْيُتُهْم ِلي َ‬
‫شْم َ‬ ‫شَر َكْوَكًبا َوال ّ‬
‫عَ‬‫حَد َ‬‫ت َأ َ‬‫لبيه ‪ِ }} :‬إّني َرَأْي ُ‬
‫ن ‪ - {{ 49‬النحل ‪ ، .‬ومن البديهي أن سجود الدواب ليس كسجود الملئكة ‪،‬‬ ‫سَتْكِبُرو َ‬‫ل َي ْ‬
‫ض ِمن َدآّبٍة َواْلَملِئَكُة َوُهْم َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫َوَما ِفي ا َ‬
‫وسجودهما ليس كسجود الكواكب والشمس والقمر ‪ ،‬وسجود هؤلء جميعًا ليس كسجود الشجر والزرع الصغير ‪ ..‬وهكذا ‪ ..‬ذلك إلى أن‬
‫من معاني السجود في اللغة التطامن والتواضع ‪ ،‬ويقول صاحب المصباح المنير ‪ ) :‬وسجد البعير ‪ :‬خفض رأسه عند ركوبه ‪ ،‬وكل‬
‫شيء ذل فقد سجد ( ‪ ،‬فإذا كان في سجود الملئكة معنى الذل فليس هو ذل العبودية ‪ ،‬ول الذل المضيع للكرامة ‪ ،‬إنما هو ذل التطامن‬
‫حَمِة ‪ - {{ 24 ...‬السراء ‪ ، .‬وتراه فيما يتبادله رحماء‬ ‫ن الّر ْ‬
‫ل ِم َ‬‫ح الّذ ّ‬‫جَنا َ‬‫ض َلُهَما َ‬‫خِف ْ‬ ‫والمودة الذي ترى شيئًا منه في قوله تعالى ‪َ }} :‬وا ْ‬
‫ن ‪...‬‬
‫عَلى اْلَكاِفِري َ‬
‫عّزٍة َ‬
‫ن َأ ِ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫المؤمنين بينهم من انكسار الخ لخيه المؤمن الذي عبر عنه الحق تبارك وتعالى بقوله ‪َ }} :‬أِذّلٍة َ‬
‫‪ - {{ 54‬المائدة ‪.‬‬

‫فهو سجود فيه معنى التحية والمودة وخفض الجناح ‪ ،‬والقرار بالفضل ‪ ،‬قال القرطبي في الجامع ‪ ) :‬وقال قوم ‪ :‬لم يكن هذا السجود‬
‫المعتاد اليوم ‪ ،‬الذي هو وضع الجبهة على الرض ‪ ،‬ولكنه مبقي على أصل اللغة ‪ ،‬فهو من التذلل والنقياد ‪ ..‬أي ‪ :‬خضعوا لدم ‪،‬‬
‫وأقروا له بالفضل ( ‪ -‬القرطبي ‪. 293 / 1‬‬
‫والواقع أن الموقف لم يكن بحاجة إلى هذا العناء لتفسير السجود بالتذلل أو خفض الجناح ‪ ،‬أو القرار بالفضل ‪ ،‬فذلك كله مبني على‬
‫التصور القديم الذي يرى الموقف محصورًا في اللحظات التي انبهرت فيها الملئكة بدبيب نفخة ال في جسد آدم ‪ ،‬وهو تصور َتبّي َ‬
‫ن‬
‫قصورُه عن فهم الموضوع في ضوء معطيات العلم ‪ ،‬واحتمالت النصوص القرآنية ‪.‬‬

‫والذي نطمئن إليه هو أن سجود الملئكة كان يعني تكليفهم بحياطة الحياة النسانية ‪ ،‬ابتداء من ) آدم ( ‪ ،‬وهو تكليف ماض إلى يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬تتولى الملئكة فيه المحافظة على بني آدم ‪ ،‬وإلهامهم الخير ‪ ،‬طبقًا لمشيئة ال سبحانه ‪ ،‬في مقابل ما توعد به إبليس آدم وذريته‬
‫من الغواية والحتناك والهيمنة والتضليل ‪.‬‬

‫فالملئكة هم بموجب أمر السجود ‪ -‬أحد طرفي المعادلة في الحياة النسانية ‪ ،‬التي قامت على الصراع بين الخير والشر ‪.‬‬

‫وعلى ذلك فقد سجد الملئكة ‪ ،‬وما زالوا ساجدين ‪ ،‬لدم ‪ ،‬ولبني آدم ‪ ،‬وهذه هي الكرامة التي كفلها ال لهذه الذرية المصطفاة من خليقته‬
‫عَلى‬‫ضْلَناُهْم َ‬
‫ت َوَف ّ‬
‫طّيَبا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫حِر َوَرَزْقَناُهم ّم َ‬
‫حَمْلَناُهْم ِفي اْلَبّر َواْلَب ْ‬
‫البشرية طبقًا لما قررته آية سورة السراء ‪َ }} :‬وَلَقْد َكّرْمَنا َبِني آَدَم َو َ‬
‫ل ‪ - {{ 70‬السراء ‪ ، .‬وهي أيضًا الكرامة التي أشار إليها إبليس في قصة الحوار في سورة السراء ‪َ }} :‬قا َ‬
‫ل‬ ‫ضي ً‬
‫خَلْقَنا َتْف ِ‬
‫ن َ‬
‫َكِثيٍر ّمّم ْ‬
‫ي ‪ - {{ 62 ...‬السراء ‪ ،‬فقد احتقن حين رأى ما خص به آدم من تكريم وكرامة ‪ ،‬فتوعد بأن يضله‬ ‫عَل ّ‬
‫ت َ‬
‫ك َهـَذا اّلِذي َكّرْم َ‬ ‫َأَرَأْيَت َ‬
‫وذريته ‪ ،‬ليظهر عدم استحقاقهم لهذه الكرامة‬

‫}} الفصل الرابع من الباب الثاني {{‬

‫مـوقـــف إبليـــس مـن السجــــود‬

‫لبليس في قصة آدم موقفان ‪ :‬موقف مع رب العزة ‪ ،‬وموقف مع آدم وزوجه حواء ‪ ،‬الموقفان يتحولن في النهاية إلى موقف واحد ‪ ،‬هو‬
‫موقف الصراع بين الخير والشر ‪ ،‬أو التناقض بين الملئكة والشيطان ‪ ،‬ومجال الصراع دائمًا هو نفس النسان ) آدم وذريته ( ‪.‬‬

‫ويظهر إبليس في مشهد التكليف بالسجود فجأة ‪ ،‬ودون مقدمات ‪ ،‬فلم يرد له ذكر قبل هذا المشهد ‪ ،‬وما كان سوى واحد من ) الجن‬
‫المنتشرين ( في أرجاء الرض ‪ ،‬ولعله كان ذا حظوة واقتراب من عالم الملئكة حتى جاء أمر السجود ‪ ،‬وكأنه مقصود به معهم ‪،‬‬
‫ن َأْمِر َرّبِه ‪...‬‬
‫عْ‬
‫ق َ‬
‫سَ‬
‫ن َفَف َ‬
‫جّ‬‫ن اْل ِ‬
‫ن ِم َ‬
‫س َكا َ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوا ِإ ّ‬
‫سَ‬‫لَدَم َف َ‬
‫جُدوا ِ‬
‫سُ‬‫لِئَكِة ا ْ‬
‫والقرآن ينص على ذلك في قوله تعالى ‪َ }} :‬وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم َ‬
‫‪ - {{ 50‬الكهف ‪.‬‬

‫ولعل تجاهل القرآن لذكره في خبر المر بالسجود ‪ -‬إنه كان لنه مجرد فرد من ) الجن ( ‪ ،‬على حين أن الخطاب كان لعالم الملئكة‬
‫بإطلق ‪.‬‬
‫ن َأْمِر َرّبِه {{ ؛ صار علمًا على الشر في مقابل استجابة الملئكة الذين‬
‫عْ‬
‫ق َ‬
‫سَ‬
‫فلما شذ في موقفه ‪ ،‬وأعلن رفضه لمر ال ‪َ }} ..‬فَف َ‬
‫صاروا أعلمًا على الخير ‪.‬‬

‫ونحسب أن المر لم يكن بالصورة التي يتخيلها العامة من المفسرين ‪ ،‬من مثول الملئكة ومعهم إبليس بين يدي ال ‪ ،‬جل وعل ‪ ،‬وآدم‬
‫واقف ينتظر حدوث السجود ‪ ،‬فقد استقر رأينا على أن السجود كان لدم النبي الذي أختير خليفة ‪ ،‬والذي استهل به عهد النسان ‪ ،‬ل لدم‬
‫المخلوق ‪ ،‬فإن حدث الخلق كان قد مضت عليه مليين السنين ‪ ،‬وإن لم يكن فرق بين السّـنَـِة والسـّـنــِة ‪ ،‬وعليه ‪ ،‬فإن تكليف ال سبحانه‬
‫للملئكة بالسجود كان يعني تكليفهم بالشغال بحفظ ذلك الخليفة النبي ‪ ،‬وذريته إلى يوم القيامة وقد رفض إبليس أن يخضع للمر‬
‫اللهي ‪ ،‬وأن يعمل في خدمة النسان كالملئكة ‪ ،‬وبذلك انشق على المر اللهي ‪ ،‬وصار عدوًا لدم وذريته ‪ ،‬كما صار عدوًا ل‬
‫خالقه ‪ ،‬وقد استعلن بهذه العداوة ‪ ،‬فلم يرجع عنها رغم زعمه أنه عبد ال !!‬

‫وعلى هذا تكون َتَكّون التشكيل الجديد للحياة كما أرادها ال ‪ :‬صراعًا بين الخير والشر ‪ ،‬وتناقضًا بين الشيطان والملئكة في شأن الحياة‬
‫النسانية ‪ ،‬وآدم وذريته موضوع الصراع ‪ ،‬وأدواته ‪ ،‬وهم أبطاله أو ضحاياه ‪ ،‬تمهيدًا للمرحلة التالية من الملحمة الوجودية ‪ ،‬مرحلة‬
‫الحساب ‪ ،‬والجنة والنار ‪ ،‬والخلود فيهما ‪.‬‬

‫إن إبليس الذي رفض السجود والتكليف ‪ -‬كان عاصيًا لمر ال من ناحية ‪ ،‬وكان أداة لتنفيذ إرادة ال من ناحية أخرى ‪ ،‬ولول أنه رفض‬
‫السجود ‪ ،‬وركب رأسه ما كانت هذه الدنيا ‪ ،‬وهو أمر لم يكن مقصودًا له حين عصى ربه ‪ ،‬ولم يكن يدريه قبل أن يكون ‪.‬‬

‫طي ٍ‬
‫ن‬ ‫شًرا ِمن ِ‬ ‫ق َب َ‬
‫خاِل ٌ‬
‫لِئَكِة ِإّني َ‬ ‫ك ِلْلَم َ‬
‫ل َرّب َ‬ ‫ولنعد الن إلى النص الول من التنزيل ‪ ،‬الذي ذكر هذا المشهد في سورة ) ص ( ‪ِ }} :‬إْذ َقا َ‬
‫ن ‪74‬‬ ‫ن اْلَكاِفِري َ‬
‫ن ِم ْ‬‫سَتْكَبَر َوَكا َ‬ ‫سا ْ‬ ‫ل ِإْبِلي َ‬‫ن ‪ِ 73‬إ ّ‬ ‫جَمُعو َ‬
‫لِئَكُة ُكّلُهْم َأ ْ‬‫جَد اْلَم َ‬
‫سَ‬‫ن ‪َ 72‬ف َ‬ ‫جِدي َ‬‫سا ِ‬‫حي َفَقُعوا َلُه َ‬ ‫ت ِفيِه ِمن ّرو ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫سّوْيُتُه َوَنَف ْ‬
‫‪َ 71‬فِإَذا َ‬
‫ن ‪َ 76‬قا َ‬
‫ل‬ ‫طي ٍ‬‫خَلْقَتُه ِمن ِ‬ ‫خَلْقَتِني ِمن ّناٍر َو َ‬ ‫خْيٌر ّمْنُه َ‬ ‫ل َأَنا َ‬
‫ن ‪َ 75‬قا َ‬ ‫ن اْلَعاِلي َ‬
‫ت ِم َ‬‫ت َأْم ُكن َ‬
‫سَتْكَبْر َ‬ ‫ي َأ ْ‬
‫ت ِبَيَد ّ‬ ‫خَلْق ُ‬‫جَد ِلَما َ‬‫سُ‬ ‫ك َأن َت ْ‬‫س َما َمَنَع َ‬ ‫ل َيا ِإْبِلي ُ‬
‫َقا َ‬
‫ظِرينَ ‪ِ 80‬إَلى‬ ‫ن اْلُمن َ‬‫ك ِم َ‬‫ل َفِإّن َ‬‫ن ‪َ 79‬قا َ‬ ‫ظْرِني ِإَلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ‬ ‫ب َفَأن ِ‬‫ل َر ّ‬ ‫ن ‪َ 78‬قا َ‬ ‫ك َلْعَنِتي ِإَلى َيْوِم الّدي ِ‬ ‫عَلْي َ‬
‫ن َ‬ ‫جيٌم ‪َ 77‬وِإ ّ‬ ‫ك َر ِ‬ ‫ج ِمْنَها َفِإّن َ‬ ‫خُر ْ‬
‫َفا ْ‬
‫جَهّنَم ِمن َ‬
‫ك‬ ‫ن َ‬‫لّ‬ ‫لْم َ‬‫ل ‪َ 84‬‬ ‫ق َأُقو ُ‬ ‫حّ‬ ‫ق َواْل َ‬‫حّ‬ ‫ل َفاْل َ‬
‫ن ‪َ 83‬قا َ‬ ‫صي َ‬‫خَل ِ‬ ‫ك ِمْنُهُم اْلُم ْ‬‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬ ‫ن ‪ِ 82‬إ ّ‬ ‫جَمِعي َ‬ ‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬ ‫ك َُ‬ ‫ل َفِبِعّزِت َ‬
‫ت اْلَمْعُلوِم ‪َ 81‬قا َ‬ ‫َيْوِم اْلَوْق ِ‬
‫ن ‪ - {{ 85‬ص ‪.‬‬ ‫جَمِعي َ‬
‫ك ِمْنُهْم َأ ْ‬ ‫َوِمّمن َتِبَع َ‬
‫ل ‪ ،‬سورة‬
‫ويبدو لنا هذا النص أشبه بتلخيص للحوار ‪ ،‬أو بالحرى للقصة التي جاءت تفاصيل كثيرة منها في السورة التالية نزو ً‬
‫) العراف ( ‪ ،‬لكن حسبنا الن هذا الموجز الذي يقتصر على جانب الحوار بين ال وبين المتمرد إبليس ‪.‬‬

‫وفي بداية النظر في مكونات الحوار نؤكد هنا على ضرورة مراعاة المسافة بين ما ينبغي ل من جلل وعظمة وعلو شأن ‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه الخالق الباريء المصور ‪ ،‬وبين إبليس من حيث هو مخلوق يواجه خالقه ‪ ،‬وهو ل يذيد في قدره عن أي مخلوق متمرد على‬
‫صّر على معصيته ‪ ،‬سواء أكان من النس أم من الجن ‪ ..‬هذا من ناحية ‪..‬‬ ‫أوامر الخالق ‪ُ ،‬م ِ‬
‫ومن ناحية أخرى يجب أن نستبعد الصورة الساذجة التي يتخيلها بعض من تناولوا هذه القصة ‪ ..‬أعني ‪ :‬صورة المواجهة المباشرة في‬
‫هذا الحوار ‪ ،‬فل ريب أن الشيطان كان في موقعه من الكون ‪ ،‬ل يستطيع أن يتجاوز قدره ‪ ،‬فيتطاول إلى المقام السنى ‪ ،‬مقام رب العزة‬
‫‪ ،‬ليجابهه بتلك المقولت ‪ ،‬فال أعلى وأجل من أن تدركه البصار ‪ ،‬أو تحده الوهام والظنون ‪ .‬وغاية ما نتصوره أن يكون الحوار قد‬
‫جرى من خلل الوحي النفسي ‪ ،‬الذي أحاط بتفاصيله من يعلم السر وأخفى ‪ ،‬فهو ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬حوار جرى في نفس إبليس ‪ ،‬حين رفض‬
‫المر بالسجود ‪ ،‬من منطلق اعتقاده بأنه خير من آدم من حيث الصل ‪ ،‬فهو من نار ‪ ،‬وآدم من طين ‪ ،‬وذلك ردًا على ما ثار في نفسه‬
‫ج ِمْنَها‬
‫خُر ْ‬
‫من أن إباءه السجود ل تفسير له إل الكبر والغطرسة ‪ ،‬وحينئذ جاءه المر اللهي ‪ -‬أيضًا ‪ -‬من طريق الوحي النفسي ‪َ }} :‬فا ْ‬
‫ن {{ ‪ ..‬وهكذا سار الحوار إلى نهايته ‪ ،‬بكل ما تضمن من حقائق وأقدار عبرت عنها كل‬ ‫ك َلْعَنِتي ِإَلى َيْوِم الّدي ِ‬
‫عَلْي َ‬
‫ن َ‬‫جيٌم * َوِإ ّ‬
‫ك َر ِ‬
‫َفِإّن َ‬
‫رسالت النبياء ‪ ،‬من لدن آدم إلى محمد ‪ ،‬عليهم جميعًا أفضل الصلة وأتم السلم ‪.‬‬

‫قد يحلو لبعض المتفلسفة أن يروا في هذا الموقف البليسي تعبيرًا عن القوة والشجاعة الدبية ‪ ..‬بل وزاد بعضهم في المغالطة ‪،‬‬
‫فرأى في هذا الموقف آية على منتهى الـتوحيد ‪ ،‬فهو ل يسجد إل ل وحده !! ‪ ..‬وتخيل بعضهم أن إبليس حين تمرد على ال صار‬
‫رمز للحرية ‪ ،‬وزعيم الحرار الرافضين للقيود !! ‪..‬‬

‫والواقع أن موقف إبليس في ذلك الحوار يعكس ملمح شخصية متناقضة غبية ‪ ،‬غاية في الغباء والتناقد ‪ ،‬والضعف ‪ ،‬والجبن ‪،‬‬
‫والجهالة ‪ ،‬وذلك إذا ما احتكمنا إلى المقاييس الخلقية المثالية ‪ ،‬وإنما أضفي عليه حلم ال الواسع هالة من التعاظم تليق بمتكبر‬
‫حقود ‪ ،‬هو إبليس ‪.‬‬

‫فليس من القوة أن يتصدى المخلوق للخالق ‪ ،‬ويتمرد عليه ‪ ،‬وهو يعرف يقينًا أنه هو الخاسر في النهاية ‪ ..‬بل وهو يعلم أنه يخاطب‬
‫ربه ذا القوة المطلقة ‪ ،‬والبأس الشديد ‪.‬‬

‫وليس من الشجاعة أن يتجرأ على ال ‪ ،‬وهو يعلم أن ذلك يؤدي به إلى جهنم ‪ ،‬وبئس المصير ‪ ،‬ثم يستمر في هذا التجرؤ إلى حد‬
‫الوقاحــة والتحدي العبيط !!‬

‫وليس التوحيد إل الذعان بالعبودية والطاعة المطلقة ل وحده ل شريك له ‪ ،‬والنصياع لوامره ‪ ،‬وإبليس حين رفض السجود لدم‬
‫لم يكن إل رافضًا لمر ال ‪ ،‬وقد أوقعه في هذا الجرم سوء تأوله ‪ ،‬أو لنقل ‪ :‬إنه قد رَكَبُه في هذه اللحظة شيطان آخر أعتى منه ‪ -‬لو‬
‫صح التصور ‪ -‬فأغراه بالتمرد ‪ ،‬وأعماه عن تبين وجه الحق الذي أدركته الملئكة ‪ ،‬فالملئكة هم في الواقع أذكى منه ‪ ،‬وأعمق‬
‫توحيدًا ‪ ،‬على حين خرج هو عن دائرة التوحـيد !!‬

‫ل على غباء إبليس أنه وقد خفي عليه المعنى الصحيح للسجود ‪ ،‬وهو موالة آدم وذريته ‪ -‬إلى يوم القيامة ‪ ،‬كما أدركت‬ ‫ويكفي دلي ً‬
‫ذلك الملئكة ‪ -‬انبرى بعقله الغبي يعقد مقارنة بين النار والطين ‪ ،‬ويزعم خيريته على آدم من هذا الجانب ‪ ،‬مع أن الطين عند التأمل‬
‫خير من النار ‪ ،‬فهو زكي معطاء ‪ ،‬وهي أداة إهلك وعذاب ‪.‬‬

‫ل عن ذلك ‪ :‬فإن المر بالسجود لدم لم يكن يعني أفضلية ‪ ،‬بقدر ما كان يعني إرادة تنظيم الحياة الجديدة على أساس من تعاون‬‫وفض ً‬
‫خلقية الثلثة ‪ :‬النور والطين والنار ‪ ،‬أو الملئكة ‪ ،‬والبشر والجن ‪ ،‬وخضوع الجميع لمر ال وإرادته ‪.‬‬ ‫المستويات ال َ‬

‫وهب ‪ -‬يا إبليس ‪ -‬أن السجود كان يعني الفضلية ‪ ،‬فإن هذه الفضلية لم تكن تعني الصل المادي ‪ ،‬بل تعني تعلق الرادة اللهية‬
‫بالمر وتنفيذه من ناحية ‪ ،‬ثم إن معيار الفضلية في مستواها العلوي ليس مادة الخلق ‪ ،‬من طين أو من نار ‪ ،‬بل هو التنافس في‬
‫ق في سماوات الرضوان‬ ‫ل َأْتَقاُكْم ‪ - {{ 13 ...‬الحجرات ‪ ، .‬فقد ُيحّل ُ‬
‫عنَد ا ِّ‬
‫ن َأْكَرَمُكْم ِ‬
‫طاعة ال ‪ ،‬كما قال تعالى في محكم التنزيل ‪ِ }} :‬إ ّ‬
‫ي من طين ‪ ،‬لن المعيار هو التقوى ‪.‬‬ ‫سّ‬
‫ي من نار ‪ ،‬وقد يرسب في قاع الجحيم إن ِ‬ ‫جن ّ‬
‫ِ‬

‫لقد سجل إبليس على نفسه نقطة غباء ‪ ،‬حين حصر نفسه في ملحظة الفرق بين الطين والنار ‪ ،‬ولو كان ذلك صحيحًا لفخرت الملئكة‬
‫عَبَدتُه قد تصوروا أن‬
‫عليه بأنها من ) النور ( ‪ ،‬وهو خير من النار قطعًا ‪ ،‬بمقياس إبليس ‪ ..‬بل وبكل مقياس !! وإذا كان أتباع الشيطان و َ‬
‫إلههم هو رمز الحرية ‪ ،‬وزعيم الحرار فما ذلك إل أثر من آثار تسلطه بغبائه على عقولهم ‪ ،‬إن كانت لهم عقول ‪ ،‬لقد تعلقوا بمفهوم‬
‫سمِه‬
‫التمرد الذي أبداه إبليس في مواجهة أمر خالقه ‪ ،‬ولم ينظروا إلى أنه لم ينكر ربوبية ال ‪ ،‬في مطلبه أن ينظره إلى يوم البعث ‪ ،‬وفي َق َ‬
‫ل منه أن يتمرد على ) رب العزة ( باعترافه ‪ ،‬ويختار طريق الغواية‬ ‫بعزة ربه ‪ ،‬وهو مسلك يصمه بالتناقض أو بالجنون ‪ ،‬إذ كيف ُيقَب ُ‬
‫والغراء والذلة ‪ ،‬عامدًا متعمدًا ‪ ..‬اللهم إل أن يكون غبيًا غاية في الغباء ‪ ،‬أو منقادًا لشيطان أعتى منه ‪ ،‬تسلط عليه حتى أضله هذا‬
‫الضلل المبين ؟ !! وحتى فقد القدرة على التمييز فلم يلحظ تناقضه الفاضح !! فإذا لم يكن هناك شيطان قبله ‪ ،‬فهو إذا إنطماس‬
‫ل وأخيرًا الحقد الذي ملكه تجاه آدم وذريته ‪.‬‬
‫البصيرة ‪ ،‬وعمى البصر ‪ ،‬وهو أو ً‬

‫أين الحرية إذن ؟ !! اللهم إل أن يكون معنى الحرية هو النتصار للرذيلة ‪ ،‬والتحلل من كل قيمة تعمر بها الحياة ‪ ..‬أن يكون معنى‬
‫الحرية تخريب الدنيا ‪ ،‬وتدمير بنائها اللهي ‪ ،‬ونشر الفساد واللحاد ‪ ،‬وإشاعة الفوضى والنفلت ‪ ،‬وسيادة الحقد على وجوه الحياة‬
‫كلها ؟ !!‬

‫ومع ذلك ‪ ،‬إن إبليس كان في موقفه مغرورًا ‪ ،‬لنه زعم لنفسه القدرة على إغواء الناس أجمعين ‪ ،‬إل المخلصين منهم من عباد ال ‪،‬‬
‫وعجيب أن يدرك هذا الفرق بين الغواية والخلص ثم يستمر في مزاعمه ‪ ،‬فكان نذير ال له بأن يمل جهنم منه ومن أتباعه أجمعين ‪،‬‬
‫وبهذا ختم الحوار ‪ -‬كما قدمته سورة ) ص ( ‪ -‬في أول سياق يتعرض لهذه القصة ‪.‬‬

‫فإذا قرأنا ما جاء في السورة التالية لها ‪ ،‬في سورة العراف ‪ -‬الثامنة والثلثين ‪ -‬وجدنا مذيدًا من التفاصيل عن أساليب إبليس في إفساد‬
‫سَتِقيَم ‪ُ 16‬ثّم لِتَيّنُهم ّمن‬
‫ك اْلُم ْ‬
‫طَ‬
‫صَرا َ‬
‫ن َلُهْم ِ‬
‫لْقُعَد ّ‬
‫غَوْيَتِني َ‬
‫ل َفِبَما َأ ْ‬
‫الحياة الدمية ) النسانية ( ‪ ،‬وهو مضمون قوله ) لغوينهم ( ‪َ }} :‬قا َ‬
‫ن ‪ - {{ 17‬العراف ‪.‬‬ ‫شاِكِري َ‬ ‫جُد َأْكَثَرُهْم َ‬
‫ل َت ِ‬
‫شَمآِئِلِهْم َو َ‬
‫عن َ‬
‫ن َأْيَماِنِهْم َو َ‬
‫عْ‬‫خْلِفِهْم َو َ‬
‫ن َ‬
‫ن َأْيِديِهْم َوِم ْ‬
‫َبْي ِ‬

‫ن ِإَلى َيْوِم اْلِقَياَمِة‬


‫خْرَت ِ‬
‫ن َأ ّ‬
‫ي َلِئ ْ‬
‫عَل ّ‬
‫ت َ‬
‫ك َهـَذا اّلِذي َكّرْم َ‬
‫ل َأَرَأْيَت َ‬
‫وفي السورة التاسعة والربعين ‪ -‬السراء ‪ -‬يخاطب إبليس ربه ‪َ }} :‬قا َ‬
‫ل ‪ - {{ 62‬السراء ‪.‬‬
‫ل َقِلي ً‬
‫ن ُذّرّيَتُه َإ ّ‬
‫حَتِنَك ّ‬
‫لْ‬‫َ‬

‫جِل ْ‬
‫ب‬ ‫صْوِتكَ َوَأ ْ‬
‫ت ِمْنُهْم ِب َ‬‫طْع َ‬
‫سَت َ‬
‫نا ْ‬
‫سَتْفِزْز َم ِ‬
‫جَزاء ّمْوُفوًرا ‪َ 63‬وا ْ‬ ‫جَزآُؤُكْم َ‬ ‫جَهّنَم َ‬
‫ن َ‬ ‫ك ِمْنُهْم َفِإ ّ‬
‫ب َفَمن َتِبَع َ‬
‫ل اْذَه ْ‬
‫ويجيبه ال سبحانه ‪َ }} :‬قا َ‬
‫غُروًرا ‪ - {{ 64‬السراء ‪.‬‬ ‫ل ُ‬‫ن ِإ ّ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫عْدُهْم َوَما َيِعُدُهُم ال ّ‬
‫لْولِد َو ِ‬ ‫ل َوا َ‬‫لْمَوا ِ‬
‫شاِرْكُهْم ِفي ا َ‬‫ك َو َ‬
‫جِل َ‬
‫ك َوَر ِ‬
‫خْيِل َ‬
‫عَلْيِهم ِب َ‬
‫َ‬

‫ك ِمْنُهُم‬
‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬
‫ن ‪ِ 39‬إ ّ‬
‫جَمِعي َ‬
‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬‫ض َو ُ‬
‫لْر ِ‬
‫ن َلُهْم ِفي ا َ‬
‫لَزّيَن ّ‬
‫غَوْيَتِني ُ‬
‫ب ِبَمآ َأ ْ‬
‫ل َر ّ‬
‫وفي السورة الثالثة والخمسين ‪ -‬الحجر ‪َ }} -‬قا َ‬
‫ن ‪ - {{ 40‬الحجر ‪.‬‬ ‫صي َ‬
‫خَل ِ‬
‫اْلُم ْ‬

‫ل ِإَناًثا‬
‫ن ِمن ُدوِنهِ ِإ ّ‬ ‫عو َ‬
‫وفي السورة الثالثة والتسعين ‪ -‬النساء ‪ -‬يأتي حديث عن الشيطان ‪ ،‬والمقصود به إبليس ‪ -‬قال تعالى ‪ِ }} :‬إن َيْد ُ‬
‫ن آَذانَ‬ ‫لَمّنَيّنُهْم َولُمَرّنُهْم َفَلُيَبّتُك ّ‬
‫ضّلّنُهْم َو ُ‬
‫ل ِ‬
‫ضا ‪َ 118‬و ُ‬
‫صيًبا ّمْفُرو ً‬‫ك َن ِ‬
‫عَباِد َ‬
‫ن ِ‬
‫ن ِم ْ‬
‫خَذ ّ‬
‫لّت ِ‬
‫ل َ‬ ‫ل َوَقا َ‬‫طاًنا ّمِريًدا ‪ّ 117‬لَعَنُه ا ّ‬‫شْي َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ِإ ّ‬
‫عو َ‬‫َوِإن َيْد ُ‬
‫طا ُ‬
‫ن‬ ‫شْي َ‬ ‫سَراًنا ّمِبيًنا ‪َ 119‬يِعُدُهْم َوُيَمّنيِهْم َوَما َيِعُدُهُم ال ّ‬
‫خْ‬‫سَر ُ‬
‫خِ‬‫ل َفَقْد َ‬
‫نا ّ‬‫ن َوِلّيا ّمن ُدو ِ‬
‫طا َ‬‫شْي َ‬
‫خِذ ال ّ‬‫ل َوَمن َيّت ِ‬‫قا ّ‬
‫خْل َ‬
‫ن َ‬‫لْنَعاِم َولُمَرّنُهْم َفَلُيَغّيُر ّ‬
‫اَ‬
‫غُروًرا ‪ - {{ 120‬النساء ‪.‬‬ ‫ل ُ‬
‫ِإ ّ‬

‫غِوَيّنُهْم {{ ‪ ،‬فهو يقعد لبني آدم على الصراط‬


‫وهكذا ‪ -‬عبر النصوص المتتابعة ‪ -‬يتضح المقصود بالغواية في قوله تعالى ‪ }} :‬لُ ْ‬
‫المستقيم ‪ ،‬بأن يعترضهم على طريق السلم ‪ ،‬وهو يتسلل إلى حياتهم من كل اتجاه بوسوسته بقدر ما يستطيع ‪ ،‬وقد ورد في الحديث ))‬
‫إن الشيطان قعد لبن آدم بأطرقه ؛ قعد له بطريق السلم فقال له ‪ :‬تدع دين آبائك ‪ ،‬فعصاه فأسلم ‪،‬‬
‫ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له ‪ :‬تدع ديارك فتتغرب ‪ ،‬فعصاه فهاجر ‪ ،‬ثم قعد له بطريق الجهاد‬
‫فقال له ‪ :‬تقاتل فتقتل فيقسم مالك ‪ ،‬وتنكح إمرأتك ‪ ،‬فعصاه فقاتل (( ) الكشاف ‪ ، ( 71 - 70 / 2‬وإبليس يتوعد‬
‫هنا بأن يحاصر بني آدم من جميع الجهات ‪ ،‬كناية في محاولته الهيمنة عليهم ليذهلهم عما خصهم ال به من الكرامة ‪ ،‬وهو ما جاء في‬
‫ن ِإَلى‬
‫خْرَت ِ‬
‫ن َأ ّ‬
‫ي َلِئ ْ‬
‫عَل ّ‬
‫ت َ‬
‫ك َهـَذا اّلِذي َكّرْم َ‬
‫ل َأَرَأْيَت َ‬
‫ل ‪ -‬في الية الكريمة ‪َ }} :‬قا َ‬
‫النص التالي في سورة السراء ‪ -‬التاسعة والربعين نزو ً‬
‫ل ‪ - {{ 62‬السراء ‪ ،‬والحتناك ‪ ،‬مأخوذ من الحنك ‪ ،‬فكأنه يتوعد بأن يلتهم بوسوسته بني آدم ‪ ،‬إل‬ ‫ل َقِلي ً‬
‫ن ُذّرّيَتُه َإ ّ‬
‫حَتِنَك ّ‬
‫لْ‬‫َيْوِم اْلِقَياَمِة َ‬
‫ل منهم ‪ ،‬ممن يعصم ال من غواية الشيطان ‪ ،‬وهذه صورة أخرى من تفسير معنى الغواء‬ ‫قلي ً‬

‫ل منهم ‪ ،‬ممن يعصم ال من غواية الشيطان ‪.‬‬


‫توعد إبليس بأن يلتهم بوسوسته بني آدم ‪ ،‬إل قلي ً‬

‫طْع َ‬
‫ت‬ ‫سَت َ‬
‫نا ْ‬‫سَتْفِزْز َم ِ‬
‫جَزاء ّمْوُفوًرا ‪َ 63‬وا ْ‬‫جَزآُؤُكْم َ‬ ‫جَهّنَم َ‬‫ن َ‬ ‫ك ِمْنُهْم َفِإ ّ‬‫ب َفَمن َتِبَع َ‬
‫ل اْذَه ْ‬
‫ويرد ال سبحانه وتعالى عليه هذا الوعيد ‪َ }} :‬قا َ‬
‫عَباِدي َلْيسَ َل َ‬
‫ك‬ ‫ن ِ‬‫غُروًرا ‪ِ 64‬إ ّ‬ ‫ل ُ‬‫ن ِإ ّ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫عْدُهْم َوَما َيِعُدُهُم ال ّ‬
‫لْولِد َو ِ‬ ‫ل َوا َ‬
‫لْمَوا ِ‬
‫شاِرْكُهْم ِفي ا َ‬‫ك َو َ‬
‫جِل َ‬
‫ك َوَر ِ‬
‫خْيِل َ‬
‫عَلْيِهم ِب َ‬
‫ب َ‬‫جِل ْ‬
‫ك َوَأ ْ‬
‫صْوِت َ‬
‫ِمْنُهْم ِب َ‬
‫ل ‪ - {{ 65‬السراء ‪ ، .‬وفي هذا الرد توصيف لوسائل الغواء ‪ ،‬ومدى ما يمكن أن يكون لبليس من‬ ‫ك َوِكي ً‬ ‫ن َوَكَفى ِبَرّب َ‬ ‫طا ٌ‬
‫سْل َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫َ‬
‫جل ‪ ،‬وهو‬ ‫أساليب تخريب الحياة اليمانية ؛ أن يستفز الناس ويستخفهم بصوته ‪ ،‬وأن يجلب عليهم ويصيح بهم بكل ما يملك من خيل وَر ْ‬
‫كناية عن الضجيج والصخب ‪ ،‬والتسلط ‪ ،‬وقد يدخل في مضمون الصوت والجلبة كل كلم من العبث والمجون ‪ ،‬والفحش والبذاء ‪،‬‬
‫ونداءات الجنس ‪ ،‬وأفلم النحلل ‪ ،‬وكل هذه أساليب شيطانية تحقق أهداف إبليس ‪.‬‬

‫وحسبنا في قول رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ } :‬إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم { ‪ ،‬فهو جار إلى المخ مباشرة ‪ ،‬ويبقى‬
‫لْولِد {{ ‪ ،‬وقد فسره الزمخشري بقوله ‪ :‬واما المشاركة في الموال‬‫ل َوا َ‬
‫لْمَوا ِ‬
‫شاِرْكُهْم ِفي ا َ‬
‫في اليتين السابقتين قوله تعالى ‪َ }} :‬و َ‬
‫والولد فكل معصية يحملهم عليها كالربا ‪ ،‬والمكاسب المحرمة ‪ ،‬والبحيرة والسائبة ‪ ،‬والنفاق في الفسوق والسراف ‪ ،‬ومنع الزكاة ‪،‬‬
‫والتوصل إلى الولد بالسبب الحرام ‪ ،‬ودعوى ولد بغير نسب ‪ ،‬والتسمية بعبد العزى ‪ ،‬وعبد الحارث ‪ ،‬والتهويد والتنصير ‪ ،‬والحمل‬
‫حَرف الذميمة ‪ ،‬والعمال المحظورة ‪ ) ،‬وعدهم ( المواعيد الكاذبة من شفاعة اللهة ‪ ،‬والكرامة على ال بالنساب الشريفة ‪،‬‬ ‫على ال ِ‬
‫وتسويف التوبة ‪ ،‬ومغفرة الذنوب بدونها ‪ ،‬والتكال على الرحمة وشفاعة الرسول في الكبائر ‪ ،‬والخروج من النار بعد أن يصيروا حممًا‬
‫‪ ،‬وإيثار العاجل على الجل ) الكشاف ‪. ( 457 / 2‬‬

‫غَوْيَتِني‬‫ب ِبَمآ َأ ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫ل ‪َ }} :‬قا َ‬ ‫وهذه هي أساليب الغواية الشيطانية التي نزلت فيها اليتان من سورة الحجر ‪ ،‬وهي الثالثة والخمسون نزو ً‬
‫ن ‪ - {{ 40‬الحجر ‪ ، .‬فعبارة ) لزين لهم في الرض ( تلخيص‬ ‫صي َ‬‫خَل ِ‬ ‫ك ِمْنُهُم اْلُم ْ‬
‫عَباَد َ‬
‫ل ِ‬‫ن ‪ِ 39‬إ ّ‬ ‫جَمِعي َ‬‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬‫لْ‬
‫ض َو ُ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن َلُهْم ِفي ا َ‬‫لَزّيَن ّ‬
‫ُ‬
‫لما ورد من أساليب الغواية في سورة ) ص والعراف والسراء ( ‪ ،‬وقد جاءت اليات من سورة النساء المدنية ‪ ،‬وهي الثالثة والتسعون‬
‫طاًنا ّمِريًدا‬ ‫شْي َ‬‫ل َ‬ ‫ن ِإ ّ‬
‫عو َ‬ ‫ل ِإَناًثا َوِإن َيْد ُ‬
‫ن ِمن ُدوِنِه ِإ ّ‬ ‫عو َ‬ ‫ل ‪ -‬وهي أيضًا آخر ما نزل في وصف ألعيب الشيطان ‪ ..‬قال تعالى ‪ِ }} :‬إن َيْد ُ‬ ‫نزو ً‬
‫خْل َ‬
‫ق‬ ‫ن َ‬ ‫لْنَعاِم َولُمَرّنُهْم َفَلُيَغّيُر ّ‬ ‫نا َ‬ ‫ن آَذا َ‬ ‫لَمّنَيّنُهْم َولُمَرّنُهْم َفَلُيَبّتُك ّ‬
‫ضّلّنُهْم َو ُ‬
‫ل ِ‬ ‫ضا ‪َ 118‬و ُ‬ ‫صيًبا ّمْفُرو ً‬‫ك َن ِ‬ ‫عَباِد َ‬‫ن ِ‬ ‫ن ِم ْ‬
‫خَذ ّ‬
‫لّت ِ‬
‫ل َ‬
‫ل َوَقا َ‬‫‪ّ 117‬لَعَنُه ا ّ‬
‫غُروًرا ‪ - {{ 120‬النساء ‪.‬‬ ‫ل ُ‬ ‫ن ِإ ّ‬‫طا ُ‬
‫شْي َ‬‫سَراًنا ّمِبيًنا ‪َ 119‬يِعُدُهْم َوُيَمّنيِهمْ َوَما َيِعُدُهُم ال ّ‬ ‫خْ‬ ‫سَر ُ‬ ‫خِ‬‫ل َفَقْد َ‬
‫نا ّ‬ ‫ن َوِلّيا ّمن ُدو ِ‬ ‫طا َ‬
‫شْي َ‬‫خِذ ال ّ‬
‫ل َوَمن َيّت ِ‬ ‫ا ّ‬

‫والنص هنا يذكر من أساليب الشيطان ) الضلل ( وهو لفظ عام يشمل كل ما مضى ‪ ،‬ويضيف النص أسلوب ) الّتمْنية ( بالمان ّ‬
‫ي‬
‫الباطلة من طول العمار ‪ ،‬أي ‪ :‬شق أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ‪ ،‬وجاء الخامس ذكرًا ‪ ،‬وتحريم النتفاع بها ‪ ،‬ثم يلي ذلك ما كانت‬
‫تعرفه الجاهلية أيضًا من ) تغيير خلق ال ( ‪ ،‬وكان ذلك يتمثل في فقء عين الفحل الخامي ليعفى من الركوب ‪ ،‬كما يتمثل في خصاء‬
‫بني آدم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن المقصود تشويه السلم ‪ ،‬وهو فطرة ال التي فطر الناس عليها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الوشم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬التخنث ) الكشاف ‪/ 1‬‬
‫‪. ( 565 - 564‬‬

‫ونسجل هنا بعض الملحظات ‪:‬‬

‫الولــى ‪ :‬أن إبليس فيما توعد به لم يكن يرسم خريطة الحياة الدمية المستقبلة ‪ ،‬ولكنه كان في موقفه يطفح حقدًا ‪ ،‬وينطق كذبًا‬
‫وغرورًا ‪ ..‬هو صورة مما يتمنى أن يكون ‪ ،‬ولسوف نجد أن ما ذكره من عوائد الجاهلية لم يكتب له البقاء ‪ ،‬ولم يعد له أثر ‪ ..‬بل تلشى‬
‫من الحياة النسانية تمامًا ‪ ،‬ولعله استبدل به أساليب أخرى تتناسب مع فنون العصر وجنونه ‪.‬‬

‫والثانية ‪ :‬أن تلقينا لمقولت إبليس ل ينبغي أن يخدعنا عن حقيقته ‪ ،‬وهي أنه غبي ومغرور ‪ ،‬بل هو ) الَغرور ( ‪ ..‬لم يتصف كائن‬
‫ل اْلَغُروُر ‪ - {{ 5‬فاطر ‪ ، .‬أي ‪ :‬الغوى الكبر ‪ ،‬وكل مواقفه وأساليبه تدل على ذلك ‪ ،‬ولسوف نزيد هذه‬
‫ل َيُغّرّنُكم ِبا ِّ‬
‫بذلك سواه ‪َ }} :‬و َ‬
‫الملحظات عمقًا في حديثنا عن شخصية الشيطان كما تصورها آيات القرآن ‪.‬‬

‫والثالثة ‪ :‬أن ما ذكرنا من أساليب الغواء الشيطاني ليس إل الشكل النظري ‪ ،‬والتوعد المغيظ ‪ -‬إن صح التعبير ‪ -‬فأما التطبيق‬
‫العملي فهو في كل عصر بحسبه ‪ ،‬ومع كل إنسان بحسبه أيضًا ‪ ،‬والهدف الرئيسي أن يذيد من حصيلة جهنم من بني آدم ‪ ،‬حتى ل‬
‫يصلها وحده ‪ ،‬أو مع أتباعه من شياطين النس والجن وحدهم ‪.‬‬

‫ك َلْعَنِتي ِإَلى َيْوِم الّدي ِ‬


‫ن‬ ‫عَلْي َ‬
‫ن َ‬‫جيٌم ‪َ 77‬وِإ ّ‬ ‫ك َر ِ‬‫ج ِمْنَها َفِإّن َ‬
‫خُر ْ‬
‫ل َفا ْ‬‫ويبقى من هذا الحوار ما جاء في قوله تعالى في سورة ) ص ( ‪َ }} :‬قا َ‬
‫غِرينَ‬‫صا ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫ك ِم َ‬‫ج ِإّن َ‬
‫خُر ْ‬
‫ك َأن َتَتَكّبَر ِفيَها َفا ْ‬
‫ن َل َ‬
‫ط ِمْنَها َفَما َيُكو ُ‬‫ل َفاْهِب ْ‬
‫‪ - {{ 78‬ص ‪ ، .‬وقد جاء في مقابلها في سورة العراف ‪َ }} :‬قا َ‬
‫ج ِمْنَها َمْذُؤوًما‬‫خُر ْ‬‫لا ْ‬ ‫‪ - {{ 13‬العراف ‪ ، .‬كما تكرر هذا المر بعدما أظهر إبليس من وقاحة في مخاطبة المولى عز وجل ‪َ }} :‬قا َ‬
‫حوًرا ‪ - {{ 18 ...‬العراف ‪.‬‬
‫ّمْد ُ‬

‫ن ‪78‬‬ ‫ك َلْعَنِتي ِإَلى َيْوِم الّدي ِ‬


‫عَلْي َ‬
‫ن َ‬ ‫جيٌم ‪َ 77‬وِإ ّ‬
‫ك َر ِ‬ ‫ج ِمْنَها َفِإّن َ‬
‫خُر ْ‬
‫ل َفا ْ‬
‫وما جاء في سورة الحجر ل يختلف عما جاء في سورة ) ص ( ‪َ }} :‬قا َ‬
‫ل عن‬ ‫ط ِمْنَها {{ ‪ ،‬وكلهما يثير سؤا ً‬ ‫ل َفاْهِب ْ‬
‫ج ِمْنَها {{ أو }} َقا َ‬ ‫خُر ْ‬
‫ل َفا ْ‬
‫{{ ‪ -‬ص ‪ .. .‬وقد استـــخدم النص الكريم أحد لفظين ‪َ }} :‬قا َ‬
‫المقصود بالضمير في ) منها ( ‪ ،‬علم يعود هذا الضمير ولم يتقدم ذكر لما يعــود إليه ؟ ‪ ..‬وذلك مع ملحظة أن المر موجه إلى إبليس‬
‫عُدّو ‪...‬‬
‫ض َ‬ ‫ضُكْم ِلَبْع ٍ‬ ‫طوْا َبْع ُ‬ ‫ل اْهِب ُ‬ ‫وحده ‪ ،‬على خلف المر الخر الذي جاء في الحوار مع آدم وزوجه ‪ ،‬بعد الوقوع في الخطيئة ‪َ }} :‬قا َ‬
‫طوْا ِمْنَها جَِميعًا ‪...‬‬ ‫عُدّو ‪ - {{ 123 ...‬طه ‪ ، .‬أو ‪ُ }} :‬قْلَنا اْهِب ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ضُكْم ِلَبْع ٍ‬
‫جِميعًا َبْع ُ‬
‫طا ِمْنَها َ‬
‫‪ - {{ 24‬العراف ‪ ، .‬أو ‪ُ }} :‬قْلَنا اْهِب ُ‬
‫‪ - {{ 38‬البقرة ‪.‬‬

‫إن المتأمل في المـر الموجه إلى آدم وزوجه ل يعسر عليه أن يلحظ عود الضمير إلى ) الجنة ( المذكورة في السياق المتقدم من القصة‬
‫‪ ،‬أما المر الموجه إلى إبليس وحده فهو الذي يثير التساؤل ‪ ،‬وقد ذهب الزمخشري إلى أن المراد هو الهبوط أو الخروج من السماء التي‬
‫ك َأن َتَتَكّبَر‬
‫ن َل َ‬
‫هي مكان المطيعين المتواضـعين من الملئكة إلى الرض التي هي مقر العاصـين المتكبرين من الثقلين ‪َ }} ..‬فَما َيُكو ُ‬
‫ن {{ ‪ ،‬أي ‪ :‬من أهل الصغار والهوان على ال ‪ ،‬وعلى أوليائه لتكبرك ‪ ..‬وذلك أنه لما‬ ‫غِري َ‬
‫صا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ك ِم َ‬
‫ج ِإّن َ‬
‫خُر ْ‬
‫ِفيَها {{ وتعصى }} َفا ْ‬
‫س الصغار ( ) الكشاف ‪. ( 69 / 2‬‬ ‫أظهر الستكبار ) ُأْلِب َ‬

‫ويرى صاحب المنار ‪ ) :‬أن الهبوط هو النحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه ‪ ،‬أو من مكانة ومنزلة إلى ما دونها ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫والضمير عائد إلى الجنة التي خلق ال فيها آدم ‪ ،‬وكانت على نشز مرتفع من الرض ) المنار ‪ ، ( 296 /‬ولعل بيان الزمخشري أقرب‬
‫إلى العقل ‪ ،‬لعدم تقدم ما يعود عليه الضمير ‪ ،‬سوى ما يفهم من المقام ‪ ،‬والمر ليس إهباطًا ماديًا ‪ ..‬بل هو نوع من الزجر ‪ ،‬كما قال‬
‫ك ِمْنُهْم ‪ ، {{ ..‬ولن الجنة التي وردت في الحوار مع آدم قد أسكنه ال إياها بعد صدور هذا المر‬ ‫ب َفَمن َتِبَع َ‬
‫سبحانه وتعالى ‪ }} :‬اْذَه ْ‬
‫إلى إبليس ‪ ،‬وقريب من ذلك ما ذكـره صاحب المنار عن الحافظ ابن كثير قال ‪ ) :‬يقول تعالى لبليس بأمر قدر كوني ‪ :‬فاهبط منها‬
‫بسبب عصيانك لمري ‪ ،‬وخروجك عن طاعتي ‪ ،‬فما يكون لك أن تتكبر فيها ؛ قال كثير من المفسرين ‪ :‬الضمير عائد إلى الجنة ‪،‬‬
‫ن {{ ‪ ..‬أي ‪ :‬الذليلين الحقيرين ‪..‬‬ ‫غِري َ‬
‫صا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ك ِم َ‬
‫ج ِإّن َ‬
‫خُر ْ‬
‫ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت العلى }} َفا ْ‬
‫معاملة له بنقيض قصده ‪ ،‬ومكافئة لمراده بضده ‪ ،‬فعند ذلك استدرك اللعين ‪ ،‬وسأل النظرة إلى يوم الدين ( ‪ ) .‬المنار ‪، ( 297 / 8‬‬
‫وعلى نسق هذا السلوب تجري تعبيرات مماثلة على ألسنة العوام ‪ ،‬ل تراد حرفيتها ‪ ..‬بل المراد مضمونها الموقفي ‪ ،‬كقول العامة ‪:‬‬
‫طَلع ِمْنها وهي ِتْعَمر ( ‪ ،‬فالمقصود هنا مجرد النصراف عن الموضوع ‪ ،‬وعدم التدخل فيه ‪.‬‬ ‫)ا ْ‬

‫ولقد يعين على تبين المراد بالمر الموجه إلى إبليس ) اهبط منها ( ‪ -‬أنه اقترن في آية العراف بما يفسر هذا المراد ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن {{ ‪ ،‬و ) الهبوط ( حركة رأسية من أعلى إلى أدنى ‪ ،‬و ) الخروج ( حركة أفقية من مكان إلى آخر ‪،‬‬ ‫غِري َ‬
‫صا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ك ِم َ‬
‫ج ِإّن َ‬
‫خُر ْ‬
‫}} َفا ْ‬
‫والجمع بين البعدين على المستوى المادي متناقض ‪ ،‬فلم يبق إل المستوى الخلقي ‪ ،‬وهو الهبوط من قمة الطاعة إلى درك التمرد ‪،‬‬
‫والخروج من حرم الرضوان إلى حمأة الفسوق والعصيان ‪ ،‬وذلك يمكن تفسير الهبوط بالخروج ‪.‬‬

‫فأما أن يقال ‪ :‬إن الرض أقل من السماء فقول ل موضع له ‪ ،‬لن الكون كله خلق ال وصنعته ‪ ،‬وهو مجال لمره سبحانه ‪ ،‬ول الخلق‬
‫والمر ‪ ،‬والماكن تشرف بأنها صنعة الخالق ‪ ،‬ل بمن تعلق بها من المخلوقات طائعًا أو عاصيًا ‪ ،‬فاستوى بذلك الظرف والمظروف ‪،‬‬
‫وقد يخص ال بعض خلقه ببعض الماكن ‪ ،‬كما يخص بعض الماكن ببعض خلقه ‪ ،‬وكل ذلك في إطار الخلق والمر ‪ ،‬تبارك ال رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫إن ال سبحانه ل يكره خلقه لذواتهم ‪ ،‬بل يكره منهم أفعالهم التي نهاهم عنها ‪ ،‬ويدعوهم إلى مزايلتها ‪ ،‬مزايلة لبليس الذي افتضح‬
‫أمره ‪ ،‬وتعرى من ملبسه ‪ ،‬وأغرقهم في وساوسه ‪ ،‬كما أن ال يدعوهم إلى فعل المأمورات حتى يحبهم ‪ ،‬ويزيد في الحسان إليهم ‪،‬‬
‫حُدرًا ‪ ،‬وبئس المصير ‪ ،‬وهذا‬
‫فمن أطاع ال فقد ارتقى في درجات المل العلى صعدًا ‪ ،‬ومن عصا ال فقد ارتكس في دركات العذاب ُ‬
‫هو الصل ‪ ،‬أو هي السنة التي عامل ال بها خلقه المكلفين بطاعته ‪ ،‬منذ كان التكليف ‪.‬‬

‫}} الفصل الخامس من الباب الثاني {{‬

‫بين إبليس وآدم في الجنة‬

‫يبدأ الفصل الثاني من الحوار في قصة الخلق ‪ ،‬بعد افتضاح أمر إبليس ‪ ،‬وإعلنه السافر عن عداوته لدم وذريته ‪ -‬يبدأ الفصل بتوجيه‬
‫جَ‬
‫ك‬‫ت َوَزْو ُ‬
‫ن َأن َ‬
‫سُك ْ‬
‫ال لدم أن يسكن هو وزوجه ) حواء ( الجنة ‪ ،‬وأول آية تحدثت عن هذا التوجيه هي آية العراف ‪َ }} :‬وَيا آَدُم ا ْ‬
‫ن ‪ - {{ 19‬العراف ‪.‬‬ ‫ظاِلِمي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫جَرَة َفَتُكوَنا ِم َ‬
‫شَ‬‫ل َتْقَرَبا َهـِذِه ال ّ‬
‫شْئُتَما َو َ‬
‫ث ِ‬
‫حْي ُ‬
‫ن َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫جّنَة َفُك َ‬
‫اْل َ‬

‫ول مناص من التسليم بأن آدم هو ابن الرض ‪ ،‬وقد كانت حياته قبل الصطفاء وبعد الصطفاء على الرض ‪ ،‬وقد اختار ال للزوجين‬
‫ك َأ ّ‬
‫ل‬ ‫بقعة رائعة من البقاع المثمرة ‪ ،‬توفر فيها الغذاء ‪ ،‬والكساء ‪ ،‬والماء والظل ‪ ،‬وسائر مقومات الحياة الرخية ‪ ،‬وقال له ‪ِ }} :‬إنّ َل َ‬
‫حى ‪ - {{ 119‬طه ‪ ، .‬وكان لهذه الجنة ) أو الحديقة ( وظيفتان ‪:‬‬‫ضَ‬‫ل َت ْ‬
‫ظَمُأ ِفيَها َو َ‬
‫ل َت ْ‬
‫ك َ‬
‫ل َتْعَرى ‪َ 118‬وَأّن َ‬
‫ع ِفيَها َو َ‬
‫جو َ‬
‫َت ُ‬

‫الولـى ‪ :‬أن يمارس فيها آدم أساسيات الرسالة التي اصطفاه ال لتبليغها إلى ذريته ‪ ،‬ول سيما التكاليف الخلقية ‪ ،‬والتعاليم الدينية‬
‫المتصلة بالدنيا والخرة ‪ ،‬وهو ما يبدو متألقًا في قصة ابني آدم ) هابيل وقابيل ( في سورة المائدة ‪ ،‬ول ريب أن الولدين قد تلقيا عن‬
‫أبيهما كل ما دار في حوارهما من تعاليم كالتقوى والفجور ‪ ،‬والتوحيد والشرك ‪ ،‬والحلل والحرام ‪ ،‬والعدل والظلم ‪ ،‬والجنة والنار ‪،‬‬
‫وفي هذه الجنة الرضية كانت الخطيئة التي سوف نتعرض لمناقشتها بعد قليل ‪.‬‬

‫الثـانيـة ‪ :‬أن هذه الجنة كانت بمثابة الملجأ المن الذي يعزل آدم وزوجه بعد الصطفاء ‪ -‬عن سائر البشر ‪ -‬خارج نطاق التكليف‬
‫الديني ‪ .‬ريثما تخلي الساحة الرضية من وجودهم ‪ ..‬إذ إن الرض لم تكون بعد ذلك إل لدم وذريته ‪ ،‬وهي بداية العهد النساني ‪.‬‬
‫لقد خلق آدم من تراب الرض ‪ ،‬ليعمر هذه الرض ‪ ،‬وذلك قدر ال منذ شاء خلق البشر ‪ ،‬وهم أصول آدم ‪.‬‬

‫ل زوجين‬ ‫وما أشبه ما حدث آنذاك ‪ ،‬حين عزل آدم وزوجه في الجنة ‪ ،‬بما حدث بعد ذلك إبان الطوفان ‪ ،‬فقد حمل نوح في فلكه من ك ّ‬
‫ل ُبْعدًا‬
‫ي َوِقي َ‬‫جوِد ّ‬
‫عَلى اْل ُ‬
‫ت َ‬
‫سَتَو ْ‬
‫ك حتى }} َوا ْ‬
‫اثنين ‪ ،‬وأهله معه ثم تولى الطوفان تطهير الرض من المشركين وآثارهم ‪ ،‬وقاد نوح الُفْل َ‬
‫ن ‪ - {{ 44‬هود ‪ ، .‬لقد كان بدأ العهد النساني يتطلب إخلء الرض من المفسدين وسفاكي الدماء وهو ما تولت القدرة‬ ‫ظاِلِمي َ‬
‫ّلْلَقْوِم ال ّ‬
‫اللهية تنفيذه فترة سكني آدم وزوجه في الجنة ‪.‬‬

‫على أننا ينبغي أل تفوتنا ملحظة ظهور زوج لدم ‪ ،‬لم يرد ذكرها قبل ذلك ‪ ،‬وهو ما يعني أن آدم كان متزوجًا قبل الستخلف‬
‫والصطفاء ‪ ،‬وذلك ما يدل عليه سياق القصة ‪ .‬يقول الشيخ رشيد رضا ‪ ) :‬والية تدل على أن آدم كان له زوج ‪ ..‬أي ‪ :‬امرأة ‪ ،‬وليس في‬
‫القرآن مثل ما في التوراة من أن ال تعالى ألقى على آدم سباتًا ‪ ،‬انتزع في أثنائه ضلع من أضلعه فخلق له منه حواء امرأته ‪ ،‬وأنها‬
‫سميت امرأة ) لنها من أمرىء أخذت ( ‪ ،‬وما روى في هذا المعنى فهو مأخوذ من السرائيليات ‪ ،‬وحديث أبي هريرة في الصحيحين ‪:‬‬
‫ل ‪ - {{ 37 ...‬النبياء ‪ ، .‬بدليل قوله ‪ ) :‬فإن ذهبت تقيمه كسرته ‪،‬‬‫جٍ‬‫عَ‬‫ن َ‬‫ن ِم ْ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ق ا ِْ‬
‫خِل َ‬
‫) فإن المرأة خلقت من ضلع ‪ ، ( ..‬على حد }} ُ‬
‫وإن تركته لم يزل أعوج ‪ ،‬فاستوصوا بالنساء ( ‪ ..‬أي ‪ ) :‬لتحاولوا تقويم النساء بالشدة ( ) المنار ‪. ( 308 / 8‬‬

‫وعلى أية حال فإن اختيار القرآن إبراز وجود الزوج كان على أعتاب الجنة ‪ ،‬ودخل الزوجان الجنة أو السكن الذي اختاره ال لهما‬
‫ليبدءا حياة ل يدريان من ملمحها إل ما أذن ال لهما بمعرفته ‪ ،‬فليست هذه الجنة نهاية المطاف ‪ ،‬ولكنها مرحلة سوف تشهد أحداثاً‬
‫ل في قصة الحياة على هذه الرض ‪.‬‬ ‫وفصو ً‬

‫على أن من الضروري أن نشير هنا إلى أن دللة لفظ ‪ ) :‬الجنة ( على ) البستان الرضي ( هي الدللة الحقيقية والصلية ‪ ،‬وفي مقابلها‬
‫دللة اللفظ على ) دار النعيم الخروي ( ‪ ،‬وهي دللة مجازية ‪ ،‬جاء بها القرآن ‪ ،‬كما جاء بالدللة الحقيقية ‪ ،‬ومن ذلك ما جاء في سورة‬
‫ن ‪َ 17‬و َ‬
‫ل‬ ‫حي َ‬
‫صِب ِ‬
‫صِرُمّنَها ُم ْ‬
‫سُموا َلَي ْ‬
‫جّنِة ِإْذ َأْق َ‬
‫ب اْل َ‬
‫حا َ‬
‫صَ‬‫ل ‪ -‬من قوله تعالى ‪ِ }} :‬إّنا َبَلْوَناُهْم َكَما َبَلْوَنا َأ ْ‬ ‫) القـلم ( ‪ ،‬وهي السورة الثانية نزو ً‬
‫ن ‪ - {{ 18‬القـلم ‪ ، .‬وهو أول استعمال للفظ ) الجنة ( في القرآن ‪ ،‬فجاء به على دللته الصلية ) البستان ( ‪ ،‬ثم ثّنى بذكر جنة‬ ‫سَتْثُنو َ‬
‫َي ْ‬
‫ت الّنِعيِم ‪ - {{ 34‬القـلم ‪ ، .‬وكأن القرآن قصد إلى إثارة المقابلة‬ ‫جّنا ِ‬ ‫عنَد َرّبِهْم َ‬ ‫ن ِ‬
‫ن ِلْلُمّتِقي َ‬
‫الخرة في نفس السورة ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ِ }} :‬إ ّ‬
‫بين ) جنة ( الدنيا ‪ ،‬وهي عرضة للنوازل ‪ ،‬و ) جنات النعيم ( في الخرة ‪ ..‬ينالها المتقون ‪ ،‬وذلك في فترة مبكرة جدًا من نزول الوحي‬
‫ل‪.‬‬ ‫القرآني ‪ ،‬فسورة القلم هي ثاني سور القرآن نزو ً‬

‫ونعود إلى الجنة وساكَنْيــَها اللذين ذودهما ربهما بكل ما يلزمهما من تنبيهات وتحذيرات من حقد إبليس عليهما ‪ ،‬ولكن هيهات لدم‬
‫وزوجه ‪ ،‬وهما حديثا عهد بالتكاليف ‪ ،‬قليل الخبرة بألعيب العدو وأخلقه الوضيعة ‪ ..‬هيهات لهما أن يقاوما ما واجها معه من إغراء ؛‬
‫أثار شهيتهما ‪ ،‬وحرك غرائزهما ‪.‬‬

‫جَرَة {{ ‪ ،‬وما أعظم ما أباح لهما من ِنَعم ‪ ،‬وما منحهما من الحرية ‪،‬‬
‫شَ‬‫ل َتْقَرَبا َهـِذِه ال ّ‬
‫شْئُتَما َو َ‬
‫ث ِ‬
‫حْي ُ‬
‫ن َ‬
‫ل ِم ْ‬
‫لقد كان توجيه ال لهما ‪ُ }} :‬ك َ‬
‫بالقياس إلى ما منعهما منه ‪ ،‬وجاء الشيطان يوسوس لهما ‪ ،‬صارفًا لهما عن نعم ال الوفيرة والمباحة ‪ ،‬مرّكزا على تلك الشجرة‬
‫ن َأْو‬
‫ل َأن َتُكوَنا َمَلَكْي ِ‬ ‫جَرِة ِإ ّ‬‫شَ‬‫ن َهـِذِه ال ّ‬‫عْ‬ ‫ل لهما ‪َ }} :‬ما َنَهاُكَما َرّبُكَما َ‬ ‫المحظورة ‪ ،‬وهي معيار الطاعة والمعصية ‪ ..‬جاء الشيطان قائ ً‬
‫ن ‪ - {{ 20‬العراف ‪ ، .‬كانت القضية واضحة ‪ ،‬تتعلق بتوجيه ال سبحانه لهما أل يأكل من الشجرة ‪ ،‬وكان هدف‬ ‫خاِلِدي َ‬
‫ن اْل َ‬
‫َتُكوَنا ِم َ‬
‫الشيطان أن يأكل من الشجرة وأن يفعل ذلك بأي ثمن من الكذب والخداع ‪ ،‬فهو إذًا التصادم بين أمر ال وهدف الشيطان ‪ ،‬وقد بدأ‬
‫ن ‪ - {{ 39‬الحجر ‪ ، .‬ول ريب أن تلك‬ ‫جَمِعي َ‬‫غِوَيّنُهْم َأ ْ‬
‫لْ‬‫ض َو ُ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن َلُهْم ِفي ا َ‬ ‫لَزّيَن ّ‬
‫يمارس مهمة الغواء ‪ ،‬وينفذ وعيده الذي أعلنه }} ُ‬
‫الشجرة كانت مغرية ‪ ،‬تدعو إلى تجربة مذاقها ‪ ،‬وجاء إبليس بكلم كله كذب ‪ ،‬فربط بين الشجرة والرتقاء إلى درجة الملئكية ‪ ،‬أو‬
‫تحقيق الخلود ‪ ،‬وكل المرين مطمح لدم وزوجه ‪ ،‬لقد علما أن ل ملئكة مقربين ‪ ،‬مخلوقين من النور ‪ ،‬لهم عند ال الدرجات العلى ‪،‬‬
‫كما علما أن كل نعيم ل محالة زائل بالموت ‪ ،‬كما فنيت اجيال قبلهما ‪ ،‬ول مهرب من الموت إل بتحقيق الخلود ‪ ،‬وما أعزه مطلبًا ‪ ،‬وما‬
‫أهونه وسيلة ‪ ،‬أن يأكل من الشجرة ‪ ..‬مجرد مذاق ‪ ..‬ولن يكلفهما ذلك إل أن يمدا أيديهما إلى ثمرها ‪ ،‬وزادهما تعلقًا بالدخول في هذه‬
‫ن ‪ - {{ 21‬العراف ‪، .‬‬ ‫حي َ‬ ‫صِ‬‫ن الّنا ِ‬‫سَمُهَما ِإّني َلُكَما َلِم َ‬‫التجربة أن اللعين أخذ يقسم لهما بال إنه يريد صالحهما ‪ ،‬وإنه ناصح لهما }} َوَقا َ‬
‫وهو كاذب في كلمه ‪ ،‬كاذب في قسمه ‪ ،‬ولكنهما لم يتصورا أن يوجد من يجرؤ على الكذب بهذه الصورة الفاجرة ‪ ،‬حتى ولو كان إبليس‬
‫شَقى ‪{{ 117‬‬ ‫جّنِة َفَت ْ‬
‫ن اْل َ‬‫جّنُكَما ِم َ‬
‫خِر َ‬
‫ل ُي ْ‬‫ك َف َ‬‫جَ‬‫ك َوِلَزْو ِ‬ ‫عُدّو ّل َ‬
‫ن َهَذا َ‬
‫‪ ،‬وغاب عنهما تمامًا في هذه اللحظة تحذير ال لهما ‪َ }} :‬فُقْلَنا َيا آَدُم ِإ ّ‬
‫ل ِمْنَها {{ ‪ ،‬في لحظة ذهول وضعف ‪ ،‬وكانت القشة‬ ‫‪ -‬طه ‪ ، .‬وعل صوت الشيطان في أذنيهما يدعوهما أن يأكل من الشجرة ‪َ }} ،‬فَأَكـ َ‬
‫التي قسمت ظهر البعير ‪ ..‬كانت الخطيئة التي جعلتهما من الظالمين ‪ ..‬يا لهول الموقف !!‬
‫أية شجرة هذه التي كان القتراب منها سببًا في تتابع تلك النتائج الهائلة في حياة النسان ؟!‬

‫لسنا نميل إلى التعويل على معرفة نوعها ‪ ،‬أو أثرها ‪ ،‬فكل ذلك ل يهم ‪ ،‬إذا ماقيس بموقف معصية الله العظيم ‪ ،‬رغم التحذير‬
‫والتذكير ‪ ،‬يقول الستاذ سيد قطب ‪ ) :‬ويسكت القرآن عن تحديد هذه الشجرة ‪ ،‬لن تحديد جنسها ل يذيد شيئًا في حكمة حظرها ‪ ،‬مما‬
‫يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود ‪ ،‬لقد أذن ال لهما بالمتاع الحلل ‪ ،‬ووصاهما بالمتناع عن المحظور ‪ ،‬ول بد من محظور يتعلم‬
‫منه هذا الجنس أن يقف عند حد ‪ ،‬وأن يدرب المكوز في طبعه من الرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته ‪ ،‬ويستعلي بها على هذه‬
‫الرغبات والشهوات ‪ ،‬فيظل حاكمًا لها ‪ ..‬ل محكومًا بها كالحيوان ‪ ،‬فهذه هي خاصية ) النسان ( ) الظلل ‪. ( 129 / 8‬‬

‫سْوَءاُتُهَما َوطَِفَقا‬
‫ت َلُهَما َ‬
‫جَرَة َبَد ْ‬
‫شَ‬‫لُهَما ِبُغُروٍر َفَلّما َذاَقا ال ّ‬
‫وهكذا ‪ -‬رغم التحذير اللهي ‪ -‬سقط الزوجان في شرك الغواية ‪َ }} :‬فَد ّ‬
‫جّنِة ‪ - {{ 22 ...‬العراف ‪ ، .‬وعبارة القرآن ) فدلهما بغرور ( تعني أنه أوقعهما في الغرور والنخداع‬ ‫ق اْل َ‬
‫عَلْيِهَما ِمن َوَر ِ‬
‫ن َ‬
‫صَفا ِ‬
‫خ ِ‬
‫َي ْ‬
‫حين استدرجهما إلى الحضيض ‪ ،‬والتدلية ‪ :‬السقاط إلى السفل وتلك هي النتيجة الخلقية التي قصد إليها الشيطان ؛ أن يكشف عن‬
‫ضعف آدم وزوجه ‪ ،‬لنهما ‪ -‬في رأيه ‪ -‬ل يستحقان التكريم الذي خصهما ال به ‪ ،‬وبذلك لم يعد الشيطان وحده هو المتورط في‬
‫المعصية ‪ ..‬بل ) استوى الماء والخشبة ( ‪ ،‬فهما في الخطيئة سواء ‪ ،‬غير أن وصف القرآن للثار المادية للكل من الشجرة يستاهل‬
‫الوقوف عنده والتأمل في واقعة المعقول ‪.‬‬

‫لقد تناقل المفسرون رأيًا واحدًا عن السوأة ‪ ،‬وهي العورة ‪ ،‬وقالوا ‪ -‬دون اختلف ‪ -‬إن نتيجة الكل من الشجرة كانت ظهور عورة كل‬
‫منهما لنفسه ولصاحبه ‪ ،‬وكانا من قبل ل يريان ذلك لمواراة سوأتهما عنهما ‪ ،‬والغريب أن يقول صاحب المنار ‪ ) :‬والقرب عندي أن‬
‫معنى ظهورهما لهما أن شهوة التناسل دبت فيهما بتأثير الكل من الشجرة ‪ ،‬فنبهتهما إلى ما كان خفي عنهما من أمرها ‪ ،‬فخجل من‬
‫ظهورها ‪ ،‬وشعرا بالحاجة إلى سترها ‪ ،‬وشرعا يخصفان ‪ ،‬أي ‪ :‬يلزقان ‪ ،‬أو يضعان ويربطان على أبدانهما من ورق الجنة ( ) المنار ‪8‬‬
‫‪. ( 311 /‬‬

‫إن كل مايقال في مسألة ) السوأة ( هو محض اجتهاد يسمح به أسلوب الية ووصفها لما حدث ‪ .‬وعلى ذلك يجوز أن نجتهد في فهمها‬
‫انطلقًا من الملحظات التية ‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن القرآن ذكر ) السوأة ( بالجمع مضافًا إلى مثنى ‪ ،‬وهو ما يعني أن ما بدا منهما ليس عورتيهما ‪ ..‬بل هي عورات كثيرة ‪ ،‬ولو‬
‫كانت العورة الغليظة هي المقصودة لقال النص الكريم ) بدت لهما سوأتاهما ( ‪ ،‬لكن الجمع يوحي لنا بمعنى آخر ‪.‬‬

‫‪ - 2‬افتراض أنهما فوجـئا برؤية ما لم يكونا يريانه مخالفًا لمعنى الزوجية ‪ ،‬وسنة ال فيها ‪ ،‬وآراء المفسرين قائمة على افتراض أنهما‬
‫أول زوجين في تاريخ البشرية ‪ ،‬وهو أمر أثبتنا خلفه ‪ ،‬فقد كان التصال الجنسي بين الذكور والناث ‪ -‬منذ مليين السنين ‪ -‬بل قيد أو‬
‫شرط خلل العهد البشري ‪ ،‬حيث لم يكن دين ول تكليف ‪.‬‬

‫خَر َ‬
‫ج‬ ‫ن َكَما َأ ْ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫ل َيْفِتَنّنُكُم ال ّ‬
‫‪ - 3‬أن آدم لم يكن يعيش في الجنة عاريًا بدائيًا ‪ ،‬وهو ما قرره القرآن في قوله تعالى ‪َ }} :‬يا َبِني آَدَم َ‬
‫سْوَءاِتِهَما ‪ - {{ 27 ...‬العراف ‪.‬‬
‫سُهَما ِلُيِرَيُهَما َ‬
‫عْنُهَما ِلَبا َ‬
‫ع َ‬
‫جّنِة َينِز ُ‬
‫ن اْل َ‬
‫َأَبَوْيُكم ّم َ‬

‫جّنِة ‪ - {{ 22 ...‬العراف ‪ ، .‬يؤكد أن الضمير في ) عليهما ( ل يعود على‬


‫ق اْل َ‬
‫عَلْيِهَما ِمن َوَر ِ‬
‫ن َ‬
‫صَفا ِ‬
‫خ ِ‬
‫طِفَقا َي ْ‬
‫‪ - 4‬قوله تعالى ‪َ }} :‬و َ‬
‫) السوءات ( ‪ ،‬وإل لقال ‪ ) :‬عليها ( ‪ ،‬بل إن عائد الضمير هو ) آدم وحواء ( بشخصيهما ‪ ،‬والصورة كما تبدو لنا في موقف الزوجين‬
‫صورة هائلة ‪:‬‬

‫فقد شعرا حين ذاقا الشجرة أنهما خالفا أمر ربهما ‪ ،‬وقد حزرهما من الشيطان تحذيرًا صارمًا ‪ ،‬ومعنى ذلك غضب ال عليهما ‪ ،‬وهو ما‬
‫هيج مشاعرهما ‪ ،‬ووضعهما في مواجهة عاقبة ل يحتملنها ‪.‬‬

‫ل ‪ ،‬وذلك بأن يتخذا من ورق الجنة غطاء‬


‫وركبهما الندم من هذا التعري أمام ال ‪ ،‬فأخذا يحاولن التخبؤ والستتار حياًء منه وخج ً‬
‫يسترهما ‪ ،‬وكأنهما يهيلن عليهما هذا الورق ‪.‬‬

‫ن ‪- {{ 22‬‬ ‫عُدّو ّمِبي ٌ‬‫ن َلُكَما َ‬ ‫طآ َ‬ ‫شْي َ‬‫ن ال ّ‬‫جَرِة َوَأُقل ّلُكَما ِإ ّ‬
‫شَ‬ ‫عن ِتْلُكَما ال ّ‬
‫وَبْيَنما هما في هذه الحال الرعيبة }} َناَداُهَما َرّبُهَما َأَلْم َأْنَهُكَما َ‬
‫ن ِمنَ‬
‫حْمَنا َلَنُكوَن ّ‬
‫سَنا َوِإن ّلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ‬‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬
‫العراف ‪ ، .‬وكان هذا النداء بمثابة حبـل النقاذ لهـما فتعلقا به وقال ‪َ }} :‬رّبَنا َ‬
‫ن ‪ - {{ 23‬العراف ‪.‬‬ ‫سِري َ‬
‫خا ِ‬
‫اْل َ‬
‫حيُم ‪ - {{ 37‬البقرة ‪.‬‬
‫ب الّر ِ‬
‫عَلْيِه ِإّنُه ُهَو الّتّوا ُ‬
‫ب َ‬
‫ت َفَتا َ‬
‫وهذه الكلمات هي التي أشارت إليها الية الكريمة ‪َ }} :‬فَتَلّقى آَدُم ِمن ّرّبِه َكِلَما ٍ‬

‫عَلْيِه َوَهَدى ‪ - {{ 122‬طه ‪.‬‬


‫ب َ‬
‫جَتَباُه َرّبُه َفَتا َ‬
‫صى آَدُم َرّبُه َفَغَوى ‪ُ 121‬ثّم ا ْ‬
‫ع َ‬
‫وقد عبر القرآن عن الموقف كله بقوله ‪َ }} :‬و َ‬

‫عْزًما ‪- {{ 115‬‬
‫جْد َلُه َ‬
‫ي َوَلْم َن ِ‬
‫سَ‬‫ل َفَن ِ‬
‫عِهْدَنا ِإَلى آَدَم ِمن َقْب ُ‬
‫وأرجع سبب الوقوع في الغواية إلى أنه لم يكن عامدًا ‪ ..‬بل ناسيًا ‪َ }} :‬وَلَقْد َ‬
‫طه ‪.‬‬

‫ن ِمن‬
‫جَهاَلٍة ُثّم َيُتوُبو َ‬
‫سَوَء ِب َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َيْعَمُلو َ‬
‫ل ِلّلِذي َ‬
‫عَلى ا ّ‬
‫ويمكن تفسير نسيان آدم بأنه داخل في مضمون الجهالة في قوله ‪ِ }} :‬إّنَما الّتْوَبُة َ‬
‫ب ‪ - {{ 17 ...‬النساء ‪.‬‬‫َقِري ٍ‬

‫وهو موقف يختلف عن موقف إبليس الذي علم السوء ‪ ،‬وفعله ‪ ،‬وأصر عليه ‪ ،‬ولذا استحق آدم وزوجه أن يتوب ال عليهما ‪.‬‬
‫وعند هذا المقطع من تسلسل الحداث اكتملت معادلة الحياة الدنيا بكل عناصرها ‪ ) :‬المر ‪ -‬الوسوسة ‪ -‬المخالفة ‪ -‬الندم ‪ -‬المغفرة ( ‪،‬‬
‫فآن الوان لنزول آدم إلى معترك الحياة الدنيا ‪ ،‬وقد ترسخت في عقله ونفسه تلك المعادلة ‪ ،‬بعد أن هيئت له الساحة ‪ ،‬وأخليت الرض‬
‫من المفسدين وسفاكي الدماء ‪ ،‬ولم يعد فيها سوى النسان الجديد ‪ ) ،‬آدم ‪ :‬أبي النسان ‪ ،‬وحواء ‪ :‬أمه ( في مواجهة إبليس عدوهما‬
‫ن ‪َ 24‬قا َ‬
‫ل‬ ‫حي ٍ‬
‫ع ِإَلى ِ‬
‫سَتَقّر َوَمَتا ٌ‬
‫ض ُم ْ‬
‫لْر ِ‬
‫عدُّو َوَلُكْم ِفي ا َ‬
‫ض َ‬
‫ضُكْم ِلَبْع ٍ‬
‫طوْا َبْع ُ‬‫ل اْهِب ُ‬
‫اللدود ‪ ،‬وقامت الحياة على هذا العداء المتبادل ‪َ }} :‬قا َ‬
‫ن ‪ - {{ 25‬العراف ‪.‬‬ ‫جو َ‬‫خَر ُ‬
‫ن َوِمْنَها ُت ْ‬
‫ن َوِفيَها َتُموُتو َ‬
‫حَيْو َ‬
‫ِفيَها َت ْ‬

‫ولسنا بحاجة إلى تكرار أن المر بالهبوط مرادف للمر بالخروج ‪.‬‬

‫}} الفصل السادس من الباب الثاني {{‬

‫اللغة والسمـــاء القديمـــــة‬

‫ال‬

‫الملئكــــة ‪ -‬آدم ‪ -‬إبليــس ‪ -‬الشـيـطان‬

‫*****‬

‫‪ -"-‬ال ‪-"-‬‬

‫كان القرآن ‪ -‬ول يزال ‪ -‬الوثيقة اللغوية التي نعتمد عليها في معرفة السماء التي وردت في قصة الخلق ‪ ،‬وما يتصل بها ‪ ،‬وأقدم‬
‫السماء على الطلق هو لفظ الجللة ) ال ( ‪ ،‬فهو الول بل بداية ‪ ،‬والخر بل نهاية ‪ ،‬والمفروض أنه قبل ظهور ) النسان ( ‪ -‬لم يكن‬
‫البشر يعرفون شيئًا سوى ما تهيئه لهم طبيعة مرحلة النمو التي يعيشونها ‪ ،‬فقبل أن يكون العقل ‪ ،‬وقبل أن تتكون اللغة لم يكونوا يدركون‬
‫شيئًا عن حقيقة الحياة ‪ ،‬وطبيعة الوجود ‪ ،‬إلى أن كان اصطفاء ) آدم ( فعرفت الخليقة خالقها ‪ ،‬بدءًا من معرفة آدم لربه ‪ ،‬وفي نفس‬
‫الموقف برزت أسماء بعض المخلوقات ‪ :‬الملئكة ‪ -‬البشر ‪ -‬آدم ‪ -‬إبليس ‪ ،‬ول ريب لدينا في أنها أسماء قديمة ‪ ،‬استخدمت قبل أن تظهر‬
‫العربية إلى الوجود ‪ ،‬وقد وردت هذه السماء في كلم ال ضمن حديث القرآن عن قصة الخلق ‪ ،‬أولى قصص الوجود البشري‬
‫والنساني معًا ‪.‬‬

‫ونحن ل نتصور أن هذه السماء كلمات مأخوذة من العربية للتعبير عن شخصيات القصة ‪ ،‬فقد كانت القصة قبل أن تكون اللغات‬
‫بالشكل المعروف ‪ ،‬نوعًا وعددًا ‪ ،‬وقد عرفت تلك الشخصيات بهذه السماء التي جاءت في كلم ال ‪ ،‬وهذا هو السر في شيوعها في‬
‫كثير من اللغات النسانية بصور نطقية متقاربة ‪ ،‬فلفظ الجللة ‪ ) :‬ال ( معروف هكذا في اللغات السامية القديمة ‪ ،‬ومنها العربية ‪ ،‬كما‬
‫تعرفه اللغات الوروبية ‪.‬‬

‫ع ‪ ،‬أو‬
‫ولقد حاول الشتقاقيون أن يردوا لفظ الجللة ) ال ( إلى جذر اشتقاقي ‪ ،‬فقال كثير منهم بأنه مشتق من ) َأِلَه ( بمعنى ‪َ :‬فِز َ‬
‫بمعنى ‪ :‬تحير ‪ ،‬أو بمعنى ‪ :‬عبد ‪ ،‬أو بمعنى ‪ :‬أقام ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬إنه من ) َوِله ( بمعنى ‪ :‬أحب ‪ ،‬وقال غيرهم ‪ :‬إنه من ) له ( بمعنى‬
‫احتجب أو ارتفع ‪.‬‬

‫وأغلق بعضهم باب الشتقاق وقال بأنه غير مشتق ‪.‬‬

‫وفريق ثالث قال ‪ :‬بأنه غير عربي ‪ ،‬فهو سرياني ‪ -‬أو عبراني ‪.‬‬

‫والكثرون على أنه عربي ‪.‬‬

‫والذي نراه أن ذلك كله خبط في ظلماء مدلهمة لن ال سبحانه أخبر عباده بأنه ) ال ( ‪ ،‬وطلب منهم أن يعبدوه ويوحدوه لنه ) ال ( ‪،‬‬
‫والخطاب هنا ليس عربيًا لقوم عرب ‪ ..‬بل هو خطاب إلهي كوني صدر عن خالق الكون ‪ ،‬والنسان ‪ ،‬واللغات ‪ ،‬فهو إذن ليس أسمًا‬
‫عَلمًا على ذات المعبود بحق ‪ ،‬واستوعبته العربية ‪ ،‬كما استوعبته سائر‬ ‫صاغته ألسنة المخلوقات ‪ ..‬بل تلقته هذه اللسنة من المل العلى َ‬
‫اللغات التي تلقت رسالت السماء ‪ ،‬ونطقت به حسب قوانينها ‪ ،‬وتقاليدها ‪ ،‬وقدرتها النطقية ‪ .‬فل ينبغي أن يدرج في معجم العربية على‬
‫أنه كلمة من كلماتها ‪ ..‬بل على أن اللسان العربي نطقه هكذا كما لقنه ‪ ،‬وكما نطقه غير العرب ‪ ،‬وقد اخترع العبرانيون إلوهيم ‪ ،‬أو‬
‫ل ‪ ،‬ولكن يبقى ) ال ( ‪ ،‬وتتلشى كل الختراعات أو الواردات فلفظ الجللة هو أصل السماء ‪ ،‬وأولها ‪،‬‬ ‫يهوه ‪ ،‬كما ورد إيل ‪ ،‬وإ ّ‬
‫سَنِتُكْم َوَأْلَواِنُكْم ‪...‬‬
‫ف َأْل ِ‬
‫ل ُ‬
‫خِت َ‬
‫ض َوا ْ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َْ‬
‫ق السَّماَوا ِ‬
‫خْل ُ‬
‫ن آَياِتِه َ‬
‫ومصدرها ‪ ،‬كما أنه مصدر اللغات واللسنة ‪ ،‬وصدق ال ‪َ }} :‬وِم ْ‬
‫‪ - {{ 22‬الروم ‪ ، .‬وهو القديم ‪ ،‬وما سواه محدث ‪ ،‬وهو قديم بذاته ‪ ،‬وبإسمه قبل أن تكون اللغات ‪ ..‬بل قبل أن تكون الكائنات ‪.‬‬

‫‪ -"-‬الملئكــــة ‪-"-‬‬

‫وأما عن ) الملئكة ( فهي كلمة إسلمية أيضًا ‪ ..‬لم تستخدم في العربية قبل أن يرد ذكرها في بداية الوحي ‪ ،‬في سورة المدثر ‪ ،‬وهي‬
‫ل ‪ ،‬وقد ردها اللغويون إلى الجذر ) ألك ( ‪ ،‬الذي اشتقت منه كلمة ) َمْالك ( ‪ ،‬ثم حدث قلب مكاني ‪ ،‬فصارت‬
‫رابع سور القرآن نزو ً‬
‫) ًملك ( ‪ ،‬ثم جمعت فصارت ) ملئكة ( ‪ ،‬ول دليل على استخدامها في العربية قبل القرآن ‪.‬‬

‫وأقطاب ) الملئكة ( ‪ ،‬وفي مقدمتهم ) جبريل وعزرائيل ( ‪ ،‬جاءت تسمياتهم مركبة ‪ ،‬وهي شائعة في كثير من اللغات ‪ ،‬فكلمة‬
‫) جبرائيل ( جزُءها الول ) جبر ( بمعنى ) رجل ( ‪ ،‬وكلمة ) عزرائيل ( جزُءها الول ) عزر ( بمعنى ) قوة ( ‪ ،‬وهما مضافتان إلى‬
‫لفظ ) إيل ( ‪ ..‬أي ‪ :‬ال ‪ ،‬وكأن الول يعني ) رجل ال ( ‪ ،‬والثاني هو ) قوة ال ( ‪ ،‬وهي ترجمة متخيلة بقدر ما تسعه اللغة النسانية ‪،‬‬
‫وإل فليس في الملئكة رجال أو نساء ‪ ،‬ول يليق أن تحصر قوة ال في ملك مخلوق واحد ‪ ..‬بل إن التجريد هنا غير لئق ‪ ،‬إذ إن القوة‬
‫ي الحياء َمْعُزٌو في القرآن إلى ال‬ ‫) ومنها ‪ :‬القوي ( من أسماء ال وصفاته الحسنى ‪ ،‬وليس َمَلكًا بعينه ‪ ،‬خاصة أن اختصاص َتَوف ّ‬
‫ت َتَوّفْتُه‬
‫حَدُكُم اْلَمْو ُ‬
‫جاء َأ َ‬
‫ى ِإَذا َ‬
‫حّت َ‬
‫س ‪ - {{ 42 ...‬الزمر ‪ ، .‬وَمْعُزٌو إلى رسل ال من الملئكة ‪َ }} :‬‬ ‫لنُف َ‬
‫ل َيَتَوّفى ا َْ‬
‫سبحانه ‪ }} :‬ا ُّ‬
‫ل ِبُكْم ‪ - {{ 11 ...‬السجدة ‪ .. .‬أي ‪ :‬إن قوة‬ ‫ت اّلِذي ُوّك َ‬
‫ك اْلَمْو ِ‬
‫ل َيَتَوّفاُكم ّمَل ُ‬
‫سُلَنا ‪ - {{ 61 ...‬النعام ‪ ، .‬وَمْعُزٌو إلى ملك الموت }} ُق ْ‬ ‫ُر ُ‬
‫الماتة ليست محصورة في ملك بعينه ‪ ،‬وعلى أية حال فإن القرآن لم يذكر من أسماء الملئكة سوى ) جبريل وميكال ( ‪ ،‬ولسنا مكلفين‬
‫بترجمة معاني هذه السماء ‪ ،‬أو التعمل معها على أساس معانيها ‪ ،‬فالسماء ل تعلل ‪ ،‬إنما هي كتل صوتية ل يلتفت إلى مكوناتها ‪.‬‬

‫ل قبل اللغات البشرية ‪ ،‬وأن ما حاول الشتقاقيون أن يستخرجوه من‬


‫إن ذلك يعني أن هذه التسميات كانت قبل اللغة العربية ‪ ..‬بل هي فع ً‬
‫المعاني في ضوء الربط بيم السم ‪ ،‬وجذره اللغوي المفترض ‪ -‬هو في الحقيقة افتعال يقلب القضية رأسًا على عقب !!‬

‫‪ -"-‬آدم ‪-"-‬‬

‫ل في ) أديم الرض ( الذي خلق منه ‪ ،‬والحق ‪ -‬في نظرنا ‪ -‬أن أديم الرض اشتق من ) آدم (‬ ‫لقد حاول الشتقاقيون أن يجدوا لدم أص ً‬
‫الذي يعني ) النسان ( بالمعنى العام في كثير من اللغات ‪ ،‬وكان مرتبطًا دائمًا بالتراب ‪ ،‬والطين ‪ ،‬فأطلق على مادته التي خلق منها ‪:‬‬
‫أديم ‪ ،‬على سبيل الشتقاق من الجوامد ‪ ،‬وهو مجاز مرسل علقته الصلية والفرعية ‪ ،‬إن صح التصور ‪.‬‬

‫ويمكن أيضًا أن يقال ‪ :‬إن ) آدم ( بمعنى ‪ :‬الجلد ‪ ..‬مشتق كذلك من ) آدم ( ‪ ،‬ويطلق على الجلد ‪ :‬البشرة ‪ ،‬وللبشرة علقة لفظية بالكلمة‬
‫القديمة الولى في ملحمة الخلق ‪ ،‬كلمة ) بشر ( التي تفردت بها العربية ‪ -‬كما سبق أن قلنا ‪.‬‬

‫‪ -#-‬إبليــس ‪-#-‬‬

‫أما كلمة ) إبليس ( فهي موجودة في لغات قديمة كاليونانية ) ديابولوس ( ‪ ،‬وهي كلمة تبدو مركبة من جزئين ‪ ) :‬ديا ‪ +‬بولوس ( ‪ ،‬وقد‬
‫أخذت اللغات الوروبية ‪ ،‬باعتبرارها أحدث من اليونانية ‪ -‬الجزء الول من التركيب ‪ ) -‬ديا ( ‪ ) ،‬ديابل ‪ ، ( Diable‬وأخذت العربية‬
‫وأخواتها الساميات الجزء الثاني من التركيب كما هو ) إبليس ( مع تنوع في طريقة النطق ‪ ،‬هذا ما قرره محقق الزينة ‪.‬‬
‫ول يبعد في تقديرنا أن تكون الكلمة من عطاء القرآن للعربية ‪ ..‬وهي أقدم اللغات السامية ‪ .‬فلم نعثر على ما يشهد بوجودها قبل السلم‬
‫في لسان العرب ‪ ..‬بل إن الكلمة ليس لها مقابل لفظي أو دللي في العبرية ‪ ،‬وقد وردت لول مرة في القرآن في سورة ) ص ( ‪ ..‬أي ‪:‬‬
‫في سياق قصة آدم ‪ ،‬وذكر المعجم الوسيط أن جمع الكلمة ‪ :‬أبالس ‪ ،‬وأبالسة ‪.‬‬
‫أما كيف عالج أهل اللغة لفظها ومعناها ؟!‬

‫س ‪ ،‬قالوا في‬
‫فقد قال اللغويون العرب ‪ :‬إنه على وزن إفعيل ‪ ،‬مشتق من أبلس الرجل ‪ :‬إذا انقطع ولم تكت له حجة ‪ ،‬ويقال ‪ :‬هو من َيِئ َ‬
‫ن {{ ‪ ،‬قال ‪ :‬يائسون ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ ) :‬لما لعنه ال أبلس من رحمته ( ‪ ،‬وقال الفراء ‪:‬‬ ‫سو َ‬
‫تفسير قوله تعالى }} َفِإَذا ُهم ّمـْبِل ُ‬
‫) مبلسون ‪ ،‬يعني ‪ :‬في العذاب ( ‪ ،‬وقال ‪ ) :‬المبلس ‪ :‬اليائس من النجاة والقانط ‪ ،‬وهو أيضًا المنقطع الحجة ( ‪.‬‬

‫س ‪ :‬الحزين النادم ‪ ،‬وقد أبلس الرجل إبلسًا ‪ ،‬أي ‪ :‬اكتأب وحزن ‪ ،‬وفي‬ ‫جْر جوابًا ‪ ، ..‬ويقال ‪ :‬الُمْبل ُ‬
‫ويقال أيضًا ‪ :‬أبلس ‪ ،‬إذا سكت ولم ُي ِ‬
‫ن {{ ‪ ..‬قال ‪:‬‬
‫جِرُمو َ‬
‫س اْلـُم ْ‬
‫ن {{ ‪ ،‬أي ‪ :‬يندمون ‪ ،‬ويكأبون وييأسون ‪ ،‬وقال مجاهد في قوله تعالى }} ُيْبِل ُ‬ ‫جِرُمو َ‬
‫س اْلـُم ْ‬
‫قوله تعالى }} ُيْبِل ُ‬
‫ن {{ ‪ ،‬قال ‪ :‬خاشعون ‪ ،‬وقال غيره ‪ :‬المبلس ‪ :‬المتروك‬ ‫سو َ‬
‫البلس ‪ :‬الفضيحة ‪ ،‬وقال غيره ‪ :‬البلس ‪ :‬الخشوع ‪َ }} ..‬فِإَذا ُهم ّمـْبِل ُ‬
‫المخذول ‪.‬‬

‫قال صاحب الزينة ‪ ) :‬وكل هذه المعاني قد جاءت في البلس ‪ ،‬وهي قريبة بعضها من بعض ‪ ،‬فكأن إبليس هو مأخوذ من ذلك ‪ ،‬لنه‬
‫ل منقطع الحجة ‪ ،‬ساكتًا ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إبليس ( ) الزينة‬
‫ل متروكًا ‪ ،‬ذلي ً‬
‫افتضح بعصيانة ‪ ،‬فيئس من رحمة ال ‪ ،‬وحزن وندم ‪ ،‬فصار مخذو ً‬
‫‪. ( 193 - 192 / 1‬‬

‫هذه ‪ -‬كما قلنا رؤية الشتقاقيين العرب ‪ ،‬ويكفي أن نلحظ خطأ استنباطها حين رأى صاحب الزينة أنه قيل له ‪ ) :‬إبليس ( بعد أن حدث‬
‫له ما حدث ‪ ،‬على حين أن ) إبليس ( كان قبل أن يحدث شيء من ذلك !! وإن أطلق عليه بعضهم قبل افتضاحه ) عزازيل ( !! ولم يثبت‬
‫ذلك !!‬

‫ويرى علماء الغرب أن الكلمة دخلت محّرفه في العربية من اليونانية ‪ ) :‬ديابولوس ( ‪ ،‬وجاء في المعجم الكبير ‪ : 161 / 1‬أن العرب‬
‫حذفت ) ديا ( في أول الكلمة ‪ ،‬وتوصلوا للنطق بالساكن بزيادة اللف في أوله ‪ ،‬وأنه لم يرد ذكره في المعاجم الرامية والسريانية ‪.‬‬

‫يقول محقق الزينة ‪ ) :‬قد يكون العرب أخذته من اليونانية مباشرة باتصالهم بنصارى العرب الموالين للكنيسة البيزنطية ‪ ،‬كما أشار إليه‬
‫) جفري ( ) الزينة ‪ :‬السابق ‪ -‬هامش ( ‪.‬‬

‫ونقول بعد هذا كله ما سبق أن قلناه من أن ذلك افتعال يقلب القضية رأسًا على عقب ‪ ،‬والذي نراه هو اللفظ قديم ‪ ،‬مستمد أساسًا من علم‬
‫ال بالقضية ووقائعها ‪ ،‬وعناصرها ‪ ،‬وأن هذه اللفاظ دخلت اللغات النسانية عن طريق الديان ‪ ،‬والكتب المقدسة ‪ ،‬بأية لغة كانت هذه‬
‫الكتب ‪ .‬وقد يتفق هذا مع ما قاله أبو عبيدة من أن اللفظ اسم أعجمي ‪ ،‬غير أن العجمية تعني في اصطلح العلماء ‪ :‬أن اللفظ ) إبليس (‬
‫مستمد من لغة غير عربية ‪ ،‬وهو ما نحاول هنا أن ننفيه ‪ ،‬فاللفظ مستمد من علم ال ‪ ،‬وهو اسم لذلك ) المخلوق اللعين ( ‪ ،‬ويكفي أن‬
‫نتعامل معه بهذا العتبار ‪ ،‬دون حاجة إلى تأصيله في العربية ‪ ،‬أو تحليل مادته اللغوية ‪ ،‬وإرجاعه إلى جذر اشتقاقي ‪ ،‬فذلك كله في‬
‫نظرنا تلفيق ل يفيد اللغة شيئًا ‪ ،‬مهما فسر ) البلس ( بما ذكر من المعاني السابقة ‪ ،‬وقد حدث للكلمة في الستعمال العربي بعض‬
‫النضج ‪ ،‬فجمعت ‪ ،‬واشتق منها ) البلسة (‬

‫‪ -#-‬الشـيـطان ‪-#-‬‬

‫أما كلمة ) شيطان ( ‪ ،‬وجمعها ‪ :‬شياطين فهي عربية قديمة ‪ ،‬وقد تكون من الصل ‪ :‬شطن ‪ ،‬بمعنى البعد ‪ ،‬فالكلمة بوزن فيعال ‪ ،‬والنون‬
‫أصلية ‪ ،‬وقد تكون من الصل شيط ‪ ،‬شاط ‪ ،‬أي ‪ :‬احترق من الغضب ‪ ،‬فيكون بوزن فعلن ‪ ،‬نحو ‪ :‬حيران ‪ ،‬وهيمان ‪ ،‬فالنون زائدة ‪) .‬‬
‫الزينة ‪. ( 180 - 179‬‬

‫ويطلق على كل عات متمرد من الجن والنس والدواب ‪ :‬شيطان ‪ ،‬ويقول العرب لكل منفرد بقوته وجلده ‪ ،‬قوي مستقل بنفسه ‪ ،‬منهمك‬
‫في أمره ‪ :‬شيطان ‪ ،‬قال جرير ‪:‬‬
‫ن يهوينني إذ كنت شيطانًا‬
‫أيام يدعونني الشيطان من غزلي *** وُك ّ‬
‫أي ‪ :‬إن النساء يدعونه ) شيطانًا ( لتفرده بأفعال الشيان من الغزل وغيره ‪.‬‬

‫طْلُعَها َكَأّنُه ُرُؤوسُ‬


‫ويطلق اسم ) شيطان ( على الحية خفيفة الجسم قبيحة المنظر ‪ ،‬وهو أحد وجهي التفسير في قوله تعالى ‪َ }} :‬‬
‫ن ‪ - {{ 65‬الصافات ‪ .‬أنظر ) الزينة ‪. ( 181 /‬‬‫طي ِ‬
‫شَيا ِ‬
‫ال ّ‬

‫ن ّماِرٍد ‪ - {{ 7‬الصافات ‪ ، .‬وهو خارج عن‬


‫طا ٍ‬
‫شْي َ‬
‫ل َ‬‫ظا ّمن ُك ّ‬
‫حْف ً‬
‫ومن صفات الشيطان ‪ ) :‬المارد ( ‪ ،‬وهو في قوله تعالى ‪َ }} :‬و ِ‬
‫ل ‪ - {{ 118 ...‬النساء ‪.‬‬ ‫طاًنا ّمِريًدا ‪ّ 117‬لَعَنُه ا ّ‬
‫شْي َ‬
‫ل َ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫عو َ‬
‫الطاعة ‪ ،‬ومنه أيضًا قوله تعالى ‪َ }} :‬وِإن َيْد ُ‬

‫جيِم ‪ - {{ 98‬النحل ‪ ، .‬والرجيم هو المرجوم ‪ ،‬كاللعين أي ‪:‬‬ ‫ن الّر ِ‬


‫طا ِ‬ ‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل ِم َ‬
‫سَتِعْذ ِبا ّ‬
‫ومن صفاته ) الرجيم ( في قوله تعالى ‪َ }} :‬فا ْ‬
‫ن ‪ - {{ 78‬ص ‪.‬‬ ‫ك َلْعَنِتي ِإَلى َيْوِم الّدي ِ‬
‫عَلْي َ‬
‫ن َ‬
‫) الملعون ( ‪ ،‬وهو أيضًا كذلك بمقتضى الخطاب الول إليه ‪َ }} :‬وِإ ّ‬

‫ومن صفات الشيطان ) الغول ( ‪ ،‬وهو ساحر الجن ‪ ،‬وكذلك ) السعلة ( وهي أخبث من الغول وأعظمها سحرًا ‪.‬‬
‫ومن صفاته ‪ ) :‬الوسواس الخناس ( ‪ ،‬والوسواس هو الذي يلقي بوسوسته في القلوب ‪ ،‬حتى يختبل النسان ‪ ،‬والخناس هو الذي يهرب‬
‫عند ذكر ال سبحانه ‪.‬‬

‫ومن صفاته ) الغرور ( لم يوصف بذلك غير الشيطان ‪ ،‬وهو وصف على فعول ‪ ،‬مثل ظلوم وحقود وتؤوم ‪ -‬صفات مبالغة ‪ -‬وقد يفسر‬
‫خّبل‬
‫) الطيف ( أو ) الطائف ( بأن المقصود به الشيطان ‪ ،‬وكذلك ) الخيال ( ‪ ،‬ويذكر صاحب الزينة أن من الشياطين جنسًا يقال له ‪ ) :‬ال ُ‬
‫خـّبل ‪ :‬إذا كان به مس من الجن ‪ ،‬والخبال هو‬‫خــبَلون الناس ويؤذونهم ‪ ،‬وقد يدفعونهم إلى الجنون ‪ ..‬يقال ‪ :‬رجل ُم َ‬
‫( ‪ ،‬وهم الذين ُي ّ‬
‫الجنون واختلط العقل ‪.‬‬

‫جْب ِ‬
‫ت‬ ‫ن ِباْل ِ‬
‫ب ُيْؤِمُنو َ‬
‫ن اْلِكَتا ِ‬
‫صيًبا ّم َ‬
‫ن ُأوُتوْا َن ِ‬
‫ومن أسماء الشيطان أيضًا ) الطاغوت ( ‪ ،‬وهو وارد في قوله تعالى ‪َ }} :‬أَلْم َتَر ِإَلى اّلِذي َ‬
‫ت ‪ - {{ 51 ...‬النساء ‪.‬‬ ‫غو ِ‬‫طا ُ‬
‫َوال ّ‬
‫ت ‪ - {{ 257 ...‬البقرة ‪.‬‬
‫غو ُ‬
‫طا ُ‬
‫ن َكَفُروْا َأْوِلَيآُؤُهُم ال ّ‬
‫‪ ،‬وقوله ‪َ }} :‬واّلِذي َ‬

‫ل َأن َتُقوَم ِمن‬


‫ك ِبِه َقْب َ‬
‫ن َأَنا آِتي َ‬
‫جّ‬‫ن اْل ِ‬
‫ت ّم َ‬
‫عْفري ٌ‬
‫ل ِ‬ ‫ومن أجناس الشياطين ‪ :‬العفريت ‪ ،‬وجمعه ‪ :‬عفاريت ‪ ،‬وهو وارد في القرآن ‪َ }} :‬قا َ‬
‫عفارية ‪ .‬وهو الموثق الخلق الشديد‬ ‫عْفـرَيٌة ِنْفِرية ‪ ،‬و ُ‬
‫ك ‪ - {{ 39 ...‬النمل ‪ ، .‬والعفريت من كل شيء ‪ ) :‬المبالغ ‪ ،‬ويقال ‪ :‬فلن ِ‬
‫ّمَقاِم َ‬
‫حح ( ) الزينة ‪. ( 191 /‬‬
‫المص ّ‬

‫ولم يذكر صاحب الزينة من صفات الشيطان ‪ :‬القرين ‪ ،‬وجمعه ‪ :‬قرناء ‪ ،‬وقد وردت الكلمتان في آي القرآن ‪ ،‬الولى في قوله تعالى ‪:‬‬
‫ضَنا َلُهْم ُقَرَناء‬
‫ن ‪ - {{ 36‬الزخرف ‪ ، .‬والثانية في قوله تعالى ‪َ }} :‬وَقّي ْ‬ ‫طاًنا َفُهَو َلُه َقِري ٌ‬
‫شْي َ‬
‫ض َلُه َ‬
‫ن ُنَقّي ْ‬
‫حَم ِ‬
‫عن ِذْكِر الّر ْ‬ ‫ش َ‬ ‫}} َوَمن َيْع ُ‬
‫خْلَفُهْم ‪ - {{ 25 ...‬فصلت ‪ ، .‬كما ورد ذكر ) القرين ( في سورة ) ق ( ‪ ،‬في اليتين ‪َ }} :‬وَقالَ َقِريُنُه َهَذا‬ ‫ن َأْيِديِهْم َوَما َ‬
‫َفَزّيُنوا َلُهم ّما َبْي َ‬
‫ل َبِعيٍد ‪ - {{ 27‬سورة ق ‪.‬‬‫لٍ‬‫ضَ‬‫ن ِفي َ‬ ‫طَغْيُتُه َوَلِكن َكا َ‬
‫ل َقِريُنُه َرّبَنا َما َأ ْ‬
‫عِتيٌد ‪ - {{ 23‬سورة ق ‪ ، .‬وقوله ‪َ }} :‬قا َ‬ ‫ي َ‬ ‫َما َلَد ّ‬

‫ساء ِقِريًنا ‪ - {{ 38‬النساء ‪.‬‬


‫ن َلُه َقِريًنا َف َ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫وورد ذكر القرين أيضًا في سورة النساء ‪ ،‬في قوله تعالى ‪َ }} :‬وَمن َيُك ِ‬

‫وواضح أن وظيفة القرين بمقتضى اليات شر كل الشر ‪ ،‬غير أن أثر وجود القرين انحصر في الغفلة عن ذكر ال ‪ ،‬أو محاولة‬
‫الغفال ‪ ،‬والمشاغلة بالدنيا ‪ ،‬والعكوف عليها ‪ ،‬دون تجاوز ذلك إلى اختصاص الشيطان الكبر ) إبليس ( الذي يحرص على أن يحقق‬
‫من وراء إغوائه الشرك بال ‪ ،‬فهو يترك أسباب الشرك من المعاصي ‪ ،‬ومقدماته من الثام لمساعديه من شياطين الجن والنس ‪ ،‬حتى‬
‫إذا شارف النسان حدود الشرك تحرك الملعون بصوته وخيله ورجله ليتم مهمته الكبرى ‪ ،‬ويشهد انتصار وعيده ‪ ،‬وتفوق الغواية على‬
‫الهداية ‪.‬‬

‫وجاء في الثار ذكر شيطان اسمه ) خنزب ( ‪ ،‬فذلك في حديث مرفوع عن ابن مسعود ‪ :‬أن للشيطان لمة لليعاد بالشر ‪ ،‬والتكذيب‬
‫بالحق ‪ ،‬والقنوط من الخير ‪ ،‬ويبدو أن هذا الشيطان متخصص في الحيلولة بين المؤمن وصلته ‪ ) .‬زاد المعاد ‪. ( 39 / 2‬‬

‫‪ -#-‬إبليس في القرآن ‪-#-‬‬

‫وقد ورد ذكر إبليس في القرآن إحدى عشر مرة ‪ ،‬منها عشر مرات في مكة ‪ ،‬ومرة واحدة في المدينة في سورة البقرة ‪.‬‬
‫ويلحظ أن مواضع ذكره لم تتجاوز قصة آدم في تسع مرات ‪ ،‬وجاء ذكره مرتين في غير القصة ‪ ،‬إحداهما في سورة الشعراء ‪ ،‬في‬
‫ن ‪- {{ 95‬‬ ‫جَمُعو َ‬ ‫س َأ ْ‬
‫جُنوُد ِإْبِلي َ‬
‫ن ‪َ 94‬و ُ‬ ‫سياق يتحدث عن المشركين ‪ ،‬ممن اتخذوا من دون ال آلهة ‪ ،‬قال ‪َ }} :‬فُكْبِكُبوا ِفيَها ُهْم َواْلَغاُوو َ‬
‫الشعراء ‪ ، .‬وموضوع الية جنود إبليس ‪ ،‬ل إبليس ذاته ‪ ،‬وإن كان إمام أهل النار ‪ ،‬والخرى في سورة سبأ في سياق يتحدث عن‬
‫ل َفِريًقا ّم َ‬
‫ن‬ ‫ظّنُه َفاّتَبُعوُه ِإ ّ‬
‫س َ‬
‫عَلْيِهْم ِإْبِلي ُ‬
‫ق َ‬
‫صّد َ‬
‫موقفهم من دعوة ال ‪ ،‬فأرسل ال عليهم سيل العرم ‪ ،‬وسجل ذلك عليهم فقال ‪َ }} :‬وَلَقْد َ‬
‫ن ‪ - {{ 20‬سبأ ‪ ، .‬وواضح أن الواقعة تشهد بأن إبليس ماثل بشخصه في الموقف ‪ ،‬فقد حقق وعيده حين قعد لبني آدم على‬ ‫اْلُمْؤِمِني َ‬
‫سَتـِقَم {{ ‪ -‬فدفعهم إلى اتخاذ الشركاء ‪ ،‬وأضلهم فكانوا من الغاوين ‪.‬‬ ‫ك اْلـُم ْ‬
‫طَ‬
‫صَرا َ‬
‫ن َلُهْم ِ‬
‫لْقُعـَد ّ‬
‫طريق السلم ‪َ }} :‬‬
‫فإذا لحظنا أن إبليس لم يذكر في وحي المدينة سوى مرة واحدة ‪ ،‬في سورة البقرة ‪ -‬وأن أكثر ما ذكر كان في الفترة المكية ‪ ،‬وفي قصة‬
‫آدم وحدها ‪ -‬أدركنا أن اسم ) إبليس ( ليس علمًا على جنس من المخلوقات الخفية ‪ ..‬بل هو اسم ذات ‪ ،‬تفردت بقيادة الخلق إلى الشرك ‪،‬‬
‫وهو الذي مثل الدور الكبر في قصة بداية العهد النساني ‪ ،‬ولقد كان لذكره في مكة مناسبة ضرورية ‪ ،‬حيث كثر أولياؤه من كفار‬
‫مكة ‪ ،‬وعتاة الجاهلية ‪ ،‬فكان التركيز عليه لبراز دوره ‪ ،‬والتنفير منه ‪.‬‬

‫فأما في المدينة فقد برزت على الساحة أحداث أخرى ‪ ،‬حين كثر أنصار الحق ‪ ،‬وقامت دولته ‪ ،‬وصرحت المواجهة بين جند ال ‪،‬‬
‫وأعدائه ‪ ،‬فناسب أن يقوم بمهمته معه ذريته من كبار الشياطين وصغارهم ‪ ،‬وهم الذين تم التعريف بهم وبشرورهم في كثير من آيات‬
‫الوحي المكي والمدني ‪ ،‬على سواء ‪.‬‬

‫عُدّو ‪ - {{ 50 ...‬الكهف ‪ . .‬ول ندري‬


‫خُذوَنُه َوُذّرّيَتُه َأْوِلَياء ِمن ُدوِني َوُهْم َلُكْم َ‬
‫وقد أشار القرآن إلى أن لبليس ذرية ‪ ،‬فقال ‪َ }} :‬أَفَتّت ِ‬
‫كيف تكاثرت الشياطين من ذرية إبليس ‪ ..‬اللهم إل إذا أخذنا ما ذكره صاحب المستطرف من أن إبليس ) ل يلد ‪ ،‬بل يلقح كالطير ويبيض‬
‫ويفرخ ‪ ،‬قيل ‪ :‬إنه يخرج من كل بيضة ستون ألف شيطان ( ) المستطرف ‪ ، ( 402 /‬فإذا استبعدنا هذا من قياس التكاثر بين الشياطين‬
‫على غرار تكاثر الطيور ‪ ،‬والحشرات ‪ ،‬فقد نتصور أن طبيعة إبليس النارية تقبل التكاثر بما يشبه النقسام ‪ ،‬فيحدث عند احتدام حقده‬
‫تولد الشرر ‪ ،‬فيكون من كل شرارة شيطان وليد ‪ ،‬يكبر برعاية أبيه ‪ ،‬ويبقى معه إلى أجله المسمى ‪.‬‬

‫وبذلك يبرز دور الشياطين إلى جانب دور ) إبليس ( زعيمهم الكبر ‪ ،‬وأبيهم اللعين ‪ ،‬ليتولوا إضلل المؤمنين عن طريق الستقامة ‪،‬‬
‫ودفعهم إلى المعاصي ‪ ،‬من الكبائر والصغائر ‪ ،‬فمن الواضح إذًا أن كلمة ) إبليس ( علم أطلق على ذلك الشيطان الكبر دون ذريته من‬
‫سّم باسمه أحد غيره ‪ ،‬فلم يرد في الستعمال ) إبليس النس ( ‪ ،‬كما ورد ) شياطين النس ( ‪ ،‬وهم الذين‬‫الشياطين والمردة ‪ ،‬ولهذا لم َيَت َ‬
‫نفخ إبليس في قلوبهم فصاروا له جندًا ‪.‬‬

‫وربما نستطيع أن نتصور واقع العمل بين إبليس وذريته وجنوده من الشياطين ‪ ،‬في ضوء دللة النصوص القرآنية بحيث يتولى إبليس‬
‫محاربة بني آدم ليصدهم عن السلم ‪ ،‬ويغرقهم في الشرك ‪ ،‬وفي كل ما يؤدي إليه من قول أو عمل ‪ ،‬وتلك مهمة رهيبة تتصل‬
‫ل حسب اقتداره على‬‫بالمباديء والعقائد والديان ‪ ،‬على أن يتولى بقية الشياطين مهمات دون ذلك ‪ ،‬في مجال الرزيلة والشر ‪ ..‬ك ّ‬
‫الغواء والضلل ‪ ،‬وإشاعة الفساد ‪ ،‬فمنهم الذكي والغبي ‪ ،‬والنابه والكسول ‪ ،‬ولسوف نزيد الصورة وضوحًا عند استعراض‬
‫النصوص الواردة بشأن ) الشيطان ( ‪.‬‬

‫عاًدا َوَثُموَد َوَقد‬


‫ل ‪ ..‬قوله تعالى في سورة العنكبوت ‪َ }} :‬و َ‬ ‫على أن ) إبليس ( وصف في القرآن بأنه ) شيطان ( ‪ ،‬وهو ما يشي به مث ً‬
‫ن ‪ - {{ 38‬العنكبوت ‪ ، .‬فهذه المهمة الضخمة ‪،‬‬ ‫صِري َ‬
‫سَتْب ِ‬
‫ل َوَكاُنوا ُم ْ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫عِ‬
‫صّدُهْم َ‬
‫عَماَلُهْم َف َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫ن َلُهُم ال ّ‬
‫ساِكِنِهْم َوَزّي َ‬
‫ن َلُكم ّمن ّم َ‬
‫ّتَبّي َ‬
‫المتمثلة في صرف هؤلء الكفرة عن اليمان ‪ ،‬وصدهم عن التوحيد ‪ -‬هي مهمة هائلة ل يقدر عليها سوى ) إبليس ( ذاته ‪ ،‬الذي وصف‬
‫بأنه ) الشيطان ( ‪ -‬هكذا معرفًا بـ ) ال ( العهدية ‪ ،‬أي ‪ :‬الشيطان الذي تعرفون ‪ ،‬وتذكرون قصته ووعيده ‪ ،‬والموقف هنا مع عاد وثمود‬
‫‪ -‬الذين عاشوا في الفترة مابين نوح وإبراهيم ‪.‬‬

‫ل َتْعُبُدوا‬
‫عَهْد ِإَلْيُكْم َيا َبِني آَدَم َأن ّ‬
‫وأوضح من ذلك دللة على أن المراد ) بالشيطان ( هو ) إبليس ( ‪ -‬قوله تعالى في سورة يس ‪َ }} :‬أَلْم َأ ْ‬
‫سَتِقيٌم ‪ - {{ 61‬يس ‪ ، .‬إننا نستطيع أن نطردها قاعدة في كل شيطان معرف‬ ‫ط ّم ْ‬
‫صَرا ٌ‬
‫عُبُدوِني َهَذا ِ‬
‫نا ْ‬
‫ن ‪َ 60‬وَأ ْ‬
‫عُدّو ّمِبي ٌ‬
‫ن ِإّنُه َلُكْم َ‬
‫طا َ‬
‫شْي َ‬
‫ال ّ‬
‫بــ ) ال ( ‪ ،‬فهو ) إبليس ( ‪ ،‬ويعتمد في ذلك أيضًا على دللة السياق ‪ ،‬فأما إذا جاء اللفظ منكرًا فإننا نرجح أن يكون المراد به واحدًا من‬
‫جنس الشياطين‬

‫‪-#-‬الشيطان في القرآن ‪-#-‬‬

‫ورد ذكر الشيطان في القرآن مفردًا ‪ ،‬وجمعًا في سياقات توحي باختلف المعنى المقصود منه ‪ .‬وقد جاء مفردًا في التنزيل المكي ثلثًا‬
‫وثلثين مرة ‪ ،‬وجاء مفردًا في التنزيل المدني ثمانيًا وعشرين مرة ‪.‬‬

‫أما وروده جمعًا ‪ -‬فقد جاء في التنزيل المكي خمس عشة مرة ‪ ،‬وفي التنزيل المدني ثلث مرات ‪.‬‬

‫وقد نستطيع أن نميز بعض وجوه المعنى المراد من خلل ملحظة ورود الكلمة معرفة أو منكرة ‪ -‬كما سبق أن قلنا ‪ ،‬فإذا جاء معرفًا ‪) :‬‬
‫الشيطان ( فهو ) إبليس ( ‪ ،‬وإذا جاء منكرًا ) شيطان ( فهو أحد من جنس الشياطين ) من ذرية إبليس ( ‪ ،‬وقد جاء اللفظ منكرًا‬
‫ل في خمسة مواضع هي على التوالي بحسب النزول ‪:‬‬ ‫) شيطان ( فع ً‬

‫جيٍم ‪ - {{ 25‬التكوير ) مكية ( ‪.‬‬


‫ن َر ِ‬
‫طا ٍ‬
‫شْي َ‬
‫ل َ‬
‫* السورة السابعة ) التكوير ( }} َوَما ُهَو ِبَقْو ِ‬

‫جيٍم ‪ - {{ 17‬الحجر ) مكية ‪.‬‬


‫ن ّر ِ‬
‫طا ٍ‬
‫شْي َ‬
‫ل َ‬
‫ظَناَها ِمن ُك ّ‬
‫حِف ْ‬
‫* السورة الرابعة والخمسون ) الحجر ( }} َو َ‬

‫ن ّماِرٍد ‪ - {{ 7‬الصافات ) مكية ( ‪.‬‬


‫طا ٍ‬
‫شْي َ‬
‫ل َ‬
‫ظا ّمن ُك ّ‬
‫حْف ً‬
‫* السورة السادسة والخمسون ) الصافات ( }} َو ِ‬

‫ن ‪ - {{ 36‬الزخرف ) مكية ( ‪.‬‬


‫طاًنا َفُهَو َلُه َقِري ٌ‬
‫شْي َ‬
‫ض َلُه َ‬
‫ن ُنَقّي ْ‬
‫حَم ِ‬
‫عن ِذْكِر الّر ْ‬
‫ش َ‬
‫* السورة الثانية والستون ) الزخرف ( }} َوَمن َيْع ُ‬

‫طاًنا ّمِريًدا ‪ - {{ 117‬النساء ) مدنية ( ‪.‬‬


‫شْي َ‬
‫ل َ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫عو َ‬
‫ل ِإَناًثا َوِإن َيْد ُ‬
‫ن ِمن ُدوِنِه ِإ ّ‬
‫عو َ‬
‫* السورة الثالثة والتسعون ) النساء ( }} ِإن َيْد ُ‬

‫ل أن الية في سورة التكوير هي أولى اليات التي تعرضت لذكر الشيطان في القرآن ‪ ،‬فجاءت به منكرًا ‪ ،‬وقد كانت العرب‬ ‫ويلحظ أو ً‬
‫تعرف ) الشيطان ( ‪ ،‬وتراه في أطياف الشعراء ‪ ،‬فجاء القرآن لينفي أن تكون آياته كأبيات الشعر من طائف الشيطان الذي عرفوه ‪:‬‬
‫جيٍم ‪ - {{ 25‬التكوير ) مكية ( ‪.‬‬
‫ن َر ِ‬
‫طا ٍ‬
‫شْي َ‬
‫ل َ‬
‫}} َوَما ُهَو ِبَقْو ِ‬

‫ونحسب أن وصف الشيطان هنا بأنه ) رجيم ( هو الجديد في هذه البداية ‪ ،‬لتعريف المخاطبين بأن شأن الشيطان أن يرجم بالحجارة ‪،‬‬
‫وهو ما لم يعرفه أهل الجاهلية ‪ ،‬وكأنه يقول لهم ‪ :‬إن ما يمليه الشيطان على عقل الشاعر ل يحمل هداية ‪ ،‬ول يدعو إلى خير ‪ ،‬فهو‬
‫سَتِقيَم ‪ - {{ 28‬التكوير ‪ ،‬وقد‬ ‫شاء ِمنُكْم َأن َي ْ‬
‫ن ‪ِ 27‬لَمن َ‬
‫ل ِذْكٌر ّلْلَعاَلِمي َ‬
‫ن ُهَو ِإ ّ‬
‫عكس ما يتلوه عليكم محمد صلى ال عليه وسلم ‪ِ }} :‬إ ْ‬
‫صمت الوحي بعد ذلك عن ذكر الشيطان ‪ -‬منكرًا ومعرفًا ‪ -‬طيلة ثلثين سورة ‪ -‬حتى جاء ذكر ) إبليس ( في سورة ) ص ( لول مرة ‪،‬‬
‫ب ِإذْ َناَدى َرّبُه‬
‫عْبَدَنا َأّيو َ‬‫وعرض ذكر ) الشيطان ( مفردًا بعيدًا عن قصة آدم ‪ ،‬أي ‪ :‬في إطار مستقل ‪ ،‬وهو في قوله تعالى ‪َ }} :‬واْذُكْر َ‬
‫ص ‪ - {{ 37‬ص ‪،‬‬ ‫غّوا ٍ‬ ‫ل َبّناء َو َ‬
‫ن ُك ّ‬‫طي َ‬
‫شَيا ِ‬‫ب ‪ - {{ 41‬ص ‪ ،‬وجاء ذكره جمعًا في قوله تعالى ‪َ }} :‬وال ّ‬ ‫عَذا ٍ‬
‫ب َو َ‬
‫ص ٍ‬
‫ن ِبُن ْ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫ي ال ّ‬
‫سِن َ‬
‫َأّني َم ّ‬
‫واليتان تتحدثان عن أمور تتصل بقصتي نبيين كريمين ‪ ..‬أحدهما ‪ :‬أيوب ‪ ،‬الذي دعا ربه أن يخلصه من وساوس الشيطان أثناء مرضه‬
‫وابتلئه ‪ ،‬والثاني ‪ :‬سليمان ‪ ،‬الذي سخر ال له الجن والشياطين في أمور تتصل بما وهبه ال من ملك لم يوهب لحد بعده ‪ ،‬وحين تأتي‬
‫قصة آدم في آخر سورة ) ص ( يذكر ) إبليس ( لول مرة ‪ ،‬وكأنه ل علقة له بالشيطان ‪ ،‬فلكل منهما مجاله ‪ ،‬ولكن الوحي ينزل بعد‬
‫ذلك مباشرة بسورة العراف ) التاسعة والثلثين ( ‪ ،‬فيجمع بين إبليس والشيطان في قصة آدم ‪ ،‬ويطابق بينهما ‪ ،‬ولو أننا قرأنا اليات‬
‫شَعـْرنا أن كلمة ) الشيطان ( في هذا السياق تأتي في موقع‬‫ن {{‬
‫َل َ‬‫طا ُ‬
‫شْي َ‬
‫س َلُهـَما ال ّ‬
‫سَو َ‬
‫}} َفَو ْ‬ ‫حتى قوله تعالى ‪:‬‬
‫الوصف ‪ ،‬أي ‪ :‬ذلك الشرير المجرم ‪ ،‬وملحظ الوصفية هنا أظهر من ملحظ السمية ‪.‬‬

‫وحين يتقمص ) النسان ( وظيفة الشيطان ‪ ،‬فإنه يكون أخبث طينة ‪ ،‬وأبشع كيدًا ‪ ،‬وأعظم إفسادًا من الجن وشياطينهم ‪ ،‬وقد شهد‬
‫ل من هؤلء الشياطين ‪ ..‬في شكل مفكرين ‪ ،‬وساسة وحكام ‪ ،‬وأذناب ‪ ،‬وطواغيت و ) هلفيت ( ‪ -‬إن صح التعبير ‪ -‬وقد‬ ‫عصرنا أجيا ً‬
‫جمعوا في ذواتهم صفات الشيطان الجني ‪ ،‬وأضافوا إليها أخبث صفات النس ‪ ،‬فكانوا مزيجًا من الشرور المرئية وغير المرئية ‪.‬‬

‫ل تزيف صورة الحق ‪ ،‬فإذا هو باطل يخدع العقول ‪ ،‬ويفني العمار في متابعته والتعلق‬
‫كما شهد عصرنا من فنون هؤلء الشياطين أهوا ً‬
‫به ‪.‬‬

‫نعم ‪ :‬شهد عصرنا ذلك الصراع من أجل احتلل الفضاء ‪ ،‬وشحنه بالموبقات ‪ ،‬ونشر الفجور بكل وسائل الغراء والستدراج ‪ ،‬تحت‬
‫شعارات ظاهرها فيه الرحمة ‪ ،‬وباطنها من قبله العذاب ‪ ،‬وهي شعارات ) مصالح الجماهير ( و ) خدمة الشعب ( و ) عولمة الثقافة ( ‪،‬‬
‫وغير ذلك من دعاوي الباطل ‪ ،‬ولغات ) شياطين النس ( ‪ ،‬والمضمون الوحيد هو الجنس ‪ ،‬والجنس وحده ‪ ،‬حتى يذهل النسان عن‬
‫غايته ‪ ،‬ويعقد اتصاله بهدفه ‪ ،‬ويبقى مجرد متفرج أبله على ألعاب الشياطين ‪.‬‬

‫أما التقدم ‪ ،‬والحضارة ‪ ،‬والعدالة ‪ ،‬والكرامة ‪ ،‬والقوة ‪ ،‬والدين ‪ ،‬والنصر على العدو ‪ ،‬والعداد للمواجهة المحتومة ‪ -‬فكل ذلك كلم‬
‫أجوف ‪ ،‬ل قيمة له ‪ ،‬ول مضمون ‪ ..‬يكفي أن ننام على أهازيج السلم ‪ ،‬وأن نستسلم لحلم اليقظة والمنام ‪ ،‬بعيدًا عن الحركة الناشطة ‪،‬‬
‫والعمل اليجابي ‪ ،‬والبناء الخلقي ‪.‬‬

‫جّنة ‪ ،‬وقنوات التصال بين أعداء ال من الشياطين الملعين ‪.‬‬


‫إنها مراقص الشيطان ‪ ،‬ونوادي البالسة ‪ ،‬وملعب ال ِ‬

‫انتهى‬

You might also like