You are on page 1of 269

‫سلفي‬

‫ٌّ‬ ‫أنا‬
‫بحثٌ يف الهوية الواقعية واملتخيلة لدى السلفيني‬

‫محمد أبو رمان‬


٩٤١٨٧٦
fes@fes-jordan.org
www.fes-jordan.org

٩٧٨-٩٩٥٧-٤٨٤-٤٠-٨
‫تقديم‬
‫آنيا فيلر‪-‬شوك‬
‫املديرة املقيمة‪ ،‬مؤسسة فريدريش إيربت‪ /‬مكتب األردن والعراق‪.‬‬

‫شــهدت الحــركات الســلفية طفــرة قويــة خــال العقــود املاضيــة بالرغــم‬


‫مــن أنهــا ليســت بظاهــرة جديــدة‪ .‬حيــث أن تحــوال كبـرا قــد طــرأ‪ ،‬أدى‬
‫إىل مشــاركتهم يف الشــؤون السياســية منــذ بــزوغ مــا يســمى بالربيــع‬
‫العــريب ودفعهــم إىل إعــان أجنداتهــم السياســية‪ .‬كــا شــغلت الســلفية‬
‫اهتــام وســائل اإلعــام وذلــك بعــد تزايــد تجنيــد الجامعــات الســلفية‬
‫الجهاديــة مــن جميــع أنحــاء العــامل للقتــال يف ســوريا‪ .‬اال انــه يف بعــض‬
‫االحيــان تقــي وســائل االعــام حقيقــة هــذه الحــركات كونهــا ليســت‬
‫ثابتــة‪ ،‬وال متجانســة‪.‬‬
‫وقــد أظهــرت قليــل مــن الدراســات الخلفيــة اإلجتامعيــة واإلقتصاديــة‬
‫والثقافيــة التــي ينحــدر منهــا أعضــاء الجامعــات الســلفية وتدفعهــم‬
‫باالنخـراط بهــا‪ .‬لــذا يقــدم هــذا الكتــاب دراســة رائــدة للســلفية‪ .‬حيــث‬
‫اتخــذ الدكتــور محمــد أبــو رمــان النهــج القائــم عــى الــرد يف بنــاء‬
‫تحليلــه معتمــدا عــى مقابــات عديــدة مــع الســلفيني يف األردن‪ ،‬وذلــك‬
‫لفهــم دوافعهــم وقيمهــم ومعتقداتهــم وتطلعاتهــم‪.‬‬
‫كــا ويقــدم أبــو رمــان قيــم أعضــاء الحــركات الســلفية مبــارشة‬
‫ويعــرض اســتنتاجاته عــى أســاس هــذه اللقــاءات املبــارشة بــدالً مــن‬
‫دراســة الحركــة مــن الخــارج‪ .‬كــا اختــار املؤلــف غالبيــة األشــخاص مــن‬
‫امللتزمــن بالســلفية وليســوا ذو مناصــب قياديــة‪ ،‬إمنــا ممــن يشــكلون‬
‫قاعــدة للحركــة‪ .‬وبالتــايل‪ ،‬فــإن الكاتــب يقــدم منوذجـاً يف فهــم تعقيــدات‬
‫الســلفية واتجاهاتهــا املختلفــة‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫مــن ضمــن أطــر عمــل مكتــب فريدريــش إيــرت‪ -‬عــان املتعــددة‬
‫اإلســام الســيايس لتســليط الضــوء عــى مختلــف اتجاهــات وتيــارات‬
‫الحــركات اإلســامية وتأســيس خطــاب تعليمــي يف هــذا املجــال‪ .‬حيــث‬
‫أطلقنــا سلســلة منشــورات حــول اإلســام الســيايس يف ‪ 2007‬بهــدف‬
‫توفــر املعلومــات بهــذا املجــال تفــي املعايــر األكادمييــة وتكــون متاحــة‬
‫ومفهومــة يف الوقــت ذاتــه‪ .‬ومنــذ ذلــك الوقــت‪ ،‬نــرت مؤسســة‬
‫فريدريــش إيــرت مثانيــة كتــب يف هــذه السلســلةتم تداولهــا عــى نطاق‬
‫واســع‪ .‬عــاوة عــى ذلــك‪ ،‬يدعــو مكتــب فريدريــش إيــرت خ ـراء مــن‬
‫كافــة أنحــاء املنطقــة ملناقشــة التطــورات التــي يشــهدها العــامل العــريب‬
‫حاليــا فيــا يتعلــق باألح ـزاب والحــركات اإلســامية‪.‬‬
‫مؤسســة فريدريــش ايــرت مؤسســة سياســية أملانيــة ناشــطة يف األردن‬
‫منــذ عــام ‪ ،1986‬تعمــل عــى تعزيــز قيــم الدميقراطيــة االجتامعيــة يف‬
‫جميــع أنحــاء العــامل‪ .‬تنظــم مؤسســة فريدريــش إيــرت أنشــطة عــى‬
‫مواضيــع مختلفــة مــع أكــر مــن ‪ 90‬مكتــب حــول العــامل بــدءا ً مــن‬
‫تشــجيع العمــل النقــايب وحقــوق العــال‪ ،‬لتنميــة قــدرات املجتمــع‬
‫الوطنــي‪ ،‬إىل تعزيــز حقــوق اإلنســان والعديــد مــن القضايــا األخــرى‪.‬‬
‫يــود فريــق فريدريــش إيــرت‪ -‬عــان التعبــر عــن امتنانهــم ملؤلــف‬
‫هــذا الكتــاب‪ ،‬الدكتــور محمــد أبــو رمــان‪ ،‬الــذي يقــدم بخربتــه وعملــه‬
‫الــدؤوب يف مجــال اإلســام الســيايس مســاهمة ال تقــدر بثمــن ملناقشــة‬
‫هــذا املوضــوع املهــم‪.‬‬
‫وكــا نشــكركم قراءنــا األعــزاء عــى اهتاممكــم املتواصــل مبنشــوراتنا‬
‫ونأمــل أن يضيــف كتــاب «أنــا ســلفي» لكــم قيمــة ثاقبــة يف حقــل‬
‫املعرفــة بالحــركات الســلفية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫إهداء‬

‫إىل أيب وأ ّمي‪..‬‬

‫عىس أن يكون هذا الجهد املتواضع مثر ًة‬


‫نافعة لزرعكم وتعبكم‬
‫ُ‬
‫شكر وعرفان‬

‫ـت‬‫لــوال املســاعدة الكبــرة مــن شــخصيات ومؤسســات مــا كنـ ُ‬


‫ألمت ّكــن مــن إنجــاز هــذه الدراســة وإصــدار الكتــاب؛ ويف مق ّدمــة‬
‫عــان‪،‬‬
‫هــذه املؤسســات مؤسســة فريدريــش أيــرت ومكتبهــا يف ّ‬
‫ومديــرة املكتــب النشــيطة املثابــرة آنيــا فيلــر تشــوك‪ ،‬التــي مل ت ّدخــر‬
‫جهــدا ً وال دعـاً إالّ ق ّدمتــه يل خــال إعــداد هــذه الدراســة وغريهــا‬
‫مــن دراســات ســابقة‪ ،‬فلهــا وللعاملــن يف املؤسســة؛ ميــس وإرساء‬
‫وعليــا وبتــول‪ ،‬كل الشــكر والتقديــر‪.‬‬
‫كــا أ ّن الفضــل يف توفــر البيئــة املناســبة والدعــم املعنــوي‬
‫واللوجســتي يعــود إىل مركــز الدراســات االســراتيجية يف الجامعــة‬
‫األردنيــة‪ ،‬الــذي يق ـ ّدم لنــا كل مــا ميكــن مــن إســناد‪ ،‬فلــه وملديــره‬
‫الصديــق د‪ .‬مــوىس شــتيوي كل الشــكر والتقديــر‪ ،‬وللطاقــم اإلداري‬
‫والفنــي يف املركــز‪ ،‬محمــد ســامة وأحمــد ســعد الديــن ورانيــا‬
‫مشــعل الشــكر الجزيــل‪..‬‬
‫كالعــادة‪ ،‬ال يخلــو كتــاب مــن كتبــي إالّ وفيــه شــكر كبــر وعميــق‬
‫لصديقــي العزيــز وزميــي يف هــذا الحقــل املعــريف والبحثــي‪ ،‬حســن‬
‫أبــو هنيــة‪ ،‬الــذي واكــب هــذا العمــل خطــوة خطــوة‪ ،‬وشــاركني‬
‫القـراءة واألفــكار‪ ،‬حتــى اإلخـراج واإلعــداد‪ ،‬وبــذل جهــدا ً ووقتـاً مثيناً‬
‫يف تقديــم النصائــح واآلراء‪ ،‬التــي اســتفدتُ منهــا كثـرا ً‪ ،‬وســاهمت يف‬
‫تطويــر الرؤيــة املنهجيــة‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫كــا أشــك ُر الصديــق الدكتــور حســن ال ـراري‪ ،‬الــذي عمــل عــى‬
‫ترجمــة الكتــاب وإعــادة قراءتــه وإبــداء املالحظــات والتســاؤالت‪،‬‬
‫وأشــكر األصدقــاء الســلفيني‪ ،‬الذيــن س ـ ّهلوا مه ّمتــي عــر عالقاتهــم‬
‫وأخــص بالذكــر‬
‫ّ‬ ‫وصالتهــم ومعارفهــم بالوســط الســلفي‪ ،‬عمومــاً‪،‬‬
‫حــاد‪ ،‬ورئيــس جمعيــة‬ ‫رئيــس جمعيــة الكتــاب والســ ّنة‪ ،‬زايــد ّ‬
‫االعتصــام‪ ،‬هشــام الزعبــي‪ ،‬والصديــق الباحــث والكاتــب أســامة‬
‫شــحادة‪ ،‬الــذي أعــود إليــه عنــد الســؤال واالستفســار عن شــخصيات‬
‫ســلفية وأحــداث مع ّينــة تقــع يف هــذه األوســاط االجتامعيــة‪.‬‬

‫‪7‬‬
١١
٣٣
٤٣
٥١ -١
٦١
٦٩ ًّ
٧٦ ّ ّ -١
٨٢
٨٧ ٍ
٩٥
١٠٥

١١٣
١٢٠ -١
١٢٧
١٣٤
١٤٥
‫‪١٥٣‬‬ ‫ًّ‬
‫‪١٥٩‬‬ ‫ّ‬ ‫‪١-‬‬
‫‪١٧٢‬‬
‫‪١٨١‬‬
‫‪١٨٨‬‬
‫‪١٩٣‬‬
‫‪١٩٩‬‬
‫‪٢٠٢‬‬ ‫‪١-‬‬
‫‪٢١٤‬‬
‫‪٢٢٧‬‬
‫‪٢٣٣‬‬
‫‪٢٣٥‬‬ ‫ّ‬ ‫‪١-‬‬
‫‪٢٤٤‬‬
‫‪٢٥٢‬‬
‫‪٢٦١‬‬
‫‪٢٦٣‬‬ ‫‪ -٥‬اﳌﺮاﺟﻊ‬
‫مقدمة‬
‫ّ‬

‫قلـق شـديد مـن أن أكـ ّرر‬


‫عندمـا بـدأت العمـل على هـذا الكتـاب سـاورين ٌ‬
‫وأجتر مـا ق ّدمتـه مـع صديقـي حسـن أبو هنيـة‪ ،‬يف كتابنـا «الحل اإلسلامي يف‬
‫األردن‪ :‬اإلسلاميون والدولـة ورهانـات الدميقراطيـة واألمـن»‪ ،1‬وبخاصـة تلـك‬
‫الفصـول التـي تتحـدث عـن السـلفيني يف األردن‪ ،‬بألوانهم وأطيافهـم املختلفة‪،‬‬
‫إذ رصدنـا يف ذلـك الكتـاب تطـ ّور الحالـة السـلفية وأبـرز محطّاتهـا ومالمحهـا‬
‫وشـخصياتها‪ ،‬وخطابهـا األيديولوجـي‪.‬‬
‫أ ّمـا الفكـرة التـي ّأسسـت لهـذا الكتاب فقـد أتت من زاويـة منهجية أخرى‪-‬‬
‫ومنظـو ٍر معـر ٍّيف مختلـف (عـن الكتـاب األول)؛ يتمثّـل يف االنتقـال مـن املنهج‬
‫الوصفـي‪ -‬التحليلي لتطـور تلـك الحـركات وخطابهـا األيديولوجـي ودورهـا‬
‫االجتامعـي إىل منهـج رسدي داخلي معاكـس‪ ،‬أي أن يقـ ّدم لنـا السـلفيون‬
‫أنفسـهم رؤيتهـم لـ«األنـا» و«اآلخـر»‪ ،‬واملقصـود باآلخر‪ ،‬هنا‪ ،‬هـو «املختلف»‪،‬‬
‫أو الخـارج مـن دائـرة «األنـا»‪ ،‬سـواء كان فـردا ً أو فكـرة أو مجتمعـاً أو جامعة‪،‬‬
‫وسـوا ًء كان إسلامياً أو غير إسلامي‪.‬‬

‫(‪ )1‬محمــد أبــو رمــان‪ ،‬حســن أبــو هنيــة‪ ،‬الحــل اإلســامي يف األردن‪ :‬اإلســاميون والدولــة‬
‫ورهانــات الدميقراطيــة واألمــن‪ ،‬مركــز الدراســات االســراتيجية يف الجامعــة األردنيــة‬
‫ومؤسســة فريدريــش أيــرت‪ ،‬عــان‪ ،‬ط‪.2013 ،1‬‬

‫‪11‬‬
‫بالرغـم مـن ذلـك بقـي هاجـس التكرار قامئـاً يف املرحلـة األوىل من البحث‪،‬‬
‫قبـل العـودة امليدانية الثانية لألوسـاط السـلفية األردنية‪ ،‬إذ كان السـؤال الذي‬
‫يلـح علي هـو‪ :‬ما الفرق فيام إذا ق ّدم الباحثون املجتمع السـلفي والسـلفيني أم‬
‫ّ‬
‫قـ ّدم السـلفيون هـم أنفسـهم تلك الصـورة؛ طاملـا أ ّن النتيجة يفترض أن تكون‬
‫واحـدة أو متقاربـة جدا ً‪ ،‬وهي التعريف بالسـلفيني؛ جامعـات ومجموعات لها‬
‫أيديولوجيـات وأفـكار‪ ،‬تقوم بـأدوار معينة عىل الصعيد املجتمعي والسـيايس؟!‬
‫مـع مـرور الوقـت بـدأ هذا الهاجس يـذوب ويتالىش‪ ،‬حتى تبخّـر يف النهاية‪،‬‬
‫بعدما تشـكّلت لدي قناعتان أو رؤيتان رئيسـتان‪:‬‬
‫القناعـة األوىل‪ :‬هـي أنّنـا لسـنا أمـام حالـة ثابتـة‪ -‬جامدة‪ ،‬فاملشـهد السـلفي‬
‫متغير ومتحـرك‪ ،‬سـواء عىل صعيد تحـول األفكار‪ ،‬أو حتى عىل صعيد املامرسـة‬
‫االجتامعيـة والسياسـية والثقافيـة‪ ،‬أو حتـى على صعيـد مـدى صالبـة الحالـة‬
‫الداخليـة للتيـارات واملجموعـات السـلفية؛ بـل إحـدى املفاجـآت الشـخصية‬
‫يل بأنّنـي وجـدت معرفتـي بالجامعـات واملجموعـات السـلفية قـد تقادمـت‪،‬‬
‫بالرغـم مـن أنّـه مل متـض على الزيـارة األوىل ومتابعتـي البحثيـة لهـذه الحالـة‬
‫سـنوات معـدودة قليلة!‬
‫القناعـة الثانيـة‪ :‬التـي بـدأت تتجذّر وتتع ّمق عرب خطـوات البحث واملقابالت‬
‫والحـوارات التـي أجريتهـا مـع السـلفيني أنفسـهم‪ ،‬وتتمثّـل بأنّـه رغـم مـا قـد‬
‫يبـدو مـن تشـابه وتكـرار لبعـض املعلومـات حـول الجامعـات والحـركات‬
‫السـلفية األردنيـة بين كتـاب «الحـل اإلسلامي» وهـذا الكتـاب؛ إالّ أ ّن املنظور‬
‫املنهجـي مهـم جـدا ً يف حالتنـا هـذه‪ ،‬إذ يضعنـا أمـام تفاصيـل أخـرى وخيـوط‬
‫جديـدة إلدراك الحالـة السـلفية وفهمهـا‪ ،‬تعيـد صـوغ األسـئلة املطروحـة يف‬
‫دراسـتها‪ ،‬فتقديـم التجربـة السـلفية‪ ،‬بواسـطة أفرادهـا مـن الداخـل‪ ،‬متنحنـا‬
‫قـدرة على فهم أكبر للبنيـة النفسـية واملجتمعيـة‪ -‬الداخلية‪ ،‬وآليـات التكيّف‬
‫والتفكير والتحليـل الـذايت‪ ،‬وفهـم التحـوالت والتطـورات التـي تحـدث داخـل‬
‫الحالـة نفسـها بصـورة أكثر تعبيرا ً عـن أصحابهـا وأفرادهـا‪ ،‬هـذا مـن ناحيـة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫مـن ناحيـة أخـرى‪ ،‬ال تقـل أهمية عـن األوىل‪ ،‬فإنّه وبالرغم مـن الك ّم الهائل‬
‫والكبير مـن األدبيـات والكتابـات واألبحـاث عـن الحالـة السـلفية‪ ،‬بخاصـة يف‬
‫اآلونـة األخيرة‪ ،‬مـع بـروز السـلفية بصورة سـافرة واضحـة عىل الركح السـيايس‬
‫واملجتمعـي العـريب‪ ،‬وتسـليط األضواء اإلعالميـة عليها واندماجهـا يف التفاعالت‬
‫السياسـية السـلمية وغير السـلمية‪ ،‬فإنّنـا نكتشـف أ ّن دراسـتنا للسـلفية مـا‬
‫تـزال بحاجـة إىل منظـورات منهجيـة أخـرى لفهـم ظاهـرة الصعـود واالنتشـار‬
‫السـلفي بصـورة أفضل وأعمـق‪ ،‬ذلك يتطلب االقتراب‪ ،‬ميدانياً‪ ،‬أكثر من اللغة‬
‫السـلفية واملجتمـع السـلفي والروايـة الذاتيـة لهـذه الحـركات وهـؤالء األفـراد‬
‫عـن أنفسـهم وأن نسـتمع منهـم مبـارشة لإلجابـات املطروحـة بحثياً وسياسـياً‬
‫وإعالميـاً وحتـى مجتمعياً!‬
‫رمبـا هـذه الفجـوة بني السـلفيني والنخب السياسـية واإلعالميـة العربية هي‬
‫أحـد األسـباب املهمـة يف حالـة اإلقصاء والنفـي املتبادل التـي نالحظها يف اآلونة‬
‫األخيرة‪ ،‬فالسـلفي ينظـر إىل السياسـة واملجتمـع والتيـارات السياسـية األخـرى‬
‫بوصفهـم منحرفين عـن الخط اإلسلامي املسـتقيم‪ ،‬أو أعدا ًء وخصومـاً‪ ،‬واآلخر‬
‫ينظـر إىل السـلفيني بوصفهـم ظاهـرة غريبـة مقلقـة‪ ،‬متثّـل عائقـاً أمـام التق ّدم‬
‫والتطـور وضـد الحداثة بصورهـا املختلفة!‬
‫تبـدو املفارقـة‪ ،‬هنـا‪ ،‬أ ّن كالًّ من السـلفيني و«اآلخرين» يعيشـون يف مجتمع واحد‪،‬‬
‫ورمبـا يكونـون يف أرسة أو عائلـة واحـدة‪ ،‬لكـ ّن لغة الحـوار واالتصـال والتواصل تكاد‬
‫تكـون شـحيحة يف كثير مـن األحيـان‪ ،‬وكثيرا ً مـا التقيـت أصدقـا ًء لديهم أشـقاء ذوو‬
‫اتجـاه سـلفي يُبـدون عـدم القـدرة عىل فهمهـم والتفاعـل معهم‪ ،‬بل واالسـتغراب ملا‬
‫يحملونـه مـن أراء ومـا ميارسـونه مـن سـلوك‪ ،‬وهـي إشـكالية تختزل‪ ،‬كام سـنتحدث‬
‫الحقـاً‪ ،‬يف إحـدى زواياهـا الرئيسـة‪ ،‬أزمـة الهويـة يف املجتمعـات العربيـة واملسـلمة‪،‬‬
‫التـي مـا تـزال تعاين مـن اضطراب وتوتـر يف صوغ املعادلـة اآلمنة – إن جـاز التعبري‪-‬‬
‫أي‬
‫بين الديـن والتراث ورشوط الحداثـة والعصر والعـامل الذي نعيـش فيه‪ ،‬لك ّنهـا – ّ‬
‫أزمـة الهويـة‪ -‬تبـدو يف أوضـح صورها مـع الحالة السـلفية‪ ،‬التي تتقمـص دور حامية‬
‫‪2‬‬
‫الديـن والدفـاع عنـه يف مواجهـة «التحديـات» والتهديدات التـي تواجهه!‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬محمد أبو رمان‪ ،‬السلفيون والربيع العريب‪ :‬سؤال الدين والدميقراطية يف السياسة‬

‫‪13‬‬
‫مث ّـة واقعـة حدثـت معـي خلال إعـداد هذه الدراسـة ع ّززت مـن أهميتها‬
‫لدي‪ ،‬وأكّدت ‪ -‬بالنسـبة يل‪ -‬ما ميكن تسـميته بـ«فجوة املعرفة» بني السـلفيني‬ ‫ّ‬
‫والرشائح االجتامعية والواسـعة‪ ،‬وتحديدا ً النخب السياسـية واإلعالمية‪ ،‬إذ كنت‬
‫ضيفـاً يف إحـدى املؤسسـات املدنيـة‪ ،‬أق ّدم محـارضة مع مجموعة من الشـباب‬
‫وتدريبي لهـم‪ ،‬لبناء الطاقـات والقدرات‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫إعـدادي‬
‫ٍّ‬ ‫املتميزيـن‪ ،‬يف نهايـة برنامـ ٍج‬
‫وكان موضـوع املحـارضة عـن الحـركات اإلسلامية يف األردن؛ مـا يشـمل جامعة‬
‫اإلخوان املسـلمني والسـلفيني وحـزب التحرير واتجاهات أخـرى متعددة‪.‬‬
‫مـا حـاز على اهتمام هـؤالء الشـباب‪ ،‬وكان مصـدر اسـتغرابهم يف الوقـت‬
‫نفسـه‪ ،‬هـو الحديـث عن االتجاهات السـلفية؛ ووجـدتُ نفيس مضطـ ّرا ً‪ ،‬خالل‬
‫املحـارضة‪ ،‬أن أوضّ ـح أكثر مـن مـ ّرة‪ ،‬بسـبب نبرات االسـتغراب‪ ،‬بأنّنـي أقـ ّدم‬
‫هـذه املجموعـات وأفكارهـا ورؤاهـا‪ ،‬كما هـي‪ ،‬ال أنقـد أو أؤيـد‪ ،‬وأتـرك ذلـك‬
‫ي بعضهـم بـأن أوضّ ح موقفـي أو رأيي الشـخيص تجاه‬ ‫رص عل ّ‬
‫للحضـور‪ ،‬حتـى أ ّ‬
‫هـذه املروحـة املتعـددة واملختلفة مـن األيديولوجيات والحركات اإلسلامية يف‬
‫األردن‪.‬‬
‫أجبـت‪ ،‬باختصـا ٍر شـديد‪ ،‬أنّنـي ال أص ّنـف نفسي باإلسلامي‪ ،‬وال بالعلماين‬
‫املعـادي للديـن ودوره‪ ،‬وأجـدين قريبـاً مـن األفـكار التـي يطرحهـا املفكّـر‬
‫األردين‪ ،‬فهمـي جدعـان‪ ،‬وبخاصـة يف كتابـه «يف الخلاص النهـايئ‪ :‬مقـال يف‬
‫وعـود اإلسلاميني والعلامنيين والليرباليين»‪ ،‬وهـو قريـب مـن خـط «العلامنية‬
‫املحافظـة»‪ ،‬الـذي بـرز خلال األعـوام املاضيـة يف تركيـا‪ ،‬عبر حـزب العدالـة‬
‫والتنميـة التريك‪ ،‬وبصـورة محـ ّددة مـا يتعلّـق بـدور الديـن يف املجالين العـام‬
‫والخـاص‪ ،‬وبعبـارة جدعـان «امل ُركّـب اإلسلامي العلماين الليبرايل‪.»!3‬‬

‫العربية‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2013 ،1‬ص‪.40-37‬‬


‫(‪ )3‬فهمي جدعان‪ ،‬يف الخالص النهايئ‪ :‬مقال يف وعود اإلسالميني والعلامنيني والليرباليني‪ ،‬دار‬
‫الرشوق‪ ،‬عامن‪ ،‬ط‪.2007 ،1‬‬

‫‪14‬‬
‫تفاجـأت باعتراض أحـد الحضـور بـأ ّن ذلـك الـرأي مخالـف لإلسلام نفسـه‪،‬‬
‫فالقـرآن يقـول «اليـوم أكملـت لكـم دينكـم وأمتمـت عليكـم نعتمـي ورضيت‬
‫لكـم اإلسلام ديناً» (سـورة املائدة‪ ،)3:‬فالعلامنية ليسـت من اإلسلام‪ ،‬واإلسلام‬
‫ٍ‬
‫مكتـف ال يحتـاج إىل ليرباليـة وعلامنيـة ليكتمـل بها‪،‬‬ ‫نظـام قائـم بذاتـه‪ ،‬وهـو‬
‫وفقـاً للمتحدث!‬
‫سـألت الحضـور فيما إذا كانـوا يتفقـون معه بهـذا الرأي‪ ،‬فكان الجـواب‪ :‬إ ّما‬
‫فقلـت‪ :‬إذا ً‪ ،‬دعونـا نترك باقي األسـئلة ومنـارس معاً هذه‬
‫ُ‬ ‫اإليجـاب أو الصمـت‪.‬‬
‫التجربـة الفكرية‪.‬‬
‫«دعنـي أتفـق معـك‪ ،‬بـأ ّن اإلسلام نظـام متكامـل‪ ،‬وأ ّن العلامنيـة ليسـت من‬
‫اإلسلام‪ ،‬مـا يعنـي أنّنا يجب أن نحتكـم إليه‪ ،‬ال إىل الفلسـفات الغربية‪ ،‬ودعني‬
‫أطـ ّور معـك هـذا الـرأي لنصـل إىل نتائجـه املنطقيـة؛ فاللـه عـز وجـل يقـول‬
‫«ومـن مل يحكـم مبـا أنـزل اللـه فأولئـك هـم الكافـرون» (املائـدة‪ ،)44 :‬ويف آية‬
‫أخـرى «الظاملـون» (املائـدة‪ ،)45 :‬وثالثـة «الفاسـقون» (املائـدة‪ ،)47:‬والله عز‬
‫وجـل يقـول «أفحكـم الجاهليـة يبغـون ومـن أحسـن مـن اللـه حكماً ٍ‬
‫لقـوم‬
‫يوقنـون» (املائـدة‪ ،)50:‬واللـه يقـول «ومـا كان ملؤمـن وال مؤمنـة إذا قىض الله‬
‫ورسـوله أمـرا ً أن يكـون لهـم الخرية مـن أمرهم» (سـورة األحـزاب‪ ،)36:‬وغريها‬
‫مـن آيـات تؤكـد على إلزاميـة تطبيـق الرشيعـة اإلسلامية وعـدم جـواز تركهـا‬
‫والتخلي عنهـا‪ ،‬وعلى أ ّن أي حكـم بغير الشرع هـو خـارج امللّـة‪ ،‬أي حكـم‬
‫طاغـوت وكفـر‪ ،‬أليـس كذلك؟»‬
‫فقـال‪ :‬نعـم‪ ،‬سـألت‪ :‬مـا رأي الحضـور؟ فأجابـوا‪ :‬نعـم‪ ،‬وبعضهم بقـي صامتاً‪،‬‬
‫مـن دون أن يعترض‪ ،‬فسـألت‪ :‬مـا هـو‪ ،‬إذن‪ ،‬الحكـم الرشعـي يف الحـكّام‬
‫والحكومـات العربيـة املعـارصة التـي ال تحكـم مبـا أنـزل الله؟ أليس هـو الكفر‬
‫والضلال؟!‬

‫‪15‬‬
‫صمـت يف القاعـة‪ ،‬ثـم أيّـد بعضهـم ذلـك‪ ،‬وآخـرون‪ :‬قالـوا الحكـم‬
‫ٌ‬ ‫فسـاد‬
‫ليـس إسلامياً‪ ،‬لكـن الحـكام ال نحكـم عليهـم؛ قلـت « إذا ً؛ أهلاً بكـم يف مربع‬
‫السـلفية الجهاديـة‪ ،‬فقـد قطعتـم خلال دقائـق معـدودة نصف الطريـق‪ ،‬ولن‬
‫نختلـف على الباقـي كثريا»‪.‬‬
‫مـا أردت أن أخلـص إليـه مـن هـذه الواقعـة؛ أ ّن الطريـق إىل «السـلفية»‬
‫والصيغـة الجهاديـة الراديكاليـة منهـا‪ ،‬ليـس طريقـاً صعبـاً‪ ،‬وال غريبـاً‪ ،‬عندمـا‬
‫بـدت عالمـات التعجـب على الحضـور‪ ،‬يف البدايـة‪ ،‬بـل على النقيـض مـن‬
‫ذلـك هـو طريـق سـهل للغايـة‪ ،‬ميكـن أن نقـف على بدايتـه يف كل لحظـة من‬
‫يومنـا‪ ،‬ونحـن نسـتمع إىل خطيـب الجمعـة‪ ،‬الذي يتحـ ّدث عـن «حتمية الحل‬
‫اإلسلام»‪ ،‬أو أسـتاذ الرشيعـة الـذي يـد ّرس مـادة «مذاهـب فكريـة معارصة»‪،‬‬
‫انحرفـت عـن املنهـج اإلسلامي‪ ،‬أو معلّـم املدرسـة أو الواعـظ يف الجامـع‪ ،‬أو‬
‫حتـى املهنـدس والطبيـب املتديّـن‪ ،‬أو حتـى الكاتـب واملؤلف الـذي يؤكّد عىل‬
‫أ ّن املسـتقبل هـو لإلسلام‪ ،‬وعـن إفلاس الحضـارات الغربيـة واملعـارصة روحياً‬
‫وقيمياً‪..‬الـخ‪.‬‬
‫ليـس السـلفيون هـم الغربـاء أو املسـتغربني‪ ،‬بـل ال نبالـغ إن قلنـا أ ّن‬
‫متوسـعة مـن «التسـلّف» يف العـامل العـريب‪ ،‬وإذا كانـت‬ ‫هنالـك حالـة ممتـدة ّ‬
‫السـلفية مبثابـة الثقافـة الدينيـة السـائدة يف كثيرٍ مـن دول الخليـج‪ ،‬فهـي –‬
‫اليـوم‪ -‬حالـة قامئـة قويـة منتشرة يف املجتمعـات العربيـة األخـرى أيضـاً‪ ،‬فيام‬
‫تعـاين «العلامنيـة» ومثقفوهـا مـن الرتاجع واالنحسـار مع امل ّد اإلسلامي‪ ،‬الذي‬
‫بـدأ يأخـذ شـط ٌر كبي ٌر منـه يف األعـوام املاضيـة «طابعـاً سـلف ّياً»‪.‬‬
‫رمبـا يذكّرنـا هـذا «املـ ّد السـلفي» بعبـارة طريفـة ألحـد شـيوخ السـلفية‬
‫يف مصر‪ ،‬وهـو أبـو إسـحاق الحوينـي‪ ،‬عندمـا اسـتهجن اسـتغراب اإلعالميين‬
‫والنخـب املثقفـة يف مصر مـن هـذا الحضـور السـلفي‪ ،‬بعـد ثـورة ‪ 25‬ينايـر‬
‫‪ ،2011‬إذ قـال «يسـألوننا أيـن كنتـم من قبل؟! جوابنا لهم أنكـم كنتم يف زحل‪،‬‬
‫ومل تكونـوا تـرون النـاس يف األسـفل!»‪. 4‬‬

‫(‪ )4‬انظر‪ :‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪91‬‬

‫‪16‬‬
‫ليـس األمـر بحاجـة إىل كبير عنـاء إلثباتـه! فلـم يكـن قـد مضى على‬
‫تأسـيس حزب النور السـلفي سـوى بضعة أشـهر‪ ،‬حتى خاض السـلفيون معركة‬
‫االنتخابـات الترشيعيـة املرصيـة‪ ،‬وكسروا حزبـاً عريقـاً‪ ،‬مثل حـزب الوفد الذي‬
‫كان أحـد أكبر األحـزاب املرصيـة وأقدمهـا‪ ،5‬أو عندمـا ننظر إىل املشـهد العريب‬
‫اليـوم لنرى السـلفيني هـم األكثر فعاليـة يف الثـورة السـورية أو حتـى يف دول‬
‫عربيـة أخـرى‪ .‬فالسـلفية ثقافـة قويـة يف العـامل العـريب متتـد إىل االتجاهـات‬
‫األخـرى‪ ،‬حتـى أ ّن باحثـاً متخصصـاً يف الحركات اإلسلامية يف مرص‪ ،‬وهو حسـام‬
‫متّـام‪ ،‬ألّـف كتابـاً عن «تسـلّف اإلخـوان»‪ ،‬أي انتشـار األفكار السـلفية يف داخل‬
‫جامعـة إسلامية عريقـة ممتـدة‪ ،‬مثـل جامعـة اإلخـوان املسـلمني‪ .6‬ومـا علينا‬
‫مالحظتـه هنا أ ّن االنتشـار ليس للسـلفيني بوصفهم جامعـات أو مجموعات أو‬
‫اتجاهـات تتخـذ العبـاءة السـلفية عنوانـاً لهـا‪ ،‬بـل األهم مـن ذلك هو انتشـار‬
‫األفـكار والتصـورات والثقافـة السـلفية يف املجتمعات العربية واملسـلمة اليوم!‬
‫السـلفية ليسـت أمـرا ً مسـتحدثاً‪ ،‬وال غـزوا ً دينيـاً ملجتمعاتنـا وثقافتنـا‬
‫العربيـة‪ ،‬فهـي تيـار عريض لـه تراثه الفقهـي والفكري والدعوي‪ ،‬ومعه ترسـانة‬
‫مـن الكتـب والفتـاوى والتنظير الدينـي غير املنقطـع‪ ،‬عبر القـرون والعصـور‬
‫اإلسلامية‪ .‬وهـي ليسـت فقـط اتجاهـاً فكريـاً‪ -‬فقهيـاً‪ ،‬وقبـل ذلـك عقائديـاً‪،‬‬
‫حقّـق انتصـارا ً كبيرا ً على االتجاهات اإلسلامية األخرى‪ ،‬وانتشر يف أرجاء العامل‬
‫العـريب فقـط؛ فزيـادة على ذلـك‪ ،‬متثِّـل السـلفية حالـة معـارصة لهـا حضورها‬
‫امللحـوظ يف مختلـف مناحـي الحيـاة العربيـة!‬
‫مه ّمـة هـذه الدراسـة‪ ،‬إذن‪ ،‬االقتراب مـن «املجتمـع السـلفي» وتقريبه إىل‬
‫القـارئ مـن خلال روايتـه الذاتيـة‪ ،‬عبر منهـج يقـوم – أساسـاً‪ -‬على املقابالت‬
‫الخاصـة مع شـخصياته وأفـراده‪ ،‬من ينتمون إليه ويتب ّنون السـلفية‪ ،‬ليس فقط‬
‫معرفيـاً‪ ،‬بـل حتـى سـلوكياً وثقافياً‪ .‬فنحن أمـام اتجاه يزاوج بين الفكر والثقافة‬
‫والسـلوك واملامرسـة‪ ،‬يتق ّمـص السـلفية يف قيمـه العليـا‪ ،‬ومواقفـه‪ ،‬وأفـكاره‪،‬‬
‫(‪ )5‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.127-119‬‬
‫(‪ )6‬حســام متــام‪ ،‬تســلف اإلخــوان‪ :‬تــآكل األطروحــة اإلخوانيــة وصعــود الســلفية يف جامعــة‬
‫اإلخــوان املســلمني‪ ،‬مكتبة االســكندرية‪ ،‬ط‪.2010 ،1‬‬

‫‪17‬‬
‫ويربـط مـا بين الدينـي‪ -‬على املنهـج السـلفي وتفاصيل حياتـه اليوميـة‪ .‬فهذا‬
‫املنهـج هـو الـذي يحكـم رؤيـة السـلفي لنفسـه ولتيـاره وللمجتمـع والدولـة‬
‫واملجتمعـات العربيـة واملسـلمة كافـة‪ ،‬التي تدخل يف نطاق «األمة اإلسلامية»‪،‬‬
‫يف الرؤيـة السـلفية‪ ،‬وكذلـك يف رؤيتـه للعـامل واملذاهـب املختلفة!‬

‫‪18‬‬
‫نطاق الدراسة ومجالها‬

‫مل يقـع اختيارنـا– بالضرورة‪ -‬يف املقابلات على الشـخصيات املؤث ّـرة‬
‫واملشـهورة والنافـدة يف التيـار‪ ،‬أو بعبـار ٍة أخـرى مل نهتـم بـأن نختـار القيـادات‬
‫املعروفـة‪ ،‬فليـس ذلـك مقصـود الدراسـة‪ ،‬بـل تع ّمدنـا‪ ،‬قـدر اإلمـكان‪ ،‬االبتعاد‬
‫عـن ذلـك لتتـاح لنـا فرصـة التعـ ّرف عىل تجـارب إنسـانية مـن الحيـاة اليومية‬
‫قـ ّررت االلتـزام بالسـلفية ومتثّلهـا يف أفكارهـا وحياتهـا ومواقفهـا‪ ،‬لنطّلـع على‬
‫التيـار مـن الداخـل‪ ،‬فالقيـادات– عـادةً‪ -‬تكـون قـد وصلـت مرحلـة متق ّدمـة‪،‬‬
‫تـراوغ يف التعريـف بتفاصيـل ال تريدهـا أو تقـوم بإخفائهـا‪ ،‬إلظهـار قـد ٍر أكبر‬
‫مـن التامسـك يف سيرتها وصورتهـا أمـام اإلعلام واملجتمـع واآلخريـن!‬
‫ذلـك ال ينفـي أ ّن هنالـك شـخصيات قياديـة ونخبوية التقيناها يف الدراسـة‪،‬‬
‫لكـن ليـس ملكانتهـا هذه‪ ،‬إنّ ا ملـا تضيفه رواياتهـا من أضـواء مع ّمقة عىل هذه‬
‫التجربـة السـلفية عمومـاً‪ .‬وقـد التزمنـا بهـذه الدراسـة بتقسـيم السـلفيني يف‬
‫األردن إىل ثالثـة اتجاهـات رئيسـة‪ :‬االتجـاه التقليدي واالتجاه الحـريك واالتجاه‬
‫نقسـم االتجاهات‬‫الجهـادي‪ ،‬وإن ك ّنـا يف الفصـل األول‪ -‬النظـري مـن الدراسـة ّ‬
‫السـلفية العربيـة إىل أربعـة‪ ،‬نضيـف إليهـا االتجـاه الجامـي‪ ،‬لكـ ّن المتـزاج‬
‫التقليـدي بالجامـي يف األردن‪ ،‬يف سـياق واحد‪ ،‬عرب مدرسـة محمـد نارص الدين‬
‫األلبـاين‪ ،‬فوضعناهما يف اتجـاه واحد‪.‬‬
‫مـن الضروري اإلشـارة املنهجيـة‪ ،‬هنـا‪ ،‬بالرغـم مـن أنّنـا أفردنا الفصـل األول‬
‫املوسـع عن مفهوم السـلفية وتطـوره‪ ،‬واتجاهاتهـا املختلفة‪،‬‬ ‫النظـري للحديـث ّ‬
‫قسـمنا االتجاهـات السـلفية يف األردن‪ ،‬وفقـاً لهـذه الدراسـة‪ ،‬إىل ثالثـة‬
‫إىل أننـا ّ‬
‫اتجاهـات رئيسـة‪ ،‬وحددنـا الشـخصيات والتجـارب ضمن هـذه االتجاهات؛ إذ‬
‫أ ّن هـذا التقسـيم مهـم وأسـاس يف هـذه الدراسـة لتشـكيل فهـمٍ أفضـل وأكثر‬
‫عمقـاً لألمثلـة والتجـارب املطروحـة‪ ،‬مـع إدراك القواسـم املشتركة املوضوعيـة‬
‫الكبيرة‪ ،‬فهـو يتيـح لنـا معرفـة الفـروق بين هـذه التجـارب وانعكاسـاتها عىل‬

‫‪19‬‬
‫الشـخصيات والهويـات السـلفية‪ ،‬وهـي فـروق مؤث ّـرة بين مـن يتخـذ منهجـاً‬
‫جهاديـاً أو تقليديـاً أو حتـى حركيـاً‪ ،‬كما سـتالحظون معي يف الفصـل الختامي‬
‫مـن الكتاب‪.‬‬
‫نـدرك أ ّن هـذا التقسـيم (إىل تقليـدي وجهـادي وحـريك) يواجـه اعرتاضـات‬
‫ومالحظـات موضوعيـة‪ ،‬وهـو ليس ح ّديّـاً‪ ،‬فهنالك نقاط تداخـل وتقاطع كبرية‪،‬‬
‫لك ّنـه أفضـل املتـاح لتمييز االتجاهات الفاعلة يف املشـهد السـلفي‪ ،‬وال نتحدث‬
‫مـؤشات رئيسـة؛ أوالً أن تكـون هنالك‬ ‫هنـا إالّ عـن اتجاهـات‪ ،‬تتمثّـل بوجـود ّ‬
‫ً‬
‫رؤيـة أيديولوجيـة‪ ،‬أو شـبه أيديولوجيـة حاكمـة ملجموعـة معينـة‪ ،‬وثانيـا أن‬
‫تعبر عنهـا‪ .‬فلا‬
‫تتمثـل يف تيـار أو جامعـة أو مجموعـة أو مؤسسـات معينـة‪ّ ،‬‬
‫تدخـل يف نطـاق الدراسـة تفاصيل أخرى مـن الحالة السـلفية ذات طابع فردي‬
‫أو ال تتخـذ األيديولوجيـا السـلفية عنوانـاً‪ ،‬فهنالـك أفكار سـلفية منترشة وأفراد‬
‫يتبنـون أجـزا ًء كبيرة مـن التصور السـلفي‪ ،‬ومجموعات داخل حركات إسلامية‬
‫أخـرى تتب ّنـى السـلفية‪ ،‬لكنها تخـرج عن نطاق بحثنـا‪ ،‬طاملا أنّهـا ال تتوافر عىل‬
‫املقومين الرئيسين السـابقني (تبنـي واضـح لأليديولوجيـا السـلفية‪ ،‬ومتثّل ذلك‬
‫عبر مجموعـة أو جامعـة أو اتجـاه معني)‪.‬‬
‫مـن يدخـل يف مجـال البحـث هـو مـن يعـ ّرف نفسـه بالهويـة السـلفية (أنا‬
‫سـلفي) حاليـاً‪ ،‬أو سـابقاً (كنـت سـلفياً)‪ ،‬لنـدرس تجربتـه الذاتيـة وروايتـه مع‬
‫السلفية‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫المنظور المنهجي‪ :‬سيسيولوجيا‬
‫الهوية‬

‫املنظـور املنهجـي الـذي اسـتفادت منـه هـذه الدراسـة‪ ،‬و َحكَـ َم زاويـة‬
‫الرؤيـة متثّـل يف مسـاهامت علماء االجتماع والنفـس االجتامعـي ومقترب‬
‫حقـل الدراسـات الثقافيـة يف موضـوع «الهويّـات»‪ ،‬ومـا طـ ّوروه مـن مفاهيـم‬
‫ومصطلحـات لدراسـة الهويـات االجتامعيـة سـواء باالسـتفادة من علـم النفس‬
‫وتوسـيع نظرياتـه نحـو املجتمـع والجامعـات أو علـم األنرثوبولوجيـا‪.7‬‬
‫مقاربـات «سيسـيولوجيا الهويـة» هـي األكثر مالءمـة لهذه الدراسـة‪ ،8‬التي‬
‫أدق بحث السـلفي عن هويتـه الثقافية‬ ‫تبحـث يف الهويـة السـلفية؛ أو بعبـار ٍة ّ‬
‫أصبحت سـلفياً؟ كيف رصتُ‬
‫ُ‬ ‫واملجتمعيـة والسياسـية‪ :‬مـن أنـا؟ من هـو؟ ملـاذا‬
‫سـلفياً؟ متـى التزمـت بذلـك؟ ماذا يعنـي أنّني سـلفي؟ كيف تطـ ّورت تجربتي‬
‫مـع السـلفية؟ مـا هـي رؤيتـي للـذات واآلخريـن؟ مـن هـي الجامعـة التـي‬
‫أنتمـي إليهـا؟ كيف أرتّـب انتامءايت الشـخصية والفكرية واملجتمعيـة والثقافية‬
‫والسياسـية‪ ،‬هـل التزامـي بالسـلفية هـو الـذي يحـ ّدد معاييري االجتامعيـة‬
‫والسـلوكية والسياسـية أم العكـس؟‪ ..‬الخ‪..‬‬

‫(‪ )7‬ملزيــد مــن التفصيــل حــول املنهجيــة االجتامعيــة النقديــة العابــرة لالختصاصــات‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫البحــث النقــدي يف العلــوم االجتامعيــة‪ ،‬مداخــات رشقيــة ــــ غربيــة عابــرة لالختصاصــات‪،‬‬
‫تحريــر‪ :‬روجــر هيكــوك وآخــرون‪ ،‬معهــد ابراهيــم أبــو لغــد للدراســات الدوليــة ــــ جامعــة‬
‫بــر زيــت‪ ،‬ومعهــد علــم اإلنســان ــــ األكادمييــة النمســاوية للعلــوم‪ ،‬الطبعــة األوىل‪،2011 ،‬‬
‫ص ‪ 7‬ــ ‪.57‬‬
‫(‪ )8‬انظــر حــول تطــور مفهــوم الهويــة وإشــكالياته يف الدراســات االجتامعيــة‪ :‬كاتريــن‬
‫هالبــرن‪ ،‬مفهــوم الهويــة وإشــكالياته‪ ،‬ترجمــة الدكتــور إليــاس بلــكا‪ ،‬مجلــة الكلمــة‪ ،‬ع‪،46‬‬
‫شــتاء ‪ 2005‬وميكــن ق ـراءة املقــال عــى الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.kalema.net/v1/?rpt=587&art‬‬

‫‪21‬‬
‫سـاعدنا منظـور سيسـيولوجيا الهويـة‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬عىل إدراك طبيعـة العالقة بني‬
‫الفـرد والجامعـة أو املجتمـع السـلفي‪ ،‬الـذي ينتمـي إليـه‪ ،‬فالهويـة تتكون من‬
‫مجموعـة مـن العوامل‪ ،‬التي متنح اإلنسـان عىل الصعيديـن الفردي واملجتمعي‬
‫روابـط مـن الشـعور بالوجـود واالنتماء واملصير املشترك‪ ،‬وهـو شـعور يضمن‬
‫اسـتمرارية الجامعـة‪ ،‬ويحمـي كيانهـا‪ ،‬فحينما يختفـي هـذا الشـعور تبـدأ‬
‫الجامعـة يف مواجهـة مصير التفـكك؛ فاملفهـوم السيسـيولوجي للهويـة قائـم‬
‫على تعريـف ومتثـل الجامعـات لنفسـها وصيـغ فهمهـا للروابـط التـي تقيمهـا‬
‫مـع غريهـا‪ ،‬وملـا تعتقده مـن طبيعـة كينونتها؛ أي مـا ميثل بالنسـبة لها رضورة‬
‫لوجودهـا‪ ،‬إذ ال تسـتمد الهويـة كينونتهـا مـن ذاتهـا فقـط‪ ،‬بل من املفـارق لها‬
‫أيضـا؛ أي مما ينفصـل عنهـا وليـس فقـط مما يتصـل بهـا‪ ،‬ومـن ثـم ال معنـى‬
‫ملطلـب الهويـة مبعـزل عـن التميز واالختلاف اللذيـن ميثلهام اآلخـر‪ ،‬إذ تلعب‬
‫املسـافة بين األنا واآلخر دورا يف وعي الهوية‪ ،‬سـواء يف انغالقهـا أو انفتاحها؛ إذ‬
‫ال تتحقـق للهويـة توازناتُهـا مـن خالل الـذات فقط‪ ،‬بل أيضا من خلال اآلخر‪.9‬‬
‫اعتمدنـا يف املنظـور املنهجـي على دائـرة مـن املفاهيـم والفرضيـات التـي‬
‫تسـاعد على صـوغ األسـئلة املتعلقـة بالهوية عبر املـؤرشات اإلجرائيـة التالية‪:‬‬
‫أوالً‪ -‬السـلفية بوصفهـا «تأكيـدا ً على الهويـة» كآليـة دفـاع يف مواجهـة‬
‫«العوملـة» وتحـ ّدي الحداثـة وضغوطـات العـامل املعـارص‪ ،‬مبـا متليـه مـن قيـم‬
‫وثقافـة وسـلوكيات تقتحـم املجتمعـات التقليديـة وتضعهـا يف مواجهـة أسـئلة‬
‫مربكـة وقاسـية‪ .‬فالسـلفية تنـدرج يف إطـار «النمـوذج التقليـدي» حين تدرك‬
‫الـذات السـلفية اآلخـر كــ «غريـب»‪ ،‬على خلاف «النمـوذج الحديـث» الذي‬
‫ينظـر لآلخـر كــ «مثيـل»‪ .10‬وتكـ ِّون السـلفية صـورة عـن اآلخـر‪ ،‬مشـحونة‬
‫بالـدالالت والرمـوز واملعـاين‪ ،‬وقبـل ذلـك تكـ ِّون صـورة عـن الـذات تعتبر‬
‫مرجعيـة يقـاس بهـا اآلخـر‪.‬‬

‫(‪ )9‬انظــر‪ :‬محمــد الغيــاين‪ ،‬الهويــة واالختــاف يف قضايــا الديــن واملجتمــع‪ :‬الهـــوية هــي‬
‫االختــاف‪ ،‬عــى الرابــط‪http://www.mominoun.com :‬‬
‫(‪ )10‬باتريــك ســافيدان‪ ،‬الدولــة والتعــدد الثقــايف‪ ،‬ترجمــة املصطفــى حســوين‪ ،‬دار توبقــال‬
‫للنــر‪ ،‬الطبعــة األوىل ‪ ،2011‬الــدار البيضــاء‪ ،‬املغــرب‪ ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪22‬‬
‫واسـتفدنا‪ ،‬يف هـذا املجـال‪ ،‬مـن مسـاهامت داريوش شـايغان‪ ،‬يف اسـتنطاقه‬
‫للتسـاؤالت واإلشـكاليات التـي تثريهـا الحداثة والثقافـة الغربيـة املهيمنة أمام‬
‫املجتمعـات التقليديـة واملحليـة‪ ،‬إذ فتح مسـارا جديدا يف تعيين الهوية القامئة‬
‫على الديـن‪ ،‬التي شـكّلت املنطلـق االيديولوجـي للحركات األصولية اإلسلامية‪،‬‬
‫فطرحـت الهويـة االسلامية بوصفهـا األسـاس املوحـد والجامـع ملجمـل األمـم‬
‫التـي تدين باإلسلام‪.‬‬
‫ينطلـق شـايغان يف مناقشـته «معضلـة الهويـة» يف البلـدان االسلامية مـن‬
‫طبيعـة العالقـة بالحداثـة الغربيـة وكيفيـة التعاطي معهـا‪ ،‬فالنخب املسـيطرة‬
‫يف البلـدان االسلامية رأت يف الحداثـة الغربيـة مجمـل التقنيـات الحديثـة‪،‬‬
‫فنقلتهـا اىل مجتمعاتهـا واجـرت تحديثـا وليـس حداثـة‪.‬‬
‫الهويـة‪ ،‬بحسـب شـايغان‪ ،‬مبثابـة «غطـاء أيديولوجـي ارتـكايس تعتمـده‬
‫ظـل التحـ ّوالت الدوليـة‪ ،‬وذلـك كبديـل للحداثـة‬ ‫املجتمعـات الضعيفـة يف ّ‬
‫الكونيـة»‪ ،‬وهـي بالتـايل‪ ،‬صـورة مغلوطـة للـذات‪ ،‬فالرفـض لقـراءة الواقـع‬
‫االجتامعـي يرتجـم لـدى هـذه املجتمعـات برفـض التجديـد والتمترس عنـد‬
‫العقليـات القدميـة‪ ،‬بالهـرب اىل اسـتعادة العصر الذهبـي للحضـارة العربيـة‬
‫واالسلامية يف القـرون الوسـطى‪ ،‬واالكتفـاء مبـا جـرى انتاجـه يف تلـك الفترة يف‬
‫مياديـن العلوم والفلسـفة‪ ،‬فالفكر الرجعي‪ ،‬بحسـب شـايغان‪ ،‬يتميـز بـ«عبادة‬
‫البدايـات»‪ ،‬التـي تؤسـس النظـر إىل الحداثـة بوصفهـا مؤامـرة‪.11‬‬
‫اسـتفدنا‪ ،‬كذلـك‪ ،‬مـن قـراءة كلـود دوبـار ملاكـس فيبر‪ ،‬إذ ينطلـق مـن‬
‫للتغيرات املجتمعيّـة كافة‪ ،‬متل ّمسـاً فقـدان الذات‪/‬‬
‫ّ‬ ‫عمليـة الرصـد االجتامعـي‬
‫الفـرد املامثلات املاضيـة (الطبقة‪ ،‬الحـزب الجامهريي‪ ،‬النقابة‪ ،)... ،‬أي الشـكل‬
‫املجتمعـي الـذي بات‪-‬على ح ّد تعبيره‪ -‬قدمياً ومجروحـاً ومنكـرا ً وضعيفاً‪ ،‬فلم‬
‫يبـق أمـام هـذه الـذات سـوى الّلجـوء إىل الهويـة «البدائيـة» الثقافيـة‪« ،‬األنـا‬
‫االسـمية»‪ ،‬ومـا يـأيت مـن الروابـط «األوليـة» األرسيـة‪ ،‬الجامعاتية‪.‬‬

‫(‪ )11‬داريــوش شــايغان ‪ ،‬أوهــام الهويــة‪ ،‬ترجمــة محمــد عــي مقلــد‪ ،‬دار الســاقي‪ ،‬بــروت‪،‬‬
‫ط‪ ،1993 ،1‬ص‪.31-5‬‬

‫‪23‬‬
‫إذ يعتقـد دوبـار بأنـه ليـس لألزمـة «الهوياتيـة» ومـا يرافقهـا مـن اكتئـاب‬
‫وانهيـارت عصبيـة وحنين إىل املـايض‪ ،‬و«انطـواء على الـذات»‪ ،‬جـذور نفسـية‬
‫تعـود للطفولـة املبكـرة أو لتاريـخ الشـخص فحسـب‪ ،‬بـل لهـا أيضـاً إطـار‬
‫اجتامعـي وأسـباب موضوعيـة يف التاريـخ الحديـث‪ ،‬متمثّلـة بخسـارات ماديـة‬
‫واضطرابـات يف العالقـات وبتغيير يف الذاتيـة‪.12‬‬
‫وهـذا املنظـور سـاعدنا على تقديم أحد تفسيرات بروز السـلفية وصعودها‬
‫وتب ّنيهـا‪ ،‬على صعيـد األفـراد (الهويـات الفرديـة)‪ ،‬فالجامعـات (الهويـات‬
‫االجتامعيـة)‪.‬‬
‫ثانياً‪ -‬االسـتفادة من مفهوم «أزمة الهوية»‪ ،‬كأحد أدوات‪ -‬فرضيات تفسير‪-‬‬
‫صعـود االتجـاه السـلفي يف العـامل العـريب اليـوم‪ ،‬أي أ ّن السـلفية مبثابـة شـعور‬
‫بالتهديـد للهويـة الدينيـة أو الثقافيـة‪ ،‬أو هـي ر ّد فعـل على «مرحلـة صعبـة»‬
‫متـر بهـا مجتمعـات أو أفـراد معينـون‪ ،‬ومتثّل يف املحصلـة «تص ّدعـاً يف التوازن»‬
‫بين مكونـات متباينة‪ ،‬سـواء كان هـذا التصدع ناجماً عن أسـباب اقتصادية أو‬
‫مجتمعيـة أو سياسـية‪ ،‬أو حتـى عسـكرية‪ ،‬كما يع ّرفها كلـود دوبار‪.13‬‬
‫ثالثاً‪ -‬ترسـيم العالقة بني الفرد السـلفي والجامعة أو املجموعة السلفية التي‬
‫ينتمـي إليهـا‪ ،‬بوصفهـا «الجامعـة املرجعيـة» أو الوحـدة االجتامعيـة املصغرة‪،‬‬
‫وتفاعلـه معهـا والـدور الـذي يقوم بـه ضمن هذا النسـق االجتامعـي‪ ،‬وتفاعل‬
‫األفـراد السـلفيني‪ ،‬الذيـن يشـكلون الجامعـات واملجموعـات السـلفية‪ ،‬مـع‬
‫املجتمـع الـذي يحيـط بهـم‪ ،‬ومالحظة كيف تؤث ّـر الجامعة السـلفية مبا تحدده‬
‫مـن مفاهيـم وأفـكار وقيـم على أدوار أفرادهـا وسـلوكهم تجـاه بقيـة األفـراد‬
‫واملجتمـع وموقفهـم مـن الدولـة والسـلطة‪ .‬وقـد اسـتفدنا يف هـذا الجـزء مـن‬
‫مسـاهامت املقاربـة «التفاعليـة الرمزيـة» ‪،Symbolic Interactionism‬‬
‫ومدرسـة شـيكاغو تحديـدا‪ ،‬ومسـاهامت أبـرز علامئهـا‪ ،‬مثـل جـورج هربـرت‬
‫ميـد‪ ،‬وإيرفين جوفمان وبيتر برجـور وهربـرت بلومر‪.14‬‬
‫(‪ )12‬كلــود دوبــار‪ ،‬أزمــة الهويــات‪ :‬تفســر تحــول‪ ،‬ترجمــة رنــدة بعــث‪ ،‬املكتبــة الرشقيــة‪،‬‬
‫بــروت‪،‬ط‪ ،2008 ،1‬ص‪.78-76‬‬
‫(‪ )13‬كلود دوبار‪ ،‬أزمة الهويات‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.32-28‬‬
‫(‪ )14‬انظــر‪ :‬إيــان كريــب‪ ،‬النظريــة االجتامعيــة مــن بارســونز إىل هابرمــاس‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫ٍ‬
‫فرضيـات رئيسـ ًة حـول مفهـوم الهويـة‪ ،‬يف محاولـة‬ ‫طـ ّورت هـذه املقاربـة‬
‫تفسير الفعـل االجتامعي‪ ،‬ضمـن األنسـاق االجتامعية‪ ،‬عرب اسـتدعاء مفاهيم‪:‬‬
‫التفاعـل الرمـزي (عبر اللغة‪ ،‬واملعـاين‪ ،‬والصـور االجتامعية)‪ ،‬والـدور‪ ،‬الجامعة‬
‫املرجعيـة‪ ،‬تأثير السـنني األوىل مـن حيـاة اإلنسـان على تطـوره ومراحلـه‬
‫املختلفـة‪ ،‬وتعتمـد هـذه املقاربـة بصـورة رئيسـة على املالحظـة واالتصـال‬
‫املبـارش بـ«املبحوثين»‪.15‬‬
‫أحـد املفاهيـم البـارزة يف الدراسـة يتمثّـل يف التفاعـل الرمـزي‪ ،‬ومـا يعنينـا‬
‫هنـا هـو مـا طـ ّوره بعـض علماء االجتماع على هـذا املفهـوم مـن خلال‬
‫إدخـال «الصـور االنطباعيـة» لـدى الفـرد تجـاه الجامعـة واملجتمـع‪ ،‬أي تأويل‬
‫الفعـل االجتامعـي لـدى األفـراد وفـق «تص ّورهم» لعالقتهم بالسـياق السـلفي‬
‫واملجتمعـي املعنـي‪ ،16‬فال نكتفي بتوصيف السـلوك السـلفي‪ ،‬بل نسـعى إىل ما‬
‫وراء ذلـك؛ كيـف يؤول السـلفي هذا السـلوك تجـاه جامعتـه واملجتمع بصورة‬
‫عامـة‪ ،‬مـن خلال روايتـه الذاتية‪.‬‬
‫ساعدتنا هذه املقاربة عىل صوغ فرضيات‪ ،‬تتمثل يف‪:‬‬
‫أ ّن الفـرد السـلفي يبنـي دوره وسـلوكه االجتامعـي تجـاه اآلخريـن‪ ،‬العائلـة‪،‬‬
‫املجتمـع‪ ،‬القـوى السياسـية واملجتمعية األخرى‪ ،‬وفقاً ملا ميليـه عليه انتامؤه‪ ،‬يف‬
‫أغلـب األحيـان‪ ،‬ملجموعـة أو جامعـة أو حركة سـلفية‪ ،‬فهو يقوم مبـا «يتص ّور»‬

‫ص‪.147-129‬‬
‫(‪ )15‬انظــر حــول مقــوالت املدرســة التفاعليــة الرمزيــة‪ ،‬إيــان كريــب‪ ،‬النظريــة االجتامعيــة‬
‫مــن بارســونز إىل هابرمــاس‪ ،‬ترجمــة‪ :‬د‪ .‬محمــد حســن علــوم‪ ،‬مراجعــة‪ :‬د‪ .‬محمــد عصفــور‪،‬‬
‫سلســلة عــامل املعرفــة‪ ،‬املجلــس الوطنــي للثقافــة والفنــون واآلداب يف الكويــت‪ ،‬ع‪،244‬‬
‫نيســان ‪ ،1999‬ص‪ ،147-129‬وانظــر كذلــك‪ :‬كاتريــن هاليــرن‪ ،‬مفهــوم الهويــة وإشــكالياته‪،‬‬
‫مرجــع ســابق‪.‬‬
‫(‪ )16‬انظــر‪ :‬غنــي نــارص حســن القريــي‪ ،‬املداخــل النظريــة لعلــم االجتــاع‪ ،‬دار صفــاء‬
‫للنــر والتوزيــع‪ ،‬عــان‪ ،‬ط‪ ،2011 ،1‬ص‪.439-403‬‬

‫‪25‬‬
‫أنّـه مطالـب بـه من خالل هـذه الجامعة‪ ،‬أو مـا تتوقعه الجامعـة منه‪ ،‬ويؤول‬
‫سـلوكه وموقفـه مـن األشـياء واألشـخاص واآلخريـن‪ ،‬ويبنـي روايتـه وفقـاً لهذا‬
‫االلتزام‪.‬‬
‫أ ّن التـزام السـلفي بهـذا املنهـج يف مرحلـة مبكّرة أكثر تأثريا ً ومتاسـكاً من تأثره‬
‫بـه يف مرحلـة متأخرة مـن عمره‪.‬‬
‫أهميـة املالحظـة واللقـاء املبـارش واملعاينـة يف اسـتنطاق الهوية السـلفية‪ ،‬وهو‬
‫مـا قامـت بـه هـذه الدراسـة عمليـاً مـن خلال االعتماد بدرجـة رئيسـة على‬
‫املقابلات املبارشة‪.‬‬
‫رابعـاً ‪ -‬املقارنـة بين الهويـة السـلفية‪ ،‬التـي ميكن اسـتنطاقها مـن الفصول‬
‫التاليـة‪ ،‬ومـا تقـوم عليـه الهويات الحديثة األخـرى‪ ،‬من قيم ثقافيـة واجتامعية‬
‫وسياسـية‪ ،‬وقـد اسـتفدنا من مسـاهامت عـامل االجتماع الكندي‪ ،‬أريـك تايلور‪،‬‬
‫يف تحديـده لسمات الهويـة الغربيـة الحديثـة‪ ،‬التـي تقـوم على ثالثـة أسـس‬
‫رئيسـة؛ اكتشـاف أو ابتـكار الرسيـرة الداخلية‪ ،‬علمنـة املجتمع‪ ،‬تنميـة الحياة‬
‫العاديـة‪ ،17‬ومعـه مسـاهامت صموئيـل هانتنجتـون يف تصميمـه ملسـتويات‬
‫الهوية بسمات شـخصية‪ ،‬وسياسـية‪ ،‬واقتصادية واجتامعية وثقافيـة وإقليمية‪،‬‬
‫إذ تضـع لنـا إطـارا ً ّ‬
‫يرسـم أبعـاد الهويـة املختلفـة‪ ،‬ويسـمح لنـا بالتمييـز بين‬
‫العوامـل املختلفـة املؤثـرة على تحديـد الهويات السـلفية ‪.‬‬
‫‪18‬‬

‫(‪ )17‬انظر‪ :‬كاترين هالبرين‪ ،‬مفهوم الهوية وإشكالياته‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫(‪ )18‬املرجــع نفســه‪ .‬وانظــر كذلــك‪ :‬صموائيــل‪ -‬ب‪ -‬هنتغنتــون‪ ،‬مــن نحــن‪ -‬التحديــات‬
‫التــي تواجــه الهويــة األمريكيــة‪ ،‬ترجمــة حســام الديــن )خضــور‪ ،‬دارالحصــاد ‪ -‬دمشــق ‪/‬‬
‫ط‪، 2005 ،1‬ص ‪3‬‬

‫‪26‬‬
‫خامسـاً‪ -‬تحديـد سمات الهوية السـلفية‪ ،‬فيما إذا كانت أقـرب إىل االنفتاح‬
‫أم االنغلاق‪ ،‬الحـوار واالعتراف باآلخر أم اإلقصاء‪ ،‬ويف مدى تب ّني قيم التسـامح‬
‫الدينـي واملرونـة يف التعامـل مـع الخالفـات الدينيـة والعقائديـة أم العكـس‪،‬‬
‫واسـتفدنا هنـا من مسـاهامت علماء االجتامع يف موضوع سياسـات الهوية بني‬
‫االعتراف واالنفتـاح أو االنغلاق واإلقصاء وتفريـخ العنف والكراهيـة‪ ،‬ويف هذا‬
‫املجال تبرز مسـاهمة أمارتيا صن‪.19‬‬
‫ويسـاهم تشـارلز تايلـور‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬يف تفسيره لظاهـرة انبعـاث الهويـات‬
‫الثقافيـة عامليـاً‪ ،‬إذ يُشـ ِّد ُد على فكرة الحاجة اىل سياسـة االعتراف‪ ،‬التي تعتني‬
‫بقضيـة الهويـة والتبايـن الثقـايف‪ ،‬وهـو أول مـن تطـرق إىل مفهـوم «سياسـة‬
‫االعتراف العـام»‪.‬‬
‫وتقـوم فكـرة «الحاجـة اإلنسـانية اىل االعتراف» على أ َّن هوياتنـا يتـم‬
‫حـد مـا باالعتراف‪ ‬أو بعـدم االعتراف‪ ،‬وغالبـاً مـا تتشـكل بفعـل‬ ‫تشـكيلها إىل ٍ‬
‫سـوء اعتراف اآلخريـن‪ .‬لذلـك فـإ َّن شـخصاً أو جامعـ ًة مـا سـتعاين مـن رض ٍر‬
‫حقيقـي وتشـوي ٍه خطير إذا مـا كـ ّون املجتمـع املحيط بهـم صـورة ُمختَزِلة‪ ،‬أو‬
‫ُمهينـة‪ ،‬عنهـم ونَقَلهـا إليهـم يف الوقـت ذاتـه‪.20‬‬
‫حاولنـا اإلفـادة مـن أداة اسـتطالع الـرأي لرفـد هـذه الدراسـة بقـدر كبير‬
‫مـن النماذج والحاالت السـلفية التي تسـاهم يف دعـم أداة املقابلة الشـخصية‬
‫يف اسـتنطاق الهويـة السـلفية‪ ،‬لكـ ّن هذه املحاولـة منيت بهزمية كبرية‪ ،‬بسـبب‬
‫صعوبـة تقبـل كثير مـن السـلفيني اإلجابـة على االسـتطالع‪ ،‬فلـم ننجـح إالّ‬
‫باسـتيفاء مـا يقـارب ‪ 33‬اسـتبانة بصعوبـة بالغـة‪ ،‬إذ رفـض كثير من السـلفيني‬
‫(‪ )19‬أمارتيــا صــن‪ ،‬الهويــة والعنــف‪ :‬وهــم املصــر الحتمــي‪ ،‬ترجمــة ســحر توفيــق‪ ،‬سلســلة‬
‫عــامل املعرفــة‪ ،‬املجلــس الوطنــي الثقافــة والفنــون واآلداب‪ ،‬الكويــت‪ ،‬ع‪ ،2008 ،352‬ص‪-17‬‬
‫‪.53‬‬
‫(‪ )20‬انظــر‪ :‬د‪ .‬حســام الديــن عــي مجيــد‪ ،‬إنبعــاث ظاهــرة الهويــات‪ :‬ق ـراءة يف منظــور‬
‫املف ِّكــر الكنــدي تشــارلز تايلــور‪ ،‬عــى الرابــط‪:‬‬
‫‪http://www.sotakhr.com/2006/index.php?id=18620‬‬

‫‪27‬‬
‫اإلجابـة عليهـا‪ ،‬لـدوا ٍع أمنية‪ ،‬بالرغم من عدم وجود خانة لالسـم يف االسـتطالع‪،‬‬
‫فيما رفـض آخـرون ذلـك تحـت وطـأة «نظريـة املؤامـرة» التـي تسـيطر على‬
‫رؤيتهـم تجـاه نوايـا اآلخريـن والباحثين واإلعالم‪ ،‬فيما كان األكرث تجاوبـاً‪ ،‬وإن‬
‫كان بنسـبة ضعيفـة أيضـاً‪ ،‬هـم السـلفيون الحركيـون‪ ،‬ورمبا هـذا يعكس‪ ،‬بحد‬
‫ذاتـه‪ ،‬كما سـنذكر الحقـاً‪ ،‬بعـض السمات والفروقات بين الهويات السـلفية!‬

‫‪28‬‬
‫تقسيم الدراسة‬

‫قسـمنا الدراسـة إىل فصـل نظـري يف البدايـة يقـ ّدم لنـا تعريفـاً بالسـلفية‬
‫ّ‬
‫وتطو ّرهـا عبر التاريـخ‪ ،‬واملرحلة املعارصة منهـا‪ ،‬واالتجاهات السـلفية الحالية‪،‬‬
‫وسـمة كل اتجـاه وأفـكاره الرئيسـة‪ ،‬وحججه‪.‬‬
‫فيما تناولـت فصـول الدراسـة الرئيسـة منـاذج وأمثلـة على الحالة السـلفية‬
‫وقسـمناها وفقـاً لالتجـاه الـذي تنتمـي إليـه يف األوسـاط السـلفية‪،‬‬
‫األردنيـة‪ّ ،‬‬
‫فتنـاول الفصـل الثاين السـلفية التقليديـة‪ ،‬والثالث السـلفية الجهاديـة‪ ،‬والرابع‬
‫السـلفية الحركية‪.‬‬
‫خصصنـا الفصـل الخامـس لظاهـرة التح ّول من السـلفية إىل األفـكار األخرى‪،‬‬
‫ّ‬
‫سـواء كانت إسلامية أو حتـى علامنية‪.‬‬
‫وضعنـا يف كل فصـل خالصـات ونتائـج تُقـ ِّرب إلينـا سمات «الشـخصية‬
‫فخصصنـاه‬
‫السـلفية»‪ ،‬التـي تعكسـها تلـك التجـارب‪ .‬أ ّمـا الفصـل الختامـي ّ‬
‫للخالصـات ومحاولـة اسـتنباط معـامل الهويـة السـلفية الكليـة‪ ،‬والهويـات‬
‫السـلفية الفرعيـة املختلفة‪ ،‬من خالل التجارب املدروسـة ويف ضوء مسـاهامت‬
‫علماء االجتماع يف موضـوع الهويـة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫وبعد؛‬
‫هـذه الدراسـة هـي محاولـة لسبر غـور املجتمـع السـلفي مـن الداخل‪ ،‬عرب‬
‫«روايتـه الذاتيـة»‪ ،‬وتعتمـد بدرجة أوىل‪ ،‬عىل شـهادات السـلفيني أنفسـهم عن‬
‫تجاربهـم الشـخصية مـع هـذا الفكـر‪ ،‬مـا ميكِّننـا مـن إدراك أكرث عمقـاً لطبيعة‬
‫الشـخصية السـلفية وطبائعهـا‪ .‬لكـن‪ ،‬مـن زاوي ٍة أخـرى‪ ،‬متنحنا هـذه التجارب‪،‬‬
‫أيضـاً‪ ،‬فرصـة االطلاع على توجهـات مجموعات واسـعة ومنترشة من الشـباب‬
‫العـريب واملسـلم‪ ،‬اختـارت «الطريـق السـلفي»‪ ،‬يف البحـث عـن هويتهـا‪ ،‬يف‬
‫آتـون األزمـات السياسـية واملجتمعيـة الطاحنـة‪ ،‬فنحـن وإن ك ّنا نقـ ّدم يف هذه‬
‫الدراسـة تعريفـاً بالهوية السـلفية‪ ،‬فإننا نقترب‪ ،‬أيضاً‪ ،‬من الشروط والحيثيات‬
‫والعوامـل الفاعلـة واملؤث ّـرة التـي تدفـع بالشـباب العـريب إىل هـذا االتجـاه‬
‫الفكـري أو ذاك‪ ،‬وتب ّنـي مواقـف أيديولوجيـة والتحـول بين األفـكار والتيـارات‬
‫املهمت الرئيسـة لهذه الدراسـة؛ أي‬
‫واملبـادئ املختلفـة‪ ،‬ورمبـا تلـك هي إحدى ّ‬
‫فهـم الحالـة ضمـن رشوطهـا االجتامعيـة واملوضوعيـة والواقعية‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫فصل متهيدي‬

‫من هم السلفيون؟‪..‬‬
‫مقدمة‬
‫ّ‬

‫الحالـة السـلفية‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬ال تفتقـد– فقط‪ -‬إىل التنظيـم العاملي أو اإلقليمي‪،‬‬
‫أو حتـى األشـكال الحركيـة املوحـدة املحليـة يف البلاد العربيـة‪ ،‬بـل تتسـم‬
‫باختالفـات داخليـة واسـعة وكبيرة (أوالً) على «رشعيـة» مـن هـو السـلفي‪،‬‬
‫و(ثانيـاً) وهـو األهـم تجـاه تعريـف الواقـع السـيايس واملوقـف مـن العمـل‬
‫السـيايس‪ ،‬واستراتيجيات التغيير واإلصلاح‪ ،‬مـا بين مجموعـات يقـوم الفقـه‬
‫السـيايس لديهـا على «مبـدأ طاعـة ويل األمـر» (قبول حكـم املتغلـب)‪ ،‬وفئات‬
‫أخـرى على مبـدأ «املفاصلـة» (تكفير الحـكام والخـروج عليهـم)‪.‬‬
‫السـلفية‪ ،‬كذلـك‪ ،‬ليسـت متجانسـة يف األيديولوجيـات واألفـكار‪ ،‬بـل هـي‬
‫توجهـات وتيـارات متعـددة متنوعـة‪ ،‬متباينـة‪ ،‬ويف كثير من األحيـان متضاربة‬
‫يف اتجاهاتهـا السياسـية‪ ،‬فهـي مصطلح فضفـاض يختلف تعريفه بني الدارسين‬
‫والباحثين ولهـا دالالت متعـددة‪ ،‬مـا يفـرض على أي كاتـب أو باحـث عندمـا‬
‫يتحـدث عـن «السـلفية» أن يحـ ّدد التعريـف املقصـود بصـورة واضحة‪.21‬‬
‫يف اللغـة‪ ،‬ابتـدا ًء‪ ،‬يعـود مصطلح السـلفية إىل جذر «السـلف»‪ ،‬ويف املعاجم‬
‫العربيـة‪ ،‬مـادة «سـلف»‪ ،‬السـالف‪ :‬املتقـدم‪ ،‬والسـلفية‪ ،‬الجامعـة املتقدمـون‪،‬‬
‫ويقصـد بهـا – عنـد إطالقهـا‪ -‬العصـور األوىل مـن اإلسلام‪ ،‬بفـرض أنّهـا متثّـل‬
‫الوجـه الناصـع والصحيـح مـن فهـم أحـكام الديـن وترشيعاتـه وتطبيقاتـه‪،22‬‬

‫(‪ )21‬انظــر‪ :‬عبــد الغنــي عــاد‪ ،‬الســلفية الجهاديــة… أو الفرقــة الناجيــة‪ ،‬مجلــة الدفــاع‬
‫الوطنــي‪ ،‬بــروت‪ ،‬ع‪1 ،63‬ينايــر‪ ،.2008‬الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.lebarmy.gov.lb/article.asp?ln=ar&id=18036‬‬
‫(‪ )22‬أنــور أبــو طــه‪ ،‬الســلف ّية ‪ -‬اتجاهــات وقضايــا‪ ،‬وقــد اســتفدنا مــن بحثــه القيــم يف‬
‫تصنيفــات الســلفية‪ ،‬وكذلــك البحثــن القيمــن للدكتــور فهمــي جدعــان حــول معنــى‬
‫الســلفية‪ ،‬يف كتابــه «املــايض يف الحــارض‪ :‬دراســات يف تشــكالت ومســالك التجربــة الفكريــة‬
‫العربيــة‪ ،‬املؤسســة العربيــة للدراســات والنرش‪ ،‬بــروت‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص ‪ .104-79‬والســلفية‬
‫حدودهــا وتحوالتهــا‪ ،‬مجلــة عــامل الفكــر‪ ،‬املجلــد الســادس والعــرون‪ ،‬ع‪ 3‬و ‪،1988 ، 4‬‬
‫ص ‪.96-61‬‬

‫‪33‬‬
‫وفقـاً للحديـث النبـوي «خير القـرون قـرين‪ ،‬ثـم الذيـن يلونهـم‪.23»..‬‬
‫يف أدبيـات الفكـر السـيايس‪ ،‬ينظـر باحثـون إىل السـلفية بوصفهـا «حركـ ًة‬
‫إصالحيـة» تسـعى للخـروج مـن حالـة الركـود العلمـي واالنهيـار السـيايس‬
‫والسـيطرة االسـتعامرية‪ ،‬مـن خالل الدعـوة إىل إحياء الرتاث اإلسلامي‪ ،‬والعمل‬
‫على اسـتعادة صـورة اإلسلام النقيـة‪ ،‬وتطهيره مـن املامرسـات التـي علقـت‬
‫بـه تاريخيًّـا‪ ،‬مـن البـدع والعوائـد والرشك‪ ،‬وترسـيخ القيـم األخالقية اإلسلاميّة‬
‫األصيلـة»‪.24‬‬
‫يف املقابـل‪ ،‬يع ّرفهـا آخـرون بأنّهـا «نزعـة احتجاجيـة على التطـورات التي‬
‫طـرأت عىل مسـتويني من املسـتويات األساسـية للدين‪ ،‬الفكـري والتعبدي»‪ .‬إذ‬
‫تبلـورت النزعـة االحتجاجيـة السـلفية تاريخيـا مـن دون أن تطلق عىل نفسـها‬
‫مصطلـح «السـلفية»‪ ،‬فلا نجـد يف تاريـخ الفـرق واملذاهـب هذه التسـمية‪ ،‬يف‬
‫مقابـل أسماء فـرق عديدة‪ ،‬كالشـيعة والخـوارج واملعتزلـة واملرجئة‪.25‬‬
‫االختلاف على تعريـف السـلفية ال يقـف عند حـدود الباحثني والدارسين‬
‫يف العلـوم االجتامعيـة والسياسـية؛ إذ يحتدم السـجال داخل الخطاب السـلفي‬
‫نفسـه بين تياراتـه املتعـددة‪ ،‬التـي ت ّدعـي متثيلـه وتزعم أنّهـا التعبير الرشعي‬
‫عنـه‪ ،‬وتدخـل يف سـجاالت على «من هـو املمثل الرشعـي لهـذا الخطاب؟»‬
‫فالسـلفيون التقليديـون يع ّرفونهـا بصـورة مغايـرة متامـاً عـن الجهاديين–‬
‫على سـبيل املثـال‪ ،-‬فعلي الحلبـي‪ ،‬أحـد الشـيوخ السـلفيني يف األردن‪ ،‬يُخـرج‬
‫القاعـدة والجهاديين مـن عبـاءة السـلفية‪ ،‬ويرفـض توصيفهم بذلـك‪ ،‬ويع ّرفهم‬
‫بـ»التكفرييين»‪ ،‬وأحفـاد الخـوارج‪ .26‬ويعـ ّرف السـلفية بأنّهـا «دعـوة العلـم‬

‫(‪ )23‬حديث يف صحيحي مسلم والبخاري‪.‬‬


‫(‪ )24‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬العمــل الدينــي وتجديــد العقــل ‪ ،‬املركــز الثقــايف العــريب‪ ،‬بــروت‪،‬‬
‫ط‪ ،1997 ،2‬ص‪.90‬‬
‫(‪ )25‬عبــد الحكيــم أبــو اللــوز‪ ،‬الحــركات الســلفية يف املغــرب‪ 1971( ،‬ـ ‪ ،)2004‬بحــث‬
‫انرثوبولوجــي سوســيولوجي‪ ،‬مركــز دراســات الوحــدة العربيــة‪ ،‬بــروت‪ ،‬ط‪ ،2009 ، 1‬ص ‪.38‬‬
‫(‪ )26‬انظــر‪ :‬عــي بــن حســن بــن عــي بــن عبــد الحميــد الحلبــي اآلثــري‪ ،‬هــذه هــي‬

‫‪34‬‬
‫والعبـادة والعقيـدة‪ ،‬والسـلوك واملعاملات‪ ،‬والرتبية واألخلاق‪ .»..‬ث ّم يحددها‬
‫أجـل مـن أن تكـون حزباً‪ ،‬أو حركة‪ ،‬أو تنظيامً سـواء رسيـا! أو علنيا!!»‪،‬‬
‫بأنهـا « ّ‬
‫فيبعـد املنهـج السـلفي عـن العمـل الحـريك والحـزيب‪ .‬ويؤطرهـا بصـورة أكثر‬
‫«أجـل مـن أن (تحصر!) نفسـها بجهـاد!‪ ،‬أو (تحشر!) طاقاتهـا‬ ‫ّ‬ ‫حسماً بأنّهـا‬
‫يف السياسـة»‪ ،‬فيسـتثني السـلفية الجهاديـة والعمـل السـيايس مـن مفهومـه‬
‫للسلفية ‪.27‬‬
‫يتجـاوز مقبـل بـن هـادي الوادعـي‪ ،‬شـيخ السـلفية التقليديـة يف اليمـن‪،‬‬
‫اآلخريـن ليضـع تعريفـاً إجرائيـاً ّ‬
‫مفصلاً للدعـوة السـلفية ومنهجهـا يف كتابـه‬
‫«هـذه دعوتنـا وعقيدتنـا»‪ ،‬يحـ ّدد فيـه موقـف السـلفيني مـن الحـكام (عـدم‬
‫الخـروج عليهـم) ومـن األحـزاب اإلسلامية األخـرى (رفـض العمـل السـيايس)‪،‬‬
‫ضمـن حزمـة كاملـة مـن النقـاط يف تعريـف االتجـاه السـلفي‪.28‬‬
‫على الطـرف اآلخـر‪ ،‬نجـد أبـو محمـد املقـديس (عصـام الربقـاوي)‪ ،‬وهـو‬
‫مـن أبـرز منظّـري السـلفية الجهاديـة‪ ،‬يعـ ّرف املقصـود بهـذا املصطلـح بالقول‬
‫«السـلفية الجهاديـة تيـار يجمـع بين الدعـوة إىل التوحيـد بشـموليته والجهاد‬
‫ألجـل ذلـك يف آن واحـد‪ ،‬أو قـل هـو تيـار يسـعى لتحقيـق التوحيـد بجهـاد‬
‫الطواغيـت‪ ..‬فهـذه هـي هويـة التيار السـلفي الجهـادي والتي متيزه عن سـائر‬
‫الحـركات الدعويـة والجهاديـة‪ ،»..‬ثـم ينتقـد السـلفية التقليديـة متهماً إياهـا‬
‫بأنهـا تركـز على مـا يسـمى بــ«رشك القبـور» وتبتعـد عـن الواقـع السـيايس‬
‫الحـايل‪ ،‬أو مـا يسـميه بــ»رشك القصـور» (أي الحـكام والترشيعـات املخالفـة‬
‫للرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬والتعـاون مـع الغرب مبـا يناقض عقيدة الـوالء والرباء لدى‬
‫السـلفيني)‪ ،‬إذ يضيـف «‪ ..‬بعـض الحـركات السـلفية تقـزم وتحصر دعـوة‬

‫الســلفية‪ :‬دعــوة اإلميــان واألمــن واآلمــان املنهجيــة العلميــة الرتبويــة‪ ،‬وكشــف اآلثــار‬
‫التدمرييــة لألفــكار التكفرييــة‪ ،‬منشــورات منتديــات «كل الســلفيني»‪ ،‬عــان‪ ،‬ط‪،2011 ،1‬‬
‫ص‪.20-12‬‬
‫(‪ )27‬املرجع السابق ص ‪.40-39‬‬
‫(‪ )28‬مقبــل بــن هــادي الوادعــي‪ ،‬هــذه دعوتنــا وعقيدتنــا‪ ،‬دار اآلثــار‪ ،‬صنعــاء‪ ،‬ط‪،2002 ،1‬‬
‫ص‪.17-9‬‬

‫‪35‬‬
‫التوحيـد على رشك التامئـم والتولـة والقبـور‪ ،‬وال تتعـرض مـن قريـب أو بعيد‬
‫إىل رشك الحـكام واملرشعين والقوانين والقصـور‪ ،‬بـل قـد تكـون ممن يسير يف‬
‫ركاب الحـكام ويعمـل عىل تثبيت عروشـهم‪ ،‬كما أن بعض الحـركات الجهادية‬
‫تؤطـر جهادهـا وتحصره يف منطلقـات وطنيـة‪ ،‬وترفـض رفضـا جازمـا وحاسما‬
‫أن تتعـدى بجهادهـا حـدود الوطن‪..‬فالتيـار السـلفي الجهـادي يخالـف هؤالء‬
‫‪29‬‬
‫وهـؤالء ومـن أجـل ذلك فهـو يدعـو إىل التوحيد بشـموليته ويف كل مـكان‪»..‬‬
‫هـذا االشـتباك واالختلاف حـول مفهوم السـلفية وتعريفها نظريـاً وواقعياً‬
‫هـو مـا دفـع يف السـنوات األخيرة باحثين إىل إضافـة وصـف ثـانٍ للتمييـز بني‬
‫الحركات والدعوات السـلفية؛ كأن يقال السـلفية العلمية‪ ،‬التقليدية‪ ،‬املحافظة‪،‬‬
‫املدرسـية أو املنظمـة‪ ،‬الحركيـة‪ ،‬اإلصالحيـة أو الجهادية‪...‬الـخ‪ .‬فضلاً عـن أ ّن‬
‫السـلفية تكتسـب مسـميات وأوصـاف مختلفـة بحسـب الدولـة التـي تنتشر‬
‫فيهـا‪ ،‬ففـي املغـرب هنالـك السـلفية العلمية والجهاديـة‪ ،‬ويف الجزائر السـلفية‬
‫العلميـة‪ ،‬ويف مصر سـلفيات علميـة وحركية‪ ،‬ويف السـعودية السـلفية العلمية‬
‫واملدخليـة مقابـل تيـار الصحـوة‪ ،‬ويف اليمن الحركيـة والوادعيـة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫بالرغـم مـن هـذه الخارطـة الفكريـة املتشـعبة واملتداخلـة‪ ،‬ميكننـا التمييـز‪،‬‬
‫عمومـاً‪ ،‬اليـوم بني اتجاهات رئيسـة يف السـلفية املعارصة‪ ،‬عىل األقل يف املشـهد‬
‫السـيايس العريب‪:‬‬
‫‪ -‬االتجـاه األول؛ هـو الخـط املحافـظ أو العلمـي والدعـوي‪ ،‬وقـد اختـار‬
‫الدعـوة والتعليـم ورفـض مبـدأ املشـاركة السياسـية‪ ،‬مركـزا ً جهـوده على مـا‬
‫يعتبره تصحيحـاً للجوانـب العقائديـة والعلميـة والـرد على العقائـد واألفـكار‬
‫التـي يعتربهـا منحرفـة‪ ،‬بصـورة رئيسـة عىل الفرق اإلسلامية األخرى (الشـيعة‪،‬‬
‫املعتزلـة والخـوارج)‪ ،‬ويف داخل املجتمع السـني عىل العقائـد والفرق الصوفية‪،‬‬
‫واألشـاعرة واملاتريديـة‪ ،‬وهـي يف أغلبهـا خالفـات دينيـة‪ ،‬ذات طابـع عقائـدي‪.‬‬

‫(‪ )29‬انظر‪ :‬حوار مع أيب محمد املقديس عىل موقعه الرسمي منرب التوحيد والجهاد‪ ،‬الرابط‬
‫التايل‪:‬‬
‫‪http://www.alsunnah.info/r?i=j37307wg‬‬

‫‪36‬‬
‫ميثـل هـذا الخـط بدرجـة واضحـة‪ ،‬يف السـعودية كل مـن عبد العزيـز بن باز‬
‫ومحمـد بـن صالـح العثيمين‪ ،‬ويف املغـرب رئيـس جمعيـة الدعـوة إىل الكتـاب‬
‫والسـنة محمـد بـن عبـد الرحمـن املغـراوي‪ ،‬وقريـب مـن هـذا الخـط الشـيخ‬
‫نـارص الديـن األلبـاين يف األردن‪ ،‬وجمعيـة أنصـار السـنة املحمديـة يف مرص‪.‬‬
‫‪ -‬االتجـاه الثـاين؛ يقـف على ميين الخـط األول سياسـياً‪ ،‬وهـو أكثر تشـددا ً‬
‫ضـد األحـزاب اإلسلامية نفسـها‪ ،‬وتقـوم مقاربتـه السياسـية عىل مبـدأ «طاعة‬
‫أوليـاء األمـور»‪ ،‬ورفـض املعارضـة السياسـية لهـم‪ ،‬بوصفهـا خروجـاً بالكلمة أو‬
‫بالسـيف‪ ،‬ويتخـذ دومـاً موقـف االنحيـاز للحكومـات ضـد الحركات اإلسلامية‬
‫األخـرى‪ ،‬وضـد املعارضـة السياسـية‪ ،‬ويـكاد يكـون متخصصـاً يف الـرد على‬
‫اإلسلاميني اآلخريـن‪ ،‬وتحديـدا ً السـلفيني الذيـن اختـاروا طريـق العمـل أو‬
‫الخطـاب السـيايس املعـارض‪.30‬‬
‫ميثـل هـذا الخـط بصـورة واضحـة يف السـعودية أتبـاع محمـد بـن آمـان‬
‫الجامـي‪ ،31‬وربيـع بـن هـادي املدخلي‪ ،‬ويف اليمـن مقبـل بـن هـادي الوادعـي‬
‫وأتباعـه‪ ،‬وأتبـاع نـارص الديـن األلبـاين يف األردن‪ ،‬ويف الجزائـر عبـد املالـك بـن‬
‫رمضـان الجزائـري‪ ،32‬ويف مصر أمثـال محمـد سـعيد رسلان‪ ،‬وأسـامة القـويص‬
‫(‪ )30‬انظــر‪ :‬حــول هــذا االتجــاه‪ :‬مجموعــة باحثــن‪ ،‬الســلفية الجاميــة‪ :‬عقيــدة الطاعــة‬
‫وتبديــع املختلــف‪ ،‬مركــز املســبار للدراســات والبحــوث‪ ،‬ديب‪ ،‬ط‪ ،2012 ،1‬أغلــب فصــول‬
‫الكتــاب‪.‬‬
‫ـجيال ملحمــد آمــان الجامــي حــول كتــب ســيد قطــب وحســن البنــا‪ ،‬الرابــط‬ ‫(‪ )31‬انظــر‪ :‬تسـ ً‬
‫التــايل (عــى موقعه الرســمي االلكــروين)‪:‬‬
‫‪http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=159 ،‬‬
‫وقارن ذلك بحديثه عن جامعة اإلخوان املسلمني‪ ،‬الرابط التايل‪:‬‬
‫‪http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=157 ،‬‬
‫وموقفه من السلفيني الحركيني‪ ،‬عىل الرابط التايل‪:‬‬
‫‪http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=164 .‬‬
‫(‪ )32‬انظــر‪ :‬حــول رؤيــة الرمضــاين للدعــوة الســلفية مقالتــه «املرحلــة الذهبيــة للدعــوة‬
‫الســلفية يف الجزائــر»‪ ،‬منقولــة مــن كتابــه مــدارك النظــر‪ ،‬عــى الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=560848.‬‬

‫‪37‬‬
‫وهشـام البيلي وطلعـت زهـران وغريهم‪ ،‬ويف لبنـان عبد الهادي وهبي وسـعد‬
‫الديـن كبي‪.‬‬
‫‪ -‬االتجـاه الثالـث؛ على الجهـة املقابلـة متامـاً يقـف تيـار آخـر‪ ،‬السـلفية‬
‫الجهاديـة‪ ،‬تقـوم مقاربتـه السياسـية على تكفري الحكومـات العربيـة العلامنية‬
‫املعـارصة وتبنـي التغيير الراديـكايل واملسـلّح يف أوقـات معينـة‪ ،‬وميثّـل خطاب‬
‫هـذا التيـار الحاضنـة األيديولوجية لشـبكة القاعـدة‪ ،‬ويتامهى متامـاً مع خطها‬
‫السـيايس والحريك‪.‬‬
‫مـن أبـرز ممثليـه‪ ،‬فكريـاً‪ ،‬يف األردن‪ ،‬أبـو محمـد املقـديس‪ ،‬وأبـو قتـاده‬
‫الفلسـطيني‪ ،‬ويف املغـرب محمـد بـن محمـد الفـزازي‪ ،‬وحسـن الكتـاين‪ ،‬ويف‬
‫اليمـن أنـور العولقـي‪ ،‬ويف سـوريا أبـو بصير الطرطـويس‪ ،‬وخرجـت مـن رحمه‬
‫األيديولوجـي الجامعـات اإلسلامية التـي أجـرت مراجعـات‪ ،‬مثـل الجامعـة‬
‫اإلسلامية والجهـاد يف مصر والليبيـة املقاتلـة يف ليبيـا‪ ،‬تخلـت مبوجـب هـذه‬
‫املراجعـات عـن العمـل املسـلح‪.‬‬
‫‪ -‬أمـا االتجـاه الرابـع؛ ويقـف يف الوسـط هـو تيـار سـلفي يجمـع مـا بين‬
‫العقائـد واألفـكار الدينيـة السـلفية مـن جهـة‪ ،‬والعمـل الحـريك واملنظـم أو‬
‫حتـى السـيايس مـن جهـة أخـرى‪ ،‬ويؤمـن باإلصلاح السـيايس وسـلمية التغيري‪،‬‬
‫حتـى وإن اختلفـت املجموعـات التـي متثلـه يف تعريـف الواقـع أو املوقف من‬
‫الحـكام‪ ،‬إالّ أنّهـا تتفـق على العمـل السـيايس ومرشوعيـة املعارضـة‪ ،‬ورفـض‬
‫الخيـار املسـلح يف إدارة الصراع الداخلي‪.‬‬
‫مـن أبـرز منظـري هـذا االتجـاه وممثليـه؛ عبـد الرحمـن عبـد الخالـق يف‬
‫الكويـت‪ ،‬محمـد بـن رسور زيـن العابديـن (أو االتجـاه الـذي يطلـق عليـه‬
‫الرسوريـة)‪ ،‬ومـا يسـمى بتيـار الصحـوة اإلسلامية يف السـعودية‪ ،‬وجمعيتـا‬
‫الحكمـة الخرييـة واإلحسـان يف اليمـن‪ ،‬والجمعيـات السـلفية يف الكويـت‬
‫والبحريـن‪ ،‬وداعـي اإلسلام الشـهال يف لبنان‪ ،‬والشـيخ محمد بن عبـد املقصود‬
‫وتيـاره الفكـري يف مصر‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫يف مقابـل هـذه االختالفـات الواسـعة يف تعريـف املوقـف السـيايس‬
‫واستراتيجيات التغيير واإلصلاح‪ ،‬تـكاد تتفـق «السـلفيات املعـارصة» عمومـاً‬
‫على خطـوط عامـة يف العقيـدة اإلسلامية وعلى مراجـع فقهيـة‪ -‬تاريخيـة‬
‫معينـة‪ ،‬مـع اختلاف قـراءة تراثهـم وأدبياتهـم‪ ،‬ابتدا ًء مـن بروز أهـل الحديث‬
‫يف العصـور الوسـطى‪ ،‬مـرورا ً بابـن تيميـة‪ ،‬وصـوالً إىل محمـد بـن عبـد الوهاب‬
‫يف العصـور الحديثـة‪.‬‬
‫مثة قواسـم مشتركة بني السـلفيني –عموماً‪ -‬يف العقيدة والفقه‪ ،‬سـواء كانوا‬
‫ضـد العمـل السـيايس أو معـه‪ ،‬أو ضـد األنظمـة أو معها‪ ،‬وهذه األسـس تتمثل‬
‫عموماً يف‪:‬‬
‫منـح الجانـب العقائـدي أهميـة كبيرة يف مواقـف السـلفيني املختلفـة‪ ،‬حتـى‬
‫السياسـية‪ ،‬فهـم تاريخيـاً ميثلـون دائـرة أهـل السـنة والجامعـة‪ ،‬وبصـورة أكثر‬
‫تحديـدا ً أهـل الحديـث‪ ،‬وقـد تشـكلت هذه املدرسـة وهـذا التيار عبر القرون‬
‫املاضيـة‪ ،‬يف إطـار الـرد على الفـرق والجامعات األخـرى التي يعتربهـا منحرفة‪،‬‬
‫مثـل‪ :‬الشـيعة والخـوارج واملعتزلة من خارج أهل السـنة‪ ،‬والصوفية واألشـاعرة‬
‫مـن داخـل أهل السـنة‪.‬‬
‫يلتـزم السـلفيون جميعـاً برؤيـة عقائديـة ميتافيزيقيـة موحدة‪ ،‬مثـل القول أ ّن‬
‫اللـه يف السماء‪ ،‬لـه يـد وعين‪ ..‬يثبتونهـا لـه مبـا يليـق بـه‪ ،‬وال يؤول السـلفيون‬
‫ذلـك‪ ،‬كما يفعل األشـاعرة مـن أهـل السـنة والجامعة‪.33‬‬
‫مينـح السـلفيون جميعهـم قضية التوحيد موقعـاً مركزياً يف خطابهـم‪ ،‬والتوحيد‬
‫ليـس مقصـورا ً على املوقـف فقـط مـن غير املسـلمني‪ ،‬بـل حتـى مـن الفـرق‬
‫اإلسلامية التـي يعتربونهـا منحرفة‪ ،‬فجزء كبير من أدبياتهـم متخصص يف رفض‬
‫مظاهـر الشرك لـدى الصوفيـة‪ ،‬مثـل الطـواف حـول قبـور األوليـاء‪ ،‬واعتقـاد‬
‫«مجســمة» أو «مشــبهة» أي‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )33‬لذلــك يتهــم األشــاعرة وغريهــم الســلفيني بأنّهــم‬
‫يجســمون اللــه ويشــبهونه بخلقــه‪ ،‬بينــا الفــرق األخــرى تــؤول هــذه الصفــات‪ ،‬فعنــد‬
‫الحديــث عــن يــد اللــه يقولــون هــي القــدرة‪ ،‬ويــرون أ ّن اللــه ليــس يف الســاء‪ ،‬فهــو ال‬
‫يحــده مــكان وال زمــان‪ ،‬وهــي عمومـاً قضايــا جدليــة يف كتــب العقائــد والفــرق اإلســامية‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫عصمتهـم‪ ،‬أو التوسـل بالنبـي (محمد صىل اللـه عليه وسـلم)‪ ،‬لكنهم يختلفون‬
‫اليـوم بين من يركز على (الرشك التقليدي)‪ ،‬مـن الطواف حول قبـور األولياء‪،..‬‬
‫والشرك الحديـث اتخـاذ قوانين ورشائـع أو أيديولوجيـات تصـادم الرشيعـة‬
‫اإلسلامية وال تقـر بوجـوب تطبيقها‪.34‬‬
‫مفهـوم االتبـاع ال االبتـداع‪ ،‬هـو أحـد املفاهيم الرئيسـة لدى السـلفيني جميعاً‪،‬‬
‫فهـم يؤكـدون على أهمية اتباع الرسـول (صلى الله عليه وسـلم) والتـزام فهم‬
‫الصحابـة األوائـل يف تلقـي أمور الديـن‪ ،‬وعدم االبتداع أو اختراع طقوس دينية‬
‫جديـدة‪ ،‬مثـل األناشـيد وحلقـات الذكـر واملوالـد النبوية لـدى الصوفيـة‪ ،‬ومن‬
‫هنـا ينبـع اهتاممهـم الكبري بالسـنة النبويـة وتصحيح األحاديـث وبعلم الجرح‬
‫والتعديل‪.‬‬
‫تقديـم النـص على العقـل‪ ،‬إذ يؤكـد السـلفيون على قيمـة النـص (القـرآن‬
‫والسـنة)‪ ،‬ويقدمـون يف حـال حـدث تناقـض بين «رصيـح النـص» و«صحيـح‬
‫العقـل»‪ ،‬وإن كان ابـن تيميـة يسـتبعد متامـاً حـدوث هـذا التناقـض‪ ،‬إال أ ّن‬
‫محوريـة النـص تبـدو يف أغلـب خطابهـم الدينـي والفكـري‪ ،‬مقارنـ ًة بتيـارات‬
‫أخـرى‪ ،‬مثـل املعتزلـة مثلاً الذيـن يقدمـون العقـل على النـص‪ ،‬وكذلـك الحال‬
‫عنـد ابـن رشـد‪.‬‬
‫التمسـك واالهتمام بـ«السـنة» النبويـة‪ ،‬ويطلـق شـيوخهم وتالميذهـم على‬
‫أنفسـهم مصطلـح «األثـري»‪ ،‬نسـبة لآلثـر وهـي الروايـات املنسـوبة للرسـول‬
‫صلى اللـه عليـه وسـلم‪ ،‬ويظهـر هـذا االهتمام على الهيئـة الشـخصية‪ ،‬مثـل‬
‫ارتـداء الثـوب العـريب وإطالق اللحيـة‪ ،‬وارتداء النسـاء ٍ‬
‫للباس أسـود كامل‪ ،‬وإن‬
‫كانـوا يختلفـون يف «عـورة املـرأة» بين مـن يشـمل للوجـه والكفين‪ ،‬كما هـي‬
‫(‪ )34‬يعتــر شــيوخ وعلــاء ســلفيون أ ّن تحكيــم القوانــن الوضعيــة البرشيــة التــي تخالــف‬
‫رشع اللــه‪ ،‬أو عــدم الرجــوع إىل الرشيعــة يف الربملانــات‪ ،‬ولــدى الحــكام هــو رشك باللــه‬
‫وخــروج عــن اإلســام‪ ،‬أل ّن أحــد أبــرز معــاين توحيــد اللــه منــح حــق الترشيــع‪ ،‬وهــو‬
‫أنــه املــرع‪ ،‬وال يجــوز أن يخــرج أي رشع أو يخالــف مــا جــاء يف القــرآن والســنة‪ ،‬مــن‬
‫هنــا يكفــر هــذا االتجــاه الســلفي عموم ـاً العلامنيــن والليرباليــن والشــيوعيني واألنظمــة‬
‫الحاكمــة اليــوم‪ ،‬وهــي موضــع خــاف كبــر مــع اتجاهــات ســلفية أخــرى‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫الفتـوى السـعودية‪ ،‬أو مـن دونهما كما هـي فتـوى نـارص الديـن األلبـاين‪.35‬‬
‫خلال القـرون املاضيـة هيمـن هاجـس «الفرقـة الناجيـة» على السـلفيني‬
‫عمومـاً‪ ،‬وأخـذ مـدى واسـعاً يف أدبياتهـم وأفكارهـم‪ ،‬وهـو مفهـوم مسـتل من‬
‫الحديـث النبـوي «‏‏افرتقـت اليهـود عىل إحدى وسـبعني فرقـة‪ ،‬كلهـا يف النار إال‬
‫واحـدة‪ ،‬وافرتقـت النصـارى على اثنتني وسـبعني فرقـة كلها يف النـار إال واحدة‪،‬‬
‫وسـتفرتق هـذه األمـة على ثالث وسـبعني فرقة‪ ،‬كلهـا يف النار إال واحـدة‏»‏‏‏‪.‬‏ ويف‬
‫لفـظ «على ثلاث وسـبعني ملـة‏» ويف روايـة قالـو‏ا‪:‬‏ يـا رسـول اللـه‪ ،‬مـن الفرقة‬
‫الناجيـة‏ ‏؟ قـال «مـن كان عىل مثـل ما أنا عليـه اليوم وأصحـايب»‏‏‏‪.‬‏ ويف رواية قال‬
‫«هـي الجامعـة‪ ،‬يد اللـه على الجامعة»‏‪.‬‬
‫وسـنجد أهـل الحديـث سـابقاً والسـلفيني الحقـاً يتناقشـون باسـتفاضة حول‬
‫مفهـوم الفرقـة الناجية‪ ،‬بني السـلفية التقليديـة التي تريد اختـزال هذه الفرقة‬
‫يف السـلفية التقليديـة‪ ،‬يف مواجهـة الفـرق اإلسلامية األخـرى قدميـاً (الشـيعة‪،‬‬
‫الخـوارج‪ ،‬املعتزلـة‪ ،‬القدريـة‪ ،‬الجربيـة‪ ،)..‬وبعضهـم يخـرج حتى طوائف سـنية‬
‫مـن املفهـوم‪ ،‬مثـل (األشـاعرة واملاتريدية)‪ ،‬فيما البعض اآلخر يحاول «توسـيع‬
‫الدائـرة» لتشـمل «أهـل السـنة جميعـاً»‪ ،‬وهـو نقـاش ميتـد الحقـاً لـدى أتبـاع‬
‫الجامـي واملدخلي للتأكيـد على أ ّن السـلفية التـي ميثلونهـا هي فقـط «الفرقة‬
‫الناجيـة»‪ ،‬أمـا األحـزاب واملناهـج اإلسلامية األخـرى‪ ،‬فهي مـن الفـرق الضالة‪،‬‬
‫إذ يقـول ربيـع بـن هـادي املدخلي «إذا درسـنا واقـع املسـلمني ومناهجهـم‬
‫وتأريخهـم؛ أعنـي ال ِفـ َرق اإلسلامية نجـد أ َّن من يَصـ ُدق عليهم ال ِفرقـة الناجية‬
‫أو الطائفـة املنصـورة أو أهـل الحديـث إمنـا هـم الذيـن يلتزمـون هـذا املنهـج‬
‫السـلفي الصحيـح القائـم على كتـاب اللـه وعىل سـنة رسـول الله»‪.36‬‬ ‫َّ‬

‫(‪ )35‬هــذا االختــاف حــول حجــاب املــرأة‪ ،‬بالرغــم أنــه جــزيئ‪ ،‬إال أنــه أخــذ مــدى أوســع‬
‫يف الســعودية‪ ،‬بخاصــة أن هنالــك خطابـاً علامنيـاً آخــر وحركــة نســوية تطالــب بتخفيــف‬
‫القبضــة الســلفية الصارمــة عــى إدارة الدولــة وتعاملهــا مــع شــأن املــرأة‪.‬‬
‫(‪ )36‬انظــر‪ :‬تفريــغ محــارضة «الفرقــة الناجيــة لربيــع بــن هــادي املدخــي»‪ ،‬عــى موقعــه‬
‫االلكــروين‪3 ،‬ســيبتمرب‪ ،2009‬الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.rabee.net/show_des.aspx?pid=5&id=268&gid=0.‬‬

‫‪41‬‬
‫ويضيـف املدخلي منتقـدا ً اتجاهـات سـلفية أخـرى يف السـعودية «شـبابُنا‬
‫ط ِّيـب خدعـوه وسـ َّخ ُروه جنـدا ً أعمـى ملحاربـة الحـق‪ ،‬هـذا مـن مكائـد أهـل‬
‫بشـباب‬
‫ٍ‬ ‫البـدع‪ ،‬ومثـار ُخط َِطهـم املاكـرة الخبيثـة‪ ،‬حتـى وصلـوا إىل هـذا‪َ ،‬ز ُّجـوا‬
‫منتظـر أن يكـون جنـدا ً لإلسلام‪ ،‬وجنـدا ً لهـذه الدعـوة‪ ،‬أصبح جندا ً لفكر سـ ِّيد‬
‫قطـب‪ ،‬والبنـا‪ ،‬واملـودودي أهـل البدع والضلال»‪.37‬‬
‫يف املقابـل‪ ،‬يـرى السـلفيون الجهاديـون أ ّن الفرقـة الناجيـة أو «الطائفـة‬
‫املنصـورة» هـم الذيـن يجمعـون ما بين التوحيد وااللتـزام بـه‪ ،‬وبإقامة «حكم‬
‫اإلسلام يف األرض» ومـا بين املرابطـة والجهاد والدفاع عن املسـلمني يف مواجهة‬
‫االحتلال الخارجي‪.38‬‬
‫لإلحاطـة باملناظـرات والتطـورات التـي شـهدتها السـلفية املعـارصة‪ ،‬وصـوالً‬
‫إىل ثـورة الربيـع الدميقراطـي العـريب سـنتناول يف هـذا الفصـل التمهيـدي أهم‬
‫األفـكار الدينيـة والفكريـة للسـلفية التاريخية عمومـاً‪ ،‬وأبرز رموزها وشـيوخها‬
‫يف التاريـخ اإلسلامي‪ ،‬واملراحـل الرئيسـة لتطـور هـذه املدرسـة‪ ،‬وصـوالً إىل‬
‫تقديـم تصـ ّور عـام مبـديئ عـن العقائـد والتوجهـات السـلفية‪.‬‬

‫(‪ )37‬املرجــع نفســه‪ .‬وكذلــك رد ربيــع بــن هــادي املدخــي عــى ســلامن العــوده‪ ،‬الــذي‬
‫حــاول أن يوســع مفهــوم الفرقــة الناجيــة إىل أهــل الســنة‪ ،‬عــى موقــع املدخــي بعنــوان‬
‫«الهجــوم عــى أهــل الحديــث ووصفهــم بصفــات تخرجهــم مــن الفرقــة الناجيــة»‪ ،‬الرابــط‬
‫التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.rabee.net/show_book.aspx?pid=1&id=376&bid=21&gid=0‬‬
‫إذ يقول املدخيل «والذي نعتقده أنه ال يوجد خري يف غري السلفيني؛ إال وهو يف السلفيني‬
‫أكرث وأفضل؛ فال يخرج يشء من الخري عنهم»‪.‬‬
‫(‪ )38‬انظــر أبــو قتــاده الفلســطيني‪ ،‬معــامل الطائفــة املنصــورة‪ ،‬عــى موقــع التوحيــد‬
‫والجهــاد االلكــروين‪ ،‬الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.tawhed.ws/r?i=jqmdm3ht.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪-1-‬‬
‫أهل الحديث‪« ..‬الفرقة الناجية»‬

‫االصطلاح التاريخـي الشـائع للسـلفية يشير إىل اتجـاه يدعـو لالقتـداء‬


‫بـ«السـلف الصالـح» واتخاذهـم منوذجـاً يف الحـارض‪ .‬والسـلف الصالـح‪ ،‬وفقـاً‬
‫لألدبيـات السـلفية‪ ،‬هـم أهل القـرون الثالثـة األوىل من تاريخ األمة اإلسلامية‪،‬‬
‫وأصـل هـذه الدعـوى يقـع يف الحديـث النبـوي «خير النـاس قـرين‪ ،‬ثـم الذين‬
‫يلونهـم‪ ،‬ثـم الذيـن يلونهـم‪ ،‬ثـم يجـيء أقـوام تسـبق شـهادة أحدهـم ميينـه‪،‬‬
‫وميينـه شـهادته‪.39»..‬‬
‫جـذور «املدرسـة السـلفية» ممتـدة إىل العصـور اإلسلامية األوىل‪ ،‬إذ نجـد‬
‫لفـظ «سـلف» يرد عرضـاً يف البدايـة عند املذاهـب الفقهية املالكيـة والحنبلية‬
‫مـن املذهـب السـني‪ ،‬يف سـياق املجـادالت الكالميـة‪ ،‬التـي وقعـت بين هؤالء‬
‫مـع املعتزلـة تاريخيـاً‪ ،‬والتـي دارت حـول بعـض املسـائل العقائديـة‪ ،‬كمسـألة‬
‫خلـق القـرآن والقـول بنفـي الصفـات عـن الـذات اإللهيـة‪ ،‬أو مسـألة القضـاء‬
‫والقـدر املتعلقـة بأفعال اإلنسـان‪.‬‬
‫إالّ أ ّن الهويـة األكثر وضوحـاً وتواصلاً لـدى السـلفيني‪ ،‬بين التاريـخ والواقع‪،‬‬
‫نجدهـا يف إرصارهـم الدائم عىل أنّهـم امتداد لـ«أهل الحديـث»‪ ،‬خالل القرنني‬
‫الثـاين والثالـث الهجريني‪ ،‬إذ يصفهم االتجاه السـلفي العـام بـ«الفرقة الناجية»‬
‫و«الطائفـة املنصـورة»‪ ،‬ويضـع خارطـة باألسماء والرمـوز لـه منـذ بدأ يتشـكل‬
‫هـذا االتجـاه اإلسلامي يف سـياق االختلاف داخـل املـدارس والفرق اإلسلامية‪،‬‬
‫وبصـورة خاصـة يف الـرد على اتجـاه «أهـل العقـل» أو «أهـل الـرأي»‪ ،‬حـول‬
‫املؤسسـة املرجعيـة صاحبـة الرشعيـة يف تأويـل النـص القـرآين والحديثـي بعـد‬
‫وفـاة النبـي الكريـم ( صلى الله عليه وسـلم)‪.‬‬

‫(‪ )39‬حديث نبوي يف صحيحي مسلم والبخاري‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫«أصحـاب الحديـث» رأوا أن «السـلف الصالـح» مـن أصحـاب النبـي‬
‫هـم األوىل واألكثر موثوقيـة يف تأويـل النـص وإضاءتـه‪ ،‬وعلى «الخلـف» (أي‬
‫الالحقين مـن املسـلمني) الرجـوع إليهـم كأصـل ومصـدر يف الفهـم والسـلوك‬
‫واالقتـداء‪ .‬وحا ّجـوا – أي أهـل الحديـث‪ -‬بأن تيـار الرأي والعقـل املتأثر بالروح‬
‫اإلغريقيـة ميكـن أن يرضب األسـس واألصـول املنهجية التي يقوم عليها اإلسلام‬
‫جـل مـا جـاء بـه «أهـل الـكالم» والـرأي واملناطقـة والفالسـفة يف‬
‫نفسـه‪ ،‬وأن ّ‬
‫إعـادة قـراءة الديـن وتفسيره‪ ،‬والتوفيـق بينـه وبين التراث العاملـي اآلخـر‪،‬‬
‫بصـورة خاصـة اإلغريقـي‪ -‬الفلسـفي‪ ،‬ليـس إال محدثـات مـن خـارج اإلسلام‪،‬‬
‫وبدعـاً ال بـد مـن الوقـوف يف وجههـا والتصـدي لهـا يف سـبيل الحفـاظ على‬
‫«اإلسلام األصيـل» يف مواجهـة األمـور الدخيلـة‪.40‬‬
‫تطـ ّورت السـلفية يف مواجهـة تيـار الرأي واالعتزال خالل الحقبة التأسيسـية‬
‫مـع اإلمـام أحمـد بن حنبـل (‪241‬هــ) يف القرن الثالـث الهجـري‪ .‬وتعترب محنة‬
‫القـول بخلـق القـرآن يف زمن الخليفـة العبايس املأمون (يف عـام ‪ 218‬هـ) لحظة‬
‫تاريخيـة حاسـمة يف بلـورة النزعـة السـلفية‪ ،‬يف مواجهـة النزعـة العقليـة التـي‬
‫تقـوم على مبـدأ التأويـل بـدالً مـن التسـليم وااللتـزام بظاهـر التنزيـل‪ ،‬حينها‬
‫رفـض اإلمـام أحمـد بـن حنبـل القول بخلـق القرآن‪ ،‬كما هو مذهـب املعتزلة‪،‬‬
‫وتعـرض للتعذيـب واالعتقـال هـو وأتباعـه‪ ،‬لكنـه ثبـت على قولـه‪ ،‬ما أكسـبه‬
‫مكانـ ًة متميـزة‪ ،‬لـدى أهـل الحديث سـابقاً والسـلفيني الحقاً‪.41‬‬
‫وسنشـهد يف القـرن السـابع الهجـري مـع نهايـة الخالفـة العباسـية‪ ،‬وعقب‬
‫سـقوط بغـداد على يـد التتـار عـام (‪ 656‬هــ)‪ ،‬ظهـور نزعة سـلفية ثانيـة أكرث‬
‫نضجـا ووضوحـا على يد أحمـد ابن تيميـه ومدرسـته (‪728-661‬هــ) إذ ح ّمل‬
‫«أهـل البـدع» (من الجهميـة والقدريـة والباطنيـة والصوفية والفالسـفة)‬

‫(‪ )40‬انظر حول امتداد السلفية ألهل الحديث واملعاين املتعددة للمصطلح‪ :‬محمد أبو‬
‫رمان‪ ،‬حسن أبو هنية‪ ،‬السلفية املحافظة‪ :‬اسرتاتيجية أسلمة املجتمع وسؤال العالقة‬
‫امللتبسة مع الدولة‪ ،‬مؤسسة فريدريش أيربت‪ ،‬عامن‪ ،2010 ،‬ص‪.27-17‬‬
‫(‪ )41‬انظر‪ :‬محمد عامرة‪ ،‬تيارات الفكر اإلسالمي‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1997 ،2‬ص‬
‫‪.161-128‬‬

‫‪44‬‬
‫مسـؤولية السـقوط والتدهـور العـام الـذي منيت بـه الدولة اإلسلامية حينها‪،‬‬
‫وكـ ّرس جـزءا ً كبريا ً من سـجاالته الفكرية واملعرفية يف الرد عىل الفرق اإلسلامية‬
‫األخـرى‪ ،‬ويف تظهير العقيـدة السـلفية وبنـاء النظريـة املعرفيـة السـلفية يف‬
‫الفقـه والفكر والسياسـة‪.‬‬
‫متثّـل حقبـة ابـن تيميـة تطـورا ً مهماً‪ ،‬يف تشـكّل اإلطار العقائـدي واملعريف‬
‫للسـلفية‪ ،‬إذ طفحـت تلـك املرحلـة بالرصاعـات داخل اإلسلام‪ ،‬ما بين املدارس‬
‫املختلفـة سـواء اإلسلامية الكبرى (الشـيعة‪ ،‬الخـوارج‪ ،‬املعتزلـة والسـنة) أو‬
‫داخـل البيـت السـني (بين أهـل الحديـث واألشـاعرة واملاتريديـة)‪ ،‬فج ّنـد ابن‬
‫تيميـة قلمـه لتوضيـح منهـج أهـل السـنة‪ ،‬يف وجه التيـارات اإلسلامية األخرى‪،‬‬
‫ومـن هنـا اكتسـب أهميـة اسـتثنائية داخل املدرسـة السـلفية‪.42‬‬
‫أصبحـت كتـب ابـن تيميـه وفتاويـه‪ ،‬ومدرسـته الفكرية‪ :‬ابن قيـم الجوزية‪،‬‬
‫الذهبـي ابـن كثري وغريهـم‪ ،‬مبثابة بوصلة فكرية للتيار السـلفي سـابقاً والحقاً‪،‬‬
‫إذ تزخـر مكتبـة ابـن تيميـة بكتـب ومجلـدات كاملـة يف الـرد على الفـرق‬
‫اإلسلامية األخـرى‪ ،‬سـواء مـن خـارج السـنة‪ ،‬مثـل الشـيعة والقدريـة‪ ،‬كام هي‬
‫الحـال يف «منهـاج السـنة»‪ ،‬أو حتـى توضيـح العقيـدة السـلفية ضمـن الدائرة‬
‫السـنية يف كتابـه «العقيـدة الواسـطية»‪ ،‬وغريهـا مـن كتـب تصـب يف االتجـاه‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫بلغـت السـلفية التاريخيـة مـع ابـن تيميه أوج نضوجهـا واكتاملها؛ وتبلور‬
‫«املنهـج السـلفي» وحـددت معـامل الطريـق لكافة السـلفيني الذين جـاؤوا من‬
‫بعـده وانتسـبوا إىل السـلفية‪ ،‬ومتثلـت السـلفية التاريخية عرب قـرون عديدة يف‬
‫طائفة واسـعة مـن العلامء‪.43‬‬
‫(‪ )42‬انظــر‪ :‬حــول دور ابــن تيميــة يف تطويــر املنهــج الســلفي يف‪ :‬عبــد الغنــي عــاد‪،‬‬
‫الحــركات اإلســامية يف لبنــان‪ ،‬إشــكالية الديــن والسياســة يف مجتمــع متنــوع‪ ،‬دار الطليعــة‪،‬‬
‫بــروت‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص‪.268-265‬‬
‫(‪ )43‬مثــل‪ :‬أبــو جعفــر الطحــاوي (‪321‬هـــ)‪ ،‬وابــن بطــة العكــري الحنبــي (‪387‬هـــ)‪ ،‬وأبــو‬
‫بكــر أحمــد بــن الحســن البيهقــي (‪458‬هـــ)‪ ،‬ويف موجــة ثانيــة نجــد أبــا شــامة املقــديس‬
‫(‪665‬هـــ)‪ ،‬وابــن القيــم الجوزيــة (‪751‬هـــ)‪ ،‬وابــن رجــب الحنبــي (‪795‬هـــ)‪ ،‬ويف مرحلــة‬

‫‪45‬‬
‫يف العصر الحديـث بـرزت السـلفية الوهابيـة‪ ،‬وقـد خرجـت مـن رحـم‬
‫السـلفية التاريخيـة‪ ،‬يف مطلـع القـرن الثامـن عشر وامتـدت إىل أوائـل القـرن‬
‫التاسـع عشر عىل يد الشـيخ محمد بن عبد الوهاب يف شـبه الجزيـرة العربية‪،‬‬
‫فدعـا إىل التوحيـد‪ ،‬ورفـض فكـرة الحلول واالتحـاد (يف العقيدة الدينيـة)‪ ،‬وأكّد‬
‫مسـؤولية اإلنسـان‪ ،‬ومنـع التوسـل بغير اللـه‪ ،‬والدعـوة لفتـح بـاب االجتهـاد‪،‬‬
‫ورفـض التبرك بقبـور األوليـاء والصالحين واألنبيـاء‪ ،‬وأحيـى تـراث ابـن تيميـة‬
‫يف التوحيـد والعقائـد‪ ،‬ودخـل يف صـدام شـديد مـع الفـرق اإلسلامية األخـرى‪،‬‬
‫وتحديـدا ً الصوفيـة يف شـبه الجزيـرة العربيـة‪.‬‬
‫يعـ ُّد كتيـب «التوحيـد» ملحمـد بن عبـد الوهاب‪ ،‬مبثابة مرجع أسـايس لدى‬
‫أغلـب السـلفيني‪ ،‬إذ يوضّ ـح فيـه أصـول العقيـدة السـلفية يف مواجهـة العقائد‬
‫والفـرق اإلسلامية األخـرى‪ ،‬التـي تجيـز أعماالً وأقـواالً يراها ابن عبـد الوهاب‬
‫مناقضـة للتوحيـد‪ ،‬وكُ ِتبـت ٌ‬
‫رشوح للكتـاب‪ ،‬الـذي يُـد ّرس يف حلقـات السـلفيني‬
‫وجامعاتهم‪.‬‬
‫تأثـر بدعوتـه علما ٌء مـن شـتى أنحـاء العامل اإلسلامي‪ .‬مـن أبرزهم‪ :‬محمد‬
‫نـوح الغلايت يف املدينـة املنورة (‪1803-1752‬م)‪ ،‬وويل الديـن الدهلوي يف الهند‬
‫(‪1762-1702‬م)‪ ،‬ومحمـد بـن علي الشـوكاين يف اليمـن (‪1834-1760‬م)‪ ،‬ثـم‬
‫شـهاب الديـن محمـود األلويس يف العـراق (‪1854-1802‬م)‪ ،‬وعثمان بن فودي‬
‫يف إفريقيا (ولـد يف ‪1756‬م)‪.44‬‬
‫وأصبحـت «السـلفية» مـع الحركـة الوهابيـة ذات داللـة اصطالحيـة عىل‬
‫اتجـاه معين وآراء مخصوصـة يف السـاحة اإلسلامية الحديثـة‪ ،‬وتعترب السـلفية‬
‫الحقــة بــرز ابــن أيب العــز الحنفــي (‪792‬هـــ) صاحــب رشح «العقيــدة الطحاويــة»‪ ،‬وهــو‬
‫الــرح الــذي أصبــح عمــدة الســلفية التاريخيــة واإلطــار املرجعــي ملقوالتهــا النظريــة‬
‫العقديــة‪.‬‬
‫(‪ )44‬انظــر‪ :‬ألــرت حــوراين‪ ،‬الفكــر العــريب يف عــر النهضــة ‪ ،1939-1798‬ترجمــة كريــم‬
‫عزقــول‪ ،‬دار نوفــل‪ ،‬بــروت‪ ،1997 ،‬ص ‪ ،50-48‬وقــارن ذلــك بـــ‪ :‬أحمــد الكاتــب‪ ،‬الفكــر‬
‫الســيايس الوهــايب‪ :‬قـراءة تحليليــة‪ ،‬مكتبــة مدبــويل‪ ،‬القاهــرة‪ ،2008 ،‬ص ‪ ،43-15‬وكذلــك بـ‪:‬‬
‫محمــد عــارة‪ ،‬تيــارات الفكــر اإلســامي‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ،‬ص ‪.261-253‬‬

‫‪46‬‬
‫الوهابيـة مـن الناحيـة الدينية «دعـوة إصالحية تطهريية» تسـعى للحفاظ عىل‬
‫الهويـة عبر التمسـك بظاهـر النـص‪ ،‬وتقـوم على فهـم «شـبه لفظـي» لـه يف‬
‫جوانبـه العقديـة والرمزية و الشـعائرية‪.‬‬
‫خاضـت السـلفية الوهابيـة حربـاً مع الطرق الصوفية ومامرسـاتها الدينية‪،‬‬
‫متّهِمـ ًة إياهـا بالشـعوذة والخرافـة داعيـ ًة إىل الرجوع إىل نقـاء التوحيد وصفاء‬
‫العقيدة اإلسالمية‪.‬‬
‫سياسـياً‪ ،‬جرى تقاسـم املجال العام بني آل سـعود وآل الشيخ منذ تأسيسها‪،‬‬
‫وذلك بتويل آل الشـيخ للجانب الديني‪ ،‬وآل سـعود للجانب السـيايس‪ ،‬واسـتند‬
‫موقـف السـلفية الوهابيـة مـن السـلطة السياسـية على موقـف السـلفية‬
‫التاريخيـة العـام الداعـي إىل وجـوب طاعـة الحكام‪.‬‬
‫تأثير التـزاوج بين السـلفية الوهابيـة والحكـم السـعودي سـيظهر الحقـاً‬
‫بصـورة أكثر وضوحـاً يف سـبعينيات القـرن العرشيـن‪ ،‬مـع الفـورة النفطيـة‪،‬‬
‫والتوظيـف املتبـادل مـن الطرفني‪ ،‬فآل سـعود وظفوا السـلفيني لخدمة أهداف‬
‫الدولـة‪ ،‬والسـلفيون جعلـوا مـن هـذه العالقـة محـددا ً للمجال العـام يف داخل‬
‫الدولـة لفـرض رؤيتهـم الدينيـة يف املجتمـع وعلى األفـراد‪.‬‬
‫هذه العالقة مل تقف عند حدود السـاحة الداخلية‪ ،‬بل فاضت إىل السياسـة‬
‫الخارجيـة‪ ،‬إذ سـاهمت السـعودية يف نشر الفكـر السـلفي يف أنحـاء متعـددة‬
‫مـن العـامل‪ ،‬كما سـاعدت الثـورة النفطيـة يف توفير دعـم مـايل كبير لألنشـطة‬
‫واملؤلفات واملؤسسـات السـلفية التي توزعت يف دول العامل العريب واإلسلامي‪،‬‬
‫وحتـى يف الـدول الغربيـة‪ ،‬لـدى األقليات املسـلمة هناك‪.‬‬
‫مـع نهايـة القـرن التاسـع عشر وبدايـة القـرن العرشيـن تبلـور مـا يسـمى‬
‫بالسـلفية اإلصالحيـة أو العقالنيـة‪ ،‬وبالرغم مـن أنّها تأثرت بالسـلفية الوهابية‬
‫والتاريخيـة‪ ،‬يف زوايـا معينـة‪ ،‬وتحديدا ً بالعودة إىل املصادر اإلسلامية الرئيسـة‪:‬‬
‫القـرآن والسـنة‪ ،‬ورفـض البـدع الدينيـة املنتشرة‪ ،‬ومواجهـة اإلغـراق الصويف يف‬
‫االبتعـاد عـن الواقـع وعـن تحدياتـه‪ ،‬إالّ أ ّن النسـخة اإلصالحيـة مـن السـلفية‬

‫‪47‬‬
‫ركـ ّزت على نبـذ التقليـد وفتـح البـاب لالجتهاد‪ ،‬ورفـض التعصـب املذهبي‪.‬‬
‫وتزامـن ظهـور الحركـة اإلصالحية يف لحظة انهيار الدولة العثامنية وتفككها‪،‬‬
‫والدخـول يف مرحلـة االحتـكاك بالغـرب‪ ،‬مـع بـدء املرحلـة االسـتعامرية التـي‬
‫اجتاحـت العاملني العريب واإلسلامي‪ ،‬مما أث ّر عىل توجهات السـلفية اإلصالحية‬
‫واجتهاداتهـا وصبغهـا بالـروح العقالنيـة املنفتحـة‪ ،‬مقارنـة بالطابـع الداخلي‬
‫للسـلفية الوهابيـة‪ ،‬فأصبحـت إشـكالية «التقـدم والتأخـر» وقضيـة اإلصلاح‬
‫الدينـي الشـغل الشـاغل لـرواد املدرسـة اإلصالحيـة‪ ،‬فزاوجـوا بين نزوعهـم‬
‫العقلاين الواضـح املتأثـر بالعلـوم واملعـارف الغربيـة الحديثـة وبين أسـس‬
‫السـلفية الوهابيـة‪ ،‬مـن التوحيـد الخالـص ورفـض التقليـد والبـدع‪ ،‬ودعـوا إىل‬
‫«تحريـر» النـص الدينـي مـن التعصـب املذهبي الـذي كان منتشرا ً يف املدارس‬
‫اإلسلامية الحديثـة التـي كانـت تصر على االلتـزام مبذهـب معين يف الفقـه‬
‫والفتـوى والتعليـم‪.‬‬
‫كل من جامل الدين األفغاين(‪-1838‬‬ ‫عىل الرغم من االختالف حول نسـبة ٍّ‬
‫‪1897‬م)‪ ،‬ومحمـد عبده (‪1905-1849‬م) إىل مصطلح السـلفية اإلصالحية‪ ،‬نظرا ً‬
‫الختلاف طرحهما للعقيـدة الدينيـة‪ ،‬عـن السـلفيني عمومـاً‪ .‬إال أ ّن تلميذهما‬
‫محمـد رشـيد رضـا (‪1935-1865‬م) كان أقـرب مـن حيـث املنهـج العقائـدي‬
‫للسـلفية التاريخيـة‪ ،‬يف بدايـة حياته‪ ،‬وانحاز للسـلفية الوهابية يف مرحلة ثانية‪.‬‬
‫ويطغـى على دور السـلفية اإلصالحيـة االسـتجابة للتحـدي الغـريب الحديث‬
‫للعـامل اإلسلامي‪ ،‬إذ كانـت تسـعى إىل إصلاح الواقـع اإلسلامي املتخلـف‪،‬‬
‫والعنايـة مبشـكلة النهضـة والتقـدم وتحقيقهما أكثر مـن اشـتغالها مبشـكلة‬
‫الهويـة اإلسلامية‪ ،‬التـي تهددهـا الحداثـة الغربيـة الحديثـة‪.45‬‬
‫نـادت السـلفية اإلصالحيـة‪ -‬التـي شُ ـغلت بنهضـة األمـة‪ -‬بضرورة االقتباس‬
‫مـن الغـرب يف الصناعات والعلوم املفيـدة باعتبارها أصيلة يف اإلسلام‪ ،‬ولحاجة‬
‫(‪ )45‬انظــر‪ :‬محمــد أبــو رمــان‪ ،‬بــن حاكميــة اللــه وســلطة األمــة‪ :‬الفكــر الســيايس للشــيخ‬
‫محمــد رشــيد رضــا‪ ،‬وزارة الثقافــة‪ ،‬عــان‪ ،‬مــروع القــراءة للجميــع (مكتبــة األرسة‬
‫األردنيــة)‪ ،2010،‬ص‪.13-9‬‬

‫‪48‬‬
‫األمـة لهـا ملواجهـة التحديـات األوروبيـة‪ ،‬ومل تكتف بإصلاح العقيـدة الدينية‪،‬‬
‫أو توحيـد الداخـل على آراء محـدودة يف االعتقـاد والعبادات ومحاربـة البدع‪،‬‬
‫كما فعلـت سـلفيات أخرى‪ ،‬بـل اندفعت بحامس يف معالجة شـؤون املسـلمني‬
‫السياسـية واالجتامعيـة املتدهورة‪.‬‬
‫يف مرحلـة الحقـة ظهـر مـا اصطُلـح على تسـميته بالسـلفية الوطنيـة يف‬
‫ُعبر عـن تلـك الحـركات الدينيـة التـي كان محـور حركتهـا‬
‫املغـرب العـريب‪ ،‬وت ِّ‬
‫مقاومـة االسـتعامر الغـريب لبلـدان املسـلمني والتصـدي لـه‪ ،‬وذلك مـن منطلق‬
‫التزامهـا مبفهـوم الجهـاد اإلسلامي ومرشوعيتـه لصـد العـدوان واالحتلال‪،‬‬
‫والسـعي إلقامـة دولـة إسلامية وطنيـة عقـب أفـول االسـتعامر وتحقيـق‬
‫االسـتقالل‪.‬‬
‫ومـن أبـرز رموزهـا عبـد الحميـد بـن باديـس (‪1940-1889‬م) وجمعيـة‬
‫«العلماء املسـلمني» يف الجزائـر‪ ،‬وعلال الفـايس (‪1974-1910‬م)‪ ،‬والشـيخ أيب‬
‫شـعيب الـدكايل (‪1937-1878‬م) وشـيخ اإلسلام محمـد بـن العـريب العلـوي‬
‫باملغـرب (‪1964-1880‬م)‪.‬‬
‫جمعـت السـلفية الوطنيـة بين الهـم النهضـوي واإلصالحـي والقضيـة‬
‫الوطنيـة التحرريـة‪ .‬وكان ملحمـد بـن العـريب العلوي األثـر البـارز يف تبلور هذا‬
‫االتجـاه يف املغـرب‪ ،‬فلـم يكتـف مبحاربـة الطريقـة الصوفيـة املوالية لسـلطات‬
‫الحاميـة‪ ،‬بـل عمـد إىل مقاومة الحامية الفرنسـية مبارشة بالتشـهري بسياسـتها‪،‬‬
‫واسـتنهاض الهمـم للوقـوف يف وجههـا‪ ،‬علاوة على التحاقـه بصفـوف الثـوار‬
‫يف الريـف‪ ،‬ومواصلتـه منـارصة القضيـة الوطنيـة التحرريـة‪ ،‬على الرغـم مـن‬
‫املضايقـات التعسـفية التـي تعـرض لهـا‪.46‬‬

‫(‪ )46‬انظــر ترجمــة محمــد بــن العــريب العلــوي املوقــع االلكــروين لحركــة التوحيــد‬
‫واإلصــاح املغربيــة‪ 10 ،‬حزيــران ‪ 2010‬عــى الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.alislah.ma/200922-58-11-07-10-/item/14704-‬‬
‫‪%D985%%D8%AD%D985%%D8%AF-%D8%A8%D986-%%D8%A7%D9%‬‬
‫‪84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D98%A-%D8%A7%D984%%D8%B9%D9‬‬
‫‪84%%D988%%D98%A.html.‬‬

‫‪49‬‬
‫تحولـت السـلفية يف املغـرب على يـد بـن العـريب العلـوي مـن سـلفية‬
‫تاريخيـة تقليديـة‪ ،‬وهابيـة الطابـع ‪ -‬تبناهـا املخـزن (نظام الحكـم يف املغرب)‬
‫كأيديولوجيـة دينيـة‪ -‬إىل سـلفية وطنيـة مناضلة كونت الجيـل األول من رجال‬
‫الحركـة الوطنيـة املغربيـة‪ ،‬وقدمـت لهـم األسـاس الفكـري العـريب اإلسلامي‬
‫لتطلعاتهـم النهضويـة التحديثيـة ومواقفهـم السياسـية النضاليـة‪.47‬‬
‫بالرغـم من بروز السـلفية بصيغتهـا النهضوية واإلصالحية والوطنية يف بداية‬
‫القـرن العرشيـن يف شمال أفريقيـا بصـورة أساسـية‪ ،‬إالّ أ ّن هـذه االتجاهـات‬
‫تراجعـت كثيرا ً خلال العقـود التاليـة‪ ،‬وتحديـدا ً مـع صعـود جامعـة اإلخـوان‬
‫املسـلمني‪ ،‬ثـم التيـارات الجهاديـة يف النصـف الثـاين مـن القـرن العرشين‪ ،‬فيام‬
‫شـهدت العقـود األخيرة عـودة إىل الصيغـة الوهابيـة والتاريخية من السـلفية‪،‬‬
‫مرتبطـة بدرجـة كبيرة مـع الوفـرة املاليـة التـي شـهدها اقتصاد السـعودية‪ ،‬يف‬
‫الحقبـة النفطية‪.‬‬

‫(‪ )47‬انظــر حــول مــا يطلــق عليــه الســلفية املســتنرية‪ ،‬محمــد عــارة‪ ،‬تيــارات الفكــر‬
‫اإلســامي‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ،‬ص ‪.296-291‬‬

‫‪50‬‬
‫‪-2-‬‬
‫«السلفي الحائر»‪ :‬شرك القبور أم‬
‫شرك القصور!‬

‫عـاد نجـم التيـارات السـلفية بالصعـود واالنتشـار يف العـامل العـريب منـذ‬


‫سـبعينيات القـرن املـايض‪ ،‬وسـاهمت السـعودية بدور محـوري‪ ،‬جـراء التزاوج‬
‫التاريخـي مـا بين السـلفية والسـلطة هنـاك‪ ،‬وسـاعد عىل هـذا الـدور وع ّززته‬
‫الطفـرة النفطيـة‪ ،‬التـي ولّـدت وفرا ً مالياً سـاهم يف نرش السـلفية مـن أنصارها‬
‫هنـاك‪ ،‬ويف خلـق آالف فـرص العمـل والوظائـف واملنـح الدراسـية للعـرب يف‬
‫السـعودية‪ ،‬مما انعكـس الحقـاً عىل نرش الرؤى السـلفية عىل نطـاق اجتامعي‬
‫عريب واسـع‪.‬‬
‫املقاربـة السـلفية‪ ،‬التـي طغـت خلال عقـود السـبعينيات والثامنينيـات‪،‬‬
‫تتمثّـل يف االهتمام بالجانـب الدينـي والدعـوي والعقائـدي واالبتعـاد عـن‬
‫الخـوض يف السياسـة أو تأسـيس األحـزاب ومامرسـة النشـاطات السياسـية‬
‫املعارضـة‪ ،‬وهـو االتجـاه الـذي يطلق عليـه السـلفية التقليديـة أو املحافظة أو‬
‫العلميـة (يف شمال أفريقيـا)‪ ،‬ومثّلـت هيئة كبـار العلامء يف السـعودية‪ ،‬بقيادة‬
‫كل مـن عبـد العزيـز بن بـاز ومحمد ابن عثيمين املظلة الفكرية لهـذا االتجاه‪،‬‬
‫خلال عقـدي الثامنينيـات والتسـعينيات‪.‬‬
‫النـزوع العـام لـكل مـن ابـن بـاز وابـن عثيمني متثّـل بالحفاظ على العالقة‬
‫الوطيـدة بين آل سـعود والحركـة السـلفية‪ ،‬وهـي العالقة التـي أصبحت مبثابة‬
‫ركـن رئيـس يف الدولة السـعودية املعارصة‪ ،‬وقد توىل «الشـيخان» ومؤسسـتهام‬
‫«هيئـة كبـار العلماء» بتأمين الجانـب «الرشعي» للدولـة‪ ،‬ونـزع الرشعية عن‬
‫كل مـن يحـاول الخـروج عليهـا أو منازعة آل سـعود السـلطة والحكم‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫التـزم ابـن بـاز وابـن عثيمين ورفاقهـم بالطابـع الديني والعقائـدي للدعوة‬
‫السـلفية‪ ،‬وسـاهموا يف نرشهـا وتعليمهـا يف الجامعات من خلال تأليف الكتب‬
‫وإصـدار الفتـاوى‪ ،‬ويف أغلبهـا تركـز على التوحيد والعقيـدة‪ ،‬والرد على الفرق‬
‫اإلسلامية األخـرى‪ ،‬وتدريـس الحديـث وإعـادة تحقيـق وطبع الرتاث السـلفي‬
‫بصـورة خاصـة‪ ،‬كتـب ابـن تيميـة وأحمـد بـن حنبل ومحمـد بن عبـد الوهاب‬
‫وغريهم‪.‬‬
‫بالرغـم مـن تأكيـد هيئـة كبـار العلامء بصـورة دامئة عىل «طاعـة ويل األمر»‬
‫ورفـض اشـتغال السـلفيني يف السياسـة‪ ،‬والحكم على املعارضة هنـاك بالضالل‪،‬‬
‫إالّ أ ّن ذلـك مل مينـع تيـارا ً (على ميني الهيئة) مـن الظهور يف مرحلـة الثامنينيات‬
‫والبروز بصـورة أكثر تشـددا ً يف بدايـة التسـعينيات يف رفـض العمـل السـيايس‬
‫والحـزيب‪ ،‬بـل والهجـوم على األحـزاب اإلسلامية األخـرى واتهامهـا بالخـروج‬
‫والضلال‪ ،‬والتخصـص يف الـرد عليهـا وعلى روادهـا املعارصيـن‪ ،‬مثـل‪ :‬حسـن‬
‫البنـا وسـيد قطـب‪ ،‬أحد رواد هذا التيار يف السـعودية محمد بـن آمان الجامي‪،‬‬
‫الـذي جـاء مـن الحبشـة ودرس يف السـعودية‪ ،‬واسـتقر فيهـا منـذ سـبعينيات‬
‫القـرن العرشيـن‪ ،‬واسـتقر بـه املطـاف مد ّرسـاً يف الجامعـة اإلسلامية باملدينـة‬
‫املنـورة‪ ،‬واملسـجد النبوي‪.48‬‬
‫اشـتهر الجامـي وأتباعـه (أطلـق عليهم الحقـاً مصطلح الجاميـة) بالتعصب‬
‫للسـلفية واتخـاذ مواقـف متشـددة من الجامعات اإلسلامية األخـرى‪ ،‬والتأكيد‬
‫على طاعـة أولياء األمـور يف الدول العربية‪ ،‬ورفض املعارضة والخروج وتشـكيل‬
‫األحـزاب السياسـية بوصفها بدعاً ليسـت مـن الدين‪.49‬‬
‫يصرح يف خطبـه ومحارضاتـه ودروسـه مبعـاداة الجامعـات‬
‫كان الجامـي ّ‬
‫(‪ )48‬انظــر الصفحــة الرســمية ملحمــد بــن آمــان الجامــي والتعريــف بــه‪ ،‬عــى شــبكة‬
‫االنرتنــت‪ ،‬الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.eljame.com/mktba/pageother.php?catsmktba=40.‬‬
‫(‪ )49‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬محمــد بــن آمــان الجامــي‪ ،‬قــرة عيــون الســلفية باإلجابــات‬
‫عــى األســئلة الكويتيــة‪ ،‬الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=3.‬‬

‫‪52‬‬
‫اإلسلامية‪ ،‬اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬الدعـوة والتبليـغ‪ ،‬والسـلفيني السياسـيني الذين‬
‫يعارضـون الحكومـات‪ ،‬ويعلـن بوضـوح أ ّن السـلفية هـي املفهـوم الصحيـح‬
‫لإلسلام‪ ،‬يدافـع عـن منهـج االبتعـاد عـن العمـل الحزيب والسـيايس والحـريك‪.50‬‬
‫يعتبر ربيـع بـن هـادي املدخلي أحد أبرز تالميذ محمد بـن آمان الجامي‪،‬‬
‫وهو سـعودي األصل من الجنوب‪ ،‬وأصبح مدرسـاً يف الجامعة اإلسلامية الحقاً‪،‬‬
‫وتخصـص مـع شـيخه يف الـرد عىل اإلسلاميني والتصدي «للسـلفية السياسـية»‪،‬‬
‫والتأكيـد على مبدأ «طاعـة ويل األمر»‪ ،‬ورفض املعارضة والخـروج عىل الحاكم‪،‬‬
‫والحـث عـن االبتعاد الكامل عن العمل السـيايس والحـزيب والحريك‪.‬‬
‫نجـد امتـداد هـذه املدرسـة بوضـوح يف اليمـن عبر مقبـل بـن هـادي‬
‫الوادعـي‪ ،‬وهـو مينـي درس يف السـعودية وطـرد من هنـاك بدعوى اشتراكه يف‬
‫حركـة جهيمان عـام ‪ ،1981‬وهـو مـا ينفيـه بشـده‪ ،‬ثـم عـاد واسـتقر يف اليمن‬
‫مـع بدايـة الثامنينيـات وبدأ بنرش السـلفية‪ ،‬واكتسـب أنصارا ً وأتباعـاً‪ ،‬يحملون‬
‫أفـكاره وآراءه‪.‬‬
‫أمـا يف األردن‪ ،‬فبالرغـم مـن أ ّن نـارص الديـن األلبـاين أقـرب إىل خـط ابـن‬
‫بـاز وابـن عثيمين يف عـدم التدخـل يف السياسـة‪ ،‬بـل عبارتـه الشـهرية هـي‬
‫«مـن السياسـة تـرك السياسـة»‪ ،‬إالّ أ ّن مدرسـته وتالميـذه يقرتبون مـن االتجاه‬
‫الجامـي واملدخلي والوادعـي يف العالقـة مـع الحكومة واملوقف من اإلسلاميني‬
‫اآلخريـن‪ ،‬وأصبـح لـه تالميـذ ووجـدت امتـدادا ً لهـا يف كثري من الـدول العربية‬
‫األخرى ‪.51‬‬

‫(‪ )50‬انظــر توثيــق لرشحــه معنــى الفرقــة الناجيــة عــى الرابــط التــايل‪ ،‬عــى موقعــه‬
‫االلكــروين الرســمي‪:‬‬
‫‪http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=120‬‬
‫وكذلك الرابط التايل لفتواه حول الدخول يف الربملانات‪ ،‬عىل الرابط التايل‪:‬‬
‫‪http://www.eljame.com/mktba/play.php?catsmktba=413‬‬
‫(‪ )51‬انظــر حــول هــذا التيــار‪ :‬عبــد الغنــي عــاد‪ ،‬الحــركات اإلســامية يف لبنــان‪ ،‬مرجــع‬
‫ســابق ص‪.273‬‬

‫‪53‬‬
‫يف الثامنينيـات بـدأت مقاربـات سـلفية أخـرى بالبروز تـزاوج بين اإلميـان‬
‫بالعقائـد واملواقـف املعرفيـة والفكرية للسـلفية التقليديـة يف األحكام الرشعية‬
‫واملناهـج العلميـة الدينيـة‪ ،‬لكّنهـا تختلـف معهـا يف املوقـف مـن الحـكام ويف‬
‫التعامـل مـع الشـأن السـيايس‪ ،‬إذ ترفـض املقاربـات الجديـدة «اسـتنكاف»‬
‫السـلفيني عـن العمـل السـيايس والحـزيب بذريعـة «طاعـة ويل األمـر»‪ ،‬أو أ ّن‬
‫هـذه املؤسسـات بـدع ومحدثـات غربيـة ليسـت إسلامية‪.‬‬
‫أحـد أبـرز وجـوه التيـار السـلفي الجديد (أصبح يطلق عليه الحقاً السـلفية‬
‫الحركيـة) هـو السـوري محمـد بـن رسور بـن نايـف بـن زيـن العابديـن‪ ،‬الذي‬
‫كان عضـوا ً يف جامعـة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬ثـم غـادر إىل السـعودية يف نهايـة‬
‫السـتينيات‪ ،‬بعـد التضييـق على الجامعـة يف سـوريا‪ ،‬وهنـاك عمـل مدرسـاً يف‬
‫مدينـة الربيـدة‪ ،‬ثـم غادر يف السـبعينيات إىل الكويت‪ ،‬قبل أن يسـتقر به املقام‬
‫الحقـاً يف لنـدن‪ ،‬ويؤسـس هناك املنتـدى اإلسلامي‪ ،‬ويصدر مجلة السـنة‪ ،‬التي‬
‫أصبحـت مبثابـة املنبر اإلعالمـي والسـيايس لهـذا التيار‪ ،‬وأخـذت صيتـاً كبريا ً يف‬
‫األوسـاط السـلفية يف حـرب الخليج عـام ‪ ،1991‬ومنعت حكومـات عربية عدة‬
‫مـن توزيـع املجلـة وتداولها‪.‬‬
‫خصـوم رسور (بصـورة رئيسـة أتبـاع محمـد الجامـي وربيـع املدخلي)‬
‫أخـذوا يطلقـون على مـن يتبنـي أفـكاره ‪ -‬املزاوجـة بين السـلفية والسياسـة‪-‬‬
‫بـ«الرسوريين»‪ ،52‬وقـد بـدأت أفكار زين العابدين وتحليالته السياسـية ورؤيته‬
‫للتغيير‪ ،‬تنتشر يف السـعودية ودول أخـرى‪ ،‬وتأثر بها عدد مـن العلامء والدعاة‬
‫املعروفين الحقـاً‪ ،‬مبـا يسـمى يف السـعودية «مشـايخ الصحـوة»‪.‬‬
‫(‪ )52‬قــارن ذلــك برفــض انخـراط الســلفيني يف العمــل الســيايس أو مــا يســمى بالرسوريــة‪،‬‬
‫بإجابــات ملقبــل بــن هــادي الوادعــي «هــذه هــي الرسوريــة فاحذروهــا»‪ ،‬ميكــن االســتامع‬
‫لهــا عــى الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.muqbel.net/sounds.php?sound_id=6‬‬
‫عىل املوقع الرسمي له عىل شبكة االنرتنت‪ ،‬وانظر الرد عىل ذلك مبقال ملحمد بن رسور‬
‫زين العابدين حول مسريته الدعوية والسياسية‪ ،‬بعنوان «صفحات من املايض‪ :‬الرسورية»‪،‬‬
‫عىل الرابط التايل‪:‬‬
‫‪http://www.sudanforum.net/showthread.php?t=72791‬‬

‫‪54‬‬
‫يف السـبعينيات‪ ،‬وبصـورة أكثر وضوحـاً خلال الثامنينيـات مـن القـرن‬
‫املنصرم‪ ،‬برز اسـم الشـيخ عبـد الرحمن عبـد الخالق‪ ،‬وهو مصري األصل درس‬
‫يف الجامعـة اإلسلامية يف املدينـة املنـورة‪ ،‬ثـم غـادر إىل الكويـت يف منتصـف‬
‫السـتينيات ليد ّرس هناك‪ ،‬ويسـاهم يف تأسـيس جمعية إحياء الرتاث السـلفية‪،‬‬
‫مـع عـدد مـن السـلفيني‪ ،‬ويقـ ّدم مقاربـة سـلفية جديـدة يف قضيـة التغيير‬
‫واإلصلاح واملوقـف مـن العمـل السـيايس‪.53‬‬
‫ويف كتابه «املسـلمون والعمل السـيايس»‪ ،‬الذي جاء يف وقته مغايرا ً ألغلب‬
‫املقاربـات السـلفية التـي كانـت تسـتنكف عـن العمـل السـيايس‪ ،‬يخالف عبد‬
‫الخالـق الفتـاوى واملواقـف السـلفية عمومـاً عندمـا يؤكد على رضورة الدخول‬
‫يف مضمار العمـل السـيايس وتشـكيل أحـزاب سياسـية وجمعيـات وتبنـي‬
‫الوسـائل الجديـدة يف التغيير بوصفهـا «مصالـح مرسـلة»‪ ،‬ال يجـوز االسـتغناء‬
‫عنهـا‪ ،‬ورضورة االسـتفادة مـن هامـش الدميقراطيـة يف الـدول التـي تسـمح‬
‫بذلـك‪ ،‬حتـى لـو مل يكـن هنالـك «ضامنـات» باحترام نتائـج صناديـق االقرتاع‪،‬‬
‫طاملـا أ ّن اإلسلاميني ال ميتلكـون بديلاً عـن ذلـك‪.54‬‬
‫شـق مبكّـرا ً الطريق إىل العمل السـيايس داخل‬
‫وبالرغـم مـن أ ّن عبـد الخالق ّ‬
‫البيـت السـلفي‪ ،‬وسـاهم يف خـوض السـلفيني هنـاك منـذ الثامنينيـات لغمار‬
‫التجربـة الحزبيـة‪ ،‬بعيـدا ً عـن مقـوالت الطاعـة لـويل األمـر أو عـدم الدخـول‬
‫يف اللعبـة السياسـية‪ ،‬إالّ أنّـه يف الوقـت نفسـه وقـف ضـد مبـدأ الخـروج على‬
‫الحاكـم‪ ،‬الـذي حكـم أيديولوجيـا السـلفية الجهاديـة عمومـاً‪ ،‬إذ كتـب عبـد‬
‫الخالـق ضـد اسـتخدام السلاح والعنـف‪ ،‬مطالبـاً بااللتـزام بالخـط السـلمي يف‬

‫(‪ )53‬انظــر حديــث عبــد الرحمــن عبــد الخالــق عــن ســرته الذاتيــة يف برنامــج مراجعــات‬
‫عــى قنــاة الحــوار‪ ،‬الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.youtube.com/watch?v=15SuN8OB9NI&feature=related‬‬
‫(‪ )54‬انظر رابط الكتاب عىل موقع الشبكة السلفية‪ ،‬وهو موقع يتبنى أفكار عبد الخالق‪:‬‬
‫‪http://www.salafi.net‬‬
‫انظر رد محمد بن نارص الدين األلباين عليه يف املقطع املسموع التايل‪:‬‬
‫‪http://www.youtube.com/watch?v=BUACBaSQwG0‬‬

‫‪55‬‬
‫الدعـوة اإلسلامية‪.55‬‬
‫بالرغـم مـن إميـان كل مـن محمـد بـن رسور زيـن العابديـن وعبـد الرحمـن‬
‫عبـد الخالـق بالعمـل السـيايس ورفـض فتاوى «طاعـة ويل األمر»‪ ،‬وعـدم تكفري‬
‫أو تضليـل املوقـف مـن الحزبيـة اإلسلامية‪ ،‬إالّ أ ّن بـن رسور‪ ،‬وفقـاً ملراقبين‬
‫لالتجاهـات السـلفية‪ ،‬هـو أقـرب إىل الجمـع بين السـلفية واملدرسـة القطبيـة‪،‬‬
‫ويبـدو أكثر ح ّدة يف نقده لجامعة اإلخوان املسـلمني‪ ،‬فيام يتسـم عبد الرحمن‬
‫عبـد الخالـق باالنفتـاح على اإلسلاميني عموماً‪ ،56‬ميكـن مالحظة انعـكاس هذا‬
‫االختلاف بين الرجلين بوضـوح– الحقـاً‪ -‬على السـلفية اليمنيـة‪ ،‬إذ انشـقت‬
‫جمعيـة اإلحسـان املتأثـرة بأفـكار بن رسور عـن الحكمة اليامنيـة املتأثرة بعبد‬
‫الرحمـن عبـد الخالق‪.57‬‬
‫وتكمـن أهميـة عبـد الخالـق أنّه كان من أوائل السـلفيني املعارصين‪ ،‬الذين‬
‫نظّـروا للمشـاركة السياسـية يف االنتخابـات الربملانيـة والعمـل العـام‪ ،‬وأث ّـرت‬
‫أفـكاره على سـلفيي الكويـت والبحرين والسـودان‪ ،‬منذ الثامنينيـات‪ ،‬يف وقت‬
‫كانـت أغلـب الحـركات والجامعات السـلفية تعتـزل العمل الحزيب والسـيايس‪،‬‬
‫يفسر االسـتقبال الكبري‬
‫ورمبـا هـذا «املوقـف املبكّـر» لعبـد الخالـق هو الـذي ّ‬
‫(‪ )55‬انظــر‪ :‬عبــد الرحمــن عبــد الخالــق‪ ،‬السياســة الرشعيــة يف الدعــوة إىل اللــه‪ ،‬رشكــة‬
‫بيــت املقــدس للنــر والتوزيــع‪ ،‬الكويــت‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص‪ ،405-337‬وهــو كتــاب يضــم‬
‫مجموعــة مــن الدراســات والكتــب التــي أصدرهــا عبــد الخالــق يف وقــت مب ّكــر‪.‬‬
‫(‪ )56‬انظــر‪ :‬مشــاري الذايــدي‪ ،‬محمــد بــن رسور غــادر ســورية بعــد نكبــة اإلخــوان‪..‬‬
‫اســتقر وعلــم يف بريــدة‪ ..‬خلــط حركيــة اإلخــوان بثوريــة قطــب بســلفية ابــن تيميــه‪،‬‬
‫جريــدة الــرق األوســاط‪ 28 ،‬اكتوبــر ‪ ،2004‬ع ‪.9466‬‬
‫ـر الباحــث أســامة شــحادة االختــاف بــن عبــد الخالــق وبــن رسور‪ ،‬بــأ ّن عبــد‬ ‫(‪ )57‬يفـ ّ‬
‫الخالــق هــو ابــن املدرســة الســلفية يف األصــل‪ ،‬بينــا محمــد بــن رسور ابــن املدرســة‬
‫اإلخوانيــة بنســختها القطبيــة‪ ،‬وقــد بــرز جوهــر االختــاف بــن الرجلــن يف بدايــة‬
‫الثامنينيــات‪ ،‬يف إفتــاء عبــد الخالــق بجــواز املشــاركة يف الحيــاة النيابيــة والربملانــات‪ ،‬ودفاعه‬
‫عــن هــذا الخــط الفكــري‪ ،‬بينــا كان زيــن العابديــن حينهــا يرفــض اللعبــة الدميقراطيــة‬
‫واالنتخابــات النيابيــة‪ ،‬قبــل أن يعــود يف األعــوام األخــرة عــن هــذا الرأي‪.‬مقابلــة مــع أســامة‬
‫شــحادة يف مكتبــي يف مركــز الدراســات االس ـراتيجية بالجامعــة األردنيــة‪ 23 ،‬مايــو ‪.2012‬‬

‫‪56‬‬
‫الـذي حظـي بـه مـن السـلفيني يف مصر‪ ،‬يف زيارتـه لهـا بعـد الثـورة‪ ،‬يف بدايـة‬
‫العام ‪.201258‬‬
‫يف بدايـة التسـعينيات وعلى وقـع االختلاف على املوقـف مـن حـرب‬
‫العـراق‪ ،‬احتدمـت السـجاالت السـلفية الداخليـة مـع بـروز تيـار جديـد حـ ّرك‬
‫امليـاه الراكـدة يف السـعودية يعلـن عـدم جـواز االسـتعانة بالجيـوش الغربيـة‬
‫لتحريـر الكويـت مـن الجيـش العراقـي‪ ،‬بخلاف فتـوى هيئـة كبـار العلماء‪،‬‬
‫وظهـر على رأس هـذا التيـار كل مـن د‪ .‬سـفر الحـوايل (الـذي كتـب «وعـد‬
‫كيسـنجر واألهـداف األمريكيـة يف الخليـج»‪ ،‬وقـ ّدم محارضات متعـددة يف رفض‬
‫هـذا التدخـل)‪ ،‬ومعه سـلامن العودة وعائـض القرين ونارص العمـر‪ ،‬وهو التيار‬
‫الـذي اصطلـح على تسـميته بـ «تيـار الصحـوة»‪.59‬‬
‫تصـ ّدى ملهاجمـة هـذا التيـار مجموعـة الجامـي واملدخيل‪ ،‬وبدأوا ينسـبون‬
‫أتباعـه إىل التأثـر مبحمـد بن رسور زين العابدين‪ ،‬ومبحمد قطب‪ ،‬شـقيق سـيد‬
‫قطـب‪ ،‬الذي اسـتقر يف السـعودية يف الثامنينيـات‪ ،‬ود ّرس يف جامعـة أم القرى‪،‬‬
‫وأرشف على رسـالة الدكتـوراه لسـفر الحـوايل عـن «ظاهـرة اإلرجـاء يف الفكـر‬
‫اإلسلامي»‪ ،60‬وكان أحـد أبـرز محاورها قضية تحكيم الرشيعة اإلسلامية وربط‬
‫اإلميـان بالعمـل‪ ،‬وفيهـا رد مبطـن على االتجـاه السـلفي الذي ال يكفـر الحكام‬
‫الذين ال يحكمون بالرشيعة اإلسلامية‪ .61‬وكانت رسـالة املاجسـتري للحوايل عن‬
‫«العلامنيـة»‪ ،62‬وكـرس جـزءا ً كبيرا ً من محارضاتـه وخطابه للتأكيـد عىل تحكيم‬
‫(‪ )58‬املرجــع نفســه‪ ،‬وانظــر حــول اســتقبال عبــد الرحمــن عبــد الخالــق يف القاهــرة الرابــط‬
‫التايل‪:‬‬
‫‪http://alwatan.kuwait.tt/ArticleDetails.aspx?Id=165110&YearQuarter=20121.‬‬
‫(‪ )59‬انظــر‪ :‬محمــود الرفاعــي‪ ،‬املــروع اإلصالحــي يف الســعودية‪ :‬قصــة الحــوايل والعــودة‪،‬‬
‫واشــنطن‪ ،1995 ،‬ط‪ ،1‬ص‪.34-11‬‬
‫(‪ )60‬انظــر‪ :‬ســفر بــن عبــد الرحمــن الحــوايل‪ ،‬ظاهــرة اإلرجــاء يف الفكــر اإلســامي‪ ،‬دار‬
‫الكلمــة للنــر والتوزيــع‪ ،‬ط‪.1999 ،1‬‬
‫(‪ )61‬انظــر حــول هجــوم التيــار الجامــي عــى الحــوايل والعــودة‪ ،‬محمــود الرفاعــي‪،‬‬
‫املــروع اإلصالحــي يف الســعودية‪ :‬قصــة الحــوايل والعــودة‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ،‬ص ‪.57-52‬‬
‫(‪ )62‬انظــر‪ :‬ســفر بــن عبــد الرحمــن الحــوايل‪ ،‬العلامنيــة‪ :‬نشــأتها وتطورهــا وتأثريهــا يف‬

‫‪57‬‬
‫الرشيعة اإلسالمية بوصفها قضية يف صميم التوحيد والعقيدة اإلسالمية‪.63‬‬
‫ومـزج خطـاب التيـار الجديـد (حينهـا) بين الدعـوة إىل تطبيـق أكثر جديّة‬
‫للرشيعـة اإلسلامية والدفـاع عن هويـة البالد يف مواجهـة الليرباليين‪ ،‬واملطالبة‬
‫يف الوقـت نفسـه بإصالحـات سياسـية‪ ،‬تعـزز مـن منـاخ الحريـات العامـة‬
‫واملشـاركة السياسـية والحـ ّد مـن الفسـاد املسـترشي‪ ،‬وقامـوا بتوجيـه رسـائل‬
‫للملـك السـعودي تطالـب باإلصالحـات السياسـية واالقتصادية‪ ،‬لكنهـا تدعو يف‬
‫الوقـت نفسـه إىل التـزام أكبر بالرشيعـة اإلسلامية‪.64‬‬
‫الصـدى الـذي نتـج عـن حركـة «الصحـوة» كان كبريا ً‪ ،‬إذ أ ّن هـذا التيار جاء‬
‫مـن رحـم السـلفية السـعودية نفسـها‪ ،‬لكنه بدأ يقـ ّدم خطابـاً فكرياً وسياسـياً‬
‫مختلفـاً عـن الخطـاب التقليـدي تجاه الحكم السـعودي من جهـة‪ ،‬والنظرة إىل‬
‫العمـل السـيايس والعالقـة مع الحـركات اإلسلامية األخرى من جهـة ثانية‪.65‬‬
‫يف الفترة نفسـها‪ ،‬بـرزت دعـوات شـبيهة يف السـعودية (متـزج بين النزعات‬
‫السـلفية والفكريـة اإلسلامية األخـرى) تطالـب باإلصلاح‪ ،‬واضطـر عـدد مـن‬
‫أصحابهـا إىل الهجـرة إىل لنـدن بعـد الضغـوط التـي تعرضـوا لهـا مـن ِقبـل‬
‫الحكومـة السـعودية‪ ،‬مثـل محمد املسـعري وسـعد الفقيه‪ ،‬فيما انتهت حركة‬
‫الحـوايل والعـودة ورفاقهما إىل االعتقـال يف نهاية العـام ‪ ،1994‬بعد أن أصدرت‬
‫هيئـة كبـار العلامء فتوى ضـد أراءهام‪ ،‬منحـت الرشعية (الضمنية) للسـلطات‬
‫السـعودية للـزج بهما يف السـجن إىل نهايـة العـام ‪ ،1999‬إذ أفـرج عنهما‪ ،‬مـع‬

‫الحيــاة العامــة‪ ،‬ط‪ ،1982 ،1‬د‪ .‬م‪.‬‬


‫(‪ )63‬انظــر‪ :‬ســفر الحــوايل‪ ،‬رشح رســالة تحكيــم القوانــن ملحمــد بــن إبراهيــم‪ ،‬عــى الرابــط‬
‫التــايل ملوقــع الحــوايل عــى شــبكة االنرتنت‪:‬‬
‫‪http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.ShowContent&Conten‬‬
‫‪tID=611&FullContent=1‬‬
‫(‪ )64‬انظــر‪ :‬محمــود الرفاعــي‪ ،‬املــروع اإلصالحــي يف الســعودية‪ :‬قصــة الحــوايل والعــودة‪،‬‬
‫مرجــع ســابق‪ ،‬ص‪.86-59‬‬

‫‪58‬‬
‫بقـاء قيـود كبيرة عىل نشـاطهام الدعـوي‪.66‬‬
‫بعـد خـروج الحـوايل والعـودة بـدت مالمـح تغير على خطابهما الفكـري‬
‫والسـيايس‪ ،‬ونـزوع إىل التهدئـة مـع السـلطات السـعودية‪ ،‬مـع بروز ما يسـمى‬
‫بالسـلفية الجهاديـة وصعـود القاعـدة يف السـعودية‪ ،‬بخاصـة بعد أحـداث ‪11‬‬
‫كل مـن الحـوايل والعـودة بنقد القاعـدة وخطابهـا وعملياتها‪،‬‬
‫سـبتمرب‪ ،‬إذ أخـذ ّ‬
‫وقامـا مـع آخريـن بتوزيـع رسـالة عنوانهـا «على أي أسـاس نتعايـش؟» يف‬
‫الـر ِّد على رسـالة املثقفين األميركان بعـد األحـداث بعنـوان «مـن أجـل مـاذا‬
‫نحـارب؟!»‪.67‬‬
‫ميكن مالحظة الخارطة الواقعية للسـلفية الحركية‪ ،‬عرب الجامعات السـلفية‬
‫التـي انخرطـت يف العمـل السـيايس يف الكويـت‪ ،‬مثـل جمعيـة إحيـاء التراث‪،‬‬
‫ويف البحريـن جمعيـة الرتبيـة التـي تتبـع لها كتلـة األصالـة‪ ،‬ويف األردن جمعية‬
‫الكتـاب والسـنة‪ ،68‬ويف لبنـان مجموعـة محمـد الخضر (املنتـدى اإلسلامي‬
‫اللبنـاين للدعـوة والحـوار)‪ ،69‬ويف اليمـن جمعيتـا الحكمـة اليامنيـة واإلحسـان‪،‬‬
‫ويف الجزائـر أتبـاع محمـد علي بلحـاج‪ ،‬أحـد قـادة الجبهـة اإلسلامية لإلنقـاذ‪،‬‬
‫ويف السـعودية تيـار الصحـوة اإلسلامية‪ ،‬مثـل‪ :‬سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة‬
‫وعائـض القـرين وغريهم‪.‬‬
‫(‪ )66‬انظــر حــول موقــف هيئــة كبــار العلــاء مــن الحــوايل والعــودة ومــا أثــر حولــه‪،‬‬
‫املرجــع الســابق‪ ،‬ملحــق الوثائــق‪ ،‬ص ‪.170-161‬‬
‫(‪ )67‬انظــر حــول الرســالة األمريكيــة‪ :‬رضــوان الســيد‪ ،‬الــراع عــى اإلســام‪ :‬األصوليــة‬
‫واإلصــاح والسياســات الدوليــة‪ ،‬دار الكتــاب العــريب‪ ،‬بــروت‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص ‪ .73-47‬وانظر‬
‫حــول بيــان «عــى أي أســاس نتعايــش؟” ومــا أثــر حولــه مــن نقاشــات‪ :‬محمــد ســليامن‪،‬‬
‫رســالة مــن مكــة‪ ،‬هــذه لغــة الحــوار بــن األمــم والشــعوب‪ ،‬مجلــة العــر االلكرتونيــة‪3 ،‬‬
‫مايــو ‪ ،2002‬الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://alasr.ws/articles/view/2258/.‬‬
‫(‪ )68‬انظــر‪ :‬املوقــع الرســمي لجمعيــة الكتــاب والســنة عــى شــبكة االنرتنــت‪ ،‬الرابــط‬
‫التــايل‪:‬‬
‫‪http://ktabsona.com/index.php?option=com_frontpage&Itemid=1‬‬
‫(‪ )69‬انظر‪ :‬أميمة عبد اللطيف‪ ،‬اإلسالميون السنة يف لبنان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.13‬‬

‫‪59‬‬
‫يف التسـعينيات‪ ،‬كذلك‪ ،‬حدث تزاوج آخر ما بني الفكر الجهادي والسـلفي‪،‬‬
‫بـرز يف أوضـح صـوره الحركية عرب تنظيـم القاعدة‪ ،‬وحاضنته ما سـمي بـ«التيار‬
‫السـلفي الجهـادي»‪ ،‬الـذي جمـع مـا بين العقائـد الدينية السـلفية‪ ،‬مـع التأثر‬
‫بأفـكار سـيد قطـب هنـا‪ ،‬وتركيـزه على مفهـوم الحاكميـة‪ ،‬واختيـار طريـق‬
‫«الجهـاد» بوصفـه الوسـيلة املرشوعـة الفاعلـة يف التغيير‪ ،‬وقـام هـذا التيـار‬
‫بدمـج معركـة التغيير الداخلية (مع النظـم العربية= العدو القريـب) باملعركة‬
‫الخارجيـة (الواليـات املتحـدة= إرسائيل=الغـرب= العدو البعيـد) وفقاً لفرضية‬
‫أساسـية فحواهـا أ ّن هنالـك تواطؤا ً ودعامً مـن الواليات املتحـدة والغرب لهذه‬
‫النظـم وإرسائيـل‪ ،‬وأ ّن االنتصـار عليهـا وكسـب الرشعيـة مـن الشـارع‪ ،‬يتطلب‬
‫مهاجمـة القوى الكبرى التـي تدعمها‪.70‬‬
‫بالرغـم مـن هـذه الروافـد األربعـة األساسـية يف الواقـع السـلفي املعـارص‬
‫اليـوم (التقليديـة‪ ،‬الجاميـة‪ ،‬الجهاديـة والحركيـة)‪ ،‬إالّ أنّـه مـن الصعوبـة مبكان‬
‫اختـزال وتقنين التيـارات واملجموعـات السـلفية ضمـن أطر محـ ّددة مضبوطة‬
‫يف هـذه املقاربـات‪ ،‬فهنالـك حالـة مـن السـيولة والتداخـل مـا يخلـق مشـهدا ً‬
‫متشـظياً للسـلفية أقـرب إىل املقاربـات الفرعيـة والداخليـة التـي تتفـق هنـا‬
‫وتختلـف هنـاك‪ ،‬وميكـن مالحظـة هـذه الظاهـرة بوضـوح يف كل مـن مصر‬
‫ولبنـان والكويـت‪.71‬‬

‫(‪ )70‬انظــر‪ :‬محمــد أبــو رمــان‪ ،‬اإلصــاح الســيايس يف الفكــر اإلســامي‪ :‬املقاربــات‪ ،‬القــوى‪،‬‬
‫األولويــات‪ ،‬االســراتيجيات‪ ،‬الشــبكة العربيــة لألبحــاث والنــر‪ ،‬بــروت‪ ،‬ط‪ ،2010 ،1‬ص‬
‫‪.260-255‬‬
‫(‪ )71‬انظــر حــول الســلفيني يف لبنــان‪ :‬عــاد عبــد الغنــي‪ ،‬الحــركات اإلســامية يف لبنــان‪،‬‬
‫مرجــع ســابق‪ ،‬ص ‪ .342 -309‬وقــارن ذلــك بتشــعب الخارطــة الســلفية يف لبنــان بــن‬
‫اتجاهــات فرعيــة عديــدة يف‪« :‬الســلفية اللبنانيــة‪ :‬بــن فــي الجهــاد العاملــي وســهولة‬
‫التوظيــف الســوري»‪ ،‬عــى الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.nowlebanon.com/Library/Files/ArabicDocumentation/salafist%20arabic2.pdf‬‬

‫‪60‬‬
‫خالصات واستنتاجات‬

‫لـو عرجنـا مـن التفاصيـل إىل الخطـوط العامـة لــ «الخطابـات السياسـية»‬
‫السـلفية‪ ،‬سـنجد أنّنـا أمـام مسـاحات واسـعة مـن االتفـاق واالختلاف فيما‬
‫بينهـم‪ ،‬وتحديـدا ً فيما يتعلّق مبلفين‪ :‬األول الدولة السـلفية ومالمحهـا العامة‪،‬‬
‫والثانيـة هـي تعريـف الواقع السـيايس اليـوم وتحديـد استراتيجيات التغيري أو‬
‫اإلصلاح وصـوالً إىل الدولـة اإلسلامية‪ -‬السـلفية املطلوبـة‪.‬‬
‫أوالً‪ -‬الدولـة السـلفية؛ يتفـق السـلفيون جميعـاً‪ ،‬مـن أقىص اليمني إىل اليسـار‪،‬‬
‫على التداخـل واالشـتباك بين الحقـل الدينـي والسـيايس‪ ،‬بـل يعتبرون تطبيق‬
‫الرشيعـة وإقامـة الدولـة اإلسلامية أمـرا ً عقائديـاً يدخـل يف صلـب التوحيـد‪،‬‬
‫يفسر موقفهم‬‫واإلقـرار بصفـات األلوهيـة للـه تعـاىل‪ ،‬أي حقـه يف الترشيع‪ ،‬ما ّ‬
‫املتحفـظ مـن الدميقراطيـة‪ ،‬سـواء باعتبارهـا بدعـة و«بضاعـة غربيـة» ليسـت‬
‫مـن اإلسلام يف يشء وتتناقـض معـه‪ ،‬كما هـي حـال الجاميين‪ ،‬أو بالقبـول‬
‫«الجـزيئ» أو املشروط لهـا‪ ،‬مبـا ال يتناقـض مـع أحكام اإلسلام واإلقـرار بـ«حق‬
‫اللـه يف الترشيـع»‪ ،‬وفقـاً التجاهـات سـلفية أخـرى‪ ،‬مثـل السـلفية التقليديـة‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫الدولـة السـلفية ملتزمـة بأحـكام اإلسلام‪ ،‬وال تخرج عىل النصـوص الرشعية‪،‬‬
‫فيما فيـه نـص‪ ،‬هذا يف التصـور العام‪ ،‬أمـا جزئياً فيما يتعلق بحقـوق األقليات‬
‫واملـرأة واإلنسـان والحريـات الفرديـة والفنـون وغريهـا‪ ،‬فهـي قـد تتبايـن بين‬
‫خطـاب سـلفي وآخـر‪ ،‬وإن كان الجميع متفق عىل االلتزام بالرشيعة اإلسلامية‬
‫يف تأصيـل املوقـف من هـذه القضايا‪.‬‬
‫بالرغـم مـن ذلـك االتفـاق على «صـورة الدولة»؛ فـإ ّن هنالك اختالفاً سـلفياً‬
‫واسـعاً حـول «رشعيـة السـلطة السياسـية»‪ ،‬فاالتجـاه الجامـي يغلِّـب مبـدأ‬
‫«طاعـة ويل األمـر»‪ ،‬وينـزع نحـو «الواقعيـة» يف قبـول حكـم املتغلـب‪ ،‬وال‬
‫يشـكك يف رشعيـة الحـكام مـا دامـوا «مسـلمني» (وهـذا موضـع اختلاف‪ ،‬كما‬
‫سـيأيت)‪ ،‬بينما هنـاك اتجاه يربط رشعية الحـكام باالنتخاب والشـورى وااللتزام‬
‫بالعقـد مـع األمـة‪ ،‬حتـى وإن مل يكـن يقـول بـ»الخروج املسـلح» على الحكام‪،‬‬
‫لكنـه ال مينحهـم الرشعيـة فقـط ألنّهـم «مسـلمون»!‬
‫اتجـاه «طاعـة أوليـاء األمـور» ال مينـح قضيـة الحريـة السياسـية وحقـوق‬
‫اإلنسـان والحريـات العامـة أي أهميـة يف خطابه أو مواقفه السياسـية‪ ،‬بل عىل‬
‫النقيـض مـن ذلـك يأخذ موقفاً سـلبياً مـن املعارضـة‪ ،‬ويسـتبدلها بـ«النصيحة»‬
‫للحـكام‪ ،‬ويرفـض الحزبيـة السياسـية‪ ،‬معتبرا ً أنّهـا «بضاعـة غربيـة» والحـال‬
‫نفسـها بالنسـبة لالنتخابـات النيابيـة ومجالـس النـواب‪ ،‬فيما يـرى اتجـاه آخر‬
‫(إصالحـي) أ ّن تطبيـق الرشيعـة يقتضي السماح بالحريـات العامـة واحترام‬
‫حقـوق اإلنسـان وضمان حـق املعارضـة وحريـة التعبير‪.72‬‬

‫(‪ )72‬انظــر عــى ســبيل املثــال‪ :‬فتــوى محمــد بــن آمــان الجامــي‪ ،‬حــول حكــم االش ـراك‬
‫بالربملانــات واالنتخابــات‪ ،‬عــى الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.SubContent&contentID=955‬‬
‫إذ يــرى أ ّن الربملانــات ســلطة ترشيعيــة‪ ،‬وهــو حــق اللــه‪ ،‬وليــس البــر‪ ،‬ويتســاءل «هــل‬
‫رشع ـاً؟»‪ ،‬ويصــف مــا يحــدث يف املجالــس بأنــه «كفــر‬
‫يجــوز ملســلم أن يســمى نفســه م ّ‬
‫بكتــاب اللــه واســتهزاء بــه»‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫االتجـاه األول‪ ،‬الـذي يغلّـب فقـه الطاعـة‪ ،‬يسـتمد مواقفـه مـن االتجـاه‬
‫العام للرتاث السـيايس السـني‪ ،‬الذي اسـتقر أغلبه عىل القبول بـ«األمر الواقع»‬
‫بعـد عصر الخلفـاء الراشـدين‪ ،‬وفشـل الثـورات التي حاولـت التمـرد والخروج‬
‫على الحكمين األمـوي والعبـايس‪ ،‬وباءت بالفشـل‪ ،‬بل وانتهـت إىل فنت وأزمات‬
‫متتاليـة‪ ،‬مـا جعـل كثيرا ً مـن الفقهـاء يفضـل القبـول بحكـم األمـر الواقع عىل‬
‫تسـويغ الخـروج خوفـاً مـن الفـوىض والدماء‪.‬‬
‫يف مرحلـة الحقـة؛ مـع العصر العبـايس الثـاين‪ ،‬أضيـف سـبب آخـر للقبـول‬
‫باألمـر الواقـع‪ ،‬وهـو ضعـف الخليفـة العـريب وبـروز العنصر الفـاريس والتريك‬
‫واململـويك العسـكري‪ ،‬فخوفـاً من ضياع الخالفة أقـ ّر الفقهاء بـ«إمـارة التغلب»‬
‫مـع التشـديد– يف املقابـل‪ -‬على رشط القرشـية يف اإلمامـة‪ ،‬لحاميـة «الهويـة‬
‫العربيـة الدولـة اإلسلامية» يف «مقايضـة فقهيـة» مـع الواقـع السـيايس‪.73‬‬
‫القبـول بإمـارة التغلـب نجـد صـداه يف الفكـر السـلفي واضحـاً مـع أحـد‬
‫أقطابـه ومرجعياتـه‪ ،‬ابـن تيميـة‪ ،‬الذي تتسـم نظريتـه السياسـية بالواقعية‪ ،‬إذ‬
‫يجعـل رشعيـة الخالفـة مرتبطـة بـ«أصحـاب الشـوكة»‪ ،‬ويقر بـأ ّن الرشعية هي‬
‫للحاكـم الـذي ميتلـك السـيطرة على األرض‪ ،‬ويتجـاوز الشروط التقليدية التي‬
‫يرسدهـا الفقهـاء‪ ،‬مركـزا ً يف كتابه «السياسـة الرشعيـة إلصالح الراعـي والرعية»‬
‫على رشطـي‪ :‬القـدرة واألمانة‪.74‬‬

‫(‪ )73‬انظــر حــول االتجاهــات الفقهيــة الســنية يف مســألة رشعيــة الســلطة السياســية‬
‫والقبــول بســلطة املتغلــب‪ :‬محمــد أبــو رمــان‪ ،‬بــن حاكميــة اللــه وســلطة األمــة‪ :‬الفكــر‬
‫الســيايس للشــيخ محمــد رشــيد رضــا‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ،‬ص ‪.147-86‬‬
‫(‪ )74‬انظــر‪ :‬حســن كوناكتــا‪ ،‬النظريــة السياســية عنــد ابــن تيميــة‪ ،‬دار اإلخــاء (الدمــام)‬
‫ومركــز الدراســات واإلعــام (الريــاض)‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص‪.92-87‬‬

‫‪63‬‬
‫إالّ أ ّن أتبـاع الجامـي واملدخلي مـن السـلفيني املعارصيـن يتوسـعون يف‬
‫مبـدأ رفـض الخـروج على الحاكـم‪ ،‬لـو كان مسـلامً‪ ،‬ويف القبـول برشعيـة حكم‬
‫املتغلـب بـأن مي ّيزوا بين الخروج بالكلمة والسـيف‪ ،‬أو بني الخـوارج القاعدين‪-‬‬
‫الذيـن يكفـرون الحـكام أو يخرجـون عليهم سياسـياً وليس بالسلاح‪ ،‬والخوارج‬
‫الفاعلين‪ ،‬معتربيـن أ ّن االثنين ميثلان خروجـاً على الحاكـم ومنازعـة لـه‪ ،‬وهو‬
‫األمـر الـذي ال يجيزونـه‪ ،‬ويعتربونـه منهـج الخوارج‪.‬‬
‫أ ّمـا االتجـاه السـلفي الحـريك‪ ،‬ومعـه التقليـدي اآلخـر (مـن دون الجاميني)‪،‬‬
‫فهـو وإن كان ال يقـول بالخـروج املسـلح عىل الحكام املسـلمني‪ ،‬إالّ أنه ال يضلل‬
‫املعارضـة أو يرفضهـا‪ ،‬ويقـول بعـدم جـواز انتقـاد هـؤالء الحـكام‪ ،‬بـل يتحدث‬
‫عـن وجـوب األمـر باملعـروف والنهـي عـن املنكـر‪ ،‬أو االبتعـاد عـن الجانـب‬
‫السـيايس مـن زاويـة املصالـح واملفاسـد‪ ،‬ال بسـبب عـدم جـواز انتقـاد الحكام‪.‬‬
‫ثانيـاً‪ -‬حـول تعريـف الواقع واستراتيجيات التغيير؛ إن كان السـلفيون يتفقون‬
‫على رضورة إقامـة الدولـة اإلسلامية‪ ،‬والقـول بتطبيـق أحـكام الرشيعـة‬
‫اإلسلامية‪ ،‬وباعتبـار ذلـك جـزءا ً مـن العقيـدة‪ ،‬إالّ أنهـم يختلفـون يف تعريـف‬
‫الواقـع السـيايس (قبـل الثـورات الدميقراطيـة العربيـة)‪ ،‬وترسـيم استراتيجيات‬
‫اإلصلاح والتغيير نحـو إقامـة الدولـة السـلفية‪.‬‬
‫أغلـب التراث اإلسلامي السـيايس يقـر بعـدم الخـروج على الحـكام إذا‬
‫كانـوا مسـلمني‪ ،‬حتـى لـو كانـوا فاسـقني أو ظاملني‪ ،‬وهـي القاعـدة التي أعطت‬
‫أهميـة كبيرة ملسـألة االختالف السـلفي حـول األنظمـة العربية التي تشـكلت‬
‫يف مرحلـة مـا بعـد االسـتعامر‪ ،‬فيما إذا كانـت أنظمة مسـلمة أم غري مسـلمة‪-‬‬
‫جاهليـة‪ ،‬مـا يرتتـب عليه إباحـة الخـروج عليهـا أو العكس‪.‬‬
‫املفارقـة تكمـن هنـا؛ االختلاف وقع ‪ -‬أيضاً‪ -‬يف عودة السـلفيني إىل ما كتبه‬
‫متسـك الجاميون وغريهم‬ ‫ابـن تيميـة‪ ،‬بوصفه أحـد أبرز مراجعهـم الفكرية‪ ،‬إذ ّ‬
‫بنصـوص البـن تيميـة تحـرم الخـروج على الحاكم «مـا دام يقيم الصلاة» ( تم‬
‫تفسيرها بأنـه مسـلم)‪ ،‬و بقَـول ابـن تيمية «حاكم ظـامل خري من فتنـة تدوم»‪.‬‬
‫متسـك الجهاديون ومعهم تيـار من الحركيني بفتـاوى ابن تيمية‬ ‫فيما ّ‬

‫‪64‬‬
‫يربـط فيهـا قضيـة القوانين والترشيعـات بتوحيـد األلوهيـة مـن جهـة‪،‬‬
‫ومبوقفـه العملي بتكفير التتـار لتحكيمهـم الياسـق (مجموعـة مـن القوانين‬
‫الخليطـة مـن الرشيعـة والتعاليـم التتاريـة) مـن جهـة أخـرى‪ ،‬مـا ت ّم إسـقاطه‬
‫على القوانين الوضعيـة الحاليـة‪.75‬‬
‫سـنجد تأثري ابن تيمية عىل السـلفيني الجهاديني يف الفكر اإلسلامي املعارص‪،‬‬
‫كما يلتقـط حسـن كوناكتـا‪ -‬يف تحول موضـوع التوحيـد إىل نـواة األيديولوجيا‬
‫السياسـية لدى الجامعات اإلسلامية املسـلحة يف مرص ضد السـلطات القامئة‪.76‬‬
‫وإذا كانـت الحالـة السـعودية تثري التباسـاً أكرث من غريهـا‪ ،‬العتامد الرشيعة‬
‫اإلسلامية مبثابـة دسـتور البلاد وقوانينهـا‪ ،‬واكتفـاء قيـادات الصحـوة السـلفية‬
‫باملطالبـة بالتطبيـق الصـارم للرشيعـة وإزالـة املخالفـات لهـا‪ ،‬فـإ ّن موقـف‬
‫السـلفيني السـعوديني يتخـذ موقفـاً أكثر وضوحـاً عمومـاً تجـاه الحكومـات‬
‫العربيـة األخـرى التـي ال تطبـق الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬كما هي الحـال يف كتيب‬
‫محمـد بـن إبراهيم آل الشـيخ بعنوان «رسـالة تحكيـم القوانين الوضعية»‪ ،‬إذ‬
‫رح بكفـر الحاكـم بغير مـا أنزل اللـه بقوله «إن مـن الكفر األكرب املسـتبني‪،‬‬ ‫يص ّ‬
‫تنــزيل القانـون اللعين منــزلة ما نزل به الـروح األمني‪ ،‬عىل قلـب محمد َصلَّ‬
‫اللـ ُه َعلَ ْيـ ِه َو َسـلَّ َم؛ ليكـون مـن املنذرين‪ ،‬بلسـان عـريب مبني»‪.77‬‬
‫ينقسـم موقـف السـلفيني ‪ -‬عمومـاً‪ -‬مـن الحكام العرب الذيـن ال يحكمون‬
‫بالرشيعة اإلسلامية‪:‬‬
‫االتجـاه الجامـي واملدخلي‪ ،‬ومعهـم نـارص الديـن األلبـاين يف األردن ال‬
‫يكفـرون الحـكام‪ ،‬ألنهـم يضعون رشط «االسـتحالل»‪ ،‬أي إقرار الحـكام بأنهم ال‬
‫يؤمنـون بتطبيـق الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬وإذا انتفـت املوانـع من التكفير‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫(‪ )75‬انظــر‪ :‬حســن كوناكتــا‪ ،‬النظريــة السياســية عنــد ابــن تيميــة‪ ،‬مرجــع ســابق‪ ،‬ص‪-195‬‬
‫‪.2010‬‬
‫(‪ )76‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.225-195‬‬
‫(‪ )77‬انظر رشح سفر الحوايل للرسالة ولهذا النص عىل الرابط التايل‪:‬‬
‫‪http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.SubContent&contentID=955.‬‬

‫‪65‬‬
‫العـذر بالجهـل‪ ،‬اإلكـراه‪ ،‬عـدم القدرة‪ ،‬وبني هـذا االتجاه موقفـه بوجوب طاعة‬
‫الحـكام على هـذه الفتـوى‪ ،‬طاملـا أنهـم مسـلمون‪ ،‬ويكتفـون بدعوتهـم إىل‬
‫تغيير مـا ال يتوافـق مـع الرشيعة اإلسلامية‪ ،‬لكنهم قـد يكفرون بعـض الحكام‬
‫بدعـوى أنّهـم يتبنـون عقيـدة «كفريـة» معلنـة‪ ،‬مثـل الخمينـي‪ ،‬والقذايف‪.‬‬
‫االتجـاه الثـاين‪ ،‬مثـل بعض السـلفيني الحركيين يف الكويت والدعوة السـلفية يف‬
‫االسـكندرية‪ ،‬يكفـرون الحـكام العـرب‪ ،‬ألنهـم ال يحكمون بالرشيعة اإلسلامية‪،‬‬
‫بصـورة عامـة‪ ،‬وليسـت فرديـة‪ ،‬فهـم يطلقون الوصـف عىل الفعل ال الشـخص‪،‬‬
‫ألنهـم يشترطون زوال «موانـع التكفير»‪ ،‬لكنهـم يرتبـون عىل ذلك بـأن الحكم‬
‫القائـم ليس إسلامياً‪ ،‬ويدعـون إىل رضورة التغيير واإلصالح‪.‬‬
‫االتجـاه الثالـث‪ ،‬وهـو الجهـادي‪ ،‬يكفـر الحكام العـرب‪ ،‬ما يعني حتميـة الثورة‬
‫عليهـم‪ ،‬وتغيير الواقـع‪ ،‬ولـو بالقـوة‪ ،‬طاملـا أن الحـكام أنفسـهم غير مسـلمني‪،‬‬
‫وإن كان منظـرو التيـار الجهـادي يضعـون رشط القـدرة على التغيير والخروج‬
‫على الحكام‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫الفصل األول‬

‫كيف رصت سلف ّياً؟‬


‫مقدمة‬

‫سـنتع ّرف يف هـذا الفصـل على منـاذج وصـور ملجموعـات مـن الشـباب‬
‫السـلفيني‪ ،‬ممـن ينتمـون إىل الدعـوة السـلفية التقليديـة‪ ،‬أي تلـك التـي متثّـل‬
‫امتـدادا ً ملدرسـة الشـيخ نارص الديـن األلباين وتالميـذه‪ ،‬وكانت باسـتمرار تعلن‬
‫بـأ ّن أهدافهـا علميـة وتربويـة ودعويـة بحتـة‪ ،‬تقـوم على مبـدأ «التصفيـة‬
‫والرتبيـة»‪ ،‬وترفـض الولـوج إىل العمـل السـيايس والحـزيب والتنظيمـي‪ ،‬بصـورة‬
‫وتتمسـك بأولويـة تصحيـح العقائـد اإلسلامية‪ ،‬وترسـيخ املفاهيـم‬ ‫ّ‬ ‫صارمـة‪،‬‬
‫السـلفية يف هـذا املجـال‪ ،‬وتنقيـح علـوم الديـن‪ ،‬واالهتمام بدرجة كبيرة بعلم‬
‫الحديـث النبـوي‪ ،‬للتمييـز بين ما هـو صحيح وضعيـف‪ ،‬وهو العلـم الذي برز‬
‫فيـه ومتيـز شـيخ هـذا االتجـاه محمـد نـارص الديـن األلبـاين‪.‬‬
‫نجـد يف أغلـب الحـاالت التـي نلتقـي فيها‪ ،‬هنـا‪ ،‬ونتابع تط ّورهـا‪ ،‬أ ّن تجاربها‬
‫الشـخصية مـع هـذا التيـار‪ ،‬تشترك يف أمـور رئيسـة أه ّمهـا أ ّن مـا دفعهم نحو‬
‫هـذا التيـار واالنخـراط فيه‪ ،‬هـي «الغواية العلميـة»‪ ،‬ابتـدا ًء‪ ،‬إذ يتميز أصحاب‬
‫املنهـج السـلفي‪ ،‬عـن باقـي املـدارس اإلسلامية األخـرى‪ ،‬باالهتمام بالعلـوم‬
‫الرشعيـة‪ ،‬والتثبـت مـن ص ّحـة األحاديـث‪ ،‬والعـودة إىل النصـوص الرشعيـة‬
‫بصـورة مبـارشة‪ ،‬السـتنطاق املوقـف الفقهي املطلـوب تجاه مختلـف األحداث‬
‫والقضايـا املحيطـة‪ ،‬سـواء كانـت سياسـية أو اجتامعيـة أو حتـى شـخصية‪.‬‬
‫يبرز مـدى اهتمام التيـار السـلفي‪ -‬التقليـدي (العلمـي)‪ ،‬بالعلـوم الرشعية‪،‬‬
‫مـن خلال املنزلـة الرفيعـة واملركزيـة التـي يحتلهـا مفهـوم «طالـب العلم» يف‬
‫أوسـاط هـذا التيـار‪ ،‬فبالرغم من عـدم وجود تنظيم مؤسسي‪ ،‬أو بنية هرياركية‬
‫تجمـع أفـراد التنظيـم‪ ،‬كما هـي الحـال عنـد الجامعـات واألحـزاب اإلسلامية‬
‫األخـرى‪ ،‬فـإ ّن التمييـز يف املراتب‪ ،‬عملياً‪ ،‬يأيت بحسـب التعريـف املتداول‪ ،‬ففي‬
‫املرتبـة األوىل يـأيت مصطلـح «الشـيخ»‪ ،‬ويف الثانيـة «طالب العلـم»‪ ،‬ويف املرتبة‬
‫الثالثـة «الدارسـون»‪ ،‬وهـو تصنيـف عـام فضفـاض‪ ،‬ال يوجـد تعريـف دقيـق‬

‫‪69‬‬
‫ومحـ ّدد لـكل مـن تلـك املصطلحـات‪ ،‬وال يوجد هنالـك توافق حاسـم عىل من‬
‫يُعـ ّدون يف املنزلـة األوىل أو الثانيـة أو حتـى الثالثة‪ ،‬وال حتـى أي إطار تنظيمي‪،‬‬
‫ملـن هـم داخـل التيـار أو خارجه!‬
‫إالّ أنّـه‪ ،‬ومـن خلال النماذج‪ ،‬التـي سـنطّلع عليهـا يف الصفحـات القادمـة‪،‬‬
‫سنكتشـف بـأ ّن الرتتيـب األكثر شـيوعاً‪ ،‬يتمثّـل يف اعتبـار الشـيخ نـارص الديـن‬
‫األلبـاين‪ ،‬الـذي أوجد هـذه االتجاه منذ قدومـه إىل األردن يف بداية الثامنينيات‪،‬‬
‫ميثّـل الشـيخ الرئيـس‪ ،‬الـذي يحظـى مبوقـع رمـزي ومعنـوي‪ ،‬وهالـة كبيرة‪،‬‬
‫وأصبـح تالميـذه املقربـون‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬شـيوخ السـلفية يف األردن‪ ،‬ومـن أبرزهـم‪:‬‬
‫محمـد إبراهيـم شـقره‪ ،‬علي الحلبـي‪ ،‬مشـهور حسـن‪ ،‬سـليم الهلايل‪ ،‬مـراد‬
‫شـكري‪ ،‬محمـد موىس نصر‪.78‬‬
‫دب الخلاف بين أحـد أبـرز‬ ‫لكـن مـع وفـاة الشـيخ األلبـاين يف العـام ‪ّ ،2000‬‬
‫تالميـذه‪ ،‬وخليفتـه املنتظـر‪ ،‬محمـد إبراهيم شـقره‪ ،‬والتالميذ اآلخرين للشـيخ‪،‬‬
‫ومـن أبرزهـم علي الحلبي ومشـهور حسـن وسـليم الهلايل‪ ،‬فت ّم إقصاء شـقرة‬
‫مـن التيـار‪ ،‬والتشـهري بـه‪ ،‬ثـم يف مرحلة الحقة أُخـرج مراد شـكري‪ ،‬والحقاً ّ‬
‫دب‬
‫الخلاف بين سـليم الهاليل وعلي الحلبي‪ ،‬فأُخـرج الهاليل من قيادة هـذا التيار‪،‬‬
‫كل مـن الشـيخ عيل الحلبي ومشـهور حسـن‪ ،‬مع مجموعـة أخرى من‬ ‫وأصبـح ّ‬
‫أسـاتذة الرشيعـة يف الجامعـات األردنيـة مبثابـة املرجعيـة الدينيـة والفكريـة‬
‫لهـذا التيـار‪ ،‬فبرزت أسماء جديـدة‪ ،‬مثـل‪ :‬الدكتـور باسـم الجوابـرة‪ ،‬والدكتور‬
‫زيـاد العبـادي‪ ،‬باإلضافـة إىل أسـاتذة رشيعة آخريـن‪ ،‬مثل‪ :‬محمـد موىس نرص‪،‬‬
‫وحسين العوايشة‪.79‬‬
‫بالرغـم مـن رفـض التيـار التقليـدي ألي صيغـة مـن الصيـغ الحركيـة‬
‫(‪ )78‬حــول الســلفية التقليديــة أو املحافظــة أو العلميــة‪ ،‬بحســب املصطلــح الــذي يطلقــه‬
‫الباحثــون عليهــا‪ ،‬وتاريــخ تأسيســها وتطورهــا يف األردن‪ ،‬انظــر‪ :‬محمــد أبــو رمــان وحســن‬
‫أبــو هنيــة‪ ،‬الحــل اإلســامي يف األردن‪ :‬اإلســاميون والدولــة ورهانــات الدميقراطيــة واألمــن‪،‬‬
‫مركــز الدراســات االس ـراتيجية يف الجامعــة األردنيــة ومؤسســة فريدريــش أيــرت‪ ،‬عــان‪،‬‬
‫ط‪ ،2003 ،1‬ص‪234-230‬‬
‫(‪ )79‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪243-240‬‬

‫‪70‬‬
‫والتنظيميـة‪ ،‬بوصفهـا «بدعـاً»‪ ،‬ليسـت مـن الديـن‪ ،‬وخـارج املنهـج املتّبـع‪ ،‬إالّ‬
‫أ ّن شـيوخ التيـار (الحلبـي ومشـهور حسـن‪ ،‬وكان معهـم الهلايل سـابقاً) قامـوا‬
‫بتأسـيس مركـز األلبـاين للدراسـات‪ ،‬الـذي أصبـح مبثابـة البوتقـة املؤسسـية‬
‫الرئيسـة للتيـار‪ ،‬ويقـوم بإصـدار مجلة األصالـة وعقـد دورات ودروس يف العلم‬
‫الرشعـي‪ ،‬ثـم أطلـق شـيوخ التيـار فضائيـة جديـدة‪ ،‬هـي فضائية األثـر‪ ،‬وتبث‬
‫دروسـهم وتوضّ ـح مواقفهـم‪ ،‬باإلضافـة إىل مـن ميثّلـون معهـم الخـط الفكـري‬
‫نفسـه يف العـامل العـريب‪.‬‬
‫يف السـنوات األخيرة‪ ،‬بـرزت ظواهـر جديـدة داخـل التيـار السـلفي‪ ،‬يتمثّـل‬
‫أبرزهـا بحالـة االنشـقاقات والخصومات املتتالية والشـديدة يف أوسـاطه‪ ،‬وهي‬
‫الحالـة التـي أدت إىل إقصـاء مجموعـة مـن القيـادات التقليديـة‪( ،‬تح ّدثنـا عن‬
‫محمـد شـقرة‪ ،‬وسـليم الهاليل ومراد شـكري مـن تالميذ األلباين نفسـه) ثم مت ّرد‬
‫بعـض «طالب املشـايخ» الصاعديـن‪ ،‬وصعـدت االختالفات والسـجاالت الحا ّدة‬
‫كل من الشـيخ عمر البطوش‪ ،‬عمـر بن إبراهيم‬ ‫إىل السـطح‪ ،‬كما نـرى يف حالـة ّ‬
‫آل عبـد الرحمـن‪ ،‬امللقـب بـأيب طلحة (وهـم من تالميذ علي الحلبي‪ ،‬سـابقاً)‪،‬‬
‫وعلى املنـوال نفسـه‪ ،‬مثـة حالة مـن التململ وإرهاصـات التمـ ّرد املتعددة‪.‬‬
‫الظاهـرة الثانيـة تتمثّـل يف بـروز االختالفـات‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬بين شـيوخ التيـار يف‬
‫األردن‪ ،‬وبصـورة خاصـة علي الحلبـي‪ ،‬الـذي يعـ ّد عملياً املمسـك بأ ِز ّمـة التيار‬
‫ومفاتيحـه‪ ،‬وحلفائهـم يف السـعودية‪ ،‬وبصـورة خاصـة الشـيخ ربيـع بـن هادي‬
‫املدخلي‪ ،‬الـذي ميثّـل مـع تالميـذ األلباين امتدادا ً ملا يسـ ّمى باملدرسـة السـلفية‬
‫الجام ّيـة‪ ،‬أي تلـك التـي ال تكتفـي بعدم االنخـراط يف العمل السـيايس والحزيب‪،‬‬
‫بـل واتخـاذ مواقـف حا ّدة من اإلسلاميني اآلخرين‪ ،‬مبا يصـل يف بعض الدرجات‬
‫إىل تضليلهـم‪ ،‬والقـول بوجـوب طاعـة ويل األمـر‪ ،‬وعـدم جـواز أي صـورة مـن‬
‫صـور املعارضـة‪ ،‬والتأكيـد دومـاً على وجـوب «النصيحـة الرسيّـة» للحاكـم‪،‬‬
‫واملواقـف املتشـ ّددة والحـا ّدة مـن املخالفين يف داخـل التيـار السـلفي نفسـه‪،‬‬
‫سـواء كانـوا مـن الجهاديين (يطلقـون عليهم وصـف الخـوارج والتكفرييني)‪ ،‬أو‬
‫حتـى السـلفيني الحركيين أو اإلصالحيني‪ ،‬مثل محمد رسور زيـن العابدين‪ ،‬عبد‬
‫الرحمـن عبـد الخالـق‪ ،‬د‪ .‬سـلامن العـودة وسـفر الحـوايل‪ ،‬وغريهم‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫أ ّمـا الظاهـرة الثالثـة واملهمـة‪ ،‬فتتمثّـل يف بـروز صـف جديـد مـن القيادات‬
‫الشـبابية يف أوسـاط هـذا التيـار‪ ،‬وأغلبهـم ممـن أنهـوا الدراسـات العليـا يف‬
‫الرشيعـة اإلسلامية أو يف طريقهـم إىل ذلـك‪ ،‬وهـي حالة جديدة‪ ،‬بـل ومخالفة‬
‫متاماً للمراحل السـابقة من عمر التيار‪ ،‬يف األردن‪ ،‬عندما كان شـيوخه يسـخرون‬
‫مـن أسـاتذة الجامعـات‪ ،‬ويقللـون مـن شـأن الشـهادات الجامعيـة‪ ،‬بينما نرى‬
‫حاليـاً الجيـل القيـادي الصاعـد الجديـد يحـرص على نيـل الرشعيـة األكادميية‪،‬‬
‫فبإطاللـة خاطفـة على هـذا الجيـل سـنجد أسما ًء متداولـة مؤث ّـرة‪ ،‬مـن ذوي‬
‫الشـهادات العليـا‪ ،‬مثـل حمـزة املجايل‪ ،‬محمـد الرمحي‪ ،‬معاذ العوايشـة‪ ،‬أحمد‬
‫أبـو سـيف‪ ،‬محمـود محاديـن وغريهم‪.‬‬
‫يحمـل عـدد مـن القيـادات األكادمييـة الجديـدة يف األوسـاط السـلفية‬
‫التقليديـة بـذور «التمـ ّرد الناعـم» على املشـيخة الحاليـة‪ ،‬عبر العـودة إىل‬
‫التأكيـد على مبـادئ الدعـوة الرئيسـة املعروفـة‪ ،‬ويتمثّـل برفـض منـح الهالـة‬
‫الدينيـة السـلطوية‪ ،‬ألي مـن الفقهـاء والعلماء الكبـار‪ ،‬وهو ما جعـل من أهم‬
‫قضايـا املنهـج السـلفي رفض التعصـب املذهبي‪ ،‬لك ّن بعض القيـادات الجديدة‬
‫تـرى بـأ ّن أبنـاء التيـار أصبحـوا يُضفـون هـذه الهالـة واملنزلـة االسـتثنائية‪ ،‬بـل‬
‫وميارسـون التعصـب نحـو شـيوخ التيـار اليـوم‪.‬‬
‫تبـدو نقطـة الخالف السـابقة (بين الجيل القيادي األكادميي الجديد وشـيوخ‬
‫التيـار) مب ّررة ومنطقيـة‪ ،‬لك ّنهـا تسـتبطن مـا قـد ال يقولـه هـؤالء األكادمييـون‬
‫رصاحـةً‪ ،‬وهـو أ ّن الخالفـات التـي ظهرت بين قيـادات التيـار‪ ،‬وأ ّدت إىل إقصاء‬
‫بعضهـا‪ ،‬وهـي خالفـات اتخـذت طابعـاً خالفيـاً دينيـاً يف أحيـان‪ ،‬لك ّنهـا يف‬
‫جوهرها‪ ،‬كام يق ّر أشـخاص عديدون يف أوسـاط السـلفيني‪ ،‬ذات طابع شـخيص‪،‬‬
‫وبعضهـا أخالقـي‪ ،‬مرتبـط باألمـور املاليـة‪ ،‬والنزاهـة العلميـة‪ ،‬بـل واملصداقيـة‬
‫األدبيـة‪ ،‬وهـي جوانـب يفترض أنّهـا على درجـة مـن األهميـة والخطـورة يف‬
‫تيـار ذي طابـع دينـي‪ ،‬يدعـو إىل األخلاق والقيم‪ ،‬على الصعيد الدعـوي العام‪،‬‬
‫والصعيـد الداخلي بين األفراد أنفسـهم‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫على هـذا الصعيـد‪ ،‬ولخطـورة وحساسـية الحديـث يف مثـل هـذه القضايـا‪،‬‬
‫فـإ ّن عـددا ً مـن أبنـاء هـذا التيار املطّلعين يشيرون إىل موضوع محـاط برسيّة‬
‫كاملـة‪ ،‬وهـو مصـادر التمويـل‪ ،‬بعضهـا داخلي وآخـر خارجـي‪ ،‬وهـو املوضوع‬
‫الـذي يقـف وراء إقصـاء سـليم الهاليل‪ ،‬وسـجن أحد أبـرز الدعـاة الصاعدين يف‬
‫التيـار‪ ،‬أبـو طلحـة‪ ،‬ويطـرح تسـاؤالت حـول طبيعـة العالقـة بين شـيوخ التيار‬
‫واملؤسسـة الرسـمية يف األردن‪ ،‬واملؤسسـة الدينية الرسـمية يف اململكـة العربية‬
‫السعودية‪.‬‬
‫نتوسـع يف هـذا املوضـوع‪ ،‬فهـو ليس رئيسـياً يف اهتامماتنا هنـا‪ ،‬وال نجد‬ ‫لـن ّ‬
‫حديثـاً رصيحـا وموث ّقـا فيـه‪ ،‬إالّ أنّـه تكفي اإلشـارة هنـا إىل ما أصبـح ميثّله من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫«ثقـب أسـود» يف مصداقيـة القيـادة العلميـة واألدبيـة للتيـار‪ ،‬وعالقـة أفـراد‬
‫التيـار ببعضهم‪.‬‬
‫إذا أردنـا أن نراجـع‪ ،‬بصـورة أكرث تحديدا ً‪ ،‬ما سـبق‪ ،‬عرب رسـم خارطة القيادة‬
‫العلميـة واألدبيـة للتيار‪ ،‬فسـنجد أنّنا نتحدث عن الشـيخ الرئيس‪ ،‬محمد نارص‬
‫الديـن األلبـاين‪ ،‬الـذي اسـتقر يف األردن يف الثامنينيـات‪ ،‬ثم بـدأت مجموعة من‬
‫التالميـذ واألتبـاع تلتـف حولـه‪ ،‬وبرز خلال التسـعينيات الصـف األول املحيط‬
‫بالشـيخ‪ ،‬ويف مقدمتهـم محمـد إبراهيـم شـقرة‪ ،‬علي الحلبي‪ ،‬مشـهور حسـن‪،‬‬
‫سـليم الهلايل‪ ،‬مـراد شـكري‪ ،‬حسين العوايشـة‪ ،‬ود‪ .‬محمـد مـوىس نصر‪ ،‬لكن‬
‫خـرج بعـد وفـاة الشـيخ األلباين مـن هذا الصف‪ ،‬كل من محمد شـقرة وسـليم‬
‫الهلايل ومـراد شـكري (خـرج سـابقاً)‪ ،‬ومتـت إعـادة تشـكيل القيـادة العلميـة‬
‫الجديـدة مـن عيل الحلبي‪ ،‬مشـهور حسـن‪ ،‬د‪ .‬زيـاد العبادي‪ ،‬د‪ .‬باسـم جوابره‪،‬‬
‫ويبـدو أ ّن د‪ .‬حسين العوايشـه‪ ،‬وإن كان يحظـى مبكانـة أدبيـة يف األوسـاط‬
‫السـلفية‪ ،‬إالّ أنّـه ينـأى بنفسـه عن الخالفـات واإلشـكاليات الواقعية‪.‬‬
‫إىل جـوار هـذه القيـادة متتلـك شـخصيات سـلفية أخـرى مكانـ ًة خاصـة يف‬
‫أوسـاط السـلفية التقليديـة‪ ،‬ولهـا دورهـا يف حسـم الخالفـات‪ ،‬ومتثّل جـزءا ً من‬
‫«مرجعيـة الظـل»‪ ،‬لكنهـا ليسـت بـارزة إعالميـاً‪ ،‬وال تبـدو مهتمـة بذلـك‪ ،‬وال‬
‫مـؤشا ً رئيسـاً على‬
‫متتلـك رصيـدا ً كبيرا ً مـن الكتـب واملنشـورات‪ ،‬التـي متثّـل ّ‬

‫‪73‬‬
‫صعـود وبـروز القيـادات السـلفية‪ ،‬ويف مقد ّمـة هـذه الشـخصيات‪ ،‬صالـح طـه‬
‫(أبـو إسلام)‪ ،‬والشـيخ رأفـت لطفـي‪ ،‬الـذي يعمـل موظّفـاً يف رشكـة الكهربـاء‬
‫حـي‬
‫األردنيـة‪ ،‬وعبداللـه املوصلي‪ ،‬وهـو إمـام وخطيـب يف أحـد مسـاجد ّ‬
‫عمان‪ ،‬والشـيخ غالـب السـاقي‪.80‬‬
‫الجاردنـز يف ّ‬
‫أ ّمـا الصـف األكادميـي السـلفي القيـادي الجديـد‪ ،‬الـذي بـدأ بالبروز مـع‬
‫األلفيـة الجديـدة‪ ،‬ويشـكّل جيلاً شـابّاً جديـدا ً يف التيـار‪ ،‬فنجـد فيه أسماء كل‬
‫مـن د‪ .‬حمـزة املجـايل‪ ،‬ود‪ .‬معـاذ العوايشـة‪ ،‬ود‪ .‬محمـد الرمحـي‪ ،‬ود‪ .‬محمـود‬
‫محاديـن‪ ،‬ود‪ .‬أحمـد أبو سـيف‪ ،‬وتم إقصـاء بعض الشـباب الصاعدين من هذا‬
‫الجيـل مـن ِقبـل املشـيخة التقليديـة‪ ،‬مـن أمثـال‪ :‬عمـر البطـوش وأبـو طلحـة‬
‫السـلفي‪ ،‬وهما إمامـان يف مسـاجد وزارة األوقـاف‪ ،‬تع ّرضـا يف اآلونـة األخيرة‬
‫ملشـكالت يف العمـل‪ ،‬ودخلا يف نـزاع مـع الـوزارة‪ ،‬وإىل جـوار هـذه األسماء‬
‫البـارزة الجديـدة نجد يف مدينة السـلط أحمد قطيشـات‪ ،‬وهو خطيب مسـجد‬
‫املركـز الثقـايف يف املدينة‪.‬‬
‫ليـس مـن املمكـن الحصـول على أرقـام دقيقـة تحـدد حجـم هـذا التيـار‪،‬‬
‫أو عـدد مـن ينتمـون إليـه‪ ،‬فنحـن ال نتحـدث عـن منظّمـة وال مؤسسـة أو‬
‫حتـى حـزب سـيايس أو حركـة منظمة‪ ،‬بـل عن تيار يتسـم يف عالقاتـه الداخلية‬
‫مبنطـق فضفـاض هالمـي‪ ،‬بال أطر أو حـدود ثابتة‪ ،‬تقوم العالقـة فيه عىل طابع‬
‫املشـيخة (الشـيخ‪ ،‬طلاب العلـم‪ ،‬التالميـذ)‪ ،‬والصيغـة الغالبة على العالقة بني‬
‫أبنائـه «أدبيـة» و»معنويـة»‪ ،‬وال توجـد أي صيغـة إلزاميـة‪ ،‬إالّ أ ّن ذلك ال ينفي‬
‫أ ّن هـذه «السـلطة األدبيـة»‪ ،‬ذات تأثير جوهـري عميق‪ ،‬يف قضايـا مفصلية‪ ،‬إذ‬
‫متتلـك القيـادة العلميـة‪ ،‬املرجعيـة‪ ،‬إعـادة هيكلـة وتصميـم الخطـاب الفكري‬
‫للتيـار‪ ،‬وأولوياتـه ومواقفـه‪ ،‬يف كل مرحلـة أو منعطف تاريخـي‪ ،‬مثل األحداث‬
‫الجاريـة‪ ،‬أو حتـى ترفيـع أسماء وإقصاء أخرى مـن صفوف القيـادة أو األفراد‪،‬‬
‫كما حـدث مـع النامذج املتعـددة التـي ذكرناهـا آنفاً‪.‬‬

‫(‪ )80‬لقــاء مــع أحــد أف ـراد التيــار الســلفي التقليــدي‪ ،‬رفــض ذكــر اســمه‪ ،‬يف مكتبــي يف‬
‫مركــز الدراســات االســراتيجية يف الجامعــة األردنيــة‪ ،‬عــان‪ ،‬بتاريــخ ‪.2013-12-23‬‬

‫‪74‬‬
‫ينتشر التيـار السـلفي يف محافظـات متعـددة يف اململكـة‪ ،‬لكـن كثافتـه‬
‫وحضـوره البـارز يتب ّديـان يف العاصمـة عامن‪ ،‬وبصـورة أكرث تحديـدا ً يف املناطق‬
‫الرشقية‪ ،‬ذات الطابع الشـعبي‪ ،‬والكثافة السـكانية األردنية‪ -‬الفلسـطينية‪ ،‬مثل‬
‫جبـل النصر‪ ،‬حـي نـزال‪ ،‬القويسـمة‪ ،‬ويف محافظـة الزرقـاء ومدينـة الرصيفـة‪،‬‬
‫وبدرجـة أقـل يف محافظـات الشمال‪ ،‬مثـل مدينـة إربـد‪ ،‬بينام ال يحظـى التيار‬
‫بحضـور وانتشـار كبير يف مدينـة السـلط‪ ،‬ومحافظـات الجنوب‪.‬‬
‫مـؤش جديـد عىل صعيد القيـادة‪ ،‬إذ كانت أغلب‬ ‫يشير بعـض السـلفيني إىل ّ‬
‫القيـادات الجيـل السـابق مـن أصـول فلسـطينية‪ ،‬وهـي حالـة طبيعيـة‪ ،‬نظـرا ً‬
‫ملناطـق انتشـار التيـار وكثافـة حضـوره‪ ،‬إالّ أ ّن األعـوام األخيرة شـهدت بـروز‬
‫قيـادات مـن أصـو ٍل رشق أردنيـة‪ ،‬بصـورة الفتة‪ ،‬مثل معـاذ العوايشـة‪ ،‬محمود‬
‫محاديـن‪ ،‬باسـم الجوابـرة‪ ،‬زيـاد العبـادي‪ ،‬عمـر البطـوش‪ ،‬حمـزة املجايل‪.‬‬
‫سـنقرتب يف هـذا الفصـل مـن منـاذج مختلفـة يف هـذا التيـار‪ ،‬عبر أربعـة‬
‫«حـي الطفايلـة» يف عمان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مسـتويات‪ ،‬املسـتوى األول مجموعـة مـن أبنـاء‬
‫مـن تالميـذ علي الحلبـي ومشـهور حسـن‪ ،‬وأغلبهـم مـن جيـل األربعينيـات‪،‬‬
‫واملسـتوى الثـاين الجيـل األكادميـي الجديـد‪ ،‬عبر تجربـة د‪ .‬معـاذ العوايشـة‪،‬‬
‫واملسـتوى الثالـث جيل الشـباب‪ ،‬عرب تجربة شـابني‪ ،‬األول هـو املهندس منترص‬
‫(يك ّنـي نفسـه بـأيب هـود السـلفي)‪ ،‬والثاين هو فتحـي العيل اآلثري‪ ،‬واملسـتوى‬
‫الرابـع املتمـرد على املشـيخة التقليديـة‪ ،‬وسـنتناول مثـاالً عليه عمـر البطوش‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫‪-1-‬‬
‫حي الطفايلة‪ :‬االلتزام بمنهج‬
‫سلفيو ّ‬
‫«الشيوخ»‬

‫حي الطفايلة‪ ،‬الذي اشـتهر خالل‬ ‫يف منـزل ألحـد أبنـاء الدعوة السـلفية‪ ،‬يف ّ‬
‫السـنوات األخيرة بحراكه الشـعبي املطالـب باإلصالح السـيايس؛ بوصفه األعىل‬
‫سـقفاً واألكثر تح ّديـاً وعنـادا ً يف مواجهة الحكم‪ ،‬التقينا بتسـعة مـن أبناء التيار‬
‫الحـي‪ ،‬وتع ّرفنـا عىل معامل رحلتهم مع السـلفية؛ ملـاذا اختاروا‬
‫السـلفي يف هـذا ّ‬
‫هـذا املنهـج؟ كيـف؟ وما هي أبـرز آرائهم الفكريـة والدينية ‪.‬‬
‫‪81‬‬

‫حـي الطفايلـة؟ أجابـوا‬


‫يف البدايـة‪ ،‬اسـتفرسنا عـن حجـم التيـار السـلفي يف ّ‬
‫بصعوبـة تحديـد ذلـك‪ ،‬فهنالـك مـن يلتـزم مـع املجموعـة يف كل النشـاطات‪،‬‬
‫وهنالك من يتقبل األفكار السـلفية ويؤيدها‪ ،‬ومن يرجع إىل الشـيوخ السـلفيني‬
‫يف مواقفـه وفتاويـه الفقهيـة‪ ،‬فليس هنالـك أي إطار تنظيمـي أو إداري‪ ،‬يح ّدد‬
‫مـن هـم داخـل التيـار‪ ،‬ومـن هـم خارجـه‪ ،‬لكـن املجموعـة النشـيطة‪ ،‬التـي‬
‫تتب ّنـى املنهـج السـلفي‪ ،‬بصـورة كاملـة‪ ،‬وتحضر الدروس وتشـارك يف األنشـطة‬
‫الحـي أو جـواره‬
‫ّ‬ ‫االجتامعيـة والدعويـة‪ ،‬تصـل إىل عرشيـن شـخصاً‪ ،‬مـن أبنـاء‬
‫ممـن هـم مـن أبنـاء محافظـة الطفيلـة يف األصل‪.‬‬

‫بالطبـع‪ ،‬مثـل هـذا الرقـم يبـدو متواضعـاً متامـاً عندمـا نعرف أ ّن سـكان ّ‬
‫حي‬
‫الطفايلـة يبلغـون عشرات األالف‪ ،‬لكـ ّن حجـم التيـار يقـاس بالتأثير الدعـوي‬
‫والدينـي والفكـري‪ ،‬وليـس فقـط بعـدد الناشـطني‪ ،‬فالقيمة التي يتحـدث عنها‬
‫هـؤالء األشـخاص ال تتمثـل بعمليـات تجنيـد أو تنظيـم ألشـخاص‪ ،‬إنّ ا بانتشـار‬
‫األفـكار وتعميمهـا قـدر املسـتطاع‪ ،‬وهـو مـا يعتبرون أنّهـم نجحـوا فيـه إىل‬
‫ـي الطفايلــة يف عــان‪ ،‬بتاريــخ‬
‫(‪ )81‬أجريــت هــذه املقابلــة يف منــزل أحــد هــؤالء يف حـ ّ‬
‫‪.2013-11-30‬‬

‫‪76‬‬
‫حـ ّد كبير خلال السـنوات املاضيـة‪ ،‬إذ كانـت البدايـات صعبـة‪ ،‬بخاصـة حرص‬
‫السـلفيني على االلتـزام بنمـط مـن التديـن الصـارم‪ ،‬وااللتـزام بتعاليم اإلسلام‪،‬‬
‫حتـى لـو خالفت العـادات والظواهـر االجتامعية‪ ،‬لكن مع مـرور الوقت أصبح‬
‫تقبـل املجتمـع لذلـك أكبر‪ ،‬وثقـة النـاس بالدعـوة السـلفية ازدادت‪ ،‬كما ترى‬
‫هـذه املجموعة‪.‬‬
‫ليـس مـن الصعوبـة أن تـدرك منـذ البدايـة بأنّنـا نتحـدث مـع مجموعـة‬
‫تلتـزم باملنهـج السـلفي التقليـدي‪ -‬العلمـي‪ ،‬فهـم يحضرون دروس الشـيخني؛‬
‫علي الحلبـي ومشـهور حسـن‪ ،‬ويقرتبـون يف رؤيتهـم الدعويـة والفكريـة مبـا‬
‫يفتـي به شـيوخ الدعوة السـلفية‪ ،‬ويلتزمون باألسـس الرئيسـة للمنهـج؛ الرتكيز‬
‫على العلـم الرشعـي‪ ،‬رفـض االنخـراط يف العمـل التنظيمـي والحـزيب‪ ،‬االهتامم‬
‫مبـا يعتربونـه تصحيـح املفاهيـم الدينيـة الخاطئـة يف املجتمـع‪.‬‬
‫الحـي؛ فهـم‬
‫ّ‬ ‫وفيما إذا كان هنالـك حضـور التجاهـات إسلامية أخـرى يف‬
‫يرون بأ ّن شـباب جامعة اإلخوان املسـلمني ناشـطون وفاعلون‪ ،‬ولهم نشـاطات‬
‫متعـددة‪ ،‬ويتحركـون بصـورة دائبـة لكسـب األنصـار ملواقفهـم السياسـية‬
‫املعارضـة للحكومـات‪ ،‬فيما بـدأت تظهر إرهاصـات ملتأثرين باألفكار السـلفية‬
‫الحـي‪ ،‬خلال الفترة األخيرة‪ ،‬لك ّنهـم محـدودون وغير‬ ‫ّ‬ ‫الجهاديـة مـن أبنـاء‬
‫فاعلين على أرض الواقـع‪ ،‬بينما دخـل بعض أفـراد املجموعـة السـلفية‪ ،‬هذه‪،‬‬
‫بنقاشـات معهـم عبر العـامل االفترايض (االنرتنـت) حـول املوقـف مـن العمـل‬
‫السـيايس والحكومـات ومبـدأ الخروج على الحاكم‪ ،‬الـذي ميثّل خطّاً‪ ،‬بـل ح ّدا‪ً،‬‬
‫كبيرا ً فاصلاً بين موقـف السـلفيتني التقليديـة والجهاديـة‪.‬‬
‫الحـي‪ ،‬يف التيـار السـلفي‬
‫ّ‬ ‫وبالرغـم مـن انخـراط املجموعـة السـلفية‪ ،‬يف‬
‫التقليـدي عمومـاً‪ ،‬ومشـاركة أبنائهـا يف املحـارضات والـدروس‪ ،‬واللقـاء مـع‬
‫الشـيوخ املعروفين والتأثـر بهـم‪ ،‬والتزامهـم بحضـور دروس أحد أبرز الشـيوخ‬
‫ٍ‬
‫مبسـجد يف‬ ‫الصاعديـن يف التيـار‪ ،‬د‪ .‬أحمـد أبـو سـيف‪ ،‬الـذي يخطـب – أحياناً‪-‬‬
‫حـي الطفايلـة‪ ،‬إالّ أنّهـم يؤكّدون‬
‫جبـل التـاج‪ ،‬وهو مسـجد قريـب من أطراف ّ‬
‫عـدم اهتاممهـم أو اكرتاثهـم بالخالفـات‪ ،‬التـي حدثـت يف أوسـاط التيـار منـذ‬

‫‪77‬‬
‫وفـاة األلبـاين‪ ،‬فهـم‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬يواظبون عىل سماع محارضات ودروس الشـيخني‬
‫مشـهور حسـن وعلي الحلبـي‪ ،‬منـذ البدايـة‪ ،‬ويتجنبـون متامـاً الحديـث يف‬
‫القضايـا اإلشـكالية التـي حدثـت‪ ،‬ويـرون أنهـم «غير معنيين بهـا»!‬
‫الحـي‪ ،‬للعودة إىل البدايات؛‬
‫يحفّزنـا هـذا النقاش مع املجموعة السـلفية يف ّ‬
‫كيـف تأثروا باملنهج السـلفي؟ وملاذا؟‬
‫يبرز‪ ،‬هنـا‪ ،‬تأثير ملحـوظ ألحـد أفـراد املجموعـة‪ ،‬زيـد عـواد (أبـو أسـامة)‪،‬‬
‫وهـو يف األربعينيـات مـن عمـره‪ ،‬كما هـي حـال أعمار أغلـب أفـراد هـذه‬
‫املجموعـة‪ ،‬موظـف يف القطـاع العـام‪ ،‬لكن مـن الواضـح أنّه أحد أهـم مفاتيح‬
‫حـي الطفايلـة‪.‬‬
‫تأسـيس هـذه املجموعـة ونشر الفكـر السـلفي يف ّ‬
‫حـي الطفايلة‪ ،‬سـواء منذ‬
‫وبالرغـم مـن أ ّن أفـراد املجموعـة هـم مـن أبنـاء ّ‬
‫فترة قدميـة أو حديثة‪ ،‬ويتشـابهون يف العديـد من الخصائـص االجتامعية‪ ،‬فهم‬
‫غالبـاً مـن الطبقـة الوسـطى الدنيـا‪ ،‬ومن عشـائر الطفيلـة‪ ،‬ومن بيئـة محافظة‬
‫إجماالً؛ إالّ أ ّن تجاربهـم الفكريـة السـابقة متباينـة بعض اليشء‪.‬‬
‫هنالـك مـن كان قريبـاً مـن خـط جامعـة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬ويشـارك يف‬
‫نشـاطات الجامعـة وأفكارهـا ومواقفهـا‪ ،‬ومـن كان أقـرب إىل جامعـة التبليـغ‪،‬‬
‫ومـن مل تكـن لـه سـابقة بااللتـزام الدينـي نفسـه‪ ،‬لك ّنهـم أجمعـوا على أ ّن مـا‬
‫أقنعهـم يف الدعـوة السـلفية‪ ،‬ابتـدا ًء‪ ،‬وشـكّل مصـدر الغوايـة واإلغراء األسـايس‬
‫هـو حـرص السـلفيني على العلـم الرشعـي وتركيزهـم على الشـؤون الدينيـة‪،‬‬
‫وبسـاطة الدعـوة وسـهولتها باعتامدهـا عىل «الدليـل الرشعي» (أي االسـتدالل‬
‫بالنصـوص مـن القـرآن والسـنة النبويـة)‪ ،‬والتأكّـد مـن ص ّحـة التديّـن والتزامه‬
‫بالطريقـة الصحيحـة‪ ،‬مـن خلال البحـث يف مـدى ص ّحـة األحاديـث‪ ،‬واالبتعاد‬
‫التعصـب الحـزيب‪ ،‬وعـدم خلـط الديـن بالسياسـية وباألهـواء الشـخصية‬ ‫ّ‬ ‫عـن‬
‫والسياسـية‪ ،‬بخلاف األحـزاب والجامعـات اإلسلامية األخـرى‪ ،‬التـي كان عـدد‬
‫مـن أبنـاء هـذه املجموعـة يتأثـر بهـا‪ ،‬لك ّنهـا مل تكـن تعطـي العلـم الرشعـي‬
‫ودراسـته وتدريسـه أهميـة حقيقيـة‪ ،‬وال تهتـم بالدليـل الرشعـي‪ ،‬وال بربـط‬
‫مواقفهـا ومامرسـاتها بـه‪ ،‬وتخلـط بين التعصـب السـيايس والحـزيب مـن جهـة‬

‫‪78‬‬
‫والديـن مـن جهـة أخـرى‪ ،‬بـل تغلّـب يف أحيـان كثيرة االعتبـارات الحزبية عىل‬
‫االعتبـارات الدينيـة والفقهيـة‪.‬‬
‫أحـد أفـراد املجموعـة كان يتعـاون مـع اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬ويشـاركهم‬
‫يف نشـاطاتهم املختلفـة‪ ،‬لك ّنـه اكتشـف مـع مـرور الوقـت عـدم اهتمام أفـراد‬
‫الجامعـة (اإلخـوان) بالعلـم الرشعـي‪ ،‬وعـدم التزامهـم بصلـوات الجامعـة يف‬
‫املسـاجد‪ ،‬وال بالتقيـد باألحـكام الرشعيـة‪ ،‬فشـعر بأ ّن هنالـك «تسـيّباً» كبريا ً يف‬
‫التـزام أبنـاء الجامعـة‪ ،‬مـا طرح لديـه شـكوكاً يف حرصهم عىل التديّـن الصحيح‪،‬‬
‫وشـعر بتغليبهـم االعتبـارات الحزبيـة على الجوانـب الدعويـة والدينيـة‪ ،‬بينام‬
‫وجـد األمـر مختلفـاً بالكليـة لدى الدعـوة السـلفية‪ ،‬التي تهتـم بالعلم الرشعي‬
‫وبااللتـزام الدينـي وبالتقيـد باألحـكام الرشعيـة‪ ،‬وتبتعـد متامـاً عـن االعتبارات‬
‫السياسـية والحزبية‪.‬‬
‫والحـال نفسـها‪ ،‬بالنسـبة لبعـض مـن كان يلتـزم مـع جامعـة التبليـغ‪ ،‬خالل‬
‫حقبـة الثامنينيـات‪ ،‬وقـد خـرج مـع تلـك الجامعـة إىل العديـد مـن املسـاجد‬
‫واملناطـق‪ ،‬لك ّنـه مـع مـرور الوقـت بدأ ينزعج مـن عدم اهتمام الجامعة مبدى‬
‫ص ّحـة األحاديـث‪ ،‬ومـن ضعـف مسـتوى العلـم الرشعـي لـدى أفرادهـا‪ ،‬بـل‬
‫واختزالهـا اإلسلام فقـط بـ«الخروج يف سـبيل الله»‪ ،‬ما جعله يبحـث عن تص ّور‬
‫آخـر للدعـوة وااللتـزام الدينـي‪ ،‬ومل يجـد ذلـك يف جامعـة اإلخـوان املسـلمني‪،‬‬
‫فيام وجـده يف السـلفيني‪.‬‬
‫البدايـات العمليـة كانـت عبر الشـيخ زيـد عـ ّواد‪ ،‬الـذي تأثر بالشـيخ رأفت‬
‫لطفـي‪ ،‬وهـو موظـف يف رشكـة الكهربـاء‪ ،‬أصبـح‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬مـن املعروفين يف‬
‫أوسـاط التيـار السـلفي التقليـدي‪ ،‬قـام زيـد بـدو ٍر أسـايس يف بنـاء نـواة التيـار‬
‫حـي الطفايلـة‪ ،‬وأث ّـر على اآلخريـن‪ .‬ومـع مـرور الوقـت تشـكّلت‬ ‫السـلفي يف ّ‬
‫هـذه املجموعـة السـلفية‪ ،‬وسـاعد على التقـاء أفرادهـا وتآلفهـم عامـل الـدم‬
‫حي الطفايلـة يف التعريف‬ ‫والقرابـة والجيرة‪ ،‬فأصبحـوا يقومون بـدو ٍر فاعل يف ّ‬
‫بالدعـوة اإلسلامية‪ ،‬وفقـاً للمنهـج السـلفي‪ ،‬ويحـرص أفرادهـا على حضـور‬
‫الـدروس العلميـة املتسلسـلة لـكل مـن مشـهور حسـن وعلي الحلبـي‪ ،‬ويف‬

‫‪79‬‬
‫الجـوار خطـب ودروس أحمـد أبـو سـيف‪.‬‬
‫وبالرغـم مـن أن تعليـم أغلبهـم يقـع ما بني شـهادة الدبلـوم والثانوية‪ ،‬فيام‬
‫يكمـل آخـر دراسـة بكالوريـوس الرشيعة اإلسلامية يف جامعة خاصـة‪ ،‬إالّ أنّهم‬
‫حريصـون على مواكبـة التعليـم الرشعـي‪ ،‬عبر الشـيوخ السـلفيني‪ ،‬وأيضـاً مـن‬
‫خلال الفضائيـات السـلفية‪ ،‬وتحديـدا ً فضائيـة األثر‪ ،‬التـي متثّل التيار السـلفي‬
‫التقليـدي األردين‪ ،‬باإلضافـة إىل فضائيـات أخـرى‪ ،‬مثـل‪ :‬البصيرة والرحمـة‪،‬‬
‫وبعضهـم يتابـع القنـوات العلميـة‪ ،‬مثل ديسـكفري‪.‬‬
‫الحـي‪ ،‬يف موقـع مختلـف متامـاً مـع الحـراك الشـبايب‬
‫ّ‬ ‫يقـف السـلفيون‪ ،‬يف‬
‫املعـارض املعـروف‪ ،‬الـذي يطالـب باإلصالحـات السياسـية والتغيير‪ ،‬ويخـرج‬
‫يف مسيرات ومظاهـرات‪ ،‬ويرفـع مـن سـقف شـعاراته السياسـية‪ ،‬مـا أدى إىل‬
‫اعتقـاالت عـدة طالـت أفـرادا ً منـه‪ ،‬لكـن بالرغـم مـن هـذا االختلاف مل يتح ّد‬
‫السـلفيون الحـراك‪ ،‬ومل يقفـوا يف وجهـه عالنيـة‪ ،‬إمنـا اكتفـوا بإبـداء مواقفهـم‬
‫الفكريـة منـه‪ ،‬وهـي التـي تسـتند إىل رؤيـة التيـار السـلفي التقليـدي‪ ،‬عموماً‪،‬‬
‫ضـد املظاهـرات واملسيرات‪ ،‬وأي نشـاطات سياسـية معارضـة‪ ،‬بوصفهـا إن مل‬
‫تكـن خروجـاً مسـلّحاً على الحاكـم اليـوم‪ ،‬فإنّهـا تفضي إىل خـروج مسـلّح يف‬
‫الغـد‪ ،‬كما يقـول أحـد السـلفيني يف جلسـتنا معهـم‪.‬‬
‫فاملوقـف السـلفي يـرى حرمـة املظاهـرات واملسيرات‪ ،82‬ويضيـف إىل ذلـك‬
‫زيـد عـدوان «بأنّنـا قـد نتفـق مـع مطالـب الحـراك‪ ،‬ورمبـا أهواؤنـا تدفعنا إىل‬
‫مشـاركتهم يف هـذه االحتجاجـات‪ ،‬نظـرا ً للظـروف االقتصاديـة الصعبـة‪ ،‬لكننـا‬
‫نضبـط أنفسـنا باألحـكام الرشعيـة‪ ،‬التـي ال تجيـز ذلـك»‪ .‬ويعقّـب آخـر مـن‬

‫(‪ )82‬انظــر‪ :‬محمــد أبــو رمــان‪ ،‬ســلفيو األردن وثــورات الربيــع العــريب‪ ،‬مركــز الجزيــرة‬
‫للدراســات‪ ،‬لق ـراءة نــص التقريــر كام ـاً اقــرأ الرابــط التــايل‪:‬‬
‫‪http://studies.aljazeera.net/ResourceGallery/media/Documents/20122/22/7/‬‬
‫‪012722105741145580Jordanian%20Salafia.pdf‬‬

‫‪80‬‬
‫السـلفيني على هـذا املوقـف بالقـول «أغلـب املظاهـرات واملسيرات تخـرج‬
‫ألسـباب دنيويـة‪ ،‬وال تجـد فيهـا مضمونـاً دينيـاً حقيقيـاً‪ ،‬بـل كثير مـن هـؤالء‬
‫الشـباب ليـس ملتزمـاً أصلاً بأحـكام اإلسلام‪ ،‬فكيـف نشـارك يف ذلـك؟»!‬
‫ويسـتحرض جلسـاؤنا السـلفيون‪ ،‬يف هـذه الجلسـة‪ ،‬األحاديـث النبويـة التـي‬
‫تحـثّ على الطاعـة‪ ،‬وتحذّر مـن الخروج عىل الحـكّام‪ ،‬وما قد يـؤدي إليه ذلك‬
‫مـن «فتنـة»‪ ،‬ودمـاء وفوىض‪ ،‬ويتسـاءل بعضهـم « أين نذهب بهـذه األحاديث‬
‫النبويـة الواضحـة يف تحريم املظاهـرات واالحتجاجات؟»!‬
‫أمـا عـن املوقـف مـن دخـول السـلفيني املرصيين يف مضامر العمل السـيايس‬
‫والحـزيب‪ ،‬ومشـاركتهم يف االنتخابات النيابية‪ ،‬فريفض أصحابنـا ذلك‪ ،‬ويتوافقون‬
‫مـع رأي مشـايخهم مثـل علي الحلبـي ومشـهور حسـن‪ ،‬اللذيـن رفضـا القبول‬
‫بالتجربـة املرصيـة‪ ،‬ويؤكـد أصحابنـا عىل صحة هـذا املوقـف‪ ،‬إذ ينقل أحدهم‬
‫عـن الشـيخ مشـهور قسـمه يف بدايـة هـذه التحـوالت يف موقف سـلفيي مرص‬
‫بـأ ّن «تجربتهـم ستفشـل»‪ ،‬وينهـي السـلفي حديثه بـأ ّن «األحـداث أكدت عىل‬
‫صحـة هذا القسـم»‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫‪-2-‬‬
‫معاذ العوايشة‪ :‬الجيل األكاديمي‬
‫الجديد‬

‫يف جلسـة أخـرى جمعتنـا مـع الدكتـور معـاذ العوايشـة وعـددا ً مـن أبنـاء‬
‫التيـار السـلفي‪ ،‬ممن يسيرون حالياً يف طريـق إمتام دراسـاتهم العليا‪ ،‬للحصول‬
‫على شـهادة الدكتـوراه يف الرشيعة اإلسلامية‪ ،‬يف منزله املرتبط مبسـجد الهجرة‬
‫حـي النصر يف عامن‪.83‬‬
‫يف ّ‬
‫يف هذه الجلسـة سـنجد أنفسـنا أمام الجيل الجديد يف التيار‪ ،‬ممن يحملون‬
‫أفـكارا ً جديـدة ورؤيـة نقديـة لواقـع التيـار على السـاحة األردنيـة‪ ،‬بخلاف‬
‫حـي الطفايلـة التـي تتبنـى بصـورة كاملـة مواقـف وأفـكار مشـيخة‬
‫مجموعـة ّ‬
‫التيـار التقليدي‪.‬‬
‫الدكتـور معـاذ العوايشـة‪ ،‬مـن مواليد العـام ‪ ،1975‬حصل مؤخـرا ً عىل درجة‬
‫الدكتـوراه يف الرشيعـة اإلسلامية مـن جامعـة الريمـوك‪ ،‬وكان قـد حصـل على‬
‫املاجسـتري مـن األردنيـة‪ ،‬والبكالوريوس من كليـة الدعوة وأصـول الدين (حالياً‬
‫كليـة يف جامعـة البلقـاء التطبيقيـة)‪ ،‬وهـو إمـام مسـجد دار الهجـرة وخطيب‬
‫الجمعـة فيـه‪ ،‬منذ مـ ّدة طويلة‪.‬‬
‫ولـد معـاذ يف السـعودية‪ ،‬وأمضى فترة الدراسـة األوىل والطفولـة هناك مع‬
‫أرستـه‪ ،‬فوالـده معلّـم للغـة العربيـة‪ ،‬ولـه ميول سـلفية‪ ،‬حرض معـاذ مع أرسته‬
‫إىل األردن مـع حـرب الخليـج الثانية‪ ،‬وهو يف الصف التاسـع االبتـدايئ‪ ،‬ليقطنوا‬
‫جبـل النرص‪ ،‬ويكمل دراسـته يف األردن‪.‬‬

‫(‪ )83‬جرت املقابلة بتاريخ ‪2013-12-3‬‬

‫‪82‬‬
‫يف البدايـات‪ ،‬الحـظ معـاذ تعدد الجامعات والحركات اإلسلامية يف املسـاجد‪،‬‬
‫حي جبل النرص نفسـه‪،‬‬ ‫وحتـى يف مدرسـته‪ ،‬أبـو الهدى الصيـادي الحكومية‪ ،‬يف ّ‬
‫وكانـت أجـواء االنتفاضـة الفلسـطينية تلقـي بظاللها على املشـهد األردين‪ ،‬مع‬
‫قيـام عـدد من شـباب جامعة اإلخـوان املسـلمني بالتوجه نحـو األرايض املحتلة‬
‫يف عمليـات فدائيـة‪ ،‬وكان خطـاب شـيوخ اإلخـوان يحظـى بحضـور كبير يف‬
‫األوسـاط الشعبية‪.‬‬
‫مل تطـل حيرة معـاذ تجـاه الحـركات اإلسلامية‪ ،‬فتأثير ع ّمـه الدكتـور حسين‬
‫العوايشـة كان كبيرا ً عليـه يف البدايـة‪ ،‬إذ كان ع ّمه أحد أبرز الشـيوخ السـلفيني‬
‫يف األردن‪ ،‬ويحظـى بعالقـات وطيـدة مـع الشـيوخ السـلفيني اآلخريـن‪ ،‬ويف‬
‫مقدمتهـم الشـيخ األلبـاين‪ ،‬الـذي كان يقطـن هـو كذلـك يف جبـل النصر‪.‬‬
‫هـذه البيئـة االجتامعيـة املحيطـة أتاحـت ملعـاذ فرصـة اللقـاء والجلـوس‬
‫مـع كبار الشـيوخ السـلفيني مبكّـرا ً‪ ،‬فكان يحرض جلسـاتهم الخاصة ودروسـهم‬
‫العامـة‪ ،‬ويواظـب عليهـا‪ ،‬يقترب مـن مجالـس األلبـاين‪ ،‬ويتابـع دروس علي‬
‫الحلبـي ومشـهور حسـن‪ ،‬ويحضر غالبـاً مجالـس ع ّمه‪ ،‬فـكان منذ سـ ٍّن مبكّرة‬
‫منخرطـاً يف األوسـاط السـلفية‪ ،‬وبالقـرب مـن القيـادات املعروفـة يف التيـار‪.‬‬
‫اندمـج معـاذ يف الـدروس العلميـة الرشعيـة السـلفية مبكّـرا ً‪ ،‬وتعلّـم أصول‬
‫املنهـج والعلـم الرشعـي‪ ،‬وعاش يف األوسـاط السـلفية خالل العقديـن املاضيني‪،‬‬
‫وتوسـعت دائـرة عالقاتـه‬ ‫والتحـق مبرحلـة البكالوريـوس بكليـة الرشيعـة‪ّ ،‬‬
‫ومعارفـه بالطلاب السـلفيني يف الجامعـة خلال تلـك الفترة‪.‬‬
‫خلال تلـك الفترة‪ ،‬يف التسـعينيات‪ ،‬بـدأت االختالفـات السـلفية تطفـو على‬
‫السـطح‪ ،‬وظهـرت السـجاالت بين االتجـاه التقليـدي واالتجاهـات «الرسورية»‬
‫والحركيـة‪ ،‬وبـرز الخلاف بين علي الحلبـي ولجنـة البحـوث الرشعيـة يف هيئة‬
‫كبـار العلماء يف السـعودية حـول قضايـا اإلميـان‪ ،‬ومـا تخلـل ذلـك مـن ردود‬
‫ونقاشـات علمية حـا ّدة‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫تأث ّـر معـاذ بالخطـاب السـلفي الجديـد يف السـعودية‪ ،‬الـذي كان يطرحه كل‬
‫مـن سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ود‪ .‬نـارص العمـر (يف النصـف األول مـن‬
‫التسـعينيات)‪ ،‬لكـن األثـر األكبر‪ ،‬كما يذكـر‪ ،‬كان للجانـب الدعـوي‪ ،‬فاسـتمع‬
‫ألغلـب محارضاتهـم‪ ،‬عبر أرشطة الكاسـيت‪ ،‬التـي كانت تنترش بصـورة كبرية يف‬
‫األوسـاط السـلفية واإلسلامية عموماً يف األردن‪ ،‬وتجتذب اهتامماً واسـعاً وكبريا ً‬
‫يف األوسـاط السـلفية واإلسلامية عموماً‪.‬‬
‫مل يسـتمر األمر عىل هذا النحو؛ إذ دخل الشـيوخ السـلفيون الجدد (الحوايل‬
‫والعـودة والعمـر) يف خالفـات مـع الحكـم السـعودي‪ ،‬وواجهـوا نقـدا ً كبريا ً من‬
‫التيـار السـلفي التقليـدي يف األردن‪ ،‬ملـا أثـاروه مـن مواقـف سياسـية‪ ،‬وقضايـا‬
‫تتعلّـق بـ«فقـه الواقـع»‪ ،‬أو بعبارة أخرى املوقف السـلفي من العمل السـيايس‬
‫عمومـاً‪ ،‬وانتهـى األمـر إىل اعتقالهـم‪ ،‬وإصـدار هيئـة كبـار العلماء‪ ،‬ممثلـة‬
‫بشـيوخها السـلفيني الكبـار‪ ،‬أمثـال عبـد العزيـز بـن بـاز ومحمـد صالـح ابـن‬
‫عثيمين‪ ،‬فتـوى بعـدم السماع لهـذا الخطـاب‪ ،‬وهـو موقـف توافـق متامـاً مـع‬
‫مـزاج التيـار السـلفي التقليـدي األردين السـلبي مـن هـذا الخطاب‪.‬‬
‫بالرغـم مـن أ ّن معـاذ اسـتم ّر مـع التيـار التقليـدي‪ ،‬وأصبـح أحـد «طلاب‬
‫العلـم» البارزيـن املؤث ّريـن فيـه‪ ،‬ومـن الجيـل األكادميـي الجديـد‪ ،‬بعـد أن أت ّم‬
‫ومتمسـكاً بأصـول هـذا املنهـج‪ ،‬إالّ أنّـه طـ ّور رؤيتـه الفكرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫دراسـاته العليـا‪،‬‬
‫ذات الطابـع النقـدي مـع مـرور الوقت‪ ،‬وقد تعـ ّززت بعد وفاة الشـيخ األلباين‪،‬‬
‫وتطـ ّورت مـع بـروز الخالفـات يف أوسـاط الشـيوخ الكبـار يف التيـار مـن جهـة‪،‬‬
‫ومـع التطـورات املتتاليـة املحيطـة مـن جهـة أخرى‪.‬‬

‫االرتطام الناعم بـ«الخطوط الحمراء» التقليدية‬


‫ال يفصـح د‪ .‬معـاذ‪ ،‬وتالميـذه‪ -‬بصـورة واضحـة أو معلنـة‪ -‬عـن هـذه الـروح‬
‫النقديـة‪ ،‬إالّ أنّنـا ميكـن أن نلتمـس يف ثنايـا حديثـه أهـم معـامل هـذه الرؤيـة‪،‬‬
‫وأبـرز مـا فيهـا عـدم القبـول بفكـرة تقديس األشـخاص واملشـايخ عىل حسـاب‬

‫‪84‬‬
‫املنهـج والفكـرة‪ ،‬إذ يرى العوايشـة أ ّن املنهج السـلفي يقوم على أهمية الدليل‬
‫الرشعـي ورفـض التعصـب املذهبـي والحـزيب أو لألشـخاص والشـيوخ‪ ،‬وهـو ما‬
‫بـدأ يقـع فيـه السـلفيون‪ ،‬يف بعـض األحيـان‪ ،‬عبر الهالة الكبيرة التـي مينحونها‬
‫لشيوخهم!‬
‫متتـد هـذه الرؤيـة النقديـة إىل الشـعور بضعف الجانب الرتبوي يف أوسـاط‬
‫التيـار‪ ،‬وعـدم االهتمام بـه‪ ،‬مـا أ ّدى إىل اختلاالت كبيرة‪ ،‬بالرغـم مـن أ ّن رؤية‬
‫الشـيخ األلبـاين للتغيير تقـوم عىل شـقني هام؛ التصفيـة (تنقيح العلـم الرشعي‬
‫وتصفيتـه مـن املفاهيـم واألفـكار واملعلومـات الخاطئـة والضعيفـة) والرتبيـة‪،‬‬
‫فاهتـم كثير مـن السـلفيني يف الجانـب األول وأهملـوا الجانـب الثـاين الرتبوي‪،‬‬
‫وهـو مـا ينبغي أن يُـر ّد االعتبـار له‪.‬‬
‫يُلقـي العوايشـة بنفسـه على جانب مـن «الخطوط الحمراء» ‪ -‬لدى شـيوخ‬
‫التيـار التقليـدي‪ -‬عبر تسـاؤله عـن سـبب اإلرصار على رفض العمـل الجامعي‬
‫واملؤسسي‪ ،‬مـا يجعـل التيـار السـلفي ضعيفـاً ومفـكّكاً وغير مؤث ّـر يف الحيـاة‬
‫السياسـية والعامـة‪ ،‬بالرغـم مـن أ ّن حجم التيار كبير‪ ،‬وميكن أن يُ ِ‬
‫حـدث تغيريا ً‬
‫ملحوظـاً‪ ،‬فيما لو كان أكثر تنظيماً وفعالية‪.‬‬
‫وفقـاً لهـذا اإلدراك أسـس العوايشـة جمعيـة «منـار الهـدى»‪ ،‬التـي تعنـى‬
‫بالعمـل الخيري واالجتامعـي والدعـوي‪ ،‬وهـي رؤيـة يشـاركه فيهـا رفاقـه من‬
‫الجيـل األكادميـي السـلفي الجديـد‪ ،‬ومتثّـل اخرتاقاً غري مبارش لسـطوة الشـيوخ‬
‫الكبـار الحاليين يف التيـار السـلفي‪ ،‬مـن أمثـال علي الحلبي ومشـهور حسـن‪.‬‬
‫بالرغـم مـن عـدم ظهـور الخالفـات بني أبناء هـذا الجيل ومشـيخة التيار‪ ،‬إالّ‬
‫أ ّن أبناء الوسـط السـلفي يدركون ذلك‪ ،‬لك ّن انشـغال الشـيوخ بخالفات عميقة‬
‫دبّـت يف أوسـاطهم وبخالفـات أخـرى مـع الشـيخ ربيـع بـن هـادي املدخلي‬
‫جعلهـم يتج ّنبـون الدخـول يف مواجهة مـع هذا الجيل الجديـد‪ ،‬فأصبح الخالف‬
‫كل بطريقتـه وباتجاهـه مـن دون أن‬ ‫مبثابـة «املسـكوت عنـه» حاليـاً‪ ،‬ويعمـل ٌّ‬
‫يصطـدم مبارشة بالطـرف اآلخر!‬

‫‪85‬‬
‫ال يخفـي د‪ .‬معـاذ عـدم مامنعتـه يف انخـراط السـلفيني يف العمـل السـيايس‬
‫والحـزيب‪ ،‬إذ كان ذلـك سـيأيت بنفـع عـام‪ ،‬ويخـدم املشروع اإلسلامي‪ ،‬الـذي‬
‫يحملـه التيـار السـلفي‪ ،‬ويطـ ّور موقفـه مـن الدميقراطيـة إىل درجـة قريبـة‬
‫مـن التجربـة املرصيـة‪ ،‬عبر التمييـز بين الدميقراطيـة بوصفهـا آليـات‪ ،‬مثـل‬
‫االنتخابـات وتـداول السـلطة‪ ،‬وهـو أمـر مقبـول‪ ،‬وبوصفهـا قيماً غربيـة ال بـد‬
‫مـن إقرارهـا‪ ،‬وهـو مـا يتحفّـظ عليـه العوايشـة‪.‬‬
‫يح ّدد العوايشـة أولوياته يف املرحلة القادمة باملسـاهمة يف الوصول إىل أكرب‬
‫عـدد ممكن من الشـباب السـلفي املتعلّـم الجامعي‪ ،‬والحاصل عىل الشـهادات‬
‫العليـا‪ ،‬الـذي ميكـن أن يشـارك يف تعزيـز حضور التيـار ودوره يف املشـهد العام‪،‬‬
‫ويسـاعد يف انتشـاره يف املجتمـع‪ ،‬ويف القيـام بأدوار أكبر يف املجال العام‪.‬‬
‫ليـس واضحـاً بعـد املـآل الـذي سـتصل إليـه رؤية العوايشـة ورفاقـه الجدد‬
‫وتالميـذه‪ ،‬فيما إذا كانـت سـتنتهي إىل صـدام مـع املشـيخة التقليديـة‪ ،‬أم أنّها‬
‫سـتعكس صعـود جيـل قيـادي جديد ميسـك بزمـام األمـور ويقود مسـار التيار‬
‫يف اتجـاه تصحيحـي مختلـف عن الوضـع القائـم حالياً!‬

‫‪86‬‬
‫‪-3-‬‬
‫منتم‪ ،‬حائر‬
‫ٍ‬ ‫نماذج شبابية جديدة‪:‬‬
‫ومرواغ!‬

‫مـن النماذج التـي نقـف عليهـا يف أروقـة التيـار السـلفي‪ ،‬وتنتمـي إىل جيـل‬
‫الشـباب‪ ،‬مثـاالن يلقيـان الضـوء بصورة أكرب عىل الوسـط السـلفي‪ ،‬والنقاشـات‬
‫العامـة فيـه‪ ،‬واألفـكار التـي يحملها أبنـاء هذا التيـار‪ ،‬فسنسـتمع يف الصفحات‬
‫القادمـة لـكل مـن املهنـدس منترص وفتحـي العلي لتجربتيهام مع السـلفية يف‬
‫السـنوات املاضية‪.‬‬

‫الحرية واملراوغة يف املربعات التقليدية نفسها‬


‫املثـال األول هـو فتحـي العلي‪ ،‬مـن مواليـد العـام ‪ ،1987‬يسـكن يف مدينـة‬
‫الزرقـاء‪ -‬حـي الزرقـاء الجديدة‪ ،‬غري متـزوج‪ ،‬ينتمي ألرسة من الطبقة الوسـطى‬
‫املحافظـة‪ ،‬والـده مهنـدس‪ ،‬ووالدتـه مهتمـة بالثقافـة واألدب‪ ،‬وأشـقاؤه‬
‫متعلمـون‪ ،‬أ ّمـا صاحبنـا السـلفي‪ ،‬فقـد حصل عىل شـهادة الدبلـوم يف الرشيعة‬
‫اإلسلامية‪.84‬‬
‫بـدأت تجربـة فتحـي مـع السـلفية مبكّـرا ً‪ ،‬عندمـا كان عمره قرابـة ‪ 14‬عاماً‪،‬‬
‫قبلهـا كان قريبـاً مـن جامعـة التبليغ‪ ،‬حتى شـاهد مناظرة بني أحد أبنـاء التيار‬
‫السـلفي وآخـر «تكفيري» (أي ممـن ينتمـون للسـلفية الجهاديـة)‪ ،‬فأعجـب‬
‫الفتـى بأسـلوب السـلفي‪« ،‬املسـتند إىل العلـم الرشعـي‪ ،‬واسـتحضار األدلـة‬
‫الدينيـة‪ ،‬وامتلاك الحجـج العلميـة»‪ ،‬فعـرف مـن الحارضيـن بأنّه من‬

‫(‪ )84‬جرت املقابلة يف منزله بتاريخ ‪.3102-21-4‬‬

‫‪87‬‬
‫تالميذ الشـيخ السـلفي عيل الحلبي‪ ،‬الذي كان يعطي دروسـاً يف العلم الرشعي‬
‫حـي وادي الحجـر‪ ،‬يف مدينـة الزرقـاء (ثم انتقل درسـه‬
‫يف مسـجد البخـاري‪ ،‬يف ّ‬
‫األسـبوعي الحقـاً إىل مسـجد عمر بـن الخطاب يف وسـط املدينة)‪.‬‬
‫بـدأ الفتـى يواظـب على حضور دروس الشـيخ‪ ،‬ومتابعتـه‪ ،‬وبقي عىل هذه‬
‫الحـال قرابـة ‪ 4‬أعـوام‪ ،‬وهـو يـدرس العلـوم الرشعيـة على يـد الحلبـي‪ ،‬وغريه‬
‫مـن املشـايخ‪ ،‬حتـى أصبـح معروفـاً لـدى الشـيخ الحلبـي‪ ،‬والشـيوخ اآلخريـن‬
‫البارزيـن‪ ،‬وانغمـس مـع مـرور الوقـت يف أوسـاط التيـار‪ ،‬حتـى أصبـح مـن‬
‫وملماً بالتفاصيـل الدقيقة يف اإلشـكاليات‬
‫الحلقـة القريبـة مـن مشـيخة التيار‪ّ ،‬‬
‫العلميـة والخالفـات الشـخصية‪ ،‬واألرسار التـي تتـوارى وراءهـا!‬
‫ملاذا السـلفية؟ يجيب صاحبنا عىل ذلك بأنّها توافقت مع ميوله الشـخصية‪،‬‬
‫يف حبـه للعلـم واملعرفـة واهتاممـه باملسـائل التفصيليـة والدقيقة‪ ،‬ما ينسـجم‬
‫متامـاً مـع طبيعـة املنـاخ السـلفي‪ ،‬وهـو مـا يحيلـه إىل خلفيتـه االجتامعية‪ ،‬إذ‬
‫نشـأ يف أرسة تحـب املعرفـة والعلم‪ ،‬وتهتـم باألخبـار واألدب والثقافة‪ ،‬فاملعرفة‬
‫مجبولـة يف حياتهـا اليومية‪.‬‬
‫يعترف فتحـي بـأ ّن ابتعـاد التيـار السـلفي التقليـدي عـن غمار السياسـة‬
‫واالشـتباك مـع الحكومـات سـبب رئيـس يف إقباله عليـه‪ ،‬وبخاصة يف السـنوات‬
‫األخيرة‪ ،‬التـي دخلـت فيهـا الحـركات اإلسلامية األخـرى‪ ،‬مثـل اإلخـوان‬
‫والجهاديين‪ ،‬يف صـدام مـع السـلطات العربيـة والواليـات املتحـدة األمريكيـة‪،‬‬
‫فمثـل هـذه األجـواء تدفـع مـن يفضّ ـل االبتعـاد عـن املشـكالت األمنيـة إىل‬
‫البحـث عـن تيـار إسلامي بعيـد عـن حالـة الصـدام هـذه‪.‬‬
‫السـبب الثالـث يتمثّـل يف ابتعـاد التيـار السـلفي‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬عـن التعصـب‬
‫الحـزيب‪ ،‬فهـو ال يحـ ّدد الفـرد يف إطـار تنظيمـي‪ ،‬وال يقيـد أفـكاره‪ ،‬كما هـي‬
‫حـال جامعـات إسلامية أخـرى‪ ،‬وإن كان فتحي يقـ ّر بأ ّن «التعصب للمشـيخة‬
‫واألشـخاص واألمـراض الحزبيـة بدأت تنتقل إىل السـلفية‪ ،‬يف السـنوات األخرية‪،‬‬
‫وهـو مـا ظهـر جل ّيـاً يف انفجـار الخالفـات بين الشـيوخ وعمليـات اإلقصـاء‬
‫واإلبعـاد التـي تحـدث بحـق بعـض االشـخاص مـن التيـار»‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫بعدمـا أتـ ّم فتحي دراسـة الدبلـوم‪ ،‬زكّاه بعض السـلفيني للعمل عن قرب مع‬
‫الشـيخ سـليم الهلايل‪ ،‬يف العام ‪ ،2007‬فبدأ يشـارك يف إدارة املواقـع االلكرتونية‬
‫التـي يرشف عليها الشـيخ‪ ،‬ويسـاعده يف تحقيـق الكتب الرتاثيـة‪ ،‬إالّ أن صاحبنا‬
‫وقـع يف حبائـل سـوء الطالـع‪ ،‬إذ تف ّجرت الخالفـات بعد فرتة قصيرة من عمله‪،‬‬
‫بين الهلايل والحلبـي‪ ،‬واشـتعلت الحرب اإلعالميـة واملعنوية بينهما‪ ،‬فوقع هو‬
‫ضح ّيـة بين شـيخه الحلبـي‪ ،‬الـذي درس على يديـه سـنوات طويلـة‪ ،‬والهلايل‪،‬‬
‫الـذي بدأ يعمـل معه يف اآلونـة األخرية‪.‬‬
‫مـع ذلـك اسـتمر فتحـي (الـذي يلقّـب نفسـه بـأيب متعـب‪ ،‬يف منتديـات‬
‫السـلفيني) يف العمـل مـع الشـيخ الهلايل‪ ،‬قرابـة أربعـة أعـوام‪ ،‬اكتسـب فيهـا‬
‫خبرة علميـة جديـدة‪ ،‬لك ّنه أضـاف أيضاً إىل جعبتـه مزيدا ً مـن األرسار الخاصة‬
‫املرتبطـة بالخالفـات بين مشـايخ التيـار الكبـار‪.‬‬
‫فكّـر صاحبنـا بالهـروب إىل األمـام مـن أجـواء الخالفـات الداخليـة‪ ،‬فقـرر‬
‫السـفر إىل السـعودية‪ ،‬وتواصـل مـع تالميذ مق ّربني من الشـيخ ربيـع بن هادي‬
‫املدخلي‪ ،‬أحـد أبـرز رمـوز املدرسـة الجاميـة هنـاك‪ ،‬وهـي املدرسـة املعروفـة‬
‫باملوقـف املتشـدد ضـد العمـل السـيايس ومـن أي شـكل مـن أشـكال التجمـع‬
‫والتنظيـم‪ ،‬وبتأكيدهـا على مبـدأ طاعـة ويل األمـر‪ ،‬وباإلغـراق يف عمليـة‬
‫التصنيـف تجـاه اإلسلاميني اآلخريـن وحتـى السـلفيني‪ ،‬وهـي املجموعـة‪ ،‬التي‬
‫أعلنـت الحـرب يف مرحلـة مبكّـرة عىل التيـار السـلفي الصحوي يف السـعودية‪،‬‬
‫وكان ميثّلـه حينهـا سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ونـارص العمـر وغريهـم‪.‬‬
‫وصل فتحي األثري إىل أوسـاط الشـيخ املدخيل وقد سـبقته الخالفات التي‬
‫انفجـرت بين هـذا الشـيخ وشـيخه الحلبـي‪ ،‬رمبـا هـو قـدر الشـاب أو أنّـه هو‬
‫الـذي يسير وراء هـذه األقـدار‪ ،‬وألنّـه كان يسـعى للحصـول عىل عمـل وإقامة‬
‫يف السـعودية‪ ،‬قبـل صاحبنـا بنصيحـة مـن تالميـذ املدخلي بأن يصـ ّدر مقاالً يف‬
‫املنتديـات السـلفية ضد شـيخه الحلبـي‪ ،‬ويبدو أنّـه وافق بعدما أصبـح معتادا ً‬
‫على هـذه اللغـة‪ ،‬خلال فترة عملـه مـع الشـيخ سـليم الهلايل‪ ،‬فكتـب مقـاالً‬
‫بعنـوان «اللمـع يف أن علي الحلبـي مـن أحـ ّط أهـل البـدع»‪ ،‬وتبـدو املفارقـة‪،‬‬

‫‪89‬‬
‫هنـا‪ ،‬يف أ ّن «هـذا املقـال أصبـح مـن أكثر املقـاالت شـهر ًة يف املنتديـات»‪ ،‬كما‬
‫يـروي العلي‪ ،‬بخاصـة أنّـه نقل فيه كالم املدخلي بحق الحلبي ووصفـه له بأنّه‬
‫«مـن أحـ ّط أهـل البدع»‪.‬‬
‫مل يسـتفد فتحـي مـن هـذا املقـال شـيئاً‪ ،‬وعـاد إىل األردن بعد فترة قصرية‪،‬‬
‫على وعـد من أحد الشـيوخ السـلفيني‪ ،‬األردنيين (من أصول فلسـطينية)‪ ،‬وهو‬
‫أسـامة عطايـا‪ ،‬بـأ ّن يسـاعده يف تأمين اإلقامـة يف السـعودية‪ ،‬وشـهدت تلـك‬
‫الفترة مللمـة خالفـات البيـت الداخلي السـلفي‪ ،‬مـا سـاعد عىل عودتـه للعمل‬
‫عم قـام به الشـاب‪ ،‬وض ّمه مـ ّرة أخرى إىل‬
‫مـع شـيوخ التيـار‪ ،‬وتغـايض الحلبـي ّ‬
‫أروقـة التيـار وحلقاتـه القريبة‪.‬‬
‫خلال عملـه مـع الشـيخ سـليم الهلايل يف املواقـع االلكرتونيـة‪ ،‬التـي يرشف‬
‫عليهـا‪ ،‬كانـت املفارقـة أنّـه يعمـل أيضـاً مـع أسـامه عطايـا يف املواقـع التـي‬
‫يشرف عليهـا األخير‪ ،‬بالرغـم من الرصاع الشـخيص الشـديد بني األخري وشـيوخ‬
‫السـلفية يف األردن‪ ،‬إال أ ّن صاحبنـا رفـض عرضـاً بـأن يكتـب باسـم مسـتعار يف‬
‫موقـع أسـامة عطايـا‪ ،‬ومل يتردد يف مهاجمـة األخير مبقـاالت الذعـة قاسـية‪،‬‬
‫مستنسـخاً األسـلوب السـلفي‪ ،‬الـذي أصبـح معروفـاً بهـذه الكتابـات النقديـة‬
‫الالذعـة القاسـية يف لحظـات االختلاف واالفتراق!‬
‫ما يزال فتحي‪ ،‬وهو اليوم يلج العقد الثالث من عمره‪ ،‬منغمسـاً يف الوسـط‬
‫السـلفي‪ ،‬ومق ّربـاً مـن املشـيخة التقليدية‪ ،‬ويكتـب باسـتمرار يف منتديات «كل‬
‫السـلفيني» للشـيخ علي الحلبـي‪ ،‬ويراقـب عن كثب مـا يحدث يف أروقـة التيار‬
‫ودهاليـزه مـن خالفـات ومـا ينفجـر مـن قضايـا جدليـة‪ ،‬مـا يصعـد من أسماء‬
‫ملمً باملنهج السـلفي يف معاملـه الفكرية والعلمية‬
‫ومـا يهبـط منها‪ ،‬وقـد أصبح ّ‬
‫وخفايـاه الواقعيـة‪ ،‬ومام سـاعده عىل تحصيـل هذه الخربة الرثيـة واملكثّفة هو‬
‫انخراطـه يف التيـار يف مرحلة مبكّـرة من عمره‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫النموذج السائد‪« :‬السلفي املنتمي»‬
‫املثـال الثـاين هـو منتصر‪ ،‬مهنـدس‪ ،‬من مواليد العام ‪ ،1987‬من سـكان حي‬
‫الجندويـل يف عمان الغربيـة‪ ،‬ويعمـل حالياً مدرسـاً بديلاً يف الرتبيـة والتعليم‪،‬‬
‫ويفكّـر جليّـاً يف إكمال دراسـاته العليـا يف الهندسـة‪ ،‬بعـد أن حصـل عىل درجة‬
‫البكالوريـوس مـن جامعـة البلقـاء التطبيقيـة‪ ،‬وهـو مـن أرسة محافظـة‪ ،‬مـن‬
‫الطبقة الوسـطى‪.85‬‬
‫بـدأت رحلـة منتصر‪ ،‬الـذي يك ّنـي نفسـه بـأيب هـود األثـري‪ ،‬مـع التجربـة‬
‫السـلفية بعد أن أنهى الثانوية العامة‪ ،‬قبل ذلك كان هاوياً للغناء واملوسـيقى‪،‬‬
‫بخاصـة (الطبلـة)‪ ،‬لك ّنـه بدأ يتحول نحـو التدين يف نهاية املرحلـة الثانوية‪ ،‬ما ّرا ً‬
‫بالتصـ ّوف العا ّمـي‪ ،‬يقـول «اسـتبدلت الغنـاء باألناشـيد‪ ،‬والطبلـة بالـدف‪ ،‬مـن‬
‫دون أن يحـدث ذلـك نقلـة حقيقيـة يف حيايت الشـخصية واليوميـة وأفكاري»!‬
‫إالّ أ ّن صاحبنـا رسعـان مـا تعـ ّرف يف الجامعـة على طلاب سـلفيني‪ ،‬ومـن‬
‫املفارقـات أنّـه تأثـر يف الفترة األوىل بأحـد أبنـاء التيـار السروري (السـلفي‬
‫الحـريك)‪ ،‬الـذي تتلمـذ على يـد الشـيخ سـلامن العـودة يف السـعودية‪ ،‬فكانـا‬
‫يتناقشـان يف مسـائل الرشيعـة والقضايـا السياسـية املعـارصة‪.‬‬
‫يف الوقـت نفسـه كان منتصر يجلـس مع مؤذن املسـجد القريب من منزله‪،‬‬
‫وهـو أيضـاً سـلفي التو ّجـه‪ ،‬مـا دفعـه إىل التفكري يف التعـ ّرف أكرث عىل املشـايخ‬
‫السـلفيني‪ ،‬وعلى هذا التيـار‪ ،‬وتحديد موقفـه بصورة أكرث موضوعيـة ووضوحاً‪.‬‬
‫بالفعـل‪ ،‬بـدأ منتصر يحضر دروس الشـيخ مشـهور حسـن‪ ،‬ويطّلـع على‬
‫الكتـب السـلفية‪ ،‬مثـل كتـب محمـد بـن عبـد الوهاب واأللبـاين وابـن عثيمني‪،‬‬
‫ويتع ّمـق أكثر وأكثر يف معرفـة هـذه األوسـاط‪ ،‬يف األثنـاء كان هـذا االقتراب‬
‫بقصـد املعرفـة أقـرب إىل االندمـاج يف التيـار ويف اإلمسـاك باملنهـج السـلفي‪،‬‬
‫فأصبـح مـع مـرور الوقت منخرطـاً يف الـدروس العلميـة‪ ،‬مهتامً بأدبيـات التيار‬
‫وأفـكاره‪ ،‬متبنيـاً لرؤيتـه املنهجيـة والفكريـة‪ ،‬مـا انعكس عىل شـخصية صاحبنا‬
‫(‪ )85‬جرى اللقاء يف مبنى صحيفة الغد يف عامن‪ ،‬بتاريخ ‪.3102-11-61‬‬

‫‪91‬‬
‫الشـاب‪ ،‬سـواء يف اللبـاس أو منـط التديـن‪ ،‬ويف موقفـه مـن القضايـا املحيطـة‬
‫والحـركات اإلسلامية املختلفـة‪.‬‬
‫ال تختلـف إجابـة أيب هـو ٍد السـلفي عن غريه يف السـبب الرئيـس الذي جعله‬
‫يفضّ ـل االتجاه السـلفي عىل غيره‪ ،‬ويتمثل باالهتامم بالعلـم الرشعي واملعرفة‪،‬‬
‫وهـو مـا توافـق متامـاً مـع ميـول منتصر منـذ الصغـر‪ ،‬فهـو محـب للمعرفـة‬
‫والتعليـم‪ ،‬ووجـد لدى السـلفيني الحرض نفسـه على تعليم أمـور الدين ومتييز‬
‫األحاديـث الصحيحـة مـن الضعيفـة‪ ،‬بخلاف الحركات اإلسلامية األخـرى‪ ،‬مثل‬
‫جامعـة اإلخـوان وغريهـا‪ ،‬التـي تعطـي الجانـب السـيايس والنشـاطات أهميـة‬
‫أكرب مـن العلـوم الرشعية‪.‬‬
‫انغمـس صاحبنـا السـلفي بصـورة كبيرة يف حلقـات العلـم الرشعـي‪ ،‬التـي‬
‫يعقدهـا باسـتمرار شـيوخ التيـار الكبـار‪ ،‬فحـرص على حضـور دروس الشـيخ‬
‫مشـهور والحلبـي وأيب إسلام بانتظـام‪ ،‬وعىل حضور خطبة الجمعة عند الشـيخ‬
‫حمـزة املجـايل‪ ،‬وهو من الشـخصيات األكادميية الصاعدة يف التيار‪ ،‬يف مسـجده‬
‫على طريـق املطـار‪ ،‬ويف الوقـت نفسـه أكـب منترص على القـراءة املنتظمة يف‬
‫الكتـب العلميـة والرشعية السـلفية‪.‬‬
‫تتطابـق أراء صاحبنـا مـع املواقـف املعروفة ملشـايخ التيار السـلفي‪ ،‬بخاصة‬
‫يف املجـال السـيايس‪ ،‬فهـو يرفـض العمل السـيايس والحزيب‪ ،‬ويرفـض املظاهرات‬
‫واملسيرات‪ ،‬ويـرى أنّهـا غير جائـزة رشعـاً‪ ،‬فهـي تـؤدي إىل الفـوىض والفتنـة‬
‫واملشـكالت‪ ،‬وترفـع مطالـب يف أغلبهـا ذات طابـع دنيـوي‪ ،‬ال دينـي‪ ،‬وهي وإن‬
‫كانـت سـلمية يف مواقفهـا األوليـة املعلنـة‪ ،‬إالّ أنّهـا تـؤدي إىل الخروج بالسلاح‬
‫والعنـف يف مرحلـة الحقة‪.‬‬
‫أ ّمـا الدميقراطيـة فهـي‪ ،‬وفقـاً لصاحبنـا‪ ،‬مصطلح فضفاض‪ ،‬غير محدد‪ ،‬لكنها‬
‫يف جوهرهـا تعنـي حكم الشـعب‪ ،‬بينام يف اإلسلام الحكم هو للكتاب والسـنة‪،‬‬
‫ويخطِّـئ منتصر التيار السـلفي املرصي‪ ،‬الـذي قبل بالعمل الحـزيب‪ ،‬مبا يخالف‬
‫املنهـج السـلفي وأصولـه املعروفـة‪ ،‬وانخرطـوا يف االنتخابـات النيابيـة والعمـل‬
‫السـيايس‪ ،‬بينما أغلـب الشـؤون السياسـية اليـوم تخالف الرشع اإلسلامي‪ ،‬وال‬

‫‪92‬‬
‫يتوقـع أن يتمكـن السـلفيون هنـاك مـن تحقيـق أي نتائـج نوعيـة أو تغيير‬
‫حقيقـي‪ ،‬إذ فشـل اإلخـوان املسـلمون يف ذلـك‪ ،‬وهـم قـد سـبقوهم بعقـود يف‬
‫العمـل السـيايس والحزيب!‬
‫يـرى منتصر أن التغيير يحـدث عبر تغيير القاعـدة‪ ،‬أي املجتمـع‪ ،‬بتصحيـح‬
‫عقائـده الدينيـة ومفاهيمه اإلسلامية‪ ،‬والدعوة والتعليم والرتبيـة‪ ،‬حتى يصبح‬
‫املجتمـع نفسـه يف حالـة أقـرب للصلاح مـن الفسـاد‪ ،‬ملتزمـاً بأحـكام اإلسلام‪،‬‬
‫ينبـذ الربـا واملح ّرمـات وملتزمـاً ذاتيـاً بشرع اللـه وأحكامـه‪ ،‬فهـذا هـو املنهج‬
‫الصحيـح يف التـد ّرج يف اإلصلاح والتغيير‪ ،‬مـا مي ّهـد الطريـق واقعيـاً وفعليـاً إىل‬
‫اسـتئناف الحيـاة اإلسلامية وتطبيـق الرشيعـة‪ ،‬وهـو «حلـم» يعترف صاحبنـا‬
‫بـأ ّن تحقيقـه على املدى املنظور مـن الصعوبة مبـكان‪ ،‬لك ّن محـاوالت اإلصالح‬
‫والحـ ّد مـن األرضار والفسـاد أفضل مـن الجلـوس أو اختيار املسـارات الخاطئة‬
‫يف التغيير والعمل‪.‬‬
‫ينحـاز صاحبنـا السـلفي إىل شـيوخ منهجـه يف موقفهـم مـن املعارضـة‬
‫رسا ً‪ ،‬وعدم إظهـار املعارضة‪ ،‬ويرى‬ ‫السياسـية‪ ،‬بقولـه بضرورة مناصحة الحاكـم ّ‬
‫بـأ ّن السـلفيني الحركيين‪ ،‬أمثـال سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة‪ ،‬قـد خلطـوا‬
‫املنهـج السـلفي بالحزبيـة والحركيـة اإلخوانيـة‪ ،‬وهـذا خطـأ‪ ،‬وأدت حركتهـم‬
‫إىل مشـكالت كبيرة‪ ،‬بلا نتائـج تذكـر‪ ،‬أ ّمـا الجهاديـون فريفض أن يُطلـق عليهم‬
‫مصطلـح «السـلفيني»‪ ،‬فهـو يراهـم تكفرييين‪ ،‬بعيديـن عـن املنهـج السـلفي‪،‬‬
‫فالتقسـيامت الحاليـة للسـلفية ليسـت صحيحـة‪ ،‬كام يـرى منتصر‪ ،‬وبالرضورة‬
‫يـرى أ ّن املنهـج الوحيـد الصحيـح هـو منهـج السـلفية التقليديـة‪ ،‬أ ّمـا املناهـج‬
‫األخـرى ففيهـا انحرافـات واختلاالت متعـددة‪.‬‬
‫ينسـجم منتصر مـع مشـيخة التيـار السـلفي حتـى يف املوقـف مـن ربيـع‬
‫املدخلي‪ ،‬إذ يـرى بأنّه «شـ ّط كثريا ً يف التصنيف والر ّد على املخالفني‪ ،‬ويف الجرح‬
‫والتعديـل والحكـم على اآلخريـن‪ ،‬وانتقـل يف اآلونـة األخرية من الـر ّد عىل أهل‬
‫البـدع إىل الـرد على السـلفيني اآلخريـن‪ ،‬الذين كانـوا أصدقـاءه باألمس»!‬

‫‪93‬‬
‫ما هو طموح صاحبنا املستقبيل؟‪..‬‬
‫على الصعيـد املجتمعـي أن يكـون املجتمـع أقـرب للصلاح والتديّـن منـه‬
‫إىل الفسـاد‪ ،‬وأن يعـ ّم العلـم الرشعـي الصحيـح والتـزام النـاس بأحـكام الرشع‬
‫اإلسلامي‪ .‬أ ّمـا على الصعيـد الشـخيص فريغـب بـأن يجمع مسـتقبالً بين عمله‬
‫يف الهندسـة أو دراسـاته العليـا يف هـذا املجـال مـن جهـة‪ ،‬وأن يصبـح عاملـاً يف‬
‫العلـوم الرشعيـة يقـوم بتدريسـها لطلاب العلـم مـن جهـة أخرى‪.‬‬
‫تنسـجم الحياة الشـخصية لصاحبنا السـلفي مع معتقداته وأفكاره السـلفية‪،‬‬
‫فهـو ملتـزم بسـمته‪ ،‬كأصدقائـه السـلفيني‪ ،‬بإطلاق اللحيـة والحفـاظ على مـا‬
‫يعتربونـه «سـنناً يف الديـن»‪ ،‬وعلى صلـوات الجامعـة يف املسـجد‪ ،‬وعىل حضور‬
‫وعما يـراه مح ّرماً‬
‫الـدروس الدينيـة‪ ،‬واالبتعـاد قـدر املسـتطاع عـن االختلاط‪ّ ،‬‬
‫يف الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬ويـرى حرمـة املوسـيقى‪ ،‬ويشـاهد مـن التلفزيـون قناة‬
‫األثـر الفضائيـة والقنـوات العلميـة‪ ،‬وميضي جـزءا ً كبريا ً مـن وقتـه يف العبادات‬
‫والعلـم الرشعي‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫‪-4-‬‬
‫عمر البطوش‪ :‬االنقالب على‬
‫األيديولوجيا التقليدية‬

‫«صنـع مبكّـرا ً»‪ ،‬فوالده أحد شـيوخ‬


‫عمـر البطـوش ممـن ميكـن أن يقـال عنه ُ‬
‫االفتاء يف القوات املسـلّحة األردنية سـابقاً‪ ،‬وكان مد ّرسـاً يف كلية األمري الحسـن‬
‫للعلـوم العسـكرية‪ ،‬التـي متنـح شـهادة الدبلـوم يف العلـوم اإلسلامية وتؤهـل‬
‫األفـراد ليصبحـوا أمئـة يف املسـاجد التـي تشرف عليهـا الدائـرة يف معسـكرات‬
‫الجيـش األردين‪.‬‬
‫وأل ّن مقـر الكليـة يف مدينـة الزرقـاء‪ ،‬بـدأ عمـر حياته هناك‪ ،‬إذ سـكن والده‬
‫بالقـرب مـن عملـه‪ ،‬وبقـي حتى أنهـى املرحلـة املتوسـطة (اإلعداديـة)‪ ،‬إىل أن‬
‫تقاعـد والده مـن القوات املسـلّحة‪.86‬‬
‫عمـل والـده بعـد ذلـك يف رشكـة االسـمنت‪ ،‬فانتقلـت العائلـة إىل مدينـة‬
‫العقبـة‪ ،‬واسـتقرت هنـاك إىل أن أنهـى عمر املرحلـة الثانوية‪ ،‬ومـع بداية هذه‬
‫املرحلـة تحديـدا ً‪ ،‬عندمـا بلغ ‪ 15‬عاماً‪ ،‬بـدأت قصة صديقنا مع الفكر السـلفي‪،‬‬
‫إذ كان والـده قبـل تلـك الفترة مـن كبار جامعـة التبليـغ والدعـوة‪ ،‬التي تؤمن‬
‫بأهميـة مـا يسـمى «الخروج يف سـبيل الله» (أي االنتقال إىل مـدن وقرى‪ ،‬ورمبا‬
‫دول أخـرى‪ ،‬بدافـع الدعـوة إىل اللـه‪ ،‬واالعتـكاف أيام يف املسـاجد لتحقيق هذا‬
‫الهـدف)‪ ،‬لكـن يف العقبـة‪ ،‬ترجـم والده التحـوالت الداخلية التـي كانت تتدرج‬
‫يف قناعاتـه وأفـكاره‪ ،‬ونضجـت عمليـة تحولـه مـن التبليـغ إىل السـلفية‪ ،‬بتأثير‬
‫مـن قراءاتـه وعالقـة الصداقـة التـي كانـت تجمعـه ببعـض شـيوخ السـلفية يف‬
‫مدينـة الزرقـاء‪ ،‬مثـل مـراد شـكري‪ ،‬ووفيـق نـ ّداف‪ ،‬وعلي الحلبـي‪ ،‬كما التقى‬
‫بشـيخ هـذا التيـار نـارص الدين االلبـاين‪ ،‬وتقـ ّوت عالقته بهـذا التيار‪.‬‬
‫حي طرببور‪ ،‬يف عامن‪ ،‬بتاريخ ‪.2014-1-5‬‬
‫(‪ )86‬جرت املقابلة يف منزله يف ّ‬

‫‪95‬‬
‫ويتذكـر عمـر أ ّن والـده سـأل يف وقت سـابق أحد هؤالء الشـيوخ‪ ،‬وهو عبد‬
‫العظيـم بـدوي‪ ،‬مـن السـلفيني املرصيين املعروفين‪ ،‬وكان يقيـم يف األردن‪ ،‬عن‬
‫جامعـة التبليـغ‪ ،‬فـكان رد األخير «فيهـا خري وهـي مرحلة ال بد أن تـأيت بعدها‬
‫مراحـل أخـرى»‪ ،‬ما دفـع والده إىل التحـول الكامل نحو السـلفية!‬
‫عندمـا وصـل والـده إىل العقبـة كان قـد اسـتكمل التحـول نحـو السـلفية‬
‫والخـروج مـن جامعـة التبليـغ‪ ،‬وهـو مـا تزامـن مـع تو ّجـه عمـر بدرجـة أكبر‬
‫نحـو التديّـن واملعرفـة الدينيـة‪ .‬يصـف صاحبنا تلـك اللحظة املهمـة يف تجربته‬
‫الروحيـة والشـخصية بالقـول «عندمـا بـدأت التوجـه نحـو التديـن واملعرفـة‬
‫الدينيـة كان والـدي قـد انتقـل عمليـاً نحـو السـلفية‪ ،‬فالتقينـا عنـد هـذه‬
‫النقطـة‪ ،‬وجـدت يف مكتبتـه ومـا تحتويـه مـن كتـب سـلفية محفّـزا ً كبيرا ً يل‬
‫للقـراءة‪ ،‬وبخاصـة وأنّنـي أحـب املطالعـة واملعرفة‪ ،‬وتعـ ّزز ذلك التو ّجـه املبكّر‬
‫نحـو السـلفية مـع تحـوالت والـدي‪ ،‬وحرصـه على تعليمي تعليماً دينيـاً قوياً‪،‬‬
‫وسـاعدت عالقـة والـدي بشـيوخ السـلفية وعلامئها وطلاب العلم على تعزيز‬
‫هـذه التوجهـات واقترايب أكرث مـن هذا املنـاخ والنقاشـات العلميـة التي تدور‬
‫فيه»‪.‬‬
‫يبـدو أ ّن نـزوح عمـر املبكّـر إىل التديّـن وطلـب العلـم شـ ّجع والـده على‬
‫تعزيـز ذلـك التوجـه لديه‪ ،‬فسـاعده كثريا ً عىل طلـب العلم‪ ،‬ووضع لـه برنامجاً‬
‫علميـاً خاصـاً متوازنـاً بين العلـوم الدينيـة املختلفـة واللغـة العربيـة‪ ،‬فأنجـز‪،‬‬
‫خلال سـنوات معدودة‪ ،‬محطة مهمـة يف بنائه املعريف وقطع شـوطاً يف تجربته‬
‫الروحيـة والفكرية‪.‬‬
‫يتـول توجيهـه يف التـدرج يف القراءات والعلـوم الرشعية‪ ،‬ومينحه‬
‫كان والـده ّ‬
‫وتول بنفسـه تدريس العقيـدة والحديث وأصول‬ ‫وجبـات متوازنـة من العلوم‪ّ ،‬‬
‫تـول صديـق لوالـده تدريسـه اللغـة العربيـة‪ ،‬ومـن بين الكتـب‬‫الفقـه‪ ،‬فيما ّ‬
‫األ ّوليـة التـي بـدأ بتعلّمهـا وقراءتهـا‪ ،‬كتـاب «يف أصـول الفقه» ملحمد سـليامن‬
‫األشـقر‪ ،‬وكتـاب «مصطلـح الحديـث» ملحمـود الط ّحـان‪ ،‬و«النحـو الواضـح»‪،‬‬
‫باإلضافـة إىل عمليـة مسـتمرة متواصلـة مكثّفـة يف حفظ القـرآن الكريم وتعلّم‬

‫‪96‬‬
‫القـراءات املختلفـة فيه‪.‬‬
‫أنهـى عمـر الثانويـة العامـة‪ ،‬وعمـل يف األوقـاف بعـد ذلـك‪ ،‬وسـاعده يف‬
‫مهنتـه أنّـه وصـل إىل مرحلـة جيـدة من طلب العلـم الرشعي‪ ،‬مـا تؤهله ملهمة‬
‫اإلمامـة‪ ،‬ثـم التحـق‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬بكليـة األمري الحسـن للعلـوم اإلسلامية‪ ،‬التي كان‬
‫والـده يـد ّرس فيهـا‪ ،‬عائـدا ً إىل مدينتـه الزرقـاء‪ ،‬وتفـ ّرغ مـدة عامين (‪-2002‬‬
‫‪ )2004‬لنيـل العلـوم الرشعيـة يف هـذه الكليـة‪.‬‬
‫وبالرغـم مـن أ ّن الطابـع الـذي يغلـب على االفتـاء العسـكري وشـيوخه‪،‬‬
‫منـذ مرحلـة تأسيسـه وتطويـره على يد الشـيخ نوح القضـاة‪ ،‬وهو عـامل صويف‬
‫أشـعري‪ ،‬هـو الطابـع امللتـزم باملذاهـب الفقهيـة‪ ،‬وتفضيـل العقيدة األشـعرية‬
‫على السـلفية‪ ،‬إالّ أ ّن عمـر مل يجـد صعوبـة يف االندمـاج بامل ُنـاخ الجديـد‪ ،‬ألنّـه‬
‫تعلّـم عبر تجربـة والـده «عـدم التعصـب واالنفتـاح واملرونـة يف التعامـل مـع‬
‫املخالفين والقـدرة الج ّيـدة على االسـتامع للـرأي اآلخـر»‪.‬‬
‫بعدمـا أنهـى دراسـته يف الكليـة عـاد للعمـل يف األوقـاف إماماً ملسـجد املزار‬
‫عمان (يف العـام‬
‫الجنـويب الكبير‪ ،‬ثـم انتقـل للعمـل يف األوقـاف يف مسـاجد ّ‬
‫‪ ،)2006‬مـع اسـتمرار رحلتـه يف طلـب العلوم الرشعيـة واملعرفة‪ ،‬شـعر بالرغبة‬
‫يف البحـث العلمـي والتأليـف‪ ،‬وهـو شـعور طبيعـي لـدى أبنـاء التيار السـلفي‬
‫التقليـدي‪ ،‬إذ أ ّن هـذه الخطـوة مبثابـة انتقـال مـن طـور التعلـم األويل إىل‬
‫التمكّـن يف طلـب العلـم‪ ،‬وإيذان بصعود شـخصية جديـدة وانتقالها إىل مرحلة‬
‫جديـدة يف طلـب العلـم الرشعي‪ ،‬نحـو مرحلـة متقدمة يف صفوف هـذا التيار‪.‬‬
‫يف هـذه اللحظـة تطـ ّورت لديـه فكـرة كتاب «كشـف األسـتار عما يف تنظيم‬
‫القاعـدة مـن أفـكار وأخطـار»‪ ،‬الـذي صـدر يف العـام ‪ ،2007‬وكان صاحبنـا‬
‫محظوظـاً يف التوقيـت‪ ،‬إذ كانـت القاعـدة تعيـش مرحلـة ذهبيـة يف العـراق‪،‬‬
‫وتـؤرق السـعودية‪ ،‬فجـاء كتابـه مبثابة ر ّد سـلفي علمي عىل القاعـدة‪ ،‬ما منحه‬
‫أهميـة لـدى املسـؤولني يف السـعودية تحديـدا ً‪ ،‬إذ كانـت الحـرب اإلعالميـة يف‬
‫القنـوات املمولـة منهـا قـد بـدأت بقـوة‪ ،‬فاسـتضافه اإلعالمـي املعـروف‪ ،‬تـريك‬
‫الدخيـل‪ ،‬يف أحـد أهـم الربامـج الحواريـة على قنـاة العربيـة حينهـا‪ ،‬وهـو‬

‫‪97‬‬
‫«إضـاءات»‪ ،‬ملناقشـة أفـكار كتابه الجديد‪ ،‬واألول يف مسيرة التأليـف والبحث‪،‬‬
‫بالرغـم أ ّن صاحبنـا كان مـا يـزال يف بدايـة العقـد الثالـث مـن عمـره‪ ،‬فيما‬
‫تخصـص ذلـك الربنامـج مبقابلـة الشـخصيات املهمـة واملفكريـن والسياسـيني‬
‫الكبار‪.‬‬
‫أصـداء الحلقـة كانـت أكبر بكثير مما تصـ ّور عمـر نفسـه‪ ،‬إذ تفاجـأ بعـد‬
‫وقـت قصير باتصـال مـن الديـوان امللكي السـعودي‪ ،‬وكان على الخـ ّط اآلخـر‬
‫مسـؤول بـارز يخبره برغبـة خـادم الحرمين بدعوتـه إىل السـعودية ومبقابلتـه‬
‫شـخصياً‪ ،‬بعدمـا شـاهد برنامجـه وأُعجِـب بطريقتـه يف الطـرح‪ ،‬وهـو مـا كان‪،‬‬
‫إالّ أ ّن الزيـارة مل تقتصر على لقـاء الرجـل األول يف النظـام‪ ،‬بـل التقـى بأغلـب‬
‫املسـؤولني البارزيـن واألمـراء‪ ،‬مثـل األمير متعب واألمير نايف بن عبـد العزيز‬
‫وابنـه األمير محمـد‪ ،‬وحظـي باهتمام كبير أليـام عديـدة هناك‪.‬‬
‫عـاد عمـر إىل األردن‪ ،‬وإىل عملـه يف اإلمامـة‪ ،‬وقـد أغرتـه هـذه التجربـة‪ ،‬وما‬
‫كتـب أخـرى يف االتجاه نفسـه‪ ،‬فألّف‬
‫نالـه على أثرهـا مـن صيت‪ ،‬على تأليف ٍ‬
‫كتـاب «إعلام األنام بسماحة وعدل اإلسلام وتحذيره من اإلرهـاب واإلجرام»‪،‬‬
‫وقـد طبعتـه وزارة الثقافـة‪ ،‬وتولّـت نشره وتوزيعه‪ ،‬ثـم ألّف كتابـاً آخر يرشح‬
‫فيـه «رسـالة عمان»‪ ،‬التـي أطلقهـا األمير غـازي برعايـة ملكيـة وتهـدف إىل‬
‫تقديـم منـوذج أردين إسلامي يف التسـامح والتعدديـة بني املذاهـب والطوائف‪،‬‬
‫يف مواجهـة التطـرف الفكـري واأليديولوجـي‪ ،‬بخاصـة بعـد تفجيرات عمان يف‬
‫العـام ‪ ،2005‬فصـدر كتابـه «إغاثـة اللهفان برشح رسـالة عمان»‪ ،‬وتولت نرشه‬
‫وتوزيعـه أمانـة عمان الكربى‪.‬‬
‫أراد صاحبنـا اسـتكامل نجاحـه يف هـذه املؤلفـات ومـا وفّرتـه لـه من حضور‬
‫إعالمـي وموقـع يف املشـهد السـلفي يف تأسـيس مركـز متخصـص يف تدريـس‬
‫العلـوم الرشعيـة وقـراءات القـرآن الكريـم‪ ،‬وهـو مـا حـدث فعلاً يف العـام‬
‫‪ ،2010‬فأنشـأ «مركـز اإلمـام ابـن عامر الشـامي للقـراءات القرآنية والدراسـات‬
‫حـي طرببـور قريبـاً مـن املسـجد الـذي ّ‬
‫يتـول اإلمامـة والخطابـة‬ ‫الرشعيـة» يف ّ‬
‫فيه ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫إىل تلـك اللحظـة كانـت تجربتـه الروحيـة والفكرية والعلمية تسير يف خ ّط‬
‫محـ َدد واضـح‪ ،‬ضمـن املسـار السـلفي التقليـدي‪ ،‬عبر تلقـي العلـوم الرشعية‪،‬‬
‫واسـتكامل مراحـل مهمـة منهـا‪ ،‬ثـم االنتقـال إىل مرحلـة طلب العلـم والبحث‬
‫العلمـي والتأليـف والتصنيـف‪ ،‬مـا ميثـل درجـة متقدمـة يف أعراف هـذا التيار‪،‬‬
‫مـع صلـة جيـدة بالدولـة مـا جعلها تتبنـى كتبـه وتوزّعها‪.‬‬
‫ال نعـرف‪ ،‬تحديـدا ً‪ ،‬موقـف «املشـيخة السـلفية» التقليدية‪ ،‬مـن هذا العبور‬
‫الرسيـع لصاحبنـا إىل مرحلـة طلـب العلـم والتأليف وتأسـيس مركـز متخصص‬
‫للدراسـات‪ ،‬لكـن مل يكـن هنالـك قبـول علني واضـح أو تتويج رسـمي من قبل‬
‫هـذه املشـيخة للنجـم الجديد يف السماء السـلفية‪ ،‬وال عدائية معلنـة‪ ،‬فكانت‬
‫األمـور أشـبه بقبولـه والعمـل على احتوائـه‪ ،‬بخاصـة بعـد الصيـت الـذي حاز‬
‫مت عالقتـه باألطراف الرسـمية!‬‫عليـه‪ ،‬مـا ّ‬

‫رس؟‬
‫االنقالب الفكري‪ :‬ما هو ال ّ‬
‫مـن السـهولة البالغـة ملـن يقـرأ صفحـة عمـر البطـوش عىل موقـع التواصل‬
‫االجتامعـي (الفيـس بـوك) أن يكتشـف حجـم االنقلاب الذي حـدث يف رؤيته‬
‫الفكريـة‪ ،‬تحديـدا ً تجـاه الواقـع السـيايس العـريب ومنهـج التغيير السـلفي‬
‫املطلـوب‪ ،‬فهـو يتحـ ّدث بقناعـات رصيحـة‪ ،‬كما سـنالحظ الحقـاً‪ ،‬فيما يتعلّق‬
‫رس هـذا االنقالب؟‬‫باملعارضـة والعمـل السـيايس واملوقف مـن الحكومات‪ .‬فام ّ‬
‫يؤكّـد صاحبنـا أ ّن األفـكار التـي يتحـدث عنهـا اليـوم ليسـت جديـدة‪ ،‬بـل‬
‫بـدأت معـه منـذ سـنوات‪ ،‬عندمـا أخـذ يتفحـص ويعيـد النظـر يف قناعاتـه‬
‫املسـتمدة مـن تجربتـه مـع السـلفية التقليدية‪ ،‬لكن هـذه املراجعـة الذاتية مل‬
‫يعبر عنهـا بوضـوح عبر صفحته على الفيـس بوك‪ ،‬يف‬ ‫تنضـج إال مؤخـرا ً‪ ،‬فبـدأ ّ‬
‫األشـهر القليلـة املاضية‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫رمبـا مـا سـاعد عىل إخراج «املسـكوت عنـه» يف أفكاره الجديـدة هي أزمته‬
‫األخيرة مـع وزارة األوقـاف‪ ،‬وإن كانـت بـدأت بعد االنقلاب‪ ،‬إالّ أنّها سـاعدته‬
‫على «البـوح» بذلـك عبر صفحتـه‪ ،‬وبالرغم من تزامـن أزمة األوقـاف مع هذه‬
‫التحـوالت‪ ،‬إالّ أنّـه يسـتبعد وجـود جانـب متع ّمـد فيهـا مرتبـط بالتحـوالت‪،‬‬
‫حـي طرببـور‪،‬‬
‫فهـي يف ظاهرهـا أزمـة مـع لجنـة املسـجد الـذي يعمـل بـه يف ّ‬
‫وتواطـؤ مسـؤولني يف األوقـاف مـع اللجنـة‪ ،‬لعـدم رضاهم عن االتجاه السـلفي‬
‫للبطـوش‪ ،‬وانتهـت إىل قـرار وزيـر األوقـاف حينها‪ ،‬عبد السلام العبـادي‪ ،‬بنقله‬
‫مـن مسـجده‪ ،‬األمـر الـذي رفضـه صاحبنـا‪ ،‬ففقـد وظيفتـه يف األوقـاف‪ ،‬وغادر‬
‫املسـجد الـذي كان يتـوىل اإلمامـة والخطابـة فيه منـذ أعوام‪.‬‬
‫يف حالـة عمـر‪ ،‬طالـب العلم السـلفي البـارز‪ ،‬الذي أصبح يف الفرتة السـابقة‪،‬‬
‫يعـ ّد مـن الصـف الثـاين الصاعـد يف االتجـاه التقليـدي‪ ،‬فـإ ّن فصـل قناعاتـه‬
‫السياسـية عـن الدينيـة هـو أمـر يف غايـة الصعوبـة‪ ،‬فهما متشـابكان مرتبطان‬
‫ارتباطـاً عضوياً‪ ،‬فالسياسـة تقوم عىل النص الرشعـي والتأصيل الفقهي والفتوى‬
‫الدينيـة‪ ،‬وإن كان الجانـب السـيايس هو الـذي طغى عىل هـذه التحوالت‪ ،‬فإ ّن‬
‫لديـه‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬أراء فقهيـة ورشعيـة يف جوانـب أخـرى تخالـف الفتاوى السـلفية‬
‫التقليديـة‪ ،‬وقـد أصبـح أكثر وضوحـاً يف تب ّنيهـا واإلعلان عنهـا‪ ،‬إذ يُ ِعـ ّد اليـوم‬
‫مجلّـدا ً كبيرا ً يف نقـد عـدد مـن فتـاوى الشـيخ األلبـاين‪ ،‬ما يخلـق تصادمـاً بينه‬
‫وبين «الخطـوط الحمـراء» التقليدية!‬
‫رسعـت ثـورات الربيـع العـريب (التـي بـدأت مع بواكير العـام ‪ )2011‬إفراجه‬ ‫ّ‬
‫عـن هـذه القناعـات‪ ،‬وتطويـر أسـئلة املراجعـة الذاتيـة لديـه؛ فتمثّـل السـؤال‬
‫الجوهـري يف بـؤرة الفكـر السـيايس التقليـدي باملوقـف مـن الحـكام‪ ،‬إذ يقـول‬
‫«السـلفية التقليديـة تـرى وجوب طاعـة الحاكم‪ ،‬وعدم جـواز الجهر مبعارضته‪،‬‬
‫وتتبنـى مبـدأ «النصيحـة الرسيّة» لـه‪ ،‬يف مواجهـات املخالفـات واألخطاء‪ ،‬لكن‬
‫بالنظـر إىل الواقـع فـإ ّن الطريقـة الوحيدة ملواجهـة هذه االنحرافـات واألخطاء‬
‫هـي العمـل السـيايس السـلمي املـدين‪ ،‬إذ ال توجـد وسـيلة مقنعـة لتحقيـق‬
‫مبـدأ «النصيحـة»‪ ،‬فذلـك ال يجـدي يف التغيير وال التأثير»‪ .‬ثم يخلـص إىل « أ ّن‬
‫املشـاركة يف العمـل السـيايس أصبحت اليوم رضورة عرصيـة‪ ،‬ومن خالل فهمي‬

‫‪100‬‬
‫ألصـول املنهـج السـلفي العـام فإنـه ال يناقـض مع مرشوعيـة العمل السـيايس‪،‬‬
‫بـل تلـك املشـاركة تسـاهم يف تقليل املفاسـد وجلـب املصالح»‪.‬‬
‫وإذا كانـت الدميقراطيـة نظامـاً كفريـاً‪ ،‬كما يـرى السـلفيون‪ ،‬فيتسـاءل‬
‫ر؟»! حتـى‬‫صاحبنـا «مـا املانـع يف أن ننخـرط يف العمـل السـيايس لتقليـل الش ّ‬
‫الشـيخ األلبـاين‪ ،‬وفقـاً لعمـر‪ ،‬كان لـه رأي مغايـر ملـا اسـتقرت عليـه فتـاوى‬
‫السـلفيني اليـوم‪ ،‬إذ أجـاب عندمـا سـئل عـن االنتخابـات النيابيـة بالقـول «إذا‬
‫كان هنالـك مسـلم صالـح فمـن بـاب تقليـل الشر‪ ،‬نصـ ّوت لـه»‪.‬‬
‫وإذا كان التقليديـون اليـوم يتبعـون مبـدأ «املشـاركة يف االنتخابـات مـن‬
‫دون الرتشـيح»‪ ،‬اسـتنادا ً إىل هـذه الفتـوى‪ ،‬فـإ ّن عمـر يتقـدم خطـوات لألمـام‬
‫قاطعاً مسـافة أوسـع عـن التيار التقليـدي‪ ،‬بإعادة النظـر يف املوقف من العمل‬
‫الحـزيب نفسـه إذ يـرى بأ ّن السـلفيني يخلطون بين مفهوم الحزبيـة القائم عىل‬
‫التعصـب وتفريـق األمـة والصراع الداخلي وبين الحزبيـة القامئـة على العمل‬
‫السـيايس وتنميـة املجتمـع وتطويـر العمـل العـام وتنظيمـه‪ ،‬وهـي الخالصـة‬
‫التـي وصـل إليها مـن خالل قراءتـه يف كتب اإلخـوان املسـلمني والتأصيل الذي‬
‫يسـتندون إليـه يف ولـوج العمـل الحزيب والسـيايس‪ ،‬وبـات يتفق معهـم يف هذا‬
‫التمييز‪.‬‬
‫ليـس ذلـك فحسـب! بـل تصـل مراجعـات عمـر إىل حالـة مـن القطيعـة‬
‫الحقيقيـة مـع الفكـر التقليـدي الـدارج‪ ،‬إذ وجـد أ ّن الشـعوب العربيـة قـادرة‬
‫على صناعـة التغيير والتحرك والدفاع عـن حقوقها وحرياتها‪ ،‬كما أثبت الربيع‬
‫العـريب‪ ،‬لكـن مـا كان يكبّلها هـي «تلك النظريات والفتـاوى يف طاعة ويل األمر‪،‬‬
‫واألطروحـات التـي تحـ ّد من حريـة التعبري والدفـع باتجاه اإلصالح السـيايس»‪.‬‬
‫أمـا آراؤه التـي صدمـت أبنـاء التيـار التقليـدي وانعكسـت يف السـجال‬
‫على املنتديـات السـلفية‪ ،‬مـا دفـع ببعـض طلاب العلـم مـن هـذا االتجـاه‬
‫للتصـ ّدي لـه‪ ،‬فيخربنـا عنهـا هو بنفسـه «الخـروج على الحاكم محـ ّرم يف الفكر‬
‫التقليـدي ومرتبـط مبـا يعتبر «كفـرا ً بواحـاً»‪ ،‬ومعلّـق بتربير آخر وهـو الخوف‬
‫مـن املفاسـد الكبيرة املرتتبـة على ذلـك‪ ،‬إالّ أ ّن اإلشـكال املنهجـي والكبير أ ّن‬

‫‪101‬‬
‫السـلفيني يعتبرون هـذه مـن قضايـا اإلجماع بين العلماء والفقهاء املسـلمني‬
‫السـنة‪ ،‬وهـو ما نقـرأه يف كتـب العقائد السـلفية واألدبيات الفقهيـة املعارصة‪.‬‬
‫لكـن هـذا اإلجماع غري صحيـح‪ ،‬فهنالك اختالف بين العلامء والفقهـاء يف هذه‬
‫املسـألة‪ ،‬مـا يعنـي أنّها من املسـائل الخالفية‪ ،‬التـي تتعدد فيها اآلراء‪ ،‬وليسـت‬
‫قضايـا محسـومة مرتبطـة بالعقيدة السـلفية‪ ،‬فإذا أثبتنا االختلاف‪ ،‬كام فعلت‪،‬‬
‫فإنّنـا نوسـع مـن دائـرة التنـوع داخل البيت السـني والسـلفي نفسـه»‪.‬‬
‫يعترف صاحبنـا أ ّن الـرأي السـابق «أحدث ض ّجـة لدى التيـار التقليدي ونزل‬
‫كالزلـزال»‪ ،‬وبالرغـم أنّـه يقـر‪ ،‬كذلـك‪ ،‬بأنّـه مـا يـزال يـرى عـدم الخـروج على‬
‫الحاكـم‪ ،‬إالّ أنّـه ال يـرى ذلـك مبثابـة العقيـدة‪ ،‬بـل مسـألة خالفيـة‪ ،‬فضلاً أنّـه‬
‫مييـز بين العمـل املدين السـلمي‪ ،‬مـن دون السلاح‪ ،‬والعمـل العسـكري‪ ،‬بينام‬
‫مشـايخ التيـار التقليـدي يضعونهما يف املنزلـة نفسـها‪ ،‬فيرون بـأن مـن يخـرج‬
‫بالسلاح مـن «الخـوارج»‪ ،‬ومـن يعـارض سـلمياً بأنّـه مـن «الخـوارج القعدة»‪،‬‬
‫أي أنّهـم يخرجونـه مـن دائـرة أهـل السـنة والجامعـة‪ ،‬ويضعونـه يف مصـاف‬
‫فرقة الخـوارج‪.‬‬

‫االحتواء الفاشل‪ ..‬والصدام الفكري‬


‫إعلان عمـر عـن هـذه اآلراء أدى إىل صدامـه مـع أبنـاء التيـار التقليـدي‬
‫والـرد عليـه يف منتدياتهـم‪ ،‬ووصـل األمـر إىل قيـام بعـض قياداتهـم بإدانتـه‬
‫والتشـكيك فيـه‪ ،‬والعمـل على إخراجـه مـن الدائـرة السـلفية‪ ،‬ف ُنقـل إليه قول‬
‫أحـد الشـيوخ السـلفيني (أبـو اليسر) «إن عمـر البطـوش عنـده طا ّمـات» (أي‬
‫كـوارث يف تفكيره)‪ ،‬ويـروي لنـا أحـد السـلفيني بأنّـه حـذّر عمـر مـن تنكيـل‬
‫املشـيخة السـلفية بـه‪ ،‬كما حدث مع غيره ممن خرجـوا عىل الخـط التقليدي‬
‫املعـروف‪.87‬‬

‫(‪ )87‬لقـاء مـع هـذا السـلفي‪ ،‬الـذي فضل عدم ذكر اسـمه‪ ،‬يف مكتبـي يف الجامعـة األردنية‪،‬‬
‫بتاريخ ‪.3102-21-5‬‬

‫‪102‬‬
‫حدثـت محـاوالت الحتـواء املتمـرد الجديـد عبر املشـيخة السـلفية‪ ،‬وتط ّوع‬
‫بعـض أبنـاء التيـار برتتيـب لقاء له مـع بعض الشـيوخ ملناقشـة اآلراء الجديدة‪،‬‬
‫لكنـه اعتـذر عـن ذلـك معلالً هذا املوقف بـأ ّن «الحوار ال يجـدي‪ ،‬فالهدف منه‬
‫االحتـواء وليـس النقـاش العلمي والفكـري الحقيقي»‪.‬‬
‫عندمـا وصلـت األمـور إىل ح ّد التطاول عليه شـخصياً يف بعض هذه املنتديات‬
‫أرسـل برسـالة غاضبة إىل الشـيوخ القامئني عليها‪ ،‬بأنّه سـيتجه إىل القضاء املدين‬
‫والعشـائري‪ ،‬فتوقفـت الحملـة مؤقتـاً‪ ،‬لكنـه بالضرورة مل يعـد من املحسـوبني‬
‫على هـذا التيار مـع هذا التوجـه الجديد‪.‬‬
‫مـا يـزال يحتفـظ عمـر بنسـبة كبيرة مـن تالميـذه ومريديه‪ ،‬الذين يدرسـون‬
‫عنـده العلـوم الرشعيـة‪ ،‬فهـم – كما يقـول‪ -‬نخبـة متميـزة نوعيـة‪ ،‬إذ اهتـم‬
‫عـادة بالنوعيـة وليـس بالكميـة‪ ،‬كما أنّه يتلقى رسـائل من بعض طلاب العلم‬
‫السـلفيني الجـدد‪ ،‬يؤكـدون لـه موافقتهم ملـا يطرحـه‪ ،‬لكنهم يعرتفـون أنّه أكرث‬
‫جـرأة منهـم على حسـم هـذه القضايـا‪ ،‬والبـوح مبـا يقتنع بـه ويصـل إليه من‬
‫مواقـف وأراء رشعيـة وفقهية وسياسـية‪.‬‬
‫يعترف صاحبنـا‪ ،‬كذلـك‪ ،‬بـأ ّن هـذه املواقـف الجديـدة مل تؤ ّد فقـط إىل تغيري‬
‫موقـف التيـار التقليـدي منـه‪ ،‬بـل قـد ينتهـي إىل موقـف مشـابه مـع األجهـزة‬
‫الرسـمية األردنيـة‪ ،‬التي تحظـى بعالقة جيدة مع التيار التقليدي‪ ،‬فذلك سـيج ّر‬
‫لـه خصومـاً وعـداوات كانت يف املـايض تع ّد رصيـدا ً وصداقـات وتحالفات!‬
‫عندمـا ينظـر صاحبنـا إىل التيـارات والتوجهـات السـلفية مـن حولـه؛ فإنّـه ال‬
‫يخفـي إعجابـه بنمـوذج أسـامة القـويص‪ ،‬الشـيخ السـلفي املصري‪ ،‬الـذي كان‬
‫مـن املحسـوبني على التيـار السـلفي التقليـدي‪ ،‬لك ّنـه أصبـح مشـهورا ً اليـوم‬
‫بتمـرده على الفتـاوى السـابقة وجرأتـه يف التعبير عـن قناعاتـه حتـى وإن‬
‫خالفـت وصدمـت التيـار السـلفي عمومـاً‪ ،‬مـا دفـع بالتقليديين إىل إخراجـه‬
‫مـن اعتباراتهـم‪ ،‬واالنقلاب عليه بعدما كان أحد الشـيوخ املشـهورين ويحظى‬
‫مبوقـع مهـم يف هـذا التيـار‪ ،‬ويُسـتقبل مـن شـيوخه يف األردن والـدول العربيـة‬
‫املختلفة!‬

‫‪103‬‬
‫بالرغـم مـن هـذا األعجـاب‪ ،‬إال أنـه يختلـف مع مواقـف القويص السياسـية‪،‬‬
‫ويجـد نفسـه أقـرب إىل التيـار الحريك‪ ،‬وشـخصيات مثل سـلامن العـودة‪ ،‬الذي‬
‫كان يـراه باألمـس ضـاالً‪ ،‬بينما يـرى فيـه اليـوم منوذجـاً متقدمـاً يف الدعـوة‬
‫السلفية‪.‬‬
‫هـذا االنحيـاز الجديـد دفعـه إىل إعـادة ترتيـب قراءاتـه‪ ،‬فهـو يقـرأ اليـوم‬
‫لـكل مـن سـيد قطب ومحمـد قطـب‪ ،‬وأيب األعىل املـودودي والكتـب الفكرية‬
‫التـي كان يبتعـد عنهـا يف املرحلـة السـابقة‪ ،‬لكنـه يقرأهـا حالياً برؤيـة مختلفة‬
‫منفتحـة‪ ،‬ويكمـل دراسـته الجامعيـة يف تخصـص الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬بجامعـة‬
‫العلـوم اإلسلامية يف عامن‪.‬‬
‫واليـوم يشـعر بأنّـه منسـجم مـع نفسـه وتربيتـه املبتعـدة عـن التعصـب‬
‫واالنغلاق واتهـام اآلخريـن‪ ،‬ويجـد نفسـه منفتحـاً على قبـول التعدديـة‬
‫واالختلاف بصـورة كبيرة وواسـعة‪ ،‬ما مينحـه آفاقاً جديـدة يف التفكير والتحرر‬
‫مـن املواقـف املسـبقة مـن اآلخريـن‪.‬‬
‫بقـي أن نقـول يف نهايـة الحديـث عـن هـذه التجربـة بـأ ّن عمـر مـن مواليد‬
‫العـام ‪ ،1977‬مـن محافظـة الكـرك‪ ،‬متـزوج وله أبنـاء‪ ،‬ويدير حاليـاً مركز اإلمام‬
‫ابـن عامر للدراسـات الرشعيـة والقـراءات القرآنية‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫خالصات واستنتاجات‬

‫مـن خلال التفكير يف التجـارب السـابقة‪ ،‬ومـا متثلـه مـن منـاذج يف االتجاه‬
‫السـلفي التقليـدي‪ ،‬نجـد أنّنا أمام قواسـم مشتركة عامة‪ ،‬مع بعـض االختالفات‬
‫والتباينـات الطبيعيـة‪ ،‬لكـن القاسـم املشترك األكبر بينها هـو «غوايـة العلم»‪،‬‬
‫فالسـبب الرئيـس‪ ،‬الـذي دفـع بهـم إىل أحضـان السـلفية يتمثّـل فيما يظهـره‬
‫التيـار السـلفي مـن تقديـر كبري واهتمام جوهري مبوضـوع «العلـم الرشعي»‪،‬‬
‫أي علـم الديـن وأحكامـه ورشيعتـه‪ ،‬مـا يجعل مـن التصنيف داخـل التيار يتم‬
‫على هـذا األسـاس؛ عـامل‪ ،‬طالـب علـم‪ ،‬ومتعلّم‪ ،‬بـدالً مـن الرتـب والتصنيفات‬
‫الحزبيـة والتنظيميـة لـدى جامعـة اإلخـوان املسـلمني واألحـزاب اإلسلامية‬
‫األخرى‪.‬‬
‫محلاً‬
‫العلـم يف الحالـة السـلفية يُرتجـم إىل «سـلطة املعرفـة»‪ ،‬ويكـون ّ‬
‫يحصـل قـدرا ً أكبر مـن املعرفة‬
‫للتنافـس يف التيـار بين األقـران والتالميـذ‪ ،‬مـن ّ‬
‫العلميـة الدينيـة‪ ،‬هـو مـن يرتقـي يف سـلّم التيـار‪ .‬والعلـم الرشعـي‪ ،‬كذلـك‪،‬‬
‫«سـلطة موازيـة» للسـلطة السياسـية واالجتامعيـة واملاليـة‪ .‬فكام أ ّن املسـؤول‬
‫لديـه سـلطة سياسـية والغنـي لـه سـلطة ماليـة‪ ،‬وشـيخ العشيرة لـه سـلطة‬
‫يفسر ذلـك أ ّن‬
‫اجتامعيـة؛ فـإ ّن السـلفي ميتلـك سـلطة علميـة بديلـة‪ ،‬ورمبـا ّ‬
‫أغلـب السـلفيني يف البدايـة هـم مـن ذوي أصـول فلسـطينية‪ ،‬مـن الطبقـة‬
‫محـدودة الدخـل‪ ،‬يف املناطـق الشـعبية‪ ،‬فبعض أبنـاء هذه الرشيحة سـيجدون‬
‫يف «سـلطة العلـم» تعويضـاً عن شـعورهم بالحرمان من السـلطات األخرى غري‬
‫املتاحـة‪ ،‬وال القريبـة مـن التحقـق!‬
‫يضيـف أصحـاب تلـك التجـارب أسـباباً أخـرى دفعتهم إىل التيـار التقليدي‪،‬‬
‫منهـا مـا يتميـز بـه هذا التيار مـن الرتكيز عىل الشـأن الديني املحـض‪ ،‬واالعتناء‬
‫بقضايـا التديّـن الفـردي واملجتمعـي‪ ،‬أي التعاطـي مـع الشـأن الدينـي بوصفه‬
‫جوهـرا ً نق ّيـاً غير ملتبس باالعتبـارات السياسـية والحزبية والتنظيميـة‪ ،‬التي ال‬

‫‪105‬‬
‫تـروق لكثير من الناس‪ ،‬ويشـعرون أنّها تك ّدر عليهم رغبتهم باملامرسـة الدينية‬
‫النقيـة‪ ،‬لذاتهـا‪ ،‬وهـو مـا يتوافـر يف السـلفية التـي تهتـم على صعيـد املعرفـة‬
‫بالعلـم الدينـي املحـض‪ ،‬العقيـدة والفقـه‪ ،‬وتصحيـح األحاديـث النبويـة‪ ،‬وتتم‬
‫ترجمـة ذلـك مبـارش ًة عرب السـلوك الشـخيص‪ .‬فالسـلفي هـو متديّـن بطبيعته‪،‬‬
‫يلتـزم باألحـكام الرشعيـة‪ ،‬على األقـل ظاهـرا ً‪ ،‬سـواء يف حفاظـه على صلـوات‬
‫الجامعـة‪ ،‬وااللتـزام بالسـنن النبويـة‪ ،‬بالعبـادة واللبـاس وأسـلوب الحيـاة‪ ،‬فهو‬
‫ينتمـي لهويـة دينية واضحة رصيحة‪ ،‬يف قيمه االجتامعيـة والدينية ويف مواقفه‬
‫السياسـية وحياتـه الخاصـة‪ ،‬كل ذلـك يتأسـس لديـه على «الفتـوى الرشعية»‪،‬‬
‫املبنيـة على «النـص» (القـرآن أو السـنة)‪ ،‬أو عبر تأويـل ذلـك النـص مـن قبل‬
‫العلامء املسـلمني‪.‬‬
‫تشي التجـارب السـابقة‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬بحضـور دور املسـاجد كأحـد أبـرز مصـادر‬
‫التجنيـد‪ ،‬ودروس شـيوخ التيـار املعروفين‪ ،‬ففـي جميـع تلـك الحـاالت ترددت‬
‫لدينا أسماء كل من نارص األلباين‪ ،‬وعيل الحلبي ومشـهور حسـن‪ ،‬وغريهم من‬
‫شـخصيات باتـت متثّـل اليوم املظلـة املرجعية للتيـار‪ ،‬ومتلك السـلطة املعنوية‪،‬‬
‫فتقـ ّرر املسـار العـام لـه‪ ،‬وتقـ ّرب أشـخاصاً وتب ّعـد آخريـن‪ ،‬وتدخـل يف «امللّـة‬
‫السـلفية» البعـض وتخـرج البعـض اآلخـر‪ ،‬وتصل األمـور‪ ،‬يف بعـض األحيان‪ ،‬إىل‬
‫حـروب داخليـة طاحنـة‪ ،‬متـارس فيهـا أسـلحة اغتيال الشـخصية‪ ،‬إلقصـاء بعض‬
‫املخالفين أو املتمرديـن على «املشـيخة التقليدية»‪.‬‬
‫رمبـا هـذا الـدور الكبير لـ«مشـيخة التيـار» أصبـح بديلاً عن اإلطـار الحزيب‬
‫والتنظيمـي‪ ،‬الـذي رفضـه السـلفيون بدعـوى أنّـه يـؤدي إىل الشـقاق والنـزاع‪،‬‬
‫لكـ ّن عـددا ً مـن شـباب الجيـل الصاعـد يالحظـون أ ّن «داء التعصـب» انتقـل‬
‫بالفعـل إىل التيـار عبر «املكانـة االسـتثنائية»‪ ،‬التـي متنـح للمشـيخة التقليدية‪،‬‬
‫ومـا باتـت متلكـه اليـوم مـن سـلطة معنويـة أشـد وطـأة عىل أفـراد التيـار من‬
‫أي تنظيـم سـيايس أو حـزيب!‬
‫ومما جـذب بعـض األفـراد إىل التيـار السـلفي‪ ،‬كذلـك‪ ،‬أنّـه ال يصطـدم‬
‫بالدولـة‪ ،‬وال ترتتـب عليـه تبعات أمنية‪ ،‬أو مالحقات‪ ،‬وال يشـعر أفـراده عموماً‬

‫‪106‬‬
‫بأنّهـم مهـددون يف لقمـة عيشـهم ووظائفهـم‪ ،‬كما هي حـال أغلـب الحركات‬
‫اإلسلامية اليـوم‪ ،‬التـي تقـع يف خنـدق املعارضـة؛ فالسـلفي يسـتطيع أن يكون‬
‫متدينـاً وأن يحافـظ عىل الصالة يف املسـاجد وأن يلتزم بحلقـات العلم الرشعي‪،‬‬
‫وأن يظهـر شـعائره وسـلوكه الدينـي‪ ،‬مـن دون الشـعور بخـوف أو خشـية من‬
‫الحكومـة واألجهـزة األمنيـة‪ ،‬فهـو كمـن ميتلـك «صكـوك بـراءة» عبر تزكيـة‬
‫شـيوخه‪ ،‬لكونـه مـن أبنـاء هـذا التيـار املسـامل مـن جهـة‪ ،‬وألنّـه أيضـاً يحمـل‬
‫سلاحاً مهماً‪ ،‬يتمثّـل يف الفتـاوى التي تجعل مـن طاعة ويل األمـر واجباً رشعياً‪،‬‬
‫وترفـض املعارضـة وتح ّرم املسيرات واملظاهـرات واالحتجاجات‪ ،‬وتحـ ّرم العمل‬
‫السـيايس والحـزيب‪ ،‬مـن جهـة أخـرى‪ ،‬فمثـل هـذا «العقـل السـلفي» هـو بحد‬
‫ذاتـه «ضامنـة» لصاحبـه أمـام السـلطات واألجهـزة األمنية!‬
‫التجربـة الفكريـة والروحيـة يف أروقـة السـلفية‪ -‬التقليديـة متتـاز كذلـك‬
‫بالبسـاطة والوضـوح‪ ،‬ورمبـا بعبـارة أخـرى بــ «الضحالـة»! ففـي النماذج التي‬
‫التقينـا بهـا‪ ،‬مل تكـن لديهـا خلفيـات فكريـة وسياسـية وثقافيـة سـابقة متينـة‪،‬‬
‫فأغلبهـا إمـا تعـ ّرف على السـلفية مبكّـرا ً‪ ،‬أو بعد تجربـة محدودة مـع تيارات‬
‫إسلامية‪ ،‬لك ّننـا مل نقرأ عن تجربة يسـاري أو ليبرايل أو مناضل أو مثقف تحول‬
‫نحـو السـلفية التقليديـة‪ ،‬فلـم تكـن هنالـك تضاريـس متعـددة يف التجـارب‬
‫السـابقة‪ ،‬بـل على النقيـض من ذلك نجد أنّنـا أمام هويات محسـومة‪ ،‬واضحة‪،‬‬
‫غير متوتـرة بين تجارب مختلفـة ومتباينـة‪ ،‬وال نجد هنالك طموحات سياسـية‬
‫أو شـخصية اسـتثنائية‪ ،‬فأغلـب هـذه التجـارب تذهب يف سـقف طموحها نحو‬
‫االرتقـاء داخـل التيـار إىل مرتبـة العلماء أو التط ّور الـذايت‪ ،‬علميـاً وروحياً‪.‬‬
‫وتتقاطـع ضحالـة التجربة الروحية والفكرية السـلفية مـع إحدى أبرز البنى‬
‫املهيمنـة على العقـل السـلفي‪ ،‬وتتمثـل يف تقديـس النـص وااللتـزام بظاهـره‬
‫ومنطوقـه‪ ،‬والتقليل من أهمية العقل وشـأنه‪ ،‬يف املعرفـة العلمية الدينية‪ .‬فهم‬
‫يفتخـرون بأنّهـم امتـداد ألهـل الحديث‪ ،‬ويسـخرون مـن املذاهـب العقلية يف‬
‫يتمسـكون بظاهر النصوص‪،‬‬ ‫اإلسلام‪ ،‬مثـل املعتزلـة وغريهم‪ ،‬وحتـى يف العقائد ّ‬
‫ويتجبنـون التأويـل‪ ،‬كما هي حـال الفرق األخرى مثـل املعتزلة واألشـاعرة‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫غلبـة االعتبـارات الظاهريـة أو الصوريـة‪ ،‬عىل حد تعبري أهـل املنطق‪ ،‬تتب ّدى‬
‫كذلـك يف السـلوك السـلفي‪ ،‬واملامرسـة اليوميـة‪ ،‬فاالهتمام األكرب هـو بااللتزام‬
‫باملظهـر‪ ،‬يف اللبـاس والهيئـة (إطلاق اللحيـة‪ ،‬لبـس الثـوب‪ ،‬التحـدث باللغـة‬
‫العربيـة (حتـى بـدون إتقان يف كثير من الحـاالت)‪ ،‬التقليد واملحـاكاة من قبل‬
‫التالميـذ للشـيوخ‪ ،‬سـواء يف حـركات األجسـاد أو العبـارات والعـادات‪ .‬بيـد أ ّن‬
‫هـذا االهتمام الكبير بالصـورة والظاهر ال يوازيـه يف الخطاب السـلفي اهتامم‬
‫مامثـل باملعنـى والباطـن‪ ،‬والـدالالت الحقيقية للتجربـة الدينيـة والروحية!‬
‫ال يرتبـط أبنـاء التيـار ببعضهـم بصلات دامئـة أو تنظيميـة‪ ،‬كما هـي الحال‬
‫يف تنظيمات أخـرى‪ ،‬فهـم يتمتعـون مبرونـة شـديدة يف هـذا الشـأن‪ ،‬ويعتمـد‬
‫التيـار‪ ،‬غالبـاً‪ ،‬يف عمليـات التعبئة الذاتيـة وتوجيه الرسـائل الداخلية واالتصالية‬
‫مـع املجتمـع‪ ،‬بدرجـة رئيسـة على مـا ميتلكـه مـن وسـائل إعالميـة؛ مثـل‬
‫فضائيـة األثـر‪ ،‬واملنتديـات السـلفية والـدروس العلميـة التي يعقدها املشـايخ‬
‫املعروفـون‪ .‬ويف حـال كان هنالـك أمـور خاصة للحلقات الصلبـة يف التيار‪ ،‬فيتم‬
‫نقلهـا عبر الصـف الثـاين‪ ،‬بعـد املشـايخ‪ ،‬يف املناطق املختلفـة‪ ،‬إذ ميتلـك هؤالء‬
‫األشـخاص مفاتيـح التعامـل مع طالب العلـم املقربني‪ ،‬فيتم نقل الرسـالة إليهم‬
‫بصـورة خاصـة‪ ،‬أو يُعقـد اجتماع بين الشـيوخ الكبـار‪ ،‬ويحضره البـارزون من‬
‫طلاب العلـم يف املحافظـات املختلفـة‪ ،‬ويتـم عبره نقـل الرسـائل املطلوبة‪.‬‬
‫املبسـطة‪ ،‬خارجيـاً‪ ،‬إالّ أ ّن التيار‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬يعاين‬
‫بالرغـم مـن هـذه الصـورة ّ‬
‫مـن أزمـة داخليـة طاحنـة خلال السـنوات املاضيـة‪ ،‬فالخالفـات الكبيرة التـي‬
‫وقعـت يف أروقـة «املشـيخة التقليديـة»‪ ،‬وارتبطـت يف كثري من األحيـان بقضايا‬
‫أخالقيـة‪ ،‬متعلقـة باملـال والرسقـات العلميـة وغريها‪ ،‬رضبت مصداقية مشـايخ‬
‫التيـار يف الصميـم‪ ،‬وأ ّدت إىل إخراج عدد من األسماء البـارزة‪ ،‬كام أ ّن الخالفات‬
‫بين املشـيخة التقليديـة وربيـع بن هـادي املدخلي‪ ،‬وريـث املدرسـة الجامية‪،‬‬
‫أث ّـرت أيضـاً على رصيـد التيار يف األوسـاط السـلفية يف الخارج‪.‬‬
‫غير أن الرضبـة األكثر تأثيرا ً‪ ،‬لكـن مداهـا مل يظهـر بعـد‪ ،‬تتمثـل يف الجيـل‬
‫األكادميـي الجديـد الصاعـد‪ ،‬الـذي بـدأ يتملمـل مـن «عقليـة الوصايـة»‪ ،‬التـي‬

‫‪108‬‬
‫متارسـها املشـيخة التقليديـة‪ ،‬وأخـذ يظهِـر بصـورة متدرجـة رغبتـه بالقيـام‬
‫مبراجعـة لحالـة التيـار والقناعات التـي حكمته خالل السـنوات املاضية‪ ،‬ويعيد‬
‫النظـر مبصداقيـة القيادة املشـيخية الحاليـة وأهليتها لالسـتمرار يف هذا املوقع‪.‬‬
‫وإذا كانـت هنالـك حـاالت متـ ّرد واضحـة معلنـة على املشـيخة‪ ،‬فـإ ّن «نـارا ً‬
‫هادئـة» تطبـخ بصـورة متأنيـة‪ ،‬تتمثـل بنضـج وعـي الجيـل الجديد‪ ،‬الـذي بدأ‬
‫يشـب على الطـوق‪ ،‬ويدفـع باتجـاه تغيري املسـار السـلفي الراهن‪ ،‬مبـا يخالف‬ ‫ّ‬
‫توجـه وقناعـات ومصالـح املشـيخة الحاليـة!‬

‫‪109‬‬
‫الفصل الثاين‬

‫السلفية الجهادية‪ :‬الطريق‬


‫الشائك إليها و«الخروج اآلمن»‬
‫منها‬
‫مقدمة‬

‫بـرز مـا يُعـرف بتيار السـلفية الجهادية عىل السـاحة األردنية يف تسـعينيات‬
‫القـرن املـايض‪ ،‬التـي مثّلـت تربـة خصبـة لنمـوه وصعـوده‪ .‬قبـل ذلـك كانـت‬
‫األفـكار الجهاديـة مبعرثة بني اتجاهات إسلامية ووطنيـة مختلفة‪ ،‬ومجموعات‬
‫صغيرة‪ ،‬كان أغلـب اهتاممهـا منص ّباً على القضية الفلسـطينية‪ ،‬من دون وجود‬
‫إطـار سـيايس وأيديولوجـي عام يشـملها جميعاً‪.88‬‬
‫مث ّـة عوامـل متعـددة خلقـت البيئـة الحاضنـة لنمـو التيـار وصعـوده يف‬
‫التسـعينيات يف البلاد‪ ،‬يف مقدمتهـا عـودة «األردنيين األفغـان» وهـم يتملكهم‬
‫شـعور باالنتصـار على االتحـاد السـوفيتي‪ ،‬يحملـون معهـم مشروع تطبيـق‬
‫الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬ومرشوعيـة العمـل املسـلّح يف التغيير‪ ،‬وتزامـن ذلـك مـع‬
‫حـرب الخليـج الثانيـة‪ ،‬ومـا ولّدتـه مـن سـجاالت مرتبطـة بدخـول القـوات‬
‫الغربيـة إىل الخليـج العـريب‪ ،‬وردود فعـل لـدى جيـل الشـباب دفعتهـم نحـو‬
‫انتـكاس التحـول الدميقراطـي يف‬
‫ُ‬ ‫املنحـى الراديـكايل‪ ،‬وعـ ّزز مـن ذلـك النـزوع‬
‫األردن وتراجـع هـذا املسـار‪ ،‬مـع إقـرار قانـون الصـوت الواحـد‪ ،‬الـذي هـدف‬
‫إىل تحجيـم حضـور اإلخـوان يف املعادلـة السياسـية‪ ،‬بالتزامن مـع دخول األردن‬
‫ومنظمـة التحريـر يف مفاوضـات السلام مـع إرسائيـل‪.‬‬
‫يف بدايـة التسـعينيات ظهـرت جامعـات عنـف إسلامية‪ ،‬ذات طابع فضفاض‬
‫هالمـي‪ ،‬أُطلـق على إحداهـا قضيـة «األفغـان األردنيين»‪ ،‬والثانيـة «جيـش‬
‫محمـد»‪ ،‬ثـم مـا سـمي بقضيـة النفير اإلسلامي (التـي اتهم بهـا النائبـان ليث‬
‫شـبيالت ويعقوب ق ّرش)‪ .‬فيام ظهرت‪ ،‬الحقاً‪ ،‬قضايا محسـوبة عىل اإلسلاميني‪،‬‬
‫لك ّنهـا أيضـاً خـارج سـياق التيـار السـلفي الجهـادي‪ ،‬مثـل قضيـة املوجـب‪،‬‬
‫ومتفجـرات عجلـون ‪ ،1996‬وقضيـة التجديـد اإلسلامي ‪ ،1995‬وقضيـة مؤتـة‬

‫(‪ )88‬ملزيـد مـن التفصيـل حول السـلفية الجهادية وتطورها يف املشـهد األردين‪ ،‬انظر‪ :‬محمد‬
‫أبو رمان وحسـن أبو هنية‪ ،‬الحل اإلسلامي يف األردن‪ ،‬مرجع سـابق‪ ،‬ص ‪.113-382‬‬

‫‪113‬‬
‫العسكرية‪.‬‬
‫يف األثنـاء كان مسـار السـلفية الجهاديـة ينمـو يف اتجاه مختلـف‪ ،‬منذ بداية‬
‫التسـعينيات‪ ،‬وتط ّعـم مـع قـدوم مئـات اآلالف مـن األردنيين العائديـن مـن‬
‫الخليـج العـريب والكويـت‪ ،‬بعـد حـرب الخليـج الثانية‪ ،‬مـن بينهم أعـداد كبرية‬
‫مـن املتأثريـن بالفكر السـلفي‪.‬‬
‫تشـكّل التيـار السـلفي يف أحشـاء تلـك اللحظـة التاريخيـة‪ ،‬ورمبـا عكـس‬
‫تداعياتهـا‪ ،‬وذلـك خلال األعـوام األوىل مـن التسـعينيات‪ ،‬عبر مجموعـات‬
‫متعـددة مـن الشـباب‪ ،‬كثير منهم من طلاب الجامعات األردنية‪ .‬ففي السـلط‬
‫ظهـرت مجموعـة الشـيخ عبـد الفتـاح الحيـاري‪ ،‬الـذي تحـول نحـو التديـن‬
‫الراديـكايل بعدمـا كان بعيـدا ً عـن التديـن‪ ،‬وأخـذ يدعـو إىل أفـكار «الحاكميـة‬
‫اإللهيـة» (أي الدعـوة إىل تطبيـق الرشيعـة اإلسلامية وتكفري الحاكـم بالقوانني‬
‫الوضعيـة غير املسـتمدة مـن الرشيعـة اإلسلامية)‪ ،‬والتفـت حولـه مجموعـة‬
‫مـن شـباب مدينـة السـلط‪ ،‬ويف الزرقـاء ظهـر الشـيخ «أبـو خالد» (الـذي اتّهم‬
‫الحقـاً بتنظيـم اإلصلاح والتحـدي ‪ ،)1997‬مـع أنّـه هاجر إىل الواليـات املتحدة‬
‫األمريكيـة‪ ،‬ويف مخيـم إربـد تـر ّدد اسـم عدنان املنسي‪ ،‬وغريهم مـن مجموعات‬
‫أخـرى مبعثرة يف مدينـة عمان‪.89‬‬
‫بالرغـم مـن عـدم وجـود صلات عميقـة تنظيميـة أو حركيـة بين هـذه‬
‫املجموعـات‪ ،‬إالّ أ ّن الخيـط الفكـري الـذي كان يشـملها جميعـاً‪ ،‬يتمثّل بالجمع‬
‫بين توجـه سـلفي عـام‪ ،‬مـع تأث ّـر كبير بأفـكار سـيد قطـب‪ ،‬بخاصـة قضيـة‬
‫الحاكميـة وتكفير األنظمـة العربيـة‪ ،‬وقضية املفاصلـة؛ أي رفـض العمل داخل‬
‫النظـام السـيايس‪ ،‬ورفـض الدميقراطيـة‪ ،‬والتأكيـد على وجـوب إقامـة الدولـة‬
‫اإلسلامية وتطبيـق أحـكام الرشيعـة اإلسلامية‪.‬‬

‫(‪ )89‬لقـاء مـع حسـن أبـو هنيـة‪ ،‬الباحث يف شـؤون الحـركات اإلسلامية‪ ،‬يف منزلـه بضاحية‬
‫حي نـزال‪ ،‬بتاريـخ ‪.3102-11-21‬‬
‫الياسـمني يف ّ‬

‫‪114‬‬
‫نقطـة التحـول الرئيسـة متثّلـت بظهـور شـخصية عصـام الربقـاوي‪ ،‬أبـو‬
‫محمـد املقـديس‪ ،‬وهـو أحـد العائديـن مـن الخليـج‪ ،‬عرب إعلان السـلطات عن‬
‫كشـف تنظيـم «بيعـة اإلمـام» يف العـام ‪ ،1995‬الـذي يضـم املقـديس‪ ،‬ومعـه‬
‫أحمـد فضيـل الخاليلـه (أبـو مصعـب الزرقـاوي)‪ ،‬وعبـد الهادي دغلـس وخالد‬
‫(القسـام)‪ ،‬ومجموعـة أخـرى مـن الشـباب‪.‬‬
‫العـاروري ّ‬
‫قبـل ذلـك كانـت كتـب املقـديس تنتشر بطريقـة رسيـة يف أنحـاء اململكـة‪،‬‬
‫ويتعـ ّرف عليهـا أبنـاء املجموعـات اإلسلامية الراديكاليـة املنتشرة‪ ،‬ويف مق ّدمة‬
‫هـذه املنشـورات الكتـاب العمـدة يف أفـكار السـلفية الجهاديـة «ملّـة إبراهيم‬
‫وأسـاليب الطغـاة يف متييعهـا»‪ ،‬وكتـاب «الكواشـف الجليـة يف كفـر الدولـة‬
‫السـعودية»‪ ،‬فشـكّلت هـذه الكتـب الناظـم األيديولوجـي العـام ألبنـاء هـذه‬
‫املجموعـات الصغيرة املبعثرة‪ ،‬التـي تحـ ّول أفرادهـا الحقـاً إىل جزء مـن التيار‬
‫الجديـد‪ ،‬فبـدأ يتشـكّل‪ ،‬وأصبـح يطلـق عليـه الحقـاً «السـلفية الجهاديـة»‪.‬‬
‫جمعـت أفـكار املقـديس هـذا التيـار تحـت عنـوان رئيـس وهـو «التوحيـد‬
‫والجهـاد»‪ ،‬فربـط موضـوع الحاكميـة بتوحيـد اللـه‪ ،‬ويتمثّـل أحـد املفاهيـم‬
‫الرئيسـة يف «الطاغـوت»‪ ،‬أي تكفير الحاكـم بغير الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬أ ّمـا‬
‫الجهـاد‪ ،‬فبوصفـه الطريـق الوحيـد للتغيير‪ ،‬مـا يعني رفـض املناهج اإلسلامية‬
‫األخـرى‪.‬‬
‫بالرغـم مـن وجـود املقـديس يف السـجن مـع رفاقـه‪ ،‬مـا بني العامين ‪-1995‬‬
‫‪ ،1999‬إالّ أ ّن التيار كان ينترش يف خارج السـجن‪ ،‬ويتجمع تحت أفكار املقديس‬
‫ومرجعيتـه الفكريـة‪ ،‬فيما كانـت كتبـه وفتـاواه وآراؤه تترسب بطـرق مختلفة‬
‫إىل الخـارج‪ ،‬وظهـرت يف األثنـاء قضايـا أخـرى ألبنـاء التيـار‪ ،‬مـن بينهـا ما عرف‬
‫باإلصلاح والتحـدي‪ ،‬التـي اتّهـم فيهـا «أبو خالد» (الـذي هاجر مـن الزرقاء إىل‬
‫أميركا)‪ ،‬وأبـو قتـادة الفلسـطيني املقيم يف الخـارج‪ ،‬مع مجموعة من الشـباب‪،‬‬
‫الذيـن حكمـوا مبحكمـة أمـن الدولة‪ ،‬ثـم ب ّرأتهم محكمـة التمييز‪.‬‬
‫خلال التسـعينيات كانـت األحـداث تعـزز مـن حضـور هذا التيار يف املشـهد‬
‫األردين‪ ،‬مـع الظـروف االقتصاديـة‪ -‬االجتامعيـة والتوجـه نحـو الخصخصـة يف‬

‫‪115‬‬
‫الداخـل‪ ،‬مـع أحـداث الجزائـر يف العـام ‪ ،1992‬مـن انقلاب عسـكري على‬
‫العمليـة الدميقراطيـة واملواجهـات بين اإلسلاميني والعسـكر‪ ،‬ومجازر البوسـنة‬
‫والهرسـك وكوسـوفا والشيشـان‪ ،‬فكانت تلك األحداث املختلفة تؤجج املشـاعر‬
‫وترسـخ القناعة‬
‫الدينيـة والحامسـية لـدى أفراد هذا التيار والشـباب اإلسلامي‪ّ ،‬‬
‫بأهميـة الجهـاد يف املرحلـة املعارصة‪.‬‬
‫بالتزامن مع صعود شـخصية املقديس برزت شـخصية أبو قتادة الفلسـطيني‪،‬‬
‫عمـر محمـود أبـو عمـر‪ ،‬وهـو يف األصل مـن سـكان رأس العني‪ ،‬وكان محسـوباً‬
‫على السـلفية الحركيـة‪ ،‬كما يـروي لنـا الحقـاً حسـن أبـو هنيـة ورفاقـه‪ ،‬ثـم‬
‫تحـ ّول مـع السـفر إىل الخـارج‪ ،‬نحـو الفكـر السـلفي الجهـادي‪ ،‬إىل أن أصبـح‬
‫يف لنـدن أحـد أبـرز املنظِّريـن لهـذا التيـار يف العـامل العـريب‪ ،‬وأخـذ الشـباب‬
‫السـلفي الجهـادي يتـداول مجلته «املنهـاج» مع كتبه‪ ،‬بصورة رسيّـة يف األردن‪،‬‬
‫كما تواجـد لفترة محـدودة يف األردن أحـد منظّـري التيـار السـلفي الجهـادي‬
‫سـابقاً‪ ،‬عبـد املنعـم حليمة‪« ،‬أبـو بصري الطرطـويس»‪ ،‬قبل أن تطرده السـلطات‬
‫األردنية‪.‬‬
‫نقطـة التحـول الثانيـة متثّلـت يف خـروج أبـو مصعـب الزرقـاوي مـن األردن‬
‫إىل أفغانسـتان‪ ،‬ثـم العـراق‪ ،‬بعـد أن صـدر عفـو ملكي يف العام ‪ ،1999‬فسـافر‬
‫الزرقـاوي ومعـه عـدد مـن أبنـاء التيـار الجهـادي‪ ،‬ثـم بـرز اسـمه يف العـراق‬
‫الحقـاً‪ ،‬بعدمـا أصبـح زعيماً للقاعـدة هنـاك‪ ،‬وأحـد أبـرز املطلوبين للواليـات‬
‫املتحـدة األمريكيـة‪ ،‬إىل أن قُتـل يف غـارة أمريكيـة يف العـام ‪ ،2006‬بعد أن خطط‬
‫وأمـر بتنفيـذ أكبر تفجيرات يف تاريـخ األردن يف العـام ‪ ،2005‬عبر أفـراد مـن‬
‫جامعتـه العراقيين القادمين مـن العـراق‪.‬‬
‫منـذ تلـك الفترة انتقلت أبصار السـلفيون الجهاديون األردنيـون إىل الخارج‪،‬‬
‫نحـو سـاحات القتـال يف العـراق واليمـن‪ ،‬وبعضهـم أفغانسـتان‪ ،‬ثـم حاليـاً‬
‫سـورية‪ ،‬التـي أصبحـت قبلـة للجهاديين األردنيين‪ ،‬إذ يشـارك يف القتـال فيهـا‪،‬‬
‫ضمـن تنظيمات القاعـدة (جبهة النرصة والدولة اإلسلامية يف العراق والشـام‪-‬‬
‫داعـش) أكثر مـن ‪ 500‬فـرد‪ ،‬ويأخذ األردنيون مواقـع قيادية ميدانيـة متقدمة‪،‬‬

‫‪116‬‬
‫وقُتـل منهـم إىل اآلن قرابـة ‪ 100‬شـخص‪.‬‬
‫يف األيـام األخيرة للزرقـاوي (يف العـام ‪ )2006‬بـرزت الخالفـات بينـه وبين‬
‫املقـديس‪ ،‬الـذي كتـب رسـالة بعنـوان «الزرقـاوي‪ :‬منـارصة ومناصحـة»‪ ،‬ثـم‬
‫تطـ ّورت األمـور بعـد مقتـل األول إىل انقسـام التيـار بين مجموعتين‪ ،‬األوىل‬
‫مـع املقـديس‪ ،‬والثانيـة مـع ميراث الزرقـاوي‪ ،‬جوهـر الخلاف كان يقـوم على‬
‫رؤيـة املقـديس ضـد العنـف يف األردن‪ ،‬وهـو مـا طـ ّوره الحقـاً عبر اإلعلان عن‬
‫«سـلمية الدعـوة»‪ ،‬ورفضـه للمغـاالة يف التكفير‪ ،‬ورفـض التوسـع يف العمليـات‬
‫االنتحاريـة‪ ،‬التـي متثّـل التكتيـك الرئيـس‪ ،‬الـذي اعتمـده الزرقـاوي يف العـراق‪،‬‬
‫أ ّمـا التيـار اآلخـر‪ ،‬ويقـوده حاليـاً عمر مهـدي زيـدان (يف مدينة إربـد)‪ ،‬فريفض‬
‫ويتمسـك بإرث الزرقـاوي ومنهجه‪ ،‬ويتهم‬‫ّ‬ ‫اسـتثناء األردن من سـاحات الجهاد‪،‬‬
‫بالتخلي عـن األفـكار السـلفية الجهاديـة ‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫ّ‬ ‫املقـديس ومجموعتـه‬
‫تطـ ّور الخلاف وتجـذّر مـع الربيـع العـريب‪ ،‬بينما كان املقـديس يف السـجن‪،‬‬
‫على خلفيـة قضايـا أمنيـة (وما يـزال)‪ ،‬شـاركت املجموعـة الكبيرة املرتبطة به‬
‫يف اعتصامـات ومسيرات تطالـب باإلفـراج عن املعتقلني‪ ،‬وهي سـابقة يف تاريخ‬
‫هـذا التيـار‪ ،‬لكـ ّن هـذا التوجـه‪ ،‬الـذي رفضتـه املجموعـة األخـرى‪ ،‬انتهـى إىل‬
‫اعتقـال مئـات األفـراد مـن هـذه املجموعـة بعـد أن اصطدمـوا مـع األمن فيام‬
‫عـرف بأحـداث الزرقاء‪ ،‬يف شـهر نيسـان ‪.912011‬‬
‫تـزاوج الخلاف الداخلي مـع بـروز الخلاف يف سـورية بين جبهـة النصرة‬
‫و«داعـش»‪ ،‬يف العـام ‪ ،2013‬وانحيـاز أميـن الظواهـري‪ ،‬زعيـم القاعـدة األم‪،‬‬
‫إىل زعيـم جبهـة النصرة‪ ،‬أيب محمـد الجـوالين‪ ،‬إذ بـرزت رسـائل مـن كل مـن‬
‫املقـديس وأبـو قتـادة الفلسـطيني (الـذي ر ّحلتـه بريطانيـا إىل األردن‪ ،‬ويحاكم‬
‫حاليـاً بتهمتين حكما فيهما غيابيـا؛ اإلصلاح والتحـدي واأللفية)‪ ،‬تشي بتأييد‬
‫جبهـة النصرة ضـد داعـش‪ ،‬بينما يقـف عمـر مهـدي ومجموعتـه مـع داعش‬

‫(‪ )90‬حـول الخالفـات بين املقـديس والزرقـاوي‪ ،‬انظـر‪ :‬محمـد أبـو رمان وحسـن أبـو هنية‪،‬‬
‫الحـل اإلسلامي يف األردن‪ ،‬مرجـع سـابق‪ ،‬ص‪.223-113‬‬

‫‪117‬‬
‫ضـد الجبهة‪!91‬‬
‫يف الصفحـات القادمـة سـنقف عنـد ثالثـة أمثلـة مختلفـة‪ ،‬األول ميثّـل أحـد‬
‫أفـراد السـلفية الجهاديـة الناشـطني والفاعلين‪ ،‬وهـو الطبيـب األردين‪ ،‬منيـف‬
‫سمارة‪ ،‬والثـاين هـو أحـد أفـراد التيـار الجهـادي الفلسـطيني سـابقاً‪ ،‬الـذي‬
‫حـاول ترشـيد خطـاب السـلفية الجهاديـة‪ ،‬لكنـه وصـل أخيرا ً للقناعـة بعـدم‬
‫إمكانيـة ذلـك‪ ،‬وبالطلاق مـع هذا الخط‪ ،‬فشـارك يف تأسـيس ما سـمي بـ«تيار‬
‫األمـة»‪ ،‬وهـو نعيـم التلاوي‪ ،‬والثالث هو مؤيـد الطرياوي‪ ،‬الذي تأثر بالسـلفية‬
‫الجهاديـة يف السـلط سـنوات طويلة‪ ،‬قبـل أن يتحول يف قناعاته مؤخـرا ً‪ ،‬ويتجه‬
‫نحـو رؤيـة إسلامية مختلفـة‪ ،‬تجمـع بين أفـكار السـلفية الحركيـة ومدرسـة‬
‫اإلخوان املسـلمني‪.‬‬
‫وعلى هامـش هـذه القصـص والتجـارب الشـخصية‪ ،‬سنسـتحرض مقتطفات‬
‫مـن قصـص أخـرى‪ ،‬ونسـتدعي مـا يخـدم مهمـة هـذا الفصـل مـن تجـارب‬
‫شـخصية رفـض أصحابهـا اإلشـارة املبارشة إليهم يف الدراسـة‪ ،‬ألسـباب شـخصية‬
‫وأمنية‪.‬‬

‫(‪ )91‬يف تفاصيـل ذلـك؛ انظـر‪ :‬تامـر الصمادي‪ ،‬املقـديس يديـن داعـش مـن سـجنه ويهاجم‬
‫فتـاوى بيعـة أيب بكـر البغـدادي‪ ،‬تقريـر نشر يف صحيفـة الحيـاة اللندنيـة‪ ،‬بتاريـخ ‪ 41‬يناير‬
‫‪.4102‬‬

‫‪118‬‬
‫‪-1-‬‬
‫منيف سماره‪ :‬الطريق المتدرّج نحو‬
‫السلفية الجهادية‬

‫يسـكن منيـف سماره‪ ،‬الطبيـب العـام‪ ،‬يف الزرقـاء‪ ،‬وتقع عيادته الشـعبية‬
‫حـي وادي الحجـر مـن املدينـة نفسـها‪ ،‬يف مبنـى متواضـع وبسـيط‪ ،‬وبالح ّد‬ ‫يف ّ‬
‫األدىن مـن الديكـور والتجهيـزات الفنيـة واملاليـة واإلداريـة‪ ،‬لكـ ّن األصدقـاء‬
‫واملق ّربين واألطبـاء املتدربين معـه يؤكّـدون لنـا بـأ ّن العيـادة دامئـاً مزدحمـة‬
‫باملـرىض‪ ،‬ملـا يتمتـع بـه سماره من سـمعة جيـدة يف الكفـاءة واألمانـة‪ ،‬ولألجر‬
‫القليـل‪ ،‬الـذي يتقاضـاه مـن املراجعين‪ ،‬فضلاً عن تربعـه بالعالج امل ّجـاين لكثري‬
‫مـن األرس الفقيرة واملحتاجـة‪!92‬‬
‫يف اآلونـة األخيرة يبـدو سماره منشـغالً يف أغلـب وقتـه بالعمـل اإلغـايث‬
‫لالجئين السـوريني‪ ،‬إذ ال يكتفـي بتقديـم خدماتـه الطبيـة م ّجانـاً لهـم‪ ،‬بـل‬
‫يسـاعد على تأمين األطبـاء اآلخريـن‪ ،‬وعلى تقديم املسـاعدات املختلفـة لهم‪،‬‬
‫وال يخفـي شـعوره باملـرارة مـن تلكـؤ عـدد مـن زمالئـه األطبـاء مـن تقديـم‬
‫املسـاعدة الطبيـة الشـبيهة لهـؤالء امله ّجريـن مـن أرضهم‪ ،‬ممـن ال ميلكون ماالً‬
‫وال قـدرة على تأمين العلاج املطلـوب‪.‬‬
‫ميتـاز سماره عـن غيره مـن أبنـاء التيـار السـلفي الجهـادي بأنّـه يتحـدث‬
‫وعما يؤمن به‪ ،‬ويقـ ّدم رؤيته وهويتـه الفكرية‬
‫برصاحـة ووضـوح عـن أفكاره‪ّ ،‬‬
‫واأليديولوجيـة بلا مواربـة‪ ،‬وهـو معـروف يف األوسـاط االجتامعيـة واإلعالمية‪،‬‬
‫وحتـى السياسـية‪ ،‬بوصفـه أحـد أبرز الناشـطني يف هذا التيار‪ ،‬وممـن يجاهرون‬
‫بتب ّنـي طرحـاً فكريـاً جديدا ً‪ ،‬يدفع نحو إعالن القبول بسـلمية الدعوة السـلفية‬
‫الجهاديـة يف األردن‪ ،‬وبالتمييـز بين فقـه املمكنـات والواجبـات‪ ،‬يف التعامل مع‬
‫(‪ )92‬جرت املقابلة يف عيادته يف مدينة الزرقاء بتاريخ ‪.3102-11-72‬‬

‫‪119‬‬
‫السـلطات واملجتمع‪.‬‬
‫منيـف سماره متـزوج مـن سـيدتني‪ ،‬األوىل مـن الفليبين‪ ،‬والثانيـة تحمـل‬
‫الجنسـية الفرنسـية‪ ،‬ويؤكّـد بأنّـه ال يتردد‪ ،‬بـل يحـرص على أن يحمـل أبنـاءه‬
‫املنهـج السـلفي الجهـادي‪ ،‬وأن يسيروا يف الطريـق نفسـها التـي يسير عليهـا‪،‬‬
‫وإن كان هـو ممـن يخالفـون فتـوى املقـديس املعروفـة بعـدم تدريـس األبنـاء‬
‫يف املـدارس الحكوميـة والخاصـة‪ ،‬يف كتابـه املعـروف «إعـداد الفـوارس يف‬
‫هجـر املـدارس»‪ ،‬فسماره يـرى ‪ -‬بخلاف ذلـك‪ -‬رضورة أن يُ ِتـ َّم أبنـاء السـلفية‬
‫الجهاديـة تعليمهـم ويحصلـوا عىل شـهاداتهم‪ ،‬وال ينعزلوا عـن املجتمع‪ ،‬ويجد‬
‫أ ّن املبررات التـي يتـم اجرتاحهـا يف االنعـزال عـن املـدارس غير مقنعـة‪ ،‬إذ أ ّن‬
‫تطبيقهـا سـيؤدي إىل اعتـزال أبنـاء التيـار وعائالتهـم مختلـف جوانـب الحيـاة‪،‬‬
‫وهـذا أمـر غري ممكـن بالضرورة‪.‬‬
‫طبيبنـا هـو مـن مواليـد مدينـة جنين‪ ،‬يف الضفـة الغربية‪ ،‬يف العـام ‪،1964‬‬
‫كان والـده ضابطـاً يف الجيـش األردين‪ ،‬وانتقـل مـع والـده وأرستـه إىل مدينـة‬
‫الزرقـاء يف العـام ‪ ،1967‬بعـد النكسـة‪ ،‬إذ كان يعمـل والـده يف معسـكرات‬
‫الجيـش فيهـا‪ ،‬ثـم انتقـل مـع عائلتـه إىل اإلمـارات‪ ،‬حيـث انتقـل عمـل والـده‬
‫إىل هنـاك‪.‬‬
‫عـادوا مـن اإلمـارات إىل مدينـة الشـوبك‪ ،‬يف جنـوب اململكـة‪ ،‬إذ أنهـى‬
‫الثانويـة العامـة هنـاك‪ ،‬ثـم غـادر للدراسـة الجامعيـة يف الفليبين‪ ،‬يف العـام‬
‫‪ ،1984‬فأنهـى دراسـة البكالوريـوس يف األحيـاء يف العـام ‪ ،1989‬وبـدأ بعدهـا‬
‫بدراسـة الطـب هنـاك‪.‬‬
‫رحلتـه مـع الدعـوة السـلفية‪ ،‬عموماً‪ ،‬انطلقت مع بداية دراسـته الطب‪ ،‬ومل‬
‫يكـن قبلهـا ملتزمـا بأي جامعة إسلامية‪ ،‬وال حتـى ملتزماً من الناحيـة الدينية‪،‬‬
‫تأثـر يف البدايـة عبر مواعـظ كان يسـمعها مـن الدعـاة الناشـطني يف الفليبين‪،‬‬
‫خلال تلـك الفترة‪ ،‬إذ كان الطلاب العـرب واملسـلمون والجمعيـات اإلسلامية‬
‫تعمـل بنشـاط كبير‪ ،‬ولهـا العديـد مـن األعمال الخرييـة والدعويـة واإلغاثيـة‪،‬‬
‫فأخـذ طريقـه نحـو التدين‪ ،‬مـع بداية التسـعينيات‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫دخـول التديّـن عبر البوابة السـلفية جاء بسـبب النشـاط الكبير الذي كان‬
‫يقـوم بـه الدعـاة السـلفيون‪ ،‬خلال تلـك الفترة‪ ،‬الـذي سـاهم فيـه توفّـر املال‬
‫السـعودي‪ ،‬وكانـت املرجعيـة الدينيـة والفقهيـة لطالـب الطـب‪ ،‬يف البدايـات‪،‬‬
‫هـي هيئـة كبـار العلامء يف السـعودية‪ ،‬مثل‪ :‬ابـن باز وابن عثيمين‪ ،‬ويف األردن‬
‫نـارص الديـن األلبـاين‪ ،‬الـذي كان يتصـل بـه منيـف مسـتفرسا ً عـن األحـكام‬
‫الرشعية‪.‬‬
‫قبـل التزامـه كان طالـب الطـب رئيسـاً التحـاد الطلاب العـرب واألجانب يف‬
‫الجامعـة‪ ،‬وعندمـا سـلك طريـق التديّـن‪ ،‬عمـل على تأسـيس جمعية إسلامية‬
‫للطلبة العرب واملسـلمني يف الجامعة‪ ،‬وانخرط يف النشـاطات الدعوية واإلغاثية‬
‫خـارج الجامعـة‪ ،‬فاندمـج يف هـذه األوسـاط السـلفية واإلسلامية‪ ،‬وأصبـح عىل‬
‫صلـة بالعديـد مـن الشـخصيات السـلفية‪ ،‬وحتـى مـع مـن ينتمـون إىل جامعة‬
‫اإلخوان املسـلمني‪.‬‬
‫مل تكـن حتـى تلـك اللحظـة الخالفـات السـلفية الداخليـة قـد بـدأت‪ ،‬لكـ ّن‬
‫بعـض النقاشـات التـي تظهـر يف العـامل العريب يف هذه األوسـاط بـدأت تترسب‬
‫إىل العاملين اإلسلاميني يف الفليبين‪ ،‬وتزامـن ذلـك مـع خـروج السـوفييت مـن‬
‫أفغانسـتان‪ ،‬وبـروز نشـوة الشـعور لدى املجاهديـن باالنتصار‪ ،‬وتأث ّرهم نفسـياً‬
‫وفكريـاً بأجـواء الجهـاد‪ ،‬التـي أراد متطوعـون عـرب أن ينقلوهـا إىل بالدهم أو‬
‫سـاحات أخرى‪.‬‬
‫شـهد منيـف خلال تلـك الفترة سـجاالت بين مـن بـدأوا يتبنـون األفـكار‬
‫السـلفية الجهاديـة‪ ،‬وحتى من تجاوزوا ذلك إىل القـول بأفكار أقرب إىل التكفري‬
‫والهجـرة وبين منتسـبني إىل جامعـة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬وقـد الحـظ أ ّن أحـد‬
‫أصدقائـه‪ ،‬هـادي الغـول‪ ،‬وهـو مـن أبنـاء مدينـة الزرقـاء‪ ،‬ممن كانوا يدرسـون‬
‫هنـاك‪ ،‬ذهـب بعيـدا ً يف تب ّنـي أفـكار الحاكميـة وتكفير األنظمـة العربية‪.‬‬
‫بـدأت قناعـات منيـف بفكـر السـلفية الجهاديـة يف تلـك األثنـاء‪ ،‬إذ اطّلـع‬
‫على كتـاب أيب محمد املقديس «الكواشـف الجليـة يف كفر الدولة السـعودية»‪،‬‬
‫وكانـت أهميـة الكتـاب‪ ،‬وفقـاً لرواية صاحبنـا‪ ،‬أنّه «دفعه للتفكير يف أ ّن الدولة‬

‫‪121‬‬
‫التـي ت ّدعـي االلتـزام باإلسلام واملنهج السـلفي ليسـت دولة مسـلمة ح ّقاً‪ ،‬كام‬
‫ك ّنـا نظ ّن»‪.‬‬
‫يختـزل منيـف تفاصيـل تلك املرحلة‪ ،‬لك ّنه يشير إىل عودة كثري من الشـباب‬
‫مـن أفغانسـتان‪ ،‬متأثريـن بأفـكار الجهـاد وتجربتـه‪ ،‬مـن جهـة‪ ،‬وبـروز قضيـة‬
‫«الحاكميـة» بوصفهـا «نقطـة خلاف» مركزيـة يف األوسـاط السـلفية‪ ،‬بين مـن‬
‫يكفّـرون الحـكام املسـلمني‪ ،‬ألنّهـم ال يحكمـون بالرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬من جه ٍة‬
‫أخـرى‪ ،‬ومـن يرفضـون تكفريهم‪ ،‬وبالضرورة فإ ّن كل رأي من الرأيني السـابقني‪،‬‬
‫ينجـم عنـه متوالية رئيسـة مـن األحكام واألفـكار‪ ،‬حول العالقة بهـذه األنظمة‪،‬‬
‫واملوقـف منهـا‪ ،‬ومـن الجيـوش‪ ،‬واألمن‪ ،‬وأسـلوب التغيير املطلـوب يف التعامل‬
‫مـع هـذه األنظمة‪.‬‬
‫يف العـام ‪ 1994‬تـ ّم ترحيـل منيـف قبـل أن يُكمـل الفصـول العمليـة األخرية‬
‫مـن دراسـته الطـب‪ ،‬مـن الفليبين إىل األردن‪ ،‬على خلفيـة معرفتـه وعالقتـه‬
‫بأحـد أبـرز املرشفني على األعامل الخرييـة والدعوية هناك‪ ،‬وهـو محمد جامل‬
‫خليفـة‪ ،‬صهـر أسـامة بـن الدن‪ ،‬كما تـ ّم يف العام نفسـه اعتقـال األردين‪ ،‬هادي‬
‫الغـول يف الفليبين‪ ،‬بذريعـة العالقـة مـع رمـزي يوسـف‪ ،‬الكويتـي ذو األصـول‬
‫الباكسـتانية‪ ،‬واملتّهـم بتفجير مبنـى التجـارة العاملـي يف العـام ‪ ،1993‬ومبحاولة‬
‫القيـام بسلسـلة تفجيرات إرهابيـة يف الفليبني والباكسـتان‪.‬‬
‫عـاد منيـف إىل األردن‪ ،‬مر ّحلاً مـن الفليبين‪ ،‬واعتقلتـه السـلطات األردنيـة‬
‫فـور وصولـه املطـار‪ ،‬ومكـث يف االعتقـال‪ ،‬الستكشـاف عالقتـه مبحمـد جمال‬
‫خليفـة‪ ،‬الـذي كان معتقلاً حينهـا يف األردن‪ ،‬على خلفيـة اتهامـه بالعالقـة‬
‫بتنظيـم إرهـايب‪ ،‬دام اعتقـال صاحبنـا والتحقيـق معـه مـدة أسـبوع‪ ،‬وكان جزء‬
‫مـن التحقيـق منصبّـاً على التحقّـق فيما إذا كانـت لـه عالقـات بالجامعـات‬
‫الجهاديـة يف الفليبين‪ ،‬أو مبجموعـة رمزي يوسـف‪ ،‬ثم أُ ِطلـق رساحه‪ ،‬وأكمل ما‬
‫هـو مطلـوب منـه مـن فصـول تطبيقيـة وتدريبيـة لنيـل شـهادة الطب‪.‬‬
‫مل يكـن صاحبنـا قـد قطع صالتـه‪ ،‬بعد‪ ،‬بالتيار السـلفي التقليدي‪ ،‬فبادر بعد‬
‫عودتـه إىل زيـارة علي الحلبـي‪ ،‬وكانـت لـه صلات مبحمـد مـوىس نصر‪ ،‬وهام‬

‫‪122‬‬
‫مـن أبـرز الشـخصيات التقليديـة يف األردن‪ .‬ويتذكر منيف املناظرات السـاخنة‬
‫يف أوسـاط السـلفيني حينهـا‪ ،‬بخاصة تلـك التي جمعت د‪ .‬محمـد أبو رحيم مع‬
‫علي الحلبـي‪ ،‬ومـا نجـم عـن هـذه الخالفات والسـجاالت مـن بـروز اتجاهات‬
‫متعـددة يف األوسـاط السـلفية‪ ،‬ما بين تقليدية وحركيـة وجهادية‪.‬‬
‫يؤكّـد صاحبنـا أنّـه مل يكـن عىل صلة قوية بالتيار السـلفي الجهادي يف الفرتة‬
‫التـي تلـت عودتـه إىل األردن‪ ،‬بالرغـم مـن أ ّن الحديـث معـه يؤكّد أنّـه حافظ‪،‬‬
‫يف الحـ ّد األدىن‪ ،‬على اطلاع جيّـد مبـا يـدور يف السـاحة اإلسلامية‪ ،‬والسـلفية‪،‬‬
‫وكان يراقـب السـجاالت واملناظـرات والقضايـا الخالفيـة‪ ،‬ومـا ينشره املقديس‪،‬‬
‫ويقـرأ كتـاب «الـوالء والبراء» ملحمـد سـعيد القحطـاين‪ ،‬وهـذا املفهـوم (أي‬
‫الـوالء والبراء) هـو مـن املفاهيـم املهمة يف تشـكيل الهويـة والعقلية السـلفية‬
‫الجهاديـة‪ ،‬إذ يربـط بين التوحيـد والعقيـدة اإلسلامية ومبـدأ والء اإلنسـان‬
‫املسـلم للـه والديـن واملسـلمني والتربؤ مـن الكافريـن واملنافقين‪ ،‬فيام يذهب‬
‫التيـار السـلفي الجهـادي يف توظيف هـذا املفهوم للتأكيد على رضورة التنارص‬
‫واملـواالة بين مـن يتبنـون فكـر الحاكميـة والجهـاد يف سـبيل اللـه‪ ،‬ويكفـرون‬
‫بالحكومـات والدسـاتري واألنظمـة العربيـة (التـي يطلقـون عليهـا الطاغـوت؛‬
‫الـذي ميثّـل أحـد أهـم املفاهيـم املفتاحيـة املركزيـة التـي حـرص املقديس عىل‬
‫ترسـيخها ضمـن منهجه الفكـري)‪.93‬‬
‫يـروي منيـف سماره اللحظـات األوىل مـن عالقتـه بقيـادات السـلفية‬
‫الجهاديـة‪ ،‬عندمـا كان طبيبـاً يف مستشـفى الزرقـاء‪ ،‬و ُعـرف بتديّنـه والتزامـه‪،‬‬
‫بالرغـم مـن عـدم وجـود صلات لـه حينهـا بالتيـار الجهـادي‪ ،‬فـكان يـزوره‬
‫يف املستشـفى كل مـن عبـد الهـادي دغلـس وخالـد العـاروري وأبـو مصعـب‬
‫الزرقـاوي‪ ،‬بعـد اإلفـراج عنهـم‪ ،‬مـع عائالتهـم «لحـرص أبنـاء هـذا التيـار‪ ،‬عىل‬
‫اختيـار طبيـب متديّـن مؤمتـن»‪.‬‬

‫(‪ )93‬انظـر حـول أيديولوجيـا السـلفية الجهاديـة‪ ،‬محمـد أبو رمان وحسـن أبـو هنية‪ ،‬الحل‬
‫اإلسلامي يف األردن‪ ،‬مرجع سـابق‪ ،‬ص‪.743-823‬‬

‫‪123‬‬
‫هـذه الزيـارات فتحـت البـاب أمام تشـكّل عالقـة خاصة بين الطبيب وتلك‬
‫الشـخصيات‪ ،‬والدخـول يف نقاشـات وحـوارات متعـددة‪ ،‬فاكتشـفت املجموعة‬
‫بعدهـا أ ّن هـذا الطبيـب ليـس فقط متديّناً‪ ،‬كما كانوا يعتقدون‪ ،‬بل يشـاركهم‬
‫يف العديـد مـن أفكارهـم‪ ،‬ولـه خبرة جيـدة يف العمـل اإلسلامي يف الفليبين‪،‬‬
‫ويؤمـن مثلهـم مببـدأ الحاكميـة‪ ،‬وبأصول الفكـر السـلفي الجهادي!‬
‫مل تتطـ ّور عالقـة منيـف سماره بالتيـار السـلفي الجهـادي كثيرا ً بعـد سـفر‬
‫هـذه املجموعـة إىل أفغانسـتان‪ ،‬بسـبب انشـغاالته وعملـه يف مجـال الطـب‪،‬‬
‫يف عيادتـه الخاصـة‪ ،‬التـي افتتحهـا بعـد ذلـك‪ ،‬إالّ يف حـدود ضيّقـة عبر العالج‬
‫الطبـي‪ ،‬واملناقشـات الفكرية والعلمية‪ ،‬ويف الوقت نفسـه كان الطبيب يتع ّرض‬
‫بين الفينـة واألخـرى للتحقيـق واالسـتجواب‪ ،‬ورمبـا االعتقـال من قبـل األجهزة‬
‫األمنية!‬
‫خلال السـنوات األخيرة‪ ،‬وبعـد خـروج أيب محمـد املقـديس مـن السـجن‬
‫توطّـدت عالقـة الطبيـب منيـف سمارة بـه‪ ،‬وأصبـح قريباً منـه‪ ،‬يتناقـش معه‬
‫يف قضايـا املنهـج واملوقـف من األحـداث الجاريـة‪ ،‬ويُرجع بعض أبناء السـلفية‬
‫الجهاديـة فكـرة إعلان املقـديس مبـدأ «سـلمية الدعـوة» إىل تأثير منيـف‬
‫سماره‪ ،‬الـذي كان يسـعى إىل تطوير عالقة التيار السـلفي الجهـادي باملجتمع‪،‬‬
‫وتخفيـف الضغـوط األمنيـة عليـه‪ ،‬والتمييـز بين املمكـن والواجـب يف قدرات‬
‫التيـار على السـاحة األردنية‪.‬‬
‫بالطبـع مثـل هـذه اآلراء واملواقـف الجديـدة على أبنـاء التيـار السـلفي‬
‫الجهـادي مل تكـن لتمـ ّر بسـهولة‪ ،‬وقد نال سماره نصيبـاً من اتهامـات وتخوين‬
‫الطـرف اآلخـر‪ ،‬املتشـدد‪ ،‬يف التيـار الجهـادي لـه‪ ،‬لكـ ّن‪ ،‬عندما نسـأله عن هذه‬
‫االتهامـات‪ ،‬ال يكترث بهـا‪ ،‬ويـرى بـأ ّن «هـذه األفـكار هـي التـي ستسير عليها‬
‫أغلبيـة التيـار السـلفي الجهـادي يف نهايـة األمـر»‪ ،‬فالتمييـز قـد بدأ يف أوسـاط‬
‫يتجلى ذلك بصـورة واضحة يف سـورية اليوم‪،‬‬ ‫التيـار العـام للسـلفية الجهاديـة‪ّ ،‬‬
‫عبر االختالف بني الدولة اإلسلامية يف العراق والشـام من جهـة‪ ،‬وجبهة النرصة‬
‫مـن جهـة أخـرى‪ ،‬وهـو وإن كان يرفـض الدخـول يف تفاصيـل تلـك الزاويـة من‬

‫‪124‬‬
‫القـراءة‪ ،‬إالّ أ ّن هـذه اإلشـارات تشي بوقوفـه إىل جانب جبهة النصرة ال الدولة‬
‫اإلسلامية يف العراق والشـام‪.‬‬
‫بالرغـم مـن التماس العقالنيـة والواقعيـة يف حديث الطبيب سماره‪ ،‬ودوره‬
‫الحكيـم يف لحظـات األزمـات بين الدولة والتيـار الجهـادي‪ ،‬إالّ أنّـه‪ ،‬يف املقابل‪،‬‬
‫يبـدو صلبـاً واضحـاً يف موقفـه املؤمـن مبنهـج السـلفية الجهاديـة بوصفه منهج‬
‫«الطائفـة املنصـورة»‪ ،‬وبالحفـاظ على أصول املنهـج يف التأكيد على الحاكمية‪،‬‬
‫وعلى كفـر األنظمـة العربيـة‪ ،‬ورفـض الدسـاتري الوضعيـة املخالفـة للرشيعـة‪،‬‬
‫وبعـدم القبـول بالدميقراطيـة‪ ،‬وبرفض تأسـيس أحـزاب سياسـية والعمل ضمن‬
‫إطـار النظام السـيايس‪.‬‬
‫لكـن «الصفقـة» التـي يق ّدمهـا سماره‪ ،‬ويعتربهـا الطـرف اآلخـر مـن‬
‫السـلفية الجهاديـة مبثابـة مؤامـرة وخيانـة للمنهـج‪ ،‬هـي التأكيـد عىل سـلمية‬
‫التيـار الجهـادي يف األردن‪ ،‬وعـدم تب ّنيـه العنـف والعمـل املـادي يف التغيير‪ ،‬أو‬
‫اسـتخدام السلاح يف إدارة الصراع الداخلي‪ ،‬وهـو مـا يعطـي النظـام ضامنـة‬
‫وحصانـة عبر فتـوى من أحد أبرز رموز السـلفية الجهاديـة يف العامل‪ ،‬أيب محمد‬
‫املقـديس‪ ،‬ضـد العنـف والتفجيرات اإلرهابيـة‪ ،‬ويف املقابـل يتيـح ألبنـاء التيـار‬
‫العمـل السـلمي‪ ،‬والدعـوة مـن دون االصطـدام املبـارش بالدولة والنظـام‪ .‬لكن‬
‫صاحبنـا يسـتدرك بـأ ّن مثل هـذه الدعوة هي تكتيكيـة مرحليـة مرتبطة بحالة‬
‫ي التيـار عـن العمـل املسـلّح‪ ،‬بوصفـه أحـد‬ ‫السـاحة األردنيـة‪ ،‬وال تعنـي تخل ّ‬
‫أركان املنهـج السـلفي الجهـادي‪.‬‬
‫هـذا على صعيـد املشـهد املحلي‪ ،‬أ ّمـا اهتاممـه الرئيـس اليـوم فيتجـه‬
‫نحـو سـورية‪ ،‬إذ يـرى بـأ ّن مـا يحـدث هنـاك سـيكون مفصليـاً وحاسماً على‬
‫صعيـد املنطقـة ومسـتقبلها‪ ،‬وسـيؤكّد عىل مصداقيـة ما يطرحه التيار السـلفي‬
‫الجهـادي مـن تصـورات ومـا يتب ّنـاه مـن مواقـف ومـا يقـوم بـه مـن أعمال‬
‫مرتبطـة بسـاحات القتـال‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫وال يخفـي سماره أ ّن مئـات مـن أفـراد التيـار خرجوا من األردن إىل سـورية‪،‬‬
‫وأ ّن قرابـة مائتين منهـم مـن الزرقـاء وجارتهـا الرصيفـة وحدهما‪ ،‬ويؤكّـد بأ ّن‬
‫هنالـك مئـات آخرين يرغبون بالسـفر إىل هناك واملشـاركة يف القتال إىل جانب‬
‫«الفصائـل الجهاديـة»‪ ،‬لكـن الظـروف الراهنة ال تسـمح لهم بذلك‪.‬‬
‫ال يبـدو مـا يقولـه الطبيـب‪ ،‬منيـف سماره‪ ،‬مفاجئـاً او صادمـاً فيما يتعلّق‬
‫مبدينـة الزرقـاء وجارتهـا الرصيفة‪ ،‬بخصـوص حجم تغلغل أنصار التيار السـلفي‬
‫الجهـادي يف هـذه األحيـاء الشـعبية! فاملقـديس والزرقـاوي هما مـن سـكان‬
‫مدينـة الزرقـاء‪ ،‬وكذلـك عـدد كبير مـن مفاتيـح هـذا التيـار يف األردن‪ ،‬كما أ ّن‬
‫عـددا ً مـن أبنـاء التيـار‪ ،‬الذين غـادروا للقتـال يف سـورية‪ ،‬أصبحوا اليـوم‪ ،‬أيضاً‪،‬‬
‫قيـادات ميدانيـة يف جبهـة النصرة‪ ،‬املرتبطة بالقاعـدة‪ ،‬وبعضهم انضـ ّم للدولة‬
‫اإلسلامية يف العـراق والشـام‪ ،‬مثـل أبـو أنـس الصحابـة‪ ،‬وأبـو جليبيـب (إيـاد‬
‫الطوبـايس)‪ ،‬وهما قائـدان ميدانيـان يف الجبهـة‪ ،‬وكالهما مـن هـذه األحيـاء‬
‫الشـعبية‪ ،‬والدكتـور سـامي العريـدي‪ ،‬وهـو حاصـل على درجـة الدكتـوراه يف‬
‫الرشيعـة اإلسلامية يف األردن‪ ،‬وميثّـل أحـد املراجـع الفقهية املعتمـدة يف جبهة‬
‫النصرة‪ ،‬بعـد أن سـافر هنـاك وانضـ ّم إليها‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫‪-2-‬‬
‫نعيم التالوي‪« :‬زواج فاشل» مع‬
‫السلفية الجهادية‬

‫صاحبنـا الثـاين‪ ،‬نعيـم التلاّوي‪ ،‬مـن سـكان مدينـة الزرقـاء‪ ،‬أيضـاً‪ ، ،‬مـن‬
‫مواليـد مدينـة نابلـس يف العـام ‪ ،1962‬كان والـده ضابطـاً يف الجيـش األردين‪،‬‬
‫وانتقلـوا بعـد النكسـة إىل األردن‪ ،‬ينتمـي إىل أرسة متدينـة ومحافظـة‪ ،‬تعلّـم‬
‫ودرس يف األردن إىل أن أنهـى الثانويـة العامـة‪.94‬‬
‫أنهـى الثانويـة العامـة يف العـام ‪ ،1980‬وذهـب للدراسـة يف تركيـا‪ ،‬وهنالـك‬
‫تعـ ّرف‪ ،‬ابتـدا ًء‪ ،‬على مجموعـة السـليامنية‪ ،‬وهـم إسلاميون معنيـون بنشر‬
‫الوعـي اإلسلامي وقضايـا الفكـر‪ ،‬ومـن ثـم انفتـح على الحـركات اإلسلامية‬
‫الناشـطة يف تركيـا‪ ،‬ومـن بينهم املنتمـون إىل جامعة اإلخوان املسـلمني وغريهم‬
‫مـن مـدارس إسلامية‪ ،‬وبدأ وعيه السـيايس ينضـج عرب أضالع ثالثـة؛ األول وهو‬
‫التديّـن واالنتماء لالتجاه اإلسلامي‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬من دون االلتزام مبدرسـة مح ّددة‪،‬‬
‫والثـاين وهـو الجهـاد‪ ،‬والثالـث القضيـة الفلسـطينية‪ ،‬وكان يبحـث يف املشـهد‬
‫اإلسلامي العـام عـن تيار إسلامي جهادي‪ ،‬يضـع القضية الفلسـطينية يف صلب‬
‫اهتامماتـه‪ ،‬يف مواجهـة املشروع الصهيـوين‪ ،‬ويجـد لـه قدمـاً راسـخة عىل أرض‬
‫فلسـطني‪ ،‬لكنـه مل يعثر عليـه حينهـا يف التيـارات الوطنيـة الفلسـطينية‪ ،‬وال يف‬
‫التيـارات اإلسلامية‪ ،‬التـي كانـت تتبنى األيديولوجيا اإلسلامية مـن دون وجود‬
‫عمـل قـوي وكبير لها يف السـاحة الفلسـطينية!‬
‫تزامنـت بدايـة دراسـته الجامعية يف تركيا‪ ،‬يف الهندسـة‪ ،‬مع اندالع املواجهات‬
‫يف سـورية بين جامعـة اإلخوان املسـلمني والنظـام البعثي‪ ،‬فوجد نفسـه مهتامً‬
‫(‪ )94‬جـرت مقابلتـه يف مكتبـي مبركـز الدراسـات االستراتيجية يف الجامعـة األردنيـة بتاريـخ‬
‫‪.3102-11-12‬‬

‫‪127‬‬
‫لخلفيتـه الدينيـة والبيئـة اإلخوانيـة املحيطـة بـه يف تركيـا‪ ،‬منشـغالً مبسـاندة‬
‫مجموعـة «الطليعـة املقاتلـة» يف سـورية‪ ،‬وتعـ ّرف خالل تلك الفترة عىل بعض‬
‫الشـخصيات البـارزة يف هـذه املجموعـة‪ ،‬وتأثـر‪ ،‬يف الوقت نفسـه‪ ،‬بأفكار سـيد‬
‫قطـب‪ ،‬التـي كانـت تهيمن عىل هـذه املجموعـة اإلخوانية‪ ،‬بصـورة أكرب‪ ،‬فآمن‬
‫برؤيـة سـيد وتصـوره لقضايـا الحاكميـة والعمـل اإلسلامي‪ ،‬ورؤيتـه ملفهـوم‬
‫الجهـاد وفلسـفته التـي تقـوم عىل إزالـة العقبـات ومواجهة الطواغيـت‪ ،‬الذين‬
‫يقفـون يف وجـه الدعـوة وتحريـر اإلنسـان مـن عبودية غير الله‪.‬‬
‫يقـف نعيـم‪ ،‬هنـا‪ ،‬ليوضّ ـح لنـا مفهـوم الجهاد‪ ،‬الـذي كان يتب ّنـاه‪ ،‬وفهمه من‬
‫سـيد قطـب‪ ،‬بأنّـه ليـس مـا يسـميه السـلفيون الجهاديـون بجهـاد النكايـة أو‬
‫جهـاد الشـكوى‪ ،‬يف تأصيلهـم للعمليـات واألعمال التـي يقومـون بهـا‪ ،‬بـل هو‬
‫الجهـاد الـذي يسـتند إىل مشروع سـيايس‪ ،‬ويحمـل منظـورا ً متكاملاً‪ ،‬وهدفـاً‬
‫استراتيجياً مح ّددا ً‪.‬‬
‫خلال تلـك الفترة مـن تعاونـه مـع «الطليعـة املقاتلـة» يف سـورية‪ ،‬طـ ّور‬
‫صاحبنـا رؤيتـه اإلسلامية اسـتنادا ً ألفـكار سـيد قطـب وأيب األعلى املـودودي‬
‫ومالـك بـن نبـي‪ ،‬وغريهـم مـن املفكريـن اإلسلاميني الكبـار‪ ،‬وولـج إىل عمـق‬
‫النقاشـات والسـجاالت يف السـاحة اإلسلامية‪ ،‬فتعـ ّرف على املـدارس الفكريـة‬
‫والدعويـة املختلفـة‪ ،‬وأصبـح يبحث يف داخل املشـهد الفلسـطيني‪ ،‬ويف خارجه‬
‫يف العـامل العـريب عـن مجموعـات أو أشـخاص يشـاركونه القناعـات واألفـكار‬
‫التـي وصـل إليهـا مـن رضورة الجمـع بين الوعـاء اإلسلام والطريـق الجهاديـة‬
‫واالهتمام بالقضيـة الفلسـطينية وخطـورة املشروع الصهيـوين‪.‬‬
‫وجـد نعيـم التلاوي مجموعـات مختلفـة ممـن يقرتبـون مـن هـذه الرؤيـة‬
‫الفكريـة‪ ،‬وقـد متثّلـت بحركـة الجهـاد يف فلسـطني‪ ،‬بقيـادة فتحـي الشـقاقي‪،‬‬
‫وكان األخير‪ ،‬وقتهـا‪ ،‬قـد ترجـم تأثـره بالثـورة اإليرانيـة عبر كتابـه املعـروف‬
‫«الخمينـي والحـل اإلسلامي»‪ ،‬وتعـ ّرف صاحبنـا عىل مجموعـة الجهاد يف مرص‪،‬‬
‫ومجموعـة مـن املثقفين الفلسـطينيني اليسـاريني املاويين‪ ،‬سـابقاً‪ ،‬وشـارك يف‬
‫تأسـيس ما سـمي بـ«رسايـا الجهاد» يف العـام ‪ ،1983‬من الفلسـطينيني املؤمنني‬

‫‪128‬‬
‫بالجمـع بين املرشوع الجهادي واإلسلام وقضيـة التحرير الوطني الفلسـطيني‪،‬‬
‫وحينهـا مل تكـن حماس قـد تأسسـت كحركـة مقاومـة إسلامية‪ ،‬إذ تـ ّم ذلك يف‬
‫العـام ‪ ،1988‬ومل تكـن حركـة الجهـاد قد بـدأت عملياتها العسـكرية‪ ،‬فكان مث ّة‬
‫فـراغ يف هـذا الجانـب عملـت رسايـا الجهـاد على ملئه‪.‬‬
‫اختـار القامئـون على التنظيـم الجديـد أن يسـتخدموا غطـاء حركـة‬
‫فتـح‪ ،‬لتوفير التمويـل والتدريـب‪ ،‬وللوصـول إىل التسـهيالت املمكنـة إلنشـاء‬
‫معسـكرات التدريـب‪ ،‬وكان مـن بين أعضـاء الرسايا‪ ،‬قيـادات فكريـة معروفة‪،‬‬
‫مثـل منير شـفيق ووليـد سـيف وغريهـم‪.‬‬
‫عـاد صاحبنـا بعـد ذلـك إىل الضفـة الغربية إلمتام دراسـته يف جامعة الخليل‪،‬‬
‫وهنالـك عمـل على تعزيـز بنـاء تنظيـم «رسايـا الجهـاد»‪ ،‬وتقويتـه‪ ،‬لكـن بعد‬
‫عمليـة بـاب املغاربـة يف العـام ‪ ،1986‬وانكشـاف أمـره مـن قبـل السـلطات‬
‫اإلرسائيليـة خـرج إىل مصر‪ ،‬وهنـاك تعـ ّرف عىل مجموعـة الجهاد‪ ،‬الذيـن كانوا‬
‫قـد خرجـوا مـن السـجون‪ ،‬ويحاولـون االلتحـاق بالجهـاد األفغـاين‪ ،‬فسـاعدهم‬
‫على تأمين طريـق الوصـول إىل هنـاك‪ ،‬والتمويـل اللازم لذلك‪.‬‬

‫رحلة السجون والغربة‬


‫يف مصر‪ ،‬عمـل على مسـاعدة مجموعـة «الناجـون مـن النـار» على السـفر‬
‫إىل خـارج البلاد‪ ،‬لكـن ألقـت السـلطات املرصيـة القبـض عليـه‪ ،‬ووضعتـه يف‬
‫سـجن طـ ّرة‪ ،‬والتقـى هنالـك بسـيف العـدل‪ ،‬أحـد أبـرز قـادة الجهـاد‪ ،‬الـذي‬
‫سـيكون الحقـاً القائـد العسـكري يف القاعـدة‪ ،‬وتناقـش معـه ومـع غيره مـن‬
‫قيـادات الجهـاد يف السـجن عـن قضايـا الفكـر واملنهـج‪ ،‬وأولويـة القتـال بين‬
‫العـدو القريـب (التـي يتب ّناهـا تنظيم الجهـاد) والعـدو البعيد‪ ،‬وهـي الواليات‬
‫املتحـدة األمريكيـة‪ ،‬التـي تشـكّل الداعم الحقيقـي لألنظمة العربيـة وإلرسائيل‪،‬‬
‫وتحـدث معـه عـن أهميـة القضيـة الفلسـطينية ومركزيتهـا يف مشروع الجهاد‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫بعـد ‪ 9‬أشـهر يف السـجن صـدر حكـم برباءتـه يف املحاكـم املرصيـة‪ ،‬فغـادر‬
‫بعـد ذلـك إىل مالطـا‪ ،‬ثـ ّم مبسـاعدة منير شـفيق تـم اسـتقباله والسماح لـه‬
‫بالدخـول إىل تونـس‪ ،‬بعدمـا رفضـت الحكومـات العربيـة يف حينـه السماح له‬
‫بدخـول أراضيهـا‪ ،‬وكانـت حينها تونس هي مقـر منظمة التحرير الفلسـطينية‪،‬‬
‫بعـد خروجهـا مـن لبنان‪.‬‬
‫مل يشـعر باالرتيـاح خلال إقامتـه يف تونـس‪ ،‬إذ اطّلـع على حجـم الفـراغ‬
‫واألزمـة التـي وصلـت إليهـا منظمـة التحريـر الفلسـطينية‪ ،‬فمكـث ‪ 6‬أشـهر‪،‬‬
‫عمان يف العـام ‪،1989‬‬
‫ثـم عـاد إىل تركيـا‪ ،‬ومـن هنـاك عـاد بعـد ‪ 9‬أشـهر إىل ّ‬
‫إذ اعتقـل فـور وصولـه إىل املطـار‪ ،‬وبقـي ‪ 3‬أشـهر رهنـاً للتحقيـق معتقالً لدى‬
‫جهـاز املخابـرات العامـة‪.‬‬
‫خـرج نعيـم وهـو مـا يـزال يحمل مشروع رسايا الجهـاد‪ ،‬ويؤمـن بأهميته‪،‬‬
‫لك ّنـه تفاجـأ بأ ّن عـددا ً من القيادات الفكريـة قد تخلّت عـن التنظيم‪ ،‬فبعضها‬
‫أصبـح مق ّربـاً مـن جامعة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬مثل منري شـفيق‪ ،‬بخاصـة بعدما‬
‫تأسسـت حماس ودخلـت الجامعـة على خـ ّط الجهـاد املسـلح يف فلسـطني‪،‬‬
‫والبعـض اآلخـر اختـار العمـل يف مجـال التأليـف واألدب‪ ،‬مثـل وليـد سـيف‪،‬‬
‫وهكـذا بـدأ التنظيـم بالتفكك واالنحسـار‪.‬‬
‫حـاول نعيـم ترميـم مرشوعـه وفكرتـه عبر املشـاركة يف تأسـيس تنظيـم‬
‫عسـكري جديـد يف األردن‪ ،‬أُطلـق عليه اسـم «جيش محمـد»‪ ،‬وكان يضم مئات‬
‫مـن الشـباب اإلسلامي الناشـطني‪ ،‬وهدفه الرئيـس هو نقل مشروع الجهاد إىل‬
‫فلسـطني‪ ،‬والتشـبيك بين التنظيمات التـي تؤمـن بالعمـل الجهـادي يف العـامل‬
‫العـريب‪ ،‬إالّ أ ّن إحـدى املجموعـات الصغيرة ضمـن جيـش محمد ت ّم اكتشـافها‪،‬‬
‫والقـي القبـض على أفرادهـا‪ ،‬ومتّـت محاكمتهم بتهمة تشـكيل تنظيـم إرهايب‪،‬‬
‫فيما يؤكـد نعيـم أ ّن عـدد أعضـاء التنظيـم كانـوا أكبر مـن ذلـك‪ ،‬إذ يصلـون‬
‫إىل املئـات‪ ،‬إالّ أ ّن انكشـاف تلـك املجموعـة أ ّدى إىل إجهـاض الفكـرة نفسـها يف‬
‫البدايات!‬

‫‪130‬‬
‫يف مرحلة الحقة‪ ،‬يف العام ‪ ،1994‬يروي نعيم أنّه سـعى إىل إقناع أسـامة بن‬
‫الدن‪ ،‬وكان حينهـا يف السـودان‪ ،‬بفكـرة «الجهـاد العاملـي»‪ ،‬لكـن مل يكـن زعيـم‬
‫القاعـدة‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬جاهـزا ً بعـد ملثل هـذا املرشوع العاملـي ولفكـرة املواجهة مع‬
‫الواليـات املتحـدة‪ ،‬ومـا يقتضيـه ذلـك مـن تحـوالت فكريـة وسياسـية عميقة‪،‬‬
‫حدثـت بعـد ذلك لديـه‪ ،‬ونتج عنها تأسـيس الجبهة العاملية ملقاومـة الصليبيني‬
‫واليهـود يف العام ‪.1998‬‬
‫اعتُقـل صاحبنـا يف العـام ‪ 1995‬على خلفية قضية «التجديد اإلسلامي» (مع‬
‫صابـر مقبـل‪ ،‬وخالـد عـدوان وعزمي الجيـويس)‪ ،‬وهـي مجموعة كانـت تعمل‬
‫على نقـل مفهـوم الجهـاد ومرشوعـه السـيايس إىل فلسـطني‪ ،‬وخرج بعـد ذلك‬
‫بالرباءة‪.‬‬
‫خلال تلـك األعـوام أي مـع عقـد التسـعينيات حدثـت تحـوالت عميقـة يف‬
‫املشـهد السـيايس العريب‪ ،‬ومن ضمنها مفاوضات السلام وتوقيع اتفاق أوسـلو‪،‬‬
‫ثـم قيـام السـلطة الفلسـطينية‪ ،‬وتخلي منظمة التحريـر الفلسـطينية عن خط‬
‫الكفـاح املسـلّح‪ ،‬وتزامـن ذلـك مـع صعـود نجـم التيـارات السـلفية الجهادية‪،‬‬
‫يف السـاحة العربيـة عمومـاً‪ ،‬واألردنيـة خصوصـاً‪ ،‬وكان نعيـم قـد تعـ ّرف على‬
‫قيـادات هـذا التيـار الجديـد منـذ بدايـة التسـعينيات‪ ،‬والتقى بهم يف السـجن‬
‫خلال فترة اعتقاله‪.‬‬
‫خلال التسـعينيات حـاول صاحبنـا عبر حـواره مع أبنـاء هذا التيـار الصاعد‬
‫إحـداث تغييرات جوهريـة يف مسـاره‪ ،‬إذ كان يـرى أ ّن املشـكلة الكبرى التـي‬
‫يعـاين منهـا تتمثّل يف عدم وجود سـقف سـيايس واضح واقعي ملشروع الجهاد‪،‬‬
‫وتوظيـف طاقـات هـذا التيـار وتوجيـه اهتاممهـا نحـو املفاهيم واألفـكار التي‬
‫تتأسـس عليهـا رؤيتـه هـو للجهـاد‪ ،‬املرتبط مبشروع سـيايس إسلامي متكامل‪،‬‬
‫ومبركزيـة القضيـة الفلسـطينية‪ ،‬لذلـك سـعى إىل نقـل املشروع الجهـادي إىل‬
‫فلسـطني‪ ،‬وتأسـيس مجموعـات تؤمـن بذلـك يف قطـاع غـزة والضفة‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫اجرتاح البديل‪ :‬العودة إىل فكرة «األمة»‬
‫خلال األعـوام األخيرة عمـل نعيـم مـع مجموعـة أخـرى من اإلسلاميني عىل‬
‫إعـادة تدشين املشروع الذي يؤمن بـه‪ ،‬وهو الجهاد الذي يتأسـس عىل مفهوم‬
‫األمـة‪ ،‬وميتلـك مرشوعـاً سياسـياً متدرجـاً‪ ،‬ويعطـي القضية الفلسـطينية أهمية‬
‫مركزيـة‪ ،‬وعلى هـذا األسـاس تـم تأسـيس تيـار األمة منـذ نهايـة التسـعينيات‪،‬‬
‫بعـد أن شـعر بـأ ّن جهوده مع التيار السـلفي الجهادي مل ِ‬
‫تـؤت الثامر املطلوبة‪.‬‬
‫انطلـق مـع مجموعـة حاكـم املطيري‪ ،‬الداعيـة السـلفي الكويتـي املعروف‪،‬‬
‫يف الكويت واألردن وفلسـطني واليمن‪ ،‬والسـعودية بتأسـيس قواعـد تيار األمة‪،‬‬
‫وهـو تيـار إسلامي ينطلـق من مفهـوم األمـة‪ ،‬ومشروع الجهاد العـام ملواجهة‬
‫القـوى الدوليـة واملشروع الصهيـوين وإقامـة الدولـة اإلسلامية‪ ،‬وأسـس التيـار‬
‫أحزابـاً باالسـم نفسـه يف العديـد مـن الدول العربيـة‪ ،‬تنطلق من األسـس ذاتها‪.‬‬
‫أقـام تيـار األمـة يف العـام ‪ 2013‬مؤمتـرا ً كبيرا ً يف تركيـا‪ ،‬حرضتـه مئـات‬
‫الشـخصيات مـن التيـار اإلسلامي‪ ،‬ملناقشـة املوضـوع السـوري وأحـوال األمـة‬
‫اإلسلامية‪ ،‬ووفقـاً لنعيـم أسـس تيـار األمـة يف سـورية لـواء األمـة للقتـال ضـد‬
‫الجيـش السـوري‪ ،‬ويدعـم التيـار اليـوم العديـد مـن الفصائـل اإلسلامية‪ ،‬مثـل‬
‫أحـرار الشـام‪ ،‬ولـه جهـود متنوعـة يف داخـل األرايض السـورية‪.95‬‬
‫بالرغـم مـن تأكيـد نعيـم التلاوي على أنّـه مل ينتـم يف أي فترة إىل تيـار‬
‫السـلفية الجهاديـة‪ ،‬إالّ أنّنـا بقـراءة تفاصيـل رحلتـه الروحيـة والفكريـة مـع‬
‫مشروع الجهـاد‪ ،‬الـذي اسـتوىل على تفكيره‪ ،‬بـدءا ً مـن مسـاعدته الطليعـة‬
‫املقاتلـة يف سـورية‪ ،‬وصـوالً إىل تيـار األمـة اليـوم‪ ،‬تضعنـا أمـام محاوالتـه‬
‫تطويـر رؤيـة املجموعـات السـلفية الجهاديـة نحـو األفـكار التـي يؤمـن بهـا‪،‬‬
‫خلال فترة التسـعينيات‪ ،‬بعـد أن حصـل التـزاوج خلال األعـوام املاضيـة بين‬
‫املشروع السـلفي واملشروع الجهـادي‪ ،‬مـا أنجب «السـلفية الجهاديـة»؛ إالّ أن‬
‫زواج صاحبنـا مـع هـذا املشروع السـلفي الجهادي واجه فشلاً‪ ،‬عىل مـا يبدو‪،‬‬
‫(‪ )95‬انظـر حـول تيـار األمـة ومؤمتـر تركيـا مقالة بسـام النارص «تيـار األمة‪ :‬مشروع إحيايئ‬
‫واعـد‪ ،‬صحيفـة الراية القطريـة‪.3102-01-1 ،‬‬

‫‪132‬‬
‫الختلاف أفـق القـراءة السياسـية بينهما‪ ،‬مـا دفعـه إىل املشـاركة يف تأسـيس‬
‫تيـار األمـة‪ ،‬ليكـون بوتقة أوسـع وأرحب مـن اإلطار السـلفي‪ ،‬تشـمل العاملني‬
‫لإلسلام جميعـاً مـن أجـل تكريـس مفهـوم األمـة اإلسلامية ومشروع الجهـاد‪،‬‬
‫بينما يـرى بأ ّن السـلفية الجهادية افتقرت إىل هذا املرشوع السـيايس املطلوب‪،‬‬
‫وح ّجمـت معنـى الجهـاد وض ّيقـت مضامينـه وآفاقـه‪ ،‬ثـم ح ّولتـه إىل ما يشـبه‬
‫الحالـة العسـكرية مـن دون أن متتلـك روافـع اجتامعيـة وثقافيـة وسياسـية!‬
‫ميكـن مالحظـة مـؤرشات الطلاق بين نعيـم والقيـادات السـلفية الجهادية‪،‬‬
‫عمومـاً‪ ،‬يف األردن‪ ،‬ليـس فقـط عبر النقد السـابق الذي نقرأه لـه‪ ،‬بل حتى عرب‬
‫الهجـوم الـذي يشـنه أنصـار الزرقـاوي عليـه مـن جهـة‪ ،‬وتأكيـد الطـرف اآلخر‪،‬‬
‫مجموعـة املقـديس‪ ،‬بعـدم التواصـل معـه ومـع تيـاره األمـة‪ ،‬بالرغـم مـن أ ّن‬
‫مق ّربين مـن نعيـم التلاوي يشيرون إىل دوره الحيـوي خالل السـنوات املاضية‬
‫يف تطويـر الرؤيـة األيديولوجيـة للقاعـدة‪ ،‬وتلبيسـها أفقـاً سياسـياً‪ ،‬مـن خلال‬
‫بعـض األدبيـات التـي تحدثـت عـن الجيـل الثـاين مـن القاعـدة‪ ،‬أو عـن الرؤية‬
‫‪96‬‬
‫االستراتيجية لهـا يف السـنوات القادمة!‬

‫(‪ )96‬انظـر‪ ،‬على سـبيل املثـال‪ ،‬بعـض املقـاالت التـي تهاجـم نعيـم التلاوي مـن أنصـار‬
‫السـلفية الجهاديـة‪ ،‬تقريـر بعنـوان «دعـاء الشـيخ أبو محمـد املقديس يصيب نعيـم التالوي‬
‫بانفضـاح أمـره»!‪ ،‬على أحـد املنتديـات الجهاديـة‪ ،‬منتديـات روايـة ورش عـن نافـع‪ ،‬الرابط‬
‫التـايل‪http://r-warsh.com/vb/showthread.php?p=529760:‬‬

‫‪133‬‬
‫‪-3-‬‬
‫مؤيد‪ :‬الخروج اآلمن من أروقة‬
‫الجهاديين‬

‫يف الصفحـات القادمـة سـنجد أنفسـنا أمـام منـوذج آخـر‪ ،‬مـن سـكان مدينـة‬
‫السـلط‪ ،‬يبـدأ النشـاط والرحلـة مبكّـرا ً مـع التيـار السـلفي الجهادي‪ ،‬ويسـتمر‬
‫معـه أعوامـا‪ ،‬إىل أن ميـ ّر مبرحلـة من الشـكوك‪ ،‬ثـم «الطحن الفكـري» بني هذا‬
‫املنهـج ومناهـج إسلامية أكثر اعتـداالً‪ ،‬ثم يصـل يف مرحلة الحقـة إىل االنفتاح‬
‫على األفـكار األخـرى داخل الحركات اإلسلامية‪ ،‬مـن صوفية وسـلفية إصالحية‬
‫ومدرسـة اإلخوان املسـلمني‪ ،‬يف مامرسـة فكرية وشخصية اسـتمرت منذ أن كان‬
‫عمـره ‪ 14‬عامـاً إىل أن أصبـح عمـره اليـوم ‪ 31‬عاماً‪.‬‬
‫يح ّدثنا مؤيد كيف أصبح أحد أفراد السـلفية الجهادية؟ وملاذا؟ وكم اسـتمر‬
‫غير قناعاتـه‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬ومـا هـي األفـكار والتصـورات‬
‫يف هـذه املرحلـة؟ وكيـف ّ‬
‫الجديـدة التـي يتب ّناهـا مؤيـد؟ ومـا هـي العوامـل والظـروف التـي صاحبتـه‬
‫خلال هـذه الرحلـة وأث ّـرت على خياراتـه وتحوالتـه الفكرية والنفسـية؟‬

‫«الفتى الجهادي»‪ :‬التأثر مبكراً‬


‫ُولِـد مؤيـد يف العـام ‪ ،1981‬يف مدينـة الحـ ّويل يف الكويت‪ ،‬من أرسة بسـيطة‪،‬‬
‫محـدودة الدخـل‪ ،‬وعاش هنـاك إىل أ ّن أصبح عمره عرشة أعـوام تقريباً‪،1991 ،‬‬
‫ثـم غـادر هـو وعائلتـه بعـد دخـول قـوات الرئيـس العراقـي السـابق‪ ،‬صـ ّدام‬
‫حسين‪ ،‬إىل الكويـت‪ ،‬وعـادوا إىل األردن‪ ،‬وإىل مدينـة السـلط‪ ،‬ذات الطابـع‬
‫العشـائري‪ ،‬ليسـتقروا بهـا‪ ،‬إالّ أ ّن أرستـه ال تنتمـي إىل عشـائر السـلط‪ ،‬فهـي‬
‫مـن أصـول فلسـطينية‪ ،‬مثلهـا مثـل مجموعـة كبيرة مـن األردنيني (مـن أصول‬

‫‪134‬‬
‫فلسـطينية) يسـكنون مدينـة السـلط‪ ،‬يقـ ّدر عددهـم بـآالف العائلات‪.97‬‬
‫بالرغـم مـن أ ّن مؤيّـد كان يصلي‪ ،‬منـذ الصغـر‪ ،‬إالّ أنّـه بـدأ يتأثـر بالفكـر‬
‫السـلفي الجهـادي‪ ،‬منـذ السـن الرابـع عشر (بعـد ‪ 4‬أعـوام من اسـتقرارهم يف‬
‫حـي امليـدان‪ ،‬بالقـرب من‬‫مدينـة السـلط)‪ ،‬بعدمـا بـدأ يتردد على مسـجد يف ّ‬
‫منـزل العائلـة‪ ،‬وتعـ ّرف هنـاك على مـؤذّن املسـجد‪ ،‬رائـد خريسـات‪ ،‬وهو من‬
‫رواد الفكـر السـلفي الجهادي يف مدينة السـلط‪ ،‬وبدأ يسـتمع ألفـكاره ويندمج‬
‫شـيئاً فشـيئاً مـع املجموعـة التـي كانـت تلتـف حـول رائـد مـن كبـار وصغـار‪،‬‬
‫بعضهـم يبلـغ مـن العمـر ‪ 16‬عامـاً‪ ،‬وآخـرون كبار‪ ،‬لكـ ّن أصغرهم هـو مؤيد‪.98‬‬

‫(‪ )97‬متـت املقابلـة يف مكتبـي مبركـز الدراسـات االستراتيجية يف الجامعـة األردنيـة بتاريـخ‬
‫‪.3102-11-31‬‬
‫(‪ )98‬مـن املفيـد‪ ،‬هنـا‪ ،‬اإلشـارة إىل أ ّن رائـد خريسـات‪ ،‬الـذي تأث ّر بـه مؤيـد يف البداية‪ ،‬كان‬
‫يعمـل مؤذّنـاً ملسـجد امليدان‪ ،‬وموظّفـاً يف وزارة األوقـاف‪ ،‬وهو حاصل على الثانوية العامة‪،‬‬
‫اشـتغل يف وزارة األوقـاف‪ ،‬بعدمـا تـرك القوات املسـلّحة‪ ،‬عندمـا أخذ يتأثر باألفـكار الدينية‪،‬‬
‫التـي بـدأت تنتشر لـدى مجموعـة مـن شـباب مدينـة السـلط‪ ،‬وأغلبهـا تنبع من فكر سـيد‬
‫قطـب‪ ،‬وثيمتهـا األساسـية هـي «الحاكميـة»‪ ،‬وتكفير الحـكام الذيـن ال يحكمـون مبـا أنـزل‬
‫اللـه‪ ،‬ورفـض الدميقراطية‪.‬‬

‫واملفارقـة أ ّن مـن أشـعل هـذه الفكـرة يف مدينـة السـلط‪ ،‬هـو شـخص اسـمه عبـد‬
‫الفتـاح الحيـاري‪ ،‬كان غير ملتـزم‪ ،‬ثم التـزم‪ ،‬وبدأ بالتأثري عىل الشـباب بصـورة الفتة‪ ،‬وتحول‬
‫حـي السلامل يف املدينـة‪ ،‬إىل موئـل لكثير مـن الشـباب الجامعـي ويف‬ ‫منزلـه املتواضـع يف ّ‬
‫رشبـوا برسعة أفـكاره‪ ،‬وبـدأوا يعيـدون تقييم مواقفهم وسـلوكهم‬ ‫الجيـش وغريهـم‪ ،‬ممـن ت ّ‬
‫ووظائفهـم وعالقاتهـم‪ ،‬بنـاء على الفكرة الجديدة‪ ،‬وهـي الحاكمية وتكفري الحـكام والجيش‬
‫واألمـن‪ ،‬كان مـن بين هـؤالء الشـباب مجموعة مـن الطلاب يف جامعة مؤتة العسـكرية‪ ،‬يف‬
‫محافظـة الكـرك‪ُ ،‬سـجنوا‪ ،‬وتـ ّم إنهاء دراسـتهم يف الجامعة‪ ،‬وعسـكريون ُرفضوا مـن الخدمة‬
‫العسـكرية‪ ،‬وطلاب جامعـات‪ ،‬فكانـت ظاهـرة جديـدة بالكليـة على املدينـة وأهلهـا مـع‬
‫بدايـة التسـعينيات تحديـدا ً‪ ،‬أي الفترة التـي تزامنـت مـع قـدوم عائلـة مؤيـد إىل السـلط‬
‫واسـتقرارها بها‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫يقـول مؤيـد «كانـوا هـم أ ّول مـن صادفتهـم يف املسـجد‪ ،‬بحكـم القـرب مـن‬
‫املنـزل‪ ،‬ورمبـا إذا كانـوا إخوانـاً مسـلمني ألصبحـت أخـاً مسـلامً أو مـن جامعـة‬
‫التبليـغ‪ ،‬أو أي جامعـة أخـرى‪ ،‬لكـن كانـوا مـن أبنـاء هـذا التيـار‪ ،‬ودخلـت إىل‬
‫تجربتـي اإلسلامية مـن خاللهم»‪.‬‬
‫مل يكـن اندمـاج مؤيـد مـع املجموعـة اإلسلامية الجديدة يحتـاج إىل مراحل‬
‫متسلسـلة‪ ،‬وال إىل خبرات وحلقـات متتالية‪ ،‬كام هي حال الجامعات اإلسلامية‬
‫األخـرى‪ ،‬بصـورة خاصة جامعة اإلخوان املسـلمني‪ ،‬فالقضيـة املركزية لدى هذه‬
‫املجموعـة واضحـة‪ ،‬متامـاً‪ ،‬أ ّن الحكـم املوجـود يف العامل العـريب‪ ،‬ويف األردن‪ ،‬هو‬
‫ليـس حكماً إسلامياً‪ ،‬بـل ينطبـق عليـه وصـف الطاغـوت‪ ،‬وال يجـوز الخضوع‬
‫لـه‪ ،‬ألنّـه ال يطبـق الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬وال يجـوز منارصتـه أو مسـاعدته‪ ،‬مـن‬
‫خلال العمـل يف األجهـزة العسـكرية واألمنيـة‪ ،‬وال بد من نرش هـذا الفكر أمام‬
‫النـاس جميعـاً‪ ،‬لريبـط املجتمـع قضيـة الحاكمية بالتوحيـد‪ ،‬فلن تكون مسـلامً‬
‫حقّـاً‪ ،‬إالّ عندمـا تقـ ّر بالحاكميـة للـه (أي حـق الترشيـع)‪ ،‬مـا يعنـي رضورة أن‬
‫تكفـر بالحـكّام الحاليين‪ ،‬وتتربأ من الدسـاتري والقوانين الوضعية‪.‬‬
‫األفـكار التـي كانـت تنـادي بهـا هـذه املجموعـة تتمثل يف خليط مـن أفكار‬
‫أيب محمـد املقـديس‪ ،‬وقـد بدأت باالنتشـار عرب كتب ممنوعة مـن النرش‪ ،‬تطبع‬

‫مل يـدم تأثير الحيـاري طويلاً على هـؤالء الشـباب‪ ،‬إذ بـدأت تجمعات شـبيهة أخرى لهذا‬
‫التيـار تظهـر يف مناطـق مختلفـة مـن اململكـة‪ ،‬يف عمان‪ ،‬والزرقـاء‪ ،‬وإربد‪ ،‬يف الفرتة نفسـها‪،‬‬
‫ثـم بـرزت شـخصية أبـو محمد املقـديس‪ ،‬القـادم بدوره مـن الكويت‪ ،‬الـذي سـيصبح منظّرا ً‬
‫لهـذا التيـار يف السـنوات القادمـة‪ ،‬ومعـه أبو مصعب الزرقـاوي‪ ،‬فيُعتقالن مـع مجموعة من‬
‫رفاقهما‪ ،‬على خلفيـة قضيـة بيعـة اإلمـام‪ ،‬يف منتصـف التسـعينيات‪ ،‬ليصبـح السـجن‪ ،‬بحد‬
‫ذاتـه‪ ،‬مجـاالً خصبـاً للقـاء والتجنيد والتعارف‪ ،‬وهي السـنوات التـي منا فيها التيـار الجهادي‬
‫خـارج السـجون‪ ،‬واكتسـب أنصـارا ً‪ ،‬وأصبح من يؤمنـون بفكر الحاكمية يف مدينة السـلط‪ ،‬أو‬
‫مـن تأثـروا بعبـد الفتـاح الحيـاري‪ ،‬متأثرين باملقـديس‪ ،‬ومنهم رائد خريسـات‪ ،‬لكـن تأثرهم‬
‫األكبر كان بأيب مصعـب الزرقاوي‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫وتصـ ّور برسيّـة‪ ،‬وكتـاب معـامل يف الطريـق لسـيد قطـب‪ ،‬وتجـارب الجامعـة‬
‫اإلسلامية يف مصر وأفكارها‪.‬‬
‫يقـول مؤيـد «مل نكـن نتعلّـم أمـورا ً جديـدة يف الديـن‪ ،‬فقـط هـي صفحـة‬
‫واحـدة معروفـة مـن القـول بتكفير الحاكـم‪ ،‬والهجـوم على فقهـاء السـلطان‪،‬‬
‫وتحريـم الدخـول يف األجهـزة العسـكرية واألمنيـة‪ ،‬ومل يكـن يُعرف هـذا التيار‬
‫سـابقاً باسـم السـلفي الجهـادي‪ ،‬إذ ظهـر هذا املصطلـح متأخرا ً‪ ،‬إنّ ـا كنا نعتقد‬
‫أ ّن هـذا هـو اإلسلام‪ ،‬وال يوجـد منهـج وال طريـق غريه»!‬
‫وتشرب األفـكار‬‫تزامنـت تلـك البدايـة مـع نهايـة الصـف السـابع ملؤيـد‪ّ ،‬‬
‫الجديـدة مـع الصـف الثامـن‪ ،‬إذ كان يـدرس يف مدرسـة «عقبـة بـن نافـع»‬
‫الحكوميـة‪ ،‬يف وسـط مدينـة السـلط‪ ،‬وأخـذ منذ تلك الفترة يعلن عـن أفكاره‪،‬‬
‫وغير مـن مالبسـه‪ ،‬لريتـدي القميـص الطويل (الشـبيه‬ ‫الحـي‪ّ ،‬‬
‫يف املدرسـة‪ ،‬ويف ّ‬
‫باللبـاس األفغـاين)‪ ،‬كما يفعـل أبنـاء التيـار‪ ،‬وأصبـح يشـعر‪ ،‬فعلاً‪ ،‬أنّـه أحـد‬
‫أفـراده‪ ،‬وأن هـؤالء هـم إخوانـه وعائلتـه الجديـدة‪.‬‬
‫بالطبـع‪ ،‬مثـل هـذه التغيرات يف شـخصية مؤيـد‪ ،‬وتحديـدا ً مـا يحملـه مـن‬
‫أفـكار جديـدة تحـارب الدولـة‪ ،‬ومحاربـة منهـا‪ ،‬وينظـر لهـا املجتمـع بأنّهـا‬
‫خطـرة‪ ،‬أدت إىل مشـكالت للفتـى الصغير مـع عائلتـه ووالديـه‪ ،‬الذيـن كانـوا‬
‫يشـعرون بالقلـق على ابنهـم‪ ،‬وحـاول بـدوره فـرض رؤيتـه للتدين على أفراد‬
‫األرسة‪ ،‬مـن تحريـم التلفـاز إىل لبـاس العائلـة‪ ،‬ومشـكالت مـع إدارة املدرسـة‪،‬‬
‫التـي مل تكـن لرت ّحـب بالضرورة بدعوة ابن الصـف الثامن بهذه األفـكار عالنية‬
‫داخل أسـوارها‪.‬‬
‫أغلـب وقتـه كان ميضيـه مـع هـذه املجموعـة‪ ،‬التـي أخـذ يـزداد عددهـا‪،‬‬
‫ليصـل إىل العشرات مـن الشـباب‪ ،‬مـن مختلـف األعمار‪ ،‬فيصلّـون معـاً‪،‬‬
‫ويجلسـون فترات طويلـة سـويةً‪ ،‬ويلعبون كرة القدم‪ ،‬ويذهبـون يف رحالت إىل‬
‫مناطق قريبة‪ ،‬ويشتركون بالشـعور بأنّهـم ميثّلون الدعوة اإلسلامية الصحيحة‪،‬‬
‫ومبسـؤولية تبليـغ ذلـك للمجتمـع والعـوام‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫مل يكـن األمـر سـهالً على الفتـى يف هـذا العمـر الصغير‪ ،‬لك ّن األمر بالنسـبة‬
‫إليـه ميثّـل الطريـق الوحيد الصحيـح لاللتزام باإلسلام‪ ،‬فهو أشـبه بـ«االنقالب»‬
‫الكامـل يف مواجهـة املفاهيـم االجتامعيـة والدينيـة السـائدة‪ ،‬كما يـروي مؤيد‬
‫نفسـه «مـا أعرفـه منـذ أن كنـت صغيرا ً هـو أ ّن اليهـود هـم األعـداء‪ ،‬أ ّمـا اآلن‬
‫فتغير األمـر أصبحـت أنظـر إىل نظـام الحكـم بأنّـه العـدو‪ ،‬ولألجهـزة األمنيـة‬ ‫ّ‬
‫والجيوش»‪.‬‬
‫وبالرغـم مـن أ ّن بعـض الهواجـس كانـت تـراود الفتـى الجهـادي عـن مـدى‬
‫ص ّحـة مـا يقـوم بـه‪ ،‬إالّ أنّـه كان يطردهـا‪ ،‬بعـد أن شـعر باالسـتقرار ودفء‬
‫الصداقـة مـع املجموعـة‪ ،‬وأصبـح فـردا ً فيهـا‪ ،‬فأصبحـوا هـم دائرتـه واملحيطني‬
‫بـه‪ ،‬بالرغـم مـن أنّهـم مل يكونوا تنظيامً صلباً أو مؤسسـياً‪ ،‬مثـل جامعة اإلخوان‬
‫املسـلمني‪ ،‬وال حزبـاً سياسـياً‪ ،‬لكـن سـطوة الفكـرة والصحبـة كانـت قويـة عىل‬
‫شـخصية مؤيـد‪ ،‬بخاصـة أنّهـا كانـت طريّـة‪ ،‬لصغر سـ ّنه!‬
‫أوغـل الفتـى يف تب ّنـي املنهـج‪ ،‬واكتسـب جـرأة وشـجاعة مـع مـرور الوقـت‪،‬‬
‫للتعبري عن مواقفه‪ ،‬ووجد نفسـه ُيسـك بامليكرفون يف أكرب مسـجد يف السـلط‬
‫(مسـجد السـلط الكبير)‪ ،‬ليعلـن على املأل بـأن امللك كافـر‪ ،‬ونظـام الحكم غري‬
‫إسلامي‪ ،‬وهـو مل يتجـاوز الـ«‪ »16‬عامـاً بقليل!‬
‫بـدأت املخابـرات العامـة باسـتدعاء مؤيـد منـذ تلـك الفترة‪ ،‬وأخـذ يتعـ ّرض‬
‫للمضايقـة‪ ،‬ويشـعر بخطـورة مـا يحملـه مـن أفـكار‪ ،‬مـن الناحية األمنيـة‪ ،‬وما‬
‫قـد تـؤدي إليـه مـن مشـكالت كبيرة يقـع بهـا‪ ،‬وهو مـا يـزال يف املدرسـة‪ ،‬ويف‬
‫الصـف العـارش‪ ،‬أي مل يتجـاوز املرحلـة اإلعداديـة‪.‬‬
‫بعـد ذلـك بعـام واحـد‪ ،‬ومـع دخولـه املرحلـة الثانويـة‪ ،‬سـاعد انفتـاح مؤيد‬
‫على شـخصيات إسلامية ذات مناهـج أخرى يف هـ ّز قناعاته السـابقة‪ ،‬وباملنهج‬
‫الـذي يحملـه‪ ،‬فتعـ ّرف على أحـد الدعاة مـن جامعة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬وهو‬
‫طالـب علـم رشعـي ذو ميـول صوفية‪ ،‬ولديـه إطّالع ج ّيـد عىل العلـم‪ ،‬فأُعجب‬
‫بأخالقـه وثقافتـه وهدوئـه وسـعة أفقه‪ ،‬ورحابـة صدره‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫ويف الوقت نفسـه‪ ،‬ازدادت عالقته مع د‪ .‬عبد الرزاق أبو البصل‪ ،‬وهو أسـتاذ‬
‫جامعـي‪ ،‬متخصـص يف الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬من سـكان مدينة السـلط‪ ،‬درس يف‬
‫السـعودية وعـاش فترة طويلـ ًة هنـاك‪ ،‬قبـل أن يعـود يف النصـف الثـاين مـن‬
‫التسـعينيات إىل مدينـة السـلط‪ ،‬ويعمـل أسـتاذا ً يف كليـة الرشيعـة يف جامعـة‬
‫الريمـوك‪ ،‬ويلقـي الـدروس يف مسـجد السـلط الكبري‪.‬‬
‫ومع أ ّن الدكتور أبو البصل ينتمي إىل املدرسـة السـلفية‪ ،‬لك ّنها السـلفية ذات‬
‫الطابـع الحـريك‪ ،‬تُـوازن بين الجانـب العلمي والفقهـي من جهة وقـراءة الواقع‬
‫مـن جهـة أخـرى‪ ،‬فلا تصطدم بالواقـع‪ ،‬وال تدخـل يف مواجهات أكبر من طاقة‬
‫اإلنسـان‪ ،‬وتتـدرج يف العلـم والفكـر‪ ،‬وتـوازن بين األبعـاد الرتبويـة والسياسـية‬
‫واالجتامعية‪.‬‬
‫بـدأ مؤيّـد يعيـد النظـر‪ ،‬بدرجـة كبرية‪ ،‬مبا يحملـه من أفكار‪ ،‬ويقـارن بني ما‬
‫يسـمعه مـن صديقـه الصـويف الجديد والشـيخ أبو البصـل وبني مـا يواجهه مع‬
‫التيـار الجهـادي‪ ،‬مـن مسـار مسـكون مبنطـق الصـدام واملواجهـات مـع الدولة‬
‫والواقـع‪ ،‬ومصير محكوم إما بالسـجن واالعتقـال أو التضييـق واملتابعة‪.‬‬
‫يقـول مؤيّـد «بالرغـم مـن صعوبة الطريق الذي أسير عليـه‪ ،‬كنت أرى أنّني‬
‫أمـام خياريـن ال ثالـث لهما‪ ،‬إ ّمـا االسـتمرار‪ ،‬مـا يعنـي أنّنـي أحكـم عىل نفيس‬
‫مسـبقاً بالسـجن واالعتقـال واملطـاردة‪ ،‬ومسـتقبل بلا أفـق حقيقـي‪ ،‬وإ ّمـا أن‬
‫أتـرك الديـن بالكليـة‪ ،‬كما فعـل آخـرون‪ ،‬لكـن دخول الدكتـور أبـو البصل عىل‬
‫حيـايت أوجـد يل خيارا ً ثالثـاً‪ ،‬وطريقـاً جديدا ً»‪.‬‬
‫وصـل مؤيـد‪ ،‬وهـو يف آواخـر عامـه الثامـن عشر‪ ،‬إىل نتيجـة رئيسـة وهـي‬
‫أ ّن أصدقـاءه ومجموعتـه مـن أبنـاء التيـار الجهـادي ميلكـون عواطـف دينيـة‬
‫ج ّياشـة‪ ،‬لكـن دعوتهـم تصطـدم بالواقـع وتتناقـض معـه‪ ،‬فهـي مبثابـة انعـزال‬
‫كامـل عـن الدنيـا واألعمال والتجـارة والتعليـم والحيـاة العامـة‪.‬‬
‫تجلّـت املفارقـة بـأ ّن مؤيـد كان قـد دخل مرحلـة االعتقـاالت‪ ،‬يف تلك الفرتة‬
‫التي بدأت تسـاوره فيها الشـكوك وتزداد حول سلامة النهج الذي يسير عليه‪،‬‬

‫‪139‬‬
‫فاعتُقـل للمـ ّرة األوىل وهـو مل يتـم (‪ )18‬عامـا مـدة (‪ )4‬أيـام‪ ،‬وبعـد ذلك بـ(‪)6‬‬
‫أشـهر (‪ 14‬يومـاً)‪ ،‬وبعـد عـام اعتُقل (‪ )22‬يومـاً‪ ،‬وبعدها االعتقـال الرابع ملدة‬
‫(‪ )28‬يومـاً‪ ،‬بعـد أن تـز ّوج بشـهرين‪ ،‬عندمـا كان عمـره (‪ )19‬عامـاً‪ ،‬ويقول أنّه‬
‫أتـ ّم حفـظ القـرآن الكريـم خلال فترات سـجنه واعتقالـه‪ ،‬وكان يشـعر‪ ،‬هـذه‬
‫املـ ّرة تحديـدا ً‪ ،‬بأنّـه معتقـل ألفـكار مل يعـد يؤمـن بها قرارة نفسـه‪ ،‬لكنـه –ويا‬
‫للمفارقـة‪ ،‬مل يكـن يجـرؤ على االعتراف بذلك أمـام اآلخرين!‬
‫يف عامـه الــ(‪ )19‬بـدأت عمليـة الطلاق فعليـاً بينـه وبين مرحلته السـابقة‪،‬‬
‫أو أفـكاره السـلفية الجهاديـة‪ ،‬وبـدأ يشـعر أنّـه ممـ ّزق بين تناقضـات؛ فهـو‬
‫مـا يـزال محسـوباً على هـذا التيـار‪ ،‬حتـى لـدى الدوائـر األمنيـة‪ ،‬لكـ ّن أفكاره‬
‫تغيرت‪ ،‬وبـدأ يشـعر مبثاليـة األفـكار السـابقة‪ ،‬ويرغب بالقـرب أكرث‬ ‫وقناعاتـه ّ‬
‫مـن مجموعـات إسلامية أكرث اعتـداالً وواقعية‪ ،‬لك ّنـه يف الوقت نفسـه ال يريد‬
‫أن يعلـن تغيير موقفـه‪ ،‬حتـى ال يصطـدم بالجهاديني‪ ،‬وال يدخـل يف حالة عداء‬
‫معهـم‪ ،‬فـأراد أن ميسـك باملسـارين‪ ،‬لكـ ّن ذلـك مـن الصعوبـة مبـكان‪ ،‬فبـدأ‬
‫ينسـحب بالتدريـج مـن أروقـة التيار الجهـادي إىل اإلسلاميني اآلخريـن‪ّ ،‬‬
‫ويفك‬
‫نفسـه بهـدوء مـن االرتباطات السـابقة‪ ،‬وهـي العمليـة التي اسـتمرت قرابة ‪4‬‬
‫أعـوام‪ ،‬أي منـذ أن كان عمـره ‪ 19‬عامـاً إىل أن وصـل ‪ 23‬عامـاً‪ ،‬حتـى متكّـن من‬
‫الشـعور داخليـاً بأنّـه انفصـل روحيـاً وفكريـاً عـن مجموعته السـابقة!‬
‫عندمـا يراجـع مؤيـد تلـك املرحلة من حياته‪ ،‬أي منـذ أن كان عمره ‪ 14‬عاماً‬
‫إىل أن أصبح ‪ 19‬عاماً‪ ،‬أو منذ الصف السـابع إىل أن تزوج‪ ،‬فإنّه يشـعر باملرارة‪،‬‬
‫إذ يـرى أنّـه خسر كثيرا ً خلال تلـك الفترة‪ ،‬وأضـاع فرصتـه يف التعليـم املبكّر‪،‬‬
‫لذلـك عـاد إىل الدراسـة الجامعيـة‪ ،‬يف مرحلـة البكالوريـوس‪ ،‬بينما لـو اتخـذ‬
‫مسـارا ً فكريـاً آخـر كان ميكـن أن يكـون اآلن قد أت ّم دراسـة الدكتـوراه‪ ،‬وتد ّرج‬
‫بصـورة أكبر يف امليـدان العلمي‪ ،‬الذي يحبـه ويرغب به‪ ،‬لك ّن تلـك الطموحات‬
‫مل تكـن مطروحـة وال مرشوعـة‪ ،‬حينما كان يف التيـار السـلفي الجهـادي‪ ،‬الذي‬
‫يتخاصـم مـع الجامعـات ومـع قطاع األعمال والعمل‪.‬‬
‫يحيـل «الجهـادي الصغير» العامـل الرئيس الـذي أ ّدى إىل انخراطه يف مرحلة‬

‫‪140‬‬
‫مبكّـرة يف التيـار السـلفي الجهـادي إىل سـ ّن املراهقـة‪ ،‬ومـا يتوافـر عليـه مـن‬
‫«طاقـة كبيرة» لـدى الفتيـان‪ ،‬وألنّـه نشـأ متديّنـاً منـذ الصغـر‪ ،‬ومـن ثم سـلك‬
‫يف املنهـج الجهـادي‪ ،‬فلـم يكـن متاحـاً أمامه ما يفعلـه املراهقـون اآلخرون من‬
‫وسـائل لترصيـف هـذه الطاقة املكبوتـة والهائلة‪ ،‬سـواء يف التدخني أو الحديث‬
‫عـن الفتيـات أو حتـى مشـاهدة األفالم اإلباحيـة‪ ،‬أو غريها من املامرسـات التي‬
‫يـرى التيـار الجهـادي حرمتهـا‪ ،‬فلـم يجـد أمامه سـوى التعبري عن هـذه الطاقة‬
‫والتمسـك بـه‪ ،‬وتحـ ّدي‬
‫ّ‬ ‫مـن خلال اإلرصار أكثر وأكثر على املنهـج الجهـادي‬
‫الدولـة والنظـام‪ ،‬ملواجهـة مـا تفرضـه تلك السـ ّن مـن عواطف وغرائـز طبيعية‬
‫تذهـب باالتجـاه اآلخـر‪ ،‬أي أ ّن الخيـار هـو التشـ ّدد الديني يف محاولـة للتغلّب‬
‫على تلـك الدوافع!‬
‫يفسر انخراطه وغريه من الفتيان والشـباب الصغار‪،‬‬ ‫يف هـذه الحالـة فـإ ّن ما ّ‬
‫ممـن كان يعرفهـم إىل هـذا االتجاه الفكـري هو ذلك الفراغ الكبري يف السـاحة‪،‬‬
‫إذ يغيـب حضـور العلامء والفقهـاء واملفكرين املعتدلني‪ ،‬الذيـن ميلكون القدرة‬
‫على مخاطبـة الشـباب والفتيـان ويقدمـون رؤيـة إسلامية معـارصة معتدلـة‪،‬‬
‫مـا يفتـح البـاب أمـام أصحـاب األفـكار الجهاديـة‪ ،‬الذيـن ميتـازون باالندفـاع‬
‫والعاطفـة الدينيـة الجيّاشـة‪ ،‬فيملـؤون ذلـك الفـراغ‪ ،‬كما حـدث معـه‪ ،‬ومـع‬
‫بعـض رفاقـه يف التيـار الجهـادي من مدينة السـلط‪.‬‬
‫وإذا كان مؤيـد قـد أخـذ فرصتـه ملراجعـة األفـكار وإعـادة النظـر يف قناعاته‬
‫وتعديـل مسـار تطـوره الروحـي والفكـري‪ ،‬كام سنرى يف املرحلة القادمـة‪ ،‬فإ ّن‬
‫غيره مـن الشـباب الجهـادي الصغير‪ ،‬سـارعوا إىل االنتقـال إىل مرحلـة أخـرى‬
‫يف مرحلـة مبكّـرة‪ ،‬كما حـدث مـع معتصـم درادكـة‪ ،‬الـذي غـادر مبـارشة بعد‬
‫الثانويـة العامـة إىل منطقـة كردسـتان العـراق (يف العـام ‪ ،)1999‬ليقاتـل هناك‬
‫إىل جـوار رائـد خريسـات‪ ،‬الـذي كـ ّون مجموعـة جهاديـة أردنيـة تتحالـف مع‬
‫فصيـل جهـادي كـردي ضد األكـراد العلامنيين‪ ،‬وقُتل معتصم بعد ذلك بشـهور‬
‫قليلة !‬

‫‪141‬‬
‫سنوات «الطحن الفكري»‬
‫كما أخربنـا مؤيـد؛ فقـد بـدأ مبراجعـة أفـكاره وغربلـة منهجـه الفكـري مـع‬
‫بلوغـه ‪ 18‬عامـاً‪ ،‬إالّ أ ّن حالـة الصراع الداخلي الشـديد والتمـ ّزق بين قناعاتـه‬
‫الجديـدة وعواطفـه وصداقاتـه السـابقة بـدأت بصـورة أكرث وضوحا يف األشـهر‬
‫األخيرة مـن سـن الــ‪ ،19‬واسـتمرت تلـك الحالـة معـه قرابـة ‪ 4‬أعـوام حتـى‬
‫سـن الــ‪ ،23‬عندمـا انسـحب بهـدوء مـن صفـوف التيـار الجهـادي‪ ،‬وانفتـح‬
‫على األفـكار الجديـدة يف السـاحة القريبـة مـن مدرسـة اإلخـوان الفكريـة‪ ،‬أو‬
‫حتـى السـلفية املعتدلـة أو التقليديـة‪ ،‬وهـي املرحلـة التـي يطلق عليهـا مؤيد‬
‫مصطلـح «الطحـن الفكـري» الـذايت!‬
‫يفسر مؤيـد عبـور مرحلـة الطحـن الفكـري‪ ،‬يف أواخـر العـام الــ‪ 19‬بطبيعة‬ ‫ّ‬
‫الضغـوط النفسـية التـي تعـ ّرض لهـا‪ ،‬إذ تـز ّوج‪ ،‬ثم بـدأ الكفاح من أجـل تأمني‬
‫التزاماتـه الجديـدة‪ ،‬فعمل يف مطعم‪ ،‬ومكتبة إسلامية‪ ،‬وبائعـاً متج ّوالً لألرشطة‬
‫والكتـب الدينيـة على أبـواب املسـاجد‪ ،‬ومما ض ّيق عليـه يف قدرته على توفري‬
‫تتوسـع فيه قامئة‬
‫تكاليـف حياتـه الزوجيـة هي طبيعـة املنهج الجهـادي‪ ،‬الذي ّ‬
‫األعمال املح ّرمـة وغري املقبولـة رشعاً‪.‬‬
‫رمبـا مـا يقفـز عنـه مؤيـد يف تفسير هـذا التحـ ّول‪ ،‬وهـو مـا قـد نصـل إليـه‬
‫باسـتنطاق تجربتـه‪ ،‬هـو غيـاب رائـد خريسـات عن املشـهد‪ ،‬وخروجـه للقتال‬
‫يف كردسـتان العـراق‪ ،‬ثـم مقتلـه هنـاك‪ ،‬مـع عـدد مـن شـباب مدينـة السـلط‬
‫الجهاديين‪ .‬فخلال األعـوام السـابقة كان لشـخصية رائـد تأثري كبري على مؤيد‪،‬‬
‫وقـد نتجـاوز ذلـك إىل مصطلـح السـطوة‪ ،‬فرائد هو مـن دفعه منـذ الصغر إىل‬
‫اعتنـاق الفكـر الجهـادي‪ ،‬وكان ميثّـل بالنسـبة لـه األخ األكبر‪ ،‬والحامـي‪ ،‬الـذي‬
‫يدافـع عنـه إذا مـا تـو ّرط يف مشـكالت أو أزمـات مـع املجتمع املحلي أو رجال‬
‫األمـن‪ ،‬وهـو مـا قد يعنـي أكرث مـن اآلخرين لفتـى يعيش يف السـلط‪ ،‬ليس من‬
‫أبنـاء العشـائر‪ ،‬فمثـل رائـد ميثّل سـندا ً مريحاً ومطمئنـاً للفتى‪ ،‬لك ّنـه يف الوقت‬
‫نفسـه قيـدا ً مينعـه مـن التفكير يف تغيير املنهـج وتطويـر أفـكاره‪ ،‬يك ال يخسر‬
‫مـن أصبـح ميثّل لـه شـخصية محوريـة يف حياته!‬

‫‪142‬‬
‫يف أواخـر العـام ‪ 1999‬خـرج رائـد خريسـات ومعـه مجموعـة مـن الشـباب‬
‫الجهـادي مـن مدينة السـلط إىل كردسـتان للقتـال هناك مـع الجهاديني األكراد‬
‫ضـد العلامنيين‪ ،‬ثـم لحقـه عشرات مـن أبنـاء املدينـة‪ ،‬وقُتـل عدد كبير منهم‬
‫يف السـنوات التاليـة‪ ،‬ويف مقدمتهـم رائـد خريسـات نفسـه‪ ،‬فيما بقـي هاجس‬
‫الهجـرة إىل الجهـاد يسـيطر على أبناء التيـار الجهادي يف مدينة السـلط وغريها‬
‫مـن مـدن‪ ،‬بخاصة بعـد احتالل العـراق يف العـام ‪.2003‬‬
‫تلـك الهجـرة أتاحـت ملؤيد مسـاحة أكرب من التفكير‪ ،‬تحت وطأة الضغوط‬
‫املاليـة بعـد الـزواج‪ ،‬والشـعور بالتوتـر الفكـري مـع املراجعـة الذاتيـة ملـا كان‬
‫كل ذلـك كان يدفع بـه إىل خارج التيـار الجهادي‬ ‫يؤمـن بـه مـن أفـكار الجهاد‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫نحـو أفـكار إسلامية متنحـه قـدرا اكرب مـن الراحة والهـدوء‪ ،‬وتتناسـب أكرث مع‬
‫شـخصيته‪ ،‬ذات الطابـع الـو ّدي املنفتـح‪ ،‬البعيدة عـن العدائية والرشاسـة‪ ،‬التي‬
‫ميتـاز بهـا أبناء التيـار الجهادي!‬

‫‪143‬‬
‫خالصات واستنتاجات‬

‫منحتنـا األمثلـة السـابقة‪ ،‬يف األوسـاط السـلفية الجهاديـة‪ ،‬ومـا ق ّدمتـه مـن‬
‫روايـات وتجـارب فكريـة وروحيـة شـخصية‪ ،‬الفرصـة للتعـ ّرف أكرث على معامل‬
‫الشـخصية السـلفية الجهاديـة‪ ،‬وهـي وإن كانت «حـاالت» محـدودة يف التيار‪،‬‬
‫إالّ أنّهـا تعكـس «منـاذج» ألمثلة مشـابهة أو قريبـة‪ ،‬وبالرغم من أ ّن شـخصيات‬
‫رصت عىل عدم التعريف‬ ‫أخـرى التقينا بها رفضت تسـجيل تجاربها الخاصـة‪ ،‬وأ ّ‬
‫بهـا أو اإلشـارة إليهـا يف هـذا الكتـاب‪ ،‬إالّ أنّنـا سنسـتحرضها يف اسـتخراج هـذه‬
‫الخالصـات واالسـتنتاجات‪ ،‬ويف الصفحـات الختاميـة يف هـذا الكتاب‪.‬‬
‫وبالرغـم مـن أ ّن الشـخصية «السـلفية الجهادية» تتشـابه مع تلـك التقليدية‬
‫والحركيـة بأنّهـا تصـاغ بصـورة كبيرة على أسـاس «الهويـة الدينيـة»‪ ،‬إذ يأخـذ‬
‫الدين مسـاحة واسـعة من تشـكيل منظورها الفكري‪ ،‬ومن مامرسـاتها اليومية‬
‫الواقعيـة‪ ،‬إالّ أنّهـا تتخـذ أبعـادا ً جديـدة‪ ،‬وامتـدادات واسـعة عـن الشـخصيتني‬
‫السـابقتني (التقليديـة والحركيـة)‪ ،‬على الصعيـد الشـخيص واالجتامعـي‬
‫والسيايس‪.‬‬
‫البعـد األول يف الشـخصية الجهاديـة يتمثّـل بدرجـة أكبر من االنغلاق وبناء‬
‫جـدران الحاميـة الداخليـة مـن التأثيرات الخارجيـة‪ ،‬فالسـلفي الجهـادي هـو‬
‫شـخص متديّـن‪ ،‬شـديد االهتمام بااللتـزام العقائـدي والفكـري باملـدارك التـي‬
‫يؤمـن بهـا مـن «النـص الديني» (القـرآن والسـنة والفتاوى الرشعيـة)‪ ،‬وحريص‬
‫على االلتـزام السـلويك بالشـعائر الدينيـة التع ّبديـة‪ ،‬فهـو يحافـظ على صلاة‬
‫عما يظ ّنه مخالفاً‬
‫الجامعـة‪ ،‬وباألخالقيـة الظاهريـة‪ ،‬واالبتعاد يف سـلوكه املعلن ّ‬
‫للرشيعة اإلسلامية‪.‬‬
‫هـذه املدخلات تصنـع لدينـا شـخصية يف جوهرهـا النفسي متعاليـة على‬
‫الواقـع االجتامعـي املحيـط‪ ،‬طاملـا أنّـه غير قائـم على معايير االلتـزام الديني‪،‬‬
‫وتتجسـد هذه السـمة أيديولوجياً فيما يصطلح‬
‫ّ‬ ‫كما تراهـا أيديولوجيـا التيـار‪،‬‬

‫‪145‬‬
‫عليـه سـيد قطـب‪ ،‬ويتردد يف الخطاب الجهـادي عمومـاً‪ ،‬بـ»اسـتعالء اإلميان»‪،‬‬
‫فاملؤمـن غير خاضـع لشـهواته الذاتيـة‪ ،‬ومتحـرر مـن السـلطات االجتامعيـة‬
‫والسياسـية والثقافيـة السـائدة‪ ،‬طاملـا أنّهـا – كما هـو غالـب‪ -‬غير قامئـة عىل‬
‫املنظـور الدينـي‪ -‬الرشعي‪.‬‬
‫هـذا الجانـب الشـعوري يف شـخصية السـلفي الجهـادي يقـوده إىل «عزلـة»‬
‫نفسـية‪ -‬إراديـة عن املحيـط االجتامعي‪ ،‬فهو وإن كان جسـدياً وفكرياً موجود‪،‬‬
‫ويعمـل على التغيير وميارس الدعـوة والتجنيـد‪ ،‬إالّ أنّه حريص دامئـاً عىل عدم‬
‫تلبّـس شـخصيته مبـا يخالـف الرشيعـة‪ ،‬سـواء عىل صعيـد عالقـات الصداقة أو‬
‫حتـى األرسة والقرابة واملحيـط االجتامعي‪.‬‬
‫ليسـت الشـخصية السـلفية الجهاديـة انطوائيـة‪ ،‬باملعنـى السـيكولوجي‬
‫للكلمـة‪ ،‬فنجـد كثريا ً مـن األمثلة ممن يختلطـون باملحيط‪ ،‬وينشـطون بالدعوة‬
‫إىل الديـن‪ ،‬كما يفهمونـه‪ ،‬ويشـاركون يف تجمعـات متعـددة‪ ،‬مثـل املناسـبات‬
‫االجتامعيـة‪ ،‬لكـن مـن دون أن تج ّرهـم هـذه املشـاركة إىل التامهـي مـع هـذا‬
‫الواقع‪.‬‬
‫يرتتـب على هـذه األبعاد سـمة أخرى يف هذه الشـخصية تتمثـل يف أنّها ذات‬
‫بعـد أو اتجـاه واحـد‪ ،‬فهي ترسـل‪ ،‬غالباً وال تسـتقبل‪ ،‬إالّ ما يتوافـق مع العقائد‬
‫تتغي‪ ،‬يف األغلـب األعم‪،‬‬
‫تغير وال ّ‬
‫التـي تؤمـن بهـا‪ ،‬إذ تعطـي‪ ،‬تؤث ّـر‪ ،‬وال تتأث ّـر‪ّ ،‬‬
‫فمشـاركتها االجتامعيـة والنفسـية تدخـل يف حيّـز الدعـوة إىل اللـه‪ ،‬والتجنيـد‬
‫والتأثري‪.‬‬
‫البعـد العقائـدي أحـد أهـم األسـس التـي مت ّيـز الجهـادي‪ ،‬فهـو شـخصية‬
‫عقائديـة بامتيـاز‪ ،‬مبـا يف ذلـك املنظـور السـيايس لـه‪ ،‬فاملوقف مـن الحكومات‬
‫واألنظمـة واللعبـة السياسـية والدميقراطيـة واألحـزاب السياسـية األخـرى‪،‬‬
‫مبـا فيهـا األحـزاب اإلسلامية هـو موقـف مرتبـط بالعقيـدة والتوحيـد‪ ،‬فهـذه‬
‫التيـارات والجامعـات والشـخصيات تقـع بين حـدود الكفـر والضالل والفسـق‬
‫والخـروج على أحـكام الديـن‪ ،‬وجميعهـا خـارج دائـرة «الفرقـة الناجيـة» التي‬
‫تتمثّـل بالسـلفية الجهاديـة اليـوم‪ ،‬وترتجم عرب «الفئـة املؤمنـة» الصادقة‪ ،‬التي‬

‫‪146‬‬
‫تطالـب بأخـذ األسـباب‪ ،‬ال بالنتائـج‪ « ،‬ال يرضها من خذلها»‪ ،‬سـواء كانت هذه‬
‫الجهـة الخاذلـة املتواطئـة مـن املجتمع أو السـلطة أو حتى األحزاب اإلسلامية‬
‫األخـرى‪ ،‬فضلاً عـن التوجهـات العلامنيـة املتعددة‪.‬‬
‫وألننا أمام منظور عقائدي صارم‪ ،‬ومواقف مسـبقة واضحة تتأسـس عليه‪،‬‬
‫فـإ ّن كثيرا ً مـن الجهاديين ليسـوا معنيين مبتابعـة تفاصيـل الحيـاة السياسـية‬
‫ووسـائل اإلعلام‪ ،‬إالّ مبـا يتعلّـق بالقضايا الرئيسـة التـي يهتمون بهـا‪ ،‬أو األخبار‬
‫متـس التيـار الـذي ينتمـون إليـه‪ ،‬فكثري مـن أفراد هـذا التيار غير معنيني‬ ‫التـي ّ‬
‫بقـراءة الصحـف وال متابعـة الفضائيـات بصـورة مكثّفـة‪ ،‬وال حتى املشـاركة يف‬
‫السـجاالت العامـة حول القضايا املختلفـة املتعددة‪ ،‬إالّ مبقدار مـا يع ّزز ويثبت‬
‫ويؤكّـد «رؤيتهـم العقائدية»!‬
‫مثـل هـذه املحـ ّددات الواقعيـة؛ جعلت من «املنتديـات الجهادية» يف العامل‬
‫مهماً مـن اهتاممـات الشـخصية الجهاديـة‪ ،‬خلال السـنوات‬ ‫االفترايض جـزءا ً ّ‬
‫األخيرة‪ ،‬ويعـ ّزز هـذه األهميـة تزايـد دور االنرتنـت وقيمته يف بنـاء أيديولوجيا‬
‫التيـار ونرشهـا‪ ،‬والتواصـل بين أبنائـه يف مختلـف املناطـق‪ ،‬داخـل األردن‬
‫وخارجهـا‪ ،‬بخاصـة أ ّن مئـات مـن «إخوانهـم» قـد خرجـوا للقتـال يف سـاحات‬
‫مختلفـة يف الخـارج‪ ،‬ويضاعـف مـن أهميـة هـذه املنتديـات ذلـك املوقـف‬
‫السـلبي مـن العـامل الواقعـي‪ ،‬فأصبـح االفترايض مبثابـة مجـال آخـر للتسـلية‬
‫والرتويـح لـدى هـذا التيـار‪ ،‬واالسـتئناس بالحديـث مـع أبنـاء التيـار ومتابعـة‬
‫أخبارهـم واملشـاركة الوجدانيـة والفكريـة مبـا يحـدث مـع أبنائـه يف مختلـف‬
‫بقـاع العامل‪.‬‬
‫يف األشـهر املاضيـة أخـذت «املنتديـات الجهاديـة» مهمـة جديـدة تتمثّـل‬
‫يف السـجاالت داخـل التيـار الجهـادي نفسـه‪ ،‬بعـد أن دبّـت الخالفـات يف‬
‫أوسـاطه ويف بيتـه الداخلي‪ ،‬وانقسـم املنظّـرون املعروفـون وأبنـاء التيـار بين‬
‫مؤيـد لتنظيـم الدولـة اإلسلامية يف العـراق والشـام وقبلها الخـط األيديولوجي‬
‫أليب مصعـب الزرقـاوي ومؤيـد أليب محمـد املقـديس والظواهري والخـط العام‬
‫للقاعـدة؛ فأحـد أهـم املواقـع الجهاديـة اليـوم على شـبكة االنرتنـت مدونـة‬

‫‪147‬‬
‫«جريـر الحسـني»‪ ،‬وهـي املد ّونـة التـي تعتقد أوسـاط واسـعة من هـذا التيار‬
‫أنّهـا تعـود ألحـد أبنائه وورثة خط الزرقـاوي يف مدينة إربد‪ ،‬وهـو عمر مهدي‪،‬‬
‫الـذي يعلـن تأييـده لتنظيـم الدولـة االسلامية يف العـراق والشـام ويدافع عنه‪،‬‬
‫ويته ّجـم برشاسـة وبلغـة حادة عىل خط املقـديس‪ ،‬ونداءات «سـلمية الدعوة»‬
‫على السـاحة األردنيـة‪ ،‬ويقـف ضـد أي محـاوالت لتبنـي العمـل السـلمي أو‬
‫تأطير التيـار‪ ،‬عبر مجلـس للشـورى أو تب ّنيـه ألدوات سـلمية‪ ،‬مثـل املظاهرات‬
‫واملسيرات واالحتجاجـات‪ ،‬كما حـدث يف األردن‪ ،‬مـع بدايـات ثـورات الربيـع‬
‫العريب!‬
‫هـذا هـو اإلطـار العـام للشـخصية الجهاديـة‪ ،‬لك ّنـه بالرغـم مما يبـدو عليه‬
‫مـن رصامـة خارجيـة‪ ،‬يسـمح يف أروقـة هـذا التيـار بقـدر كبري مـن االختالفات‬
‫والتباينـات بين أفـراده‪ ،‬بين اتجـاه يسـعى إىل تليينـه وتدويـر الزوايـا الحـا ّدة‬
‫وتخفيـف وطأتـه القاسـية واتجـاه آخـر يتشـدد فيـه ويغلقـه عـن املحيـط‬
‫الخارجـي‪.‬‬
‫عما يسـم ّيه بعـض علماء النفـس‪،‬‬‫هـذه التباينـات تنجـم‪ ،‬بدرجـة رئيسـة‪ّ ،‬‬
‫بـ«الشـخصية األسـاس»‪ ،‬أو بعبـارة موازيـة ملـا ق ّدمنـاه بهذه الدراسـة؛ اختالف‬
‫الروافـد األوىل ألبنـاء التيـار‪ ،‬وتبايـن الظروف االجتامعيـة والثقافية والنفسـية‪،‬‬
‫والتجارب الشـخصية!‬
‫فبالنظـر إىل التجـارب السـابقة‪ ،‬وغريهـا ممـن التقينـاه أو تابعنـا تفاصيـل‬
‫تجربتـه ومسيرته‪ ،‬نحـن أمـام منـاذج متعـددة؛ فهنالـك مـن آىت مـن خلفيـة‬
‫سياسـية أيديولوجيـة‪ ،‬ليسـت إسلامية‪ ،‬ذات طابـع علامين‪ ،‬أو ليسـت سـلفية‪،‬‬
‫ذات جـذور جهاديـة وإخوانيـة‪ ،‬ومثـل هـذا النمـوذج أكثر انفتاحـاً ومرونـة‬
‫وأقـل رصامـة مـن الناحيـة الشـكلية أو الظاهرية‪ ،‬سـواء يف العالقـة مع املحيط‬
‫االجتامعـي أو التنويـع يف الوسـائل واألدوات يف التغيير واملواجهـة مع «األعداء‬
‫السياسـيني»‪ ،‬سـواء كانـوا أنظمة سياسـية أو أجهـزة أمنية أو خصوماً سياسـيني‪.‬‬
‫مثـة رشيحـة واسـعة مـن أبنـاء التيـار أتـت مـن خلفيـة سـلفية‪ ،‬سـواء كانت‬
‫تقليديـة أو حركيـة‪ ،‬مثـل عمر يوسـف (أبـو أنس الشـامي)‪ ،‬عمر محمـود (أبو‬

‫‪148‬‬
‫قتـادة الفلسـطيني)‪ ،‬ومنـاذج أخـرى تفضّ ـل عدم ذكر اسـمها‪ ،‬فهذه الشـخصية‬
‫وإن كانـت تتسـم بغلبـة الجانـب العقائدي‪ ،‬إالّ أنّها تتوافـر – غالباً‪ -‬عىل درجة‬
‫مـن العلـم الرشعـي‪ ،‬مـا يجعلهـا أكثر اكرتاثـاً مبـا يـدور مـن أحـداث سياسـية‬
‫واجتامعيـة‪ ،‬ومـا يحـدث من متغريات‪ .‬لكـن حتى يف هذه الحالـة فإنّنا نجد أ ّن‬
‫«التجربـة الشـخصية» تـؤدي دورا ً كبريا ً يف تفسير التحول نحو التيـار الجهادي‪،‬‬
‫أو حتـى االنتقـال مـن أراء ومواقـف معينـة إىل أخـرى ضمن الدائـرة الجهادية‬
‫نفسها ‪.‬‬
‫هنالـك رشيحـة جـاءت مـن خلفيـة ليسـت باإلسلامية‪ ،‬وال باأليديولوجيـة‪،‬‬
‫وبعضهـا مـن تجربـة متناقضـة مـع االلتـزام الدينـي‪ -‬األخالقي‪ ،‬وفيام نـراه من‬
‫منـاذج تنتمـي لهـذا النمـط فإنّهـا شـخصية حا ّدة أكثر تشـ ّددا ً وانغالقـاً‪ ،‬تنتقل‬
‫مـن النقيـض إىل النقيـض‪ ،‬وتتمسـك باأليديولوجيـا الجهاديـة برصامـة فكريـة‬
‫وروحية وسـلوكية!‬
‫أ ّمـا عـن األسـباب التـي تدفـع بشـخص مـا إىل أحضـان هـذا التيـار‪ ،‬فهنالك‬
‫فرضيـات تربـط بين ذلـك والظـروف االجتامعيـة واالقتصاديـة والسياسـية‪،‬‬
‫وسـبقت اإلشـارة إىل أ ّن التيـار يتمـ ّدد‪ ،‬يف العـادة‪ ،‬باألحياء الشـعبية واملخيامت‬
‫الفلسـطينية‪ ،‬ويتغـذى على مشـاعر اإلحبـاط والفـراغ السـيايس‪ ،‬واالسـتبداد‬
‫وتراجـع مناخـات حريـة التعبير والحريات العامة‪ ،‬ويف أوسـاط الفقـر والبطالة‬
‫والحرمـان االجتامعـي‪ ،‬ويأخـذ مـدى آخـر مـع عامـل القرابـة االجتامعيـة‪-‬‬
‫العشـائرية (التعاطـف والعصبيـة)‪ ،‬العالقـات الشـخصية‪.‬‬
‫ال ميكـن اسـتبعاد دور النصـوص الدينيـة وقـدرة الخطاب السـلفي الجهادي‬
‫على توظيفهـا وتبسـيط الواقـع مبعادالت عقائدية محسـومة‪ ،‬تسـتند إىل النص‬
‫الدينـي واالحتجـاج عىل ما آل إليه الواقع العام يف املجتمعات العربية‪ ،‬سياسـياً‬
‫وثقافيـاً واجتامعيـاً واقتصاديـاً‪ ،‬وحتـى عسـكرياً‪ ،‬مـع أزمـة الرشعية السياسـية‬
‫العربيـة‪ ،‬وعـدم القـدرة على مواجهـة التحديـات الداخليـة والخارجيـة‪ ،‬ودور‬
‫القضيـة الفلسـطينية بتعزيـز هـذه املشـاعر‪ ،‬إسلامياً بوجـه عـام‪ ،‬وفلسـطينياً‬
‫بوجـه خـاص‪ ،‬مـع هيمنـة الشـعور بالفسـاد على املـزاج االجتامعـي العـريب‪،‬‬
‫وغيـاب الخطابـات التنويريـة النهضويـة ونـدرة النماذج والقـدوات يف هـذا‬

‫‪149‬‬
‫املجال!‬
‫كل ذلـك مبثابـة عوامـل توضع عاد ًة لتفسير بروز هذا التيـار وصعوده خالل‬
‫السـنوات األخيرة‪ ،‬وهـي فرضيـات ترقـى إىل درجـة البديهيـات لـدى باحثين‬
‫يف هـذا التيـار ومراقبين لـه‪ ،‬يسردون أمثلـة ومـؤرشات متعـددة تؤكّـد صحـة‬
‫هـذه املقـوالت؛ إالّ أ ّن كل ذلـك مبثابـة املفتـاح الذهبـي للتجنيـد لـدى التيـار‪،‬‬
‫بينما يتمثّـل البـاب يف أمريـن‪ ،‬األول هـي البيئـة االجتامعيـة الحاضنـة‪ ،‬بـأن‬
‫تكـون هنالـك مناخـات اجتامعية‪ ،‬أو بيئات ومـدن وأحياء توفـر رشوط الحياة‬
‫والنمـو ملثـل هـذه األفـكار‪ ،‬والثـاين هـي البيئـة النفسـية الحاضنـة‪ ،‬بـأن يكون‬
‫لـدى الفـرد اسـتعداد‪ ،‬ألسـباب متعـددة ذاتيـة لخـوض املغامـرة والقبـول بهذا‬
‫الفكـر الراديـكايل‪ ،‬وهـي عوامل تعود م ّرة أخـرى للتجارب الشـخصية ما تولّده‬
‫مـن حالـة نفسـية شـعورية متق ّبلـة لذلك!‬

‫‪150‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫البحث عن «الطريق الثالث»‪..‬‬


‫سلفياً‬
‫مقدمة‬
‫ّ‬

‫املجموعـة التـي سـنتع ّرف عليهـا يف الصفحات املقبلة‪ ،‬تتأرجح‪ ،‬يف األوسـاط‬
‫السـلفية‪ ،‬بين املناهـج والكتـل أو التجمعات املختلفـة‪ ،‬لك ّنها حاولت اشـتقاق‬
‫متوسـطاً بني السـلفية التقليدية‪،‬‬
‫طريـق ثالـث يف العقود املاضية‪ ،‬يأخذ مسـارا ً ّ‬
‫التـي تنتمـي إىل مدرسـة الشـيخ نـارص الدين األلبـاين‪ ،‬والحقاً تلـك التي أخذت‬
‫اتجاهـاً جهاديـاً‪ ،‬متأثـر ًة مبـا يطرحـه عصـام الربقـاوي (أبـو محمـد املقـديس)‪،‬‬
‫بالرغـم أ ّن هـذا االتجـاه متاهى‪ ،‬يف البدايات‪ ،‬مع التيار السـلفي العام وشـيوخه‬
‫يف األردن والسـعودية‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬وتقاطـع‪ ،‬نسـبياً‪ ،‬يف مرحلـة الحقة مع السـلفية‬
‫الجهاديـة‪ ،‬ومـا يـزال إىل اليـوم يعمـل على تكريـس الرؤيـة السـلفية الثالثـة‪،‬‬
‫سـواء يف الخطـاب اإلعالمـي أو العمـل االجتامعي والدعوي والرتبـوي والخريي‪.‬‬
‫وبالعودة إىل جذور هذا التيار سنجد أ ّن الجهود املركزية النبثاقه متركزت يف‬
‫أحيـاء عمان الرشقية‪ ،‬ويف األوسـاط األردنية‪ -‬الفلسـطينية‪ ،‬ووجـدت لها روافد‬
‫ومسـاحات جديـدة يف محافظـات أخـرى‪ ،‬بصورة خاصـة يف الزرقـاء والرصيفة‪،‬‬
‫وميكـن مالحظـة أ ّن املجموعـة املركزيـة منها تأثرت يف عقـد الثامنينيات بأفكار‬
‫كل مـن عمـر محمـود (امللقـب بـأيب قتـادة الفلسـطيني)‪ ،‬وحسـن أبـو هنيـه‪،‬‬
‫وكالهما مـن سـكّان حـي رأس العني‪ ،‬كام سـنتناول الحقـاً‪ ،‬بدرجة أكثر تفصيالً‬
‫مـع تجربـة حسـن أبو هنيـه‪ ،‬وتحوله مـن السـلفية الحركية‪ ،‬فالجهاديـة وأخريا ً‬
‫خروجـه مـن اإلطار السـلفي العام فكريـاً وروحياً!‬
‫ومتثّلـت البدايـات بتأثـر كل مـن عمـر محمـود وحسـن أبـو هنيـه يف نهايـة‬
‫السـبعينيات وبدايـة الثامنينيـات بالفكر السـلفي الو ّهايب‪ ،‬عرب قـراءة مجموعة‬
‫مـن الكتـب واألدبيـات السـلفية‪ ،‬ثـم انخـراط االثنين مـع مجموعـة مـن‬
‫حـي رأس العين يف تأسـيس مسـجد الخلفـاء الراشـدين‪ ،‬بتعـاون أهلي‬ ‫أبنـاء ّ‬
‫مجتمعـي‪ ،‬والبـدء بالتواجـد فيـه وإلقـاء الـدروس والتعريف بالفكر السـلفي‪،‬‬
‫فبـدأت تتشّ ـكل حولهما حلقـة مـن الشـباب الصغـار‪ ،‬حينـذاك‪ ،‬ويطـ ّورون‬

‫‪153‬‬
‫مسـاحة التفاعـل والتواصـل واالتصـال مـع التيـار السـلفي يف األردن‪ ،‬بعـد أن‬
‫اسـتقر الشـيخ نـارص الديـن األلباين يف عمان‪ ،‬يف منطقة جبل النصر‪ ،‬من أحياء‬
‫عمان الرشقيـة يف بدايـة الثامنينيـات‪ ،‬ثـم التوسـع يف مرحلـة التسـعينيات‪ ،‬إىل‬
‫املحافظـات األخـرى‪ ،‬ملعاينـة مـن يحملـون أفـكارا ً سـلفية شـبيهة بهـم‪ ،‬بعـد‬
‫أن بـدأت عالمـات االختلاف بين رؤيتهـم للدعـوة وتالميـذ األلبـاين‪ ،‬وتطلعـوا‬
‫إىل الخـارج‪ ،‬تحديـدا ً الخليـج العـريب‪ ،‬بخاصـة يف الكويـت‪ ،‬حيـث مدرسـة عبد‬
‫الرحمـن عبـد الخالـق السـلفية الحركية‪ ،‬والسـعودية بعـد أن بـدأت تجربة ما‬
‫يسـمى بالصحـوة اإلسلامية‪ -‬السـلفية (على يد سـفر الحوايل وسـلامن العودة‬
‫ونـارص العمـر) بالبروز هناك‪.‬‬
‫خلال الثامنينيـات تأثـرت هـذه املجموعـة مبحمـود عبدالـرؤوف قاسـم‬
‫(املعـروف بالشـيخ أيب األمين)‪ ،‬وهـو سـوري سـلفي‪ ،‬كان يسـكن يف عمان‬
‫الرشقيـة‪ ،‬لـه العديـد مـن املؤلفـات وعىل عالقـة مع شـيوخ سـلفيني معروفني‪،‬‬
‫وكان يعقـد حلقـات مـن الـدروس يف منزله‪ ،‬ويركـز عىل قضايا الرتبيـة والدعوة‬
‫السـلفية والصراع الفكـري‪ ،‬وله رؤيته الذاتية للرصاع الـدويل‪ ،‬ويكرس جزءا ً من‬
‫مؤلفاتـه يف نقد الشـيوعية والحركات اإلسلامية‪ ،‬التي يعتربهـا‪ ،‬متأثرة بالتقاليد‬
‫الشـيوعية‪ ،‬مثـل حـزب التحريـر اإلسلامي‪ ،‬باإلضافـة إىل نقـده للصوفية‪.‬‬
‫بـدأت املجموعـة املكونـة مـن عمـر محمـود وحسـن أبـو هنيـه والشـباب‬
‫امللتفين حولهما بتكويـن وعي سـلفي جديد مـع منتصف الثامنينيـات مفارق‬
‫لرؤيـة األلبـاين ومدرسـته‪ ،‬حـول املوقـف مـن العمـل السـيايس واملجتمعـي‬
‫والتنظيمـي‪ ،‬وانبثـق عـن هـذا اإلدراك الجديـد تأسـيس «حركـة أهـل السـنة‬
‫والجامعـة» يف بدايـة التسـعينيات‪ ،‬كما سـيخربنا حسـن أبـو هنيـه يف فصـل‬
‫قـادم‪ ،‬وض ّمـت عشرات الشـباب السـلفي الباحـث عـن منهـج آخـر يؤمـن‬
‫بأهميـة العمـل التنظيمـي والثقـايف واملجتمعـي‪ ،‬لكـن التجربـة مل تطـل كثيرا ً‬
‫ووقعـت بين فكي رفـض الدولة مـن جهـة ومحاربة االتجاه السـلفي العـام لها‬
‫مـن جهـة أخـرى‪ ،‬ثم جـاءت هجرة عمر محمـود إىل خارج البلاد‪ ،‬وتأثره الحقاً‬
‫بالسـلفية الجهاديـة‪ ،‬مـا أث ّـر يف عـدد من أبناء هـذا التيار ودفعهـم إىل التقارب‬
‫مـع األيديولوجيـا الجهاديـة!‬

‫‪154‬‬
‫الثمـرة املؤسسـية األوىل لهـذه املجموعـة متثلـت بتأسـيس جمعيـة الكتاب‬
‫والسـنة يف العـام ‪ ،1993‬التـي أصبحـت الحقـاً اإلطـار التنظيمي للتيـار الحريك‪،‬‬
‫لك ّنهـا خضعـت الحقـاً لصراع من نـوع آخر‪ ،‬داخيل‪ ،‬مـع صعود التيار السـلفي‬
‫الجهـادي يف البلاد‪ ،‬يف مرحلـة التسـعينيات‪ ،‬إذ تأثر بهذه األفـكار مجموعة من‬
‫الشـباب‪ ،‬وولجـت الجمعيـة منعرجات متعـددة‪ ،‬متأثـرة بالخالفـات الداخلية‪،‬‬
‫إىل أن نجحـت إدارتهـا الجديـدة منـذ العـام ‪ 2003‬بالتخلـص مـن ذيـول هـذا‬
‫الصراع وتعريـف توجههـا بالحريك‪ ،‬بعيدا ً عن تلبسـها بالفكـر الجهادي‪ ،‬بخاصة‬
‫بعـد مغـادرة عمـر يوسـف‪ ،‬أيب أنـس الشـامي‪ ،‬األردن لينضـم إىل القاعـدة يف‬
‫العـراق يف العـام ‪ ،2003‬فتمكنـت الجمعيـة مـن إعادة التموضـع ضمن العمل‬
‫التعليمـي والثقـايف والخيري‪ ،‬وافتتـاح فـروع متعـددة ومراكـز يف محافظـات‬
‫مختلفـة‪ ،‬وركـزت نشـاطاتها خلال األعـوام األخيرة على املجـال الخيري يف‬
‫مسـاعدة الالجئين السـوريني يف األردن‪ ،‬عبر املسـاعدات القطريـة والخليجيـة‬
‫عموماً‪.‬‬
‫بالرغـم مـن حسـمه املبكـر‪ ،‬منـذ منتصـف التسـعينيات‪ ،‬خالفه مع مدرسـة‬
‫الشـيخ األلبـاين‪ ،‬إالّ أ ّن االتجـاه السـلفي الحـريك عـاىن خلال السـنوات الطويلة‬
‫املاضيـة مـن عدم وضوح هويته األيديولوجية وتشـتته بني االتجاهات السـلفية‬
‫املختلفـة‪ ،‬وتداخلـه معهـا‪ ،‬ومـن عـدم قدرتـه على ملّ شـمل مـن يؤمنـون بهذا‬
‫االتجـاه األيديولوجـي ضمـن كتلـة واحـدة منتظمـة‪ ،‬ومـن غيـاب املرجعيـات‬
‫العلميـة والفكريـة لـه على الصعيد املحلي األردين‪.‬‬
‫نجـد أنفسـنا يف هـذا الفصـل مـع تجربـة زايـد إبراهيـم حماد‪ ،‬الرئيـس‬
‫الحـايل لجمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬وهشـام الزعبـي‪ ،‬الرئيـس الحـايل لجمعيـة‬
‫االعتصـام السـلفية‪ ،‬بعـد أن خـرج مـن جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬وهما مـن‬
‫الحلقـة االوىل مـن الشـباب املتأثريـن بعمر محمود وحسـن أبو هنيه والشـيخ‬
‫أيب األمين‪ ،‬وتجربـة أسـامة شـحادة‪ ،‬وهـو أحـد األعضـاء الفاعلين يف جمعيـة‬
‫الكتـاب والسـنة‪ ،‬وأحمـد أبـو رمـان‪ ،‬الذي تطـورت تجربتـه الفكريـة والروحية‬
‫مـن السـلفية التقليديـة إىل الحركيـة (مـع الشـيخ أيب أنس الشـامي)‪ ،‬ثـم تأثره‬
‫باألفـكار الجهاديـة‪ ،‬وعودتـه مؤخـرا ً لرؤيـة املدرسـة الحركيـة‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫مـن الصعـب‪ ،‬ضمـن خارطة متشـعبة هالمية لهذا االتجاه‪ ،‬االدعـاء بأنّنا أمام‬
‫منظومـة أيديولوجيـة وفكريـة متامثلـة متامـاً‪ ،‬فهنالـك مجموعات وشـخصيات‬
‫وجمعيـات داخـل هـذا االتجـاه‪ ،‬وجـزر متف ّرقـة تتبايـن يف تصورهـا للتغيير‬
‫والعمـل واملوقـف مـن الواقـع السـيايس الراهـن‪ ،‬وإن كان مـن املمكـن القـول‬
‫بـأ ّن االتجـاه الحـريك‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬يتسـم‪ ،‬فكريـاً‪ ،‬بأنّـه يؤمـن بالعمـل املؤسسي‬
‫والحـريك والتنظيمـي‪ ،‬ويفترق عـن السـلفية التقليديـة‪ ،‬يف املوقف مـن العمل‬
‫السـيايس والحـزيب‪ ،‬إذ بالرغـم مـن عـدم وجود حزب سـيايس سـلفي يف األردن‪،‬‬
‫إالّ أ ّن الفكـرة الجوهريـة لهـذا االتجـاه ال ترفـض ذلـك مبدئياً‪ ،‬مثـل التقليديني‬
‫والجاميين‪ ،‬بـل يرتبـط عدم تأسـيس حزب بشروط واقعية‪ ،‬موضوعيـة وذاتية‪،‬‬
‫منهـا عـدم قـدرة أفـراد التيـار عىل تشـكيل كتلـة موحـدة‪ ،‬وغيـاب املرجعيات‬
‫الفكريـة له‪.‬‬
‫أ ّمـا افتراق الحركيين عـن الجهاديين فيتمثـل‪ ،‬بصـورة أساسـية‪ ،‬بعـد تب ّنـي‬
‫الحركيين للعمـل الجهـادي‪ ،‬بوصفـه منهـج التغيير الوحيـد‪ ،‬بـل حرصهـم عىل‬
‫تأكيـد إميانهـم بالعمـل السـلمي والدعـوي واملؤسسي‪ ،‬وإن كان موقفهـم مـن‬
‫الحـكام والحكومـات يتسـم بالضبابيـة وعـدم االتفـاق‪ ،‬بين رأي يقترب مـن‬
‫أفـكار سـيد قطـب وإعلاء مبـدأ الحاكميـة‪ ،‬وتكفير الحـكام الذيـن يحكمـون‬
‫بغير الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬مـا ينطبـق على األنظمـة العربيـة القامئـة‪ ،‬من دون‬
‫الوصـول إىل تبنـي العمـل املسـلّح‪ ،‬كما هي حـال الجهاديين‪ ،‬ورأي آخر يرفض‬
‫تكفير الحـكام‪ ،‬ويف الوقـت نفسـه ال يقبـل مببـدأ «طاعـة ويل األمـر»‪ ،‬وتضليل‬
‫املعارضـة السياسـية‪ ،‬إذ يؤمن مبرشوعيـة املعارضة وبعدم مامنعـة مبدأ العمل‬
‫السـيايس عموماً‪.‬‬
‫إذا نزلنـا إىل الخارطـة الواقعيـة لهـذا التيـار‪ ،‬يف املشـهد األردين‪ ،‬وحاولنـا‬
‫اسـتنطاق التجمعـات والشـخصيات واالتجاهـات الفرعيـة فيه‪ ،‬سـنجد أنفسـنا‬
‫أمـام شـبكة متداخلة ومتقاطعـة‪ ،‬لكنها تفتقر إىل الوحـدة واملرجعية والتفاهم‬
‫على «منهـج» اإلصلاح ونظريـة صلبـة للعمـل العـام‪ ،‬ويبرز يف هذا السـياق‪:‬‬
‫حي نـزال‪ ،‬يف عامن الرشقية‪ ،‬ولها‬
‫أوالً؛ جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬التـي تقع يف ّ‬

‫‪156‬‬
‫فـروع ومراكـز يف محافظـات مختلفـة‪ ،‬تصـدر مجلـة القبلـة‪ ،‬وتركـز يف األعـوام‬
‫األخيرة على العمـل الخيري والرتبـوي‪ ،‬وتصـدر مجلـة «القبلـة»‪ ،‬ومـن أبـرز‬
‫شـخصياتها‪ ،‬زايـد إبراهيـم‪ ،‬وأسـامة شـحادة‪ ،‬ومحمـد الذويب‪ ،‬وبسـام النارص‪،‬‬
‫ومجموعـة أخـرى مـن الشـباب‪ ،‬لكنها ال تقـدم خطاباً فكريـاً إصالحيـاً واضحاً‪،‬‬
‫وال تطـرح رؤيتهـا لإلصلاح يف املشـهد املحيل‪.‬‬
‫حـي الزهـور‪ ،‬يف عمان الرشقيـة‪ ،‬ولهـا‬
‫ثانيـاً؛ جمعيـة االعتصـام‪ ،‬وتقـع يف ّ‬
‫مراكـز متعـددة يف عمان‪ ،‬وتعـد أصغر مـن الكتاب والسـنة‪ ،‬وتركز على رعاية‬
‫األيتـام‪ ،‬والعمـل الرتبـوي والتعليمـي‪ ،‬وتفتقر إىل مـوارد مالية كبيرة‪ ،‬ومن أبرز‬
‫شـخصياتها هشـام الزعبي‪.‬‬
‫ثالثـاً؛ شـخصيات سـلفية عامـة‪ ،‬معروفـة بانتامئهـا لهذا التوجـه‪ ،‬عىل اختالف‬
‫مواقفهـا وتصوراتهـا السياسـية والفكريـة‪ ،‬مثـل إبراهيـم العسـعس ومحمـد‬
‫أبـو رحيـم‪ ،‬وبعـض الشـخصيات األخـرى‪ ،‬محسـوبة على مـا يسـمى بـ«الفكـر‬
‫السروري»‪ ،‬نسـب ًة إىل الشـيخ السـوري املعـروف محمـد بـن نايـف رسور زين‬
‫العابدين‪.‬‬
‫رابعـاً؛ مجموعـة مـن األكادمييني‪ ،‬من أسـاتذة الرشيعـة يف الجامعات األردنية‪،‬‬
‫منصب‬
‫ّ‬ ‫ممـن درسـوا يف السـعودية‪ ،‬أو تأثـروا بالفكر السـلفي‪ ،‬لكـن اهتاممهم‬
‫على العمـل األكادميـي فقـط‪ ،‬وال ينخرطون يف السـجاالت الفكرية والسياسـية‬
‫العامـة‪ ،‬وليـس لديهم حضور إعالمي يف املشـهد السـيايس‪.‬‬
‫بالعـودة إىل الحلقـة األوىل التـي تأثـرت مبحمود قاسـم (أيب األمني)‪ ،‬وشـكّلت‬
‫النـواة الرئيسـة لهـذا االتجـاه‪ ،‬فبالرغـم أ ّن رؤيتهـا أنجبـت جمعيـة الكتـاب‬
‫والسـنة‪ ،‬إالّ أ ّن الشـخصيات الرئيسـة فيهـا غـادرت هـذا االتجـاه نحـو أفـكار‬
‫ومـدارس أخـرى؛ فعمر محمـود (أبو قتـادة) أصبح الحقاً أحد الرمـوز املعروفة‬
‫للسـلفية الجهاديـة يف العـامل‪ ،‬وحسـن أبو هنيـه اتجه مؤخرا ً نحـو الخروج من‬
‫الدائـرة السـلفية عمومـاً‪ ،‬حتـى عمـر يوسـف‪ ،‬الذي انضـم إىل جمعيـة الكتاب‬
‫حـي مـاركا الشمالية‪ ،‬تحـول هـو اآلخر إىل‬
‫والسـنة‪ ،‬وتـرأس مركـز البخـاري يف ّ‬
‫السـلفية الجهاديـة‪ ،‬والقاعـدة‪ ،‬وقُ ِتـل يف العراق‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫رب أتباعـه نحـو‬‫املفارقـة تبـدو أ ّن التيـار الحـريك مل يعـانِ فقـط مـن تس ّ‬
‫الجهاديـة‪ ،‬بـل نجـد أن عـددا ً مـن أتباعه‪ ،‬وممن كانوا يلتقون بالشـيخ القاسـم‬
‫(أيب األمين) اتجهـوا نحـو الطريـق األخرى املقابلـة‪ ،‬أي الفكر الـذي يبتعد كلية‬
‫عـن العمـل السـيايس‪ ،‬ويقترب مـن مبـدأ «طاعـة والة األمـور»‪ ،‬وهو مـا ظهر‪،‬‬
‫الحقـاً‪ ،‬عبر «مركـز اإلمام أبو عبـد الله الشـافعي» مع مجموعة الدكتور سـمري‬
‫مـراد الشـوابكة‪ ،‬إمام مسـجد السـ ّنة‪ ،‬يف عمان الرشقية‪.‬‬
‫نحـن‪ ،‬إذا ً‪ ،‬أمـام اتجـاه رخـوٍ‪ ،‬أيديولوجيـاً وحركيـاً‪ ،‬ليـس متامسـكاً‪ ،‬وال صلباً‪،‬‬
‫لكنـه يعكـس وعيـاً مفارقـاً لالتجاهين التقليـدي والجهـادي‪ ،‬وسـنطّلع عبر‬
‫التجـارب الشـخصية التاليـة على يشء مـن هـذه الحالـة يف املشـهد السـلفي‬
‫األردين‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫‪-1-‬‬
‫زايد حماد‪ :‬اإلبحار نحو «العمل الخيري»‬

‫حماد‪ ،‬جانباً مـن التجربة الروحيـة والفكرية والواقعية‬‫يقـ ّدم زايـد إبراهيـم ّ‬
‫لفـر ٍّد تب ّنـى مبكّـرا ً الفكر السـلفي الحريك‪ ،‬يف مرحلة املدرسـة‪ ،‬ثم خالل دراسـة‬
‫الدبلـوم‪ ،‬وعبر الحيـاة العمليـة‪ ،‬وبقـي ملتزمـاً يف هـذا املسـار ما يقـارب ثالثة‬
‫عقـود ونصـف‪ ،‬لك ّنه وصل يف األشـهر األخيرة إىل قناعة جديـدة بأهمية العمل‬
‫الخيري وشـعو ٍر بالرغبـة يف التفـ ّرغ لـه على الصعيـد التط ّوعـي‪ ،‬بعدمـا متكّن‬
‫خلال العقـد األخيرة مـن إعـادة هيكلـة جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬السـلفية‬
‫الحركيـة‪ ،‬وتنشـيطها وتوسـيع مجـال عملها ونشـاطها‪ ،‬واالبتعاد بهـا عن الخلط‬
‫الـذي وقـع‪ ،‬سـابقاً‪ ،‬بينها وبين أنصار التيـار السـلفي الجهادي!‬
‫بـدأت تجربـة زايـد (وهـو اليـوم يف الــسادسة واألربعين مـن عمـره) مـع‬
‫حي رأس‬‫الفكـر السـلفي يف مرحلـة الدراسـة الثانويـة‪ ،‬وكان حينهـا من سـكّان ّ‬
‫العين‪ ،‬يف عمان الرشقيـة‪ ،‬فتعـ ّرف يف مسـجد الخلفـاء الراشـدين‪ ،‬الـذي بنـي‬
‫الحـي‪ ،‬على حسـن أبـو هنيه‪ ،‬ثم على عمر محمـود (أيب قتادة‬ ‫حديثـاً يف ذلـك ّ‬
‫الفلسـطيني)‪ ،‬وكان األخيران قـد قطعـا شـوطاً قصيرا ً يف التجربـة السـلفية‪ ،‬يف‬
‫بداياتهـا يف األردن‪ ،‬لكنهما كانـا يتميـزان بقـدر كبير من املعرفـة واالطالع عىل‬
‫األفـكار واملـدارس اإلسلامية‪ ،‬وبالقـدرة على التأثير على الشـباب الصاعدين!‬
‫مـا شـ ّد زايـد إىل السـلفية أنّـه منـذ تلـك الفترة املبكّـرة من عمره (الدراسـة‬
‫الثانويـة) كان ميلـه الطبيعـي إىل البحـث عـن رأي الرسـول الكريـم (صىل الله‬
‫عليـه وسـلم) يف كل مسـألة مـن املسـائل الخالفيـة التي يسـمع عنهـا يف قضايا‬
‫العقيـدة والرشيعـة‪ ،‬مـا دفـع بحسـن أبـو هنيـه إىل التنبـؤ مبكّـرا ً مبسـار زايد‪،‬‬
‫فأخبره «سـتكون سـلفياً‪ ،‬طاملـا أنّـك تبحـث عـن الدليـل الرشعي وتهتم بسـنة‬
‫النبـي أكثر من اهتاممك مبا يقولـه الفقهاء والعلامء‪ ،‬إذ كانـت حينها الخالفات‬

‫‪159‬‬
‫على أشـ ّدها بين أتبـاع املذاهـب الفقهية‪ ،‬بخاصـة الشـافعية والحنفية»!‬
‫بـدأ مسيرته عبر حلقـات مـن الـدروس العلميـة التي كان يعقدها حسـن‬
‫الحي نفسـه)‪ ،‬ويرشح فيها العقيدة‬‫أبو هنيه يف مسـجد الخلفاء الراشـدين (يف ّ‬
‫ً‬
‫الطحاويـة (السـلفية)‪ ،‬ويُـد ِّرس قضايـا فقهيـة وعلوما رشعيـة مختلفة‪ ،‬وأخذت‬
‫مجموعـة تتشـكل مـن زايد وأصدقائه يف هـذه الحلقة‪ ،‬ممن تأثروا بحسـن أبو‬
‫هنيـه وعمـر محمـود‪ ،‬وسـاهم يف تعزيـز التوجـه السـلفي املبكّـر لديـه أسـتاذ‬
‫الرتبية اإلسلامية يف مدرسـته‪.‬‬
‫سـنجد‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬أ ّن زايـد يتم ّيـز بالنشـاط الحـريك‪ ،‬والرغبة يف التغيير واإلنجاز‬
‫الواقعـي‪ ،‬وهـو مـا انعكـس يف مرحلـة املدرسـة‪ ،‬إذ كان مسـؤول االنضبـاط يف‬
‫املدرسـة‪ ،‬وعضـوا ً يف املجموعـة الطالبيـة التـي سـميت بـ«أصدقـاء الرشطـة»‪.‬‬
‫وبـدأ يدعـو إىل الفكـر السـلفي ويـوزّع الكتـب واملطويـات السـلفية على‬
‫الطلاب‪ ،‬منـذ تلـك املرحلـة‪ ،‬مع صديقه أسـامة شـحادة‪ ،‬الـذي وإن كان أصغر‬
‫سـ ّناً‪ ،‬إالّ أنّـه منـذ صغـره تب ّنى السـلفية‪.‬‬

‫استكامل معامل املنهج‪ :‬السلفية الحركية‬


‫يف العـام ‪ 1989‬التحـق بكليـة املجتمـع العـريب لدراسـة املحاسـبة‪ ،‬بعـد أن‬
‫أنهـى الخدمـة العسـكرية‪ ،‬وكان قبلهـا قـد بدأ االنخراط يف األوسـاط السـلفية‪،‬‬
‫فيحضر خطبـة الجمعـة ملحمـد إبراهيـم شـقرة‪ ،‬أحـد أبرز شـيوخ هـذا التيار‪،‬‬
‫وكان يحضر دروس الشـيخ محمـود القاسـم (أيب األمين)‪ ،‬مـع أسـامة شـحادة‬
‫وعدنـان الصـوص‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫مل يكـن قبـل ذلـك يعـ ّرف نفسـه بأنّـه «سـلفي»‪ ،‬إذ يتب ّنـى الفكـر مـن‬
‫دون أن مي ّيـز نفسـه على هـذا األسـاس‪ ،‬لكـن مـع الكليـة أصبـح يتم ّيـز على‬
‫هـذا األسـاس‪ ،‬مـع خوضـه تجربـة االنتخابـات الطالبيـة يف الكليـة‪ ،‬إذ نشـطت‬
‫التيـارات اإلسلامية يف تلـك الفترة‪ ،‬وبـدا الحضـور البـارز لجامعـة اإلخـوان‬
‫املسـلمني‪ ،‬وحتـى تلـك الفترة مل يكـن يشـعر‪ ،‬كذلـك‪ ،‬بأنـه على خلاف مـع‬
‫‪160‬‬
‫مدرسـة الشـيخ نـارص األلبـاين وتالميـذه‪.‬‬
‫قبيـل االنتخابـات الطالبيـة وقـع زايـد يف مفاجـأة غير سـا ّرة مـع طلاب‬
‫اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬إذ مل يكـن حينهـا يشـعر بخالفـات عميقـة مـع أبنـاء هـذه‬
‫الجامعـة الكبيرة‪ ،‬فهـم جميعـاً مجم ِعـون على الطرح اإلسلامي بصـورة عامة‪،‬‬
‫واتجهـت النيـة أن يشترك هـو (ممثلاً للتوجـه السـلفي) مـع اإلخـوان يف كتلة‬
‫واحـدة لخـوض تلـك االنتخابـات‪ ،‬إالّ أ ّن مـا دفعـه إىل تغيري رأيه هـو أ ّن طالب‬
‫اإلخـوان تخلّـوا عنـه‪ ،‬وتراجعـوا عـن املشـاركة يف االحتجاجـات الطالبيـة ضـد‬
‫زيـادة رسـوم الدراسـة‪« ،‬بعدمـا جاءتهـم أوامـر مـن قيادتهـم يف الخـارج»!‬
‫كلً مـن أبـو هنيـه وعمـر محمـود‪ ،‬فطلبـا منـه االسـتمرار يف‬ ‫استشـار زايـد ّ‬
‫االعتصـام‪ ،‬وهـو مـا خلـق الشرخ األول الكبير مـع «الطلاب اإلخـوان»‪ ،‬بينما‬
‫اسـتم ّر أصدقـاؤه السـلفيون معـه بـاإلرضاب‪ ،‬وكان مثـل هـذا االحتجـاج خالل‬
‫تلـك الفترة‪ ،‬قبـل االنفتـاح الدميقراطـي سـلوكاً خطيرا ً مـن الناحيـة السياسـية‬
‫(قـد يـؤدي إىل االعتقـال أو التوقيـف)‪ ،‬إالّ أ ّن إرصار زايـد والسـلفيني والطلاب‬
‫اآلخريـن نجـح يف دفـع عمادة الكليـة إىل الرتاجـع عـن قـرار الرفـع‪ ،‬مـا مثّـل‬
‫نجاحـاً كبيرا ً للطالـب الجديـد يف الكليـة‪ ،‬ومنحـه حضـورا ً متميـزا ً خلال ّ‬
‫عامي‬
‫الدراسة!‬
‫انتهى األمر إىل ترشّ ـح زايد عىل رأس كتلة سـلفية مسـتقلة واإلخوان يف كتلة‬
‫أخـرى منافسـة‪ ،‬ومـا يـزال يحتفـظ بالبيـان االنتخـايب (الـذي يتضمـن مطالـب‬
‫مرتبطـة بالرسـوم الدراسـية‪ ،‬وإنشـاء مكتبـة‪ ،‬وحريـة التعبري)‪ ،‬ومل يـدرك حينها‬
‫زايـد أن أعضـاء كتلتـه السـلفية ينتمـون إىل «املدرسـة الرسوريـة» (التي كانت‬
‫تؤمـن يف األصـل بالعمـل السـيايس والخـط املعـارض)‪ ،‬فأغلبهـم مـن مناطـق‬
‫أخـرى‪ ،‬مـن الرصيفـة والزرقـاء وصويلح‪.‬‬
‫نجـح زايـد يف االنتخابـات‪ ،‬وانتُ ِخـب أيضـاً نائبـاً لرئيـس اتحـاد الطلبـة يف‬
‫الكليـة‪ ،‬وحدثـت خلال تلـك املرحلة املواجهة السياسـية األوىل لـه مع األجهزة‬
‫األمنيـة‪ ،‬على خلفيـة نشـاطه الطلايب‪ ،‬وقـد كان قبـل ذلـك يتصـ ّدر اإلرضابات‬
‫واملظاهـرات والفعاليـات يف الكليـة‪ ،‬ومـن هـذه األنشـطة بطولة يف كـرة القدم‬

‫‪161‬‬
‫باسـم االنتفاضـة الفلسـطينية (التـي كانـت تشـعل حماس الشـباب اإلسلامي‬
‫والشـارع العـريب خلال تلـك الفترة يف نهايـة الثامنينيـات)‪.‬‬
‫احتـك بـه أحـد الطلاب وتحدث‬‫يف اليـوم الختامـي لتلـك البطولـة الكرويـة ّ‬
‫معـه بلغـة حـادة مخاطبـاً لـه بالقـول «ملـاذا ال تعقـدون بطولـة باسـم امللـك‬
‫الحسين بـن طلال؟!»‪ ،‬أدرك زايـد أن الهـدف هـو افتعال مشـكلة معـه‪ ،‬فقال‬
‫لـه «ومل ال‪ ،‬سـنقيم بطولـة باسـم امللـك الحسين»‪ ،‬فأجابه الطالـب املذكور بأن‬
‫عليـك تغيير اسـم البطولـة الحالية‪.‬‬
‫ونظـرا ً لألسـلوب الخشـن واالسـتفزاز مـن ذلـك الطالـب « تطـ ّور االحتـكاك‬
‫إىل بدايـة مشـاجرة كبيرة‪ ،‬فاجتمـع العديـد مـن الطلاب (الشرق أردنيين)‬
‫ليقومـوا بضريب‪ ،‬واسـتخدموا لغـة عنرصيـة وإقليميـة‪ .‬فوقـف يف وجههـم‬
‫مجموعـة أخرى مـن الطالب (الرشق أردنيين أيضاً)‪ ،‬وانتهت املشـاجرة‪ ،‬لكنني‬
‫اسـتدعيت إىل املخابـرات‪ ،‬وطُلبـت منـي االسـتقالة مـن اتحـاد الطلاب‪ ،‬وهـذا‬
‫مـا فعلتـه‪ ،‬وأنـا محكـوم بحالـة الصدمة واإلحباط‪ ،‬مما جرى بينـي وبني أولئك‬
‫الطلاب‪ ،‬واسـتنكفت عـن النشـاط الطلايب إىل أن أنهيـت دراسـتي يف الكليـة‬
‫(ملـدة عامني)»‪.‬‬
‫خلال تلـك الفترة عـادت الحيـاة النيابيـة إىل األردن (يف العـام ‪ ،)1989‬ومل‬
‫يكـن هنالـك مرشـحون عن التيار السـلفي‪ ،‬إالّ أ ّن كالًّ من عمر محمود وحسـن‬
‫أبـو هنيـه اتخـذا قـرارا ً بدعـم مرشّ ـحي اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬وسـاهم زايد خالل‬
‫تلـك الفترة يف حملـة الرتويـج ملرشـح اإلخـوان عـن تلـك املنطقـة‪ ،‬وهـو عبـد‬
‫املنعـم أبـو زنط‪.‬‬
‫مل يكـن حينهـا عمـر محمـود (أبـو قتـادة الفلسـطيني) يكفّـر الدميقراطيـة‬
‫واملجالـس النيابيـة‪ ،‬وقـام بـدور فاعـل يف حـي رأس العين الشـعبي الواسـع‪،‬‬
‫ذي األغلبيـة األردنيـة‪ -‬الفلسـطينية‪ ،‬يف تحفيـز النـاس على انتخـاب اإلخـوان‬
‫املسـلمني‪ .‬ويف الوقـت نفسـه خالـف هـذا املوقف املزاج السـلفي العـام ألتباع‬
‫الشـيخ نـارص مـن جامعة اإلخوان املسـلمني‪ ،‬وهـو املزاج الذي تطـ ّور الحقاً إىل‬
‫حالـة عـداء تجـاه الجامعـة‪ ،‬واقتراب مـن الحكومة لـدى ذلـك االتجاه!‬

‫‪162‬‬
‫يسـتذكر زايـد تلـك املرحلـة‪ ،‬حين كان يف بدايـة العرشينيـات‪ ،‬وال يخفي أنّه‬
‫لغير جـزءا ً كبيرا ً مـن سـلوكه السـلفي تجـاه اآلخرين‪،‬‬
‫لـو عـاد إىل تلـك األيـام ّ‬
‫فالعالقـة يف مرحلـة الحقـة تحولـت مـع طلاب جامعـة اإلخـوان يف الكليـة إىل‬
‫عـداء ورصاع شـديد‪ ،‬وطريقـة خطابـه مـع الطالبـات كانـت تتسـم بالحـ ّدة‬
‫والرصامـة‪ ،‬ويضيـف ضاحـكاً «أسـتغرب كيـف كانـت الطالبـات يصمتن على‬
‫ترصفاتنـا الحـادة تلـك لـو رضبونـا حينهـا‪ ،‬مل أكـن أللومهـ ّن اليـوم»!‬
‫مـن تلـك الترصفـات محاولـة فـرض رؤيتهـم السـلفية على طلاب الكليـة‪،‬‬
‫فـإذا رأوا أحدهـم مـع فتـاة يتجهمون ويسـتغربون‪ ،‬وإذا طالـب بعض الطالب‬
‫برحلـة مختلطـة‪ ،‬فتلـك جرميـة كبرى يرتكبهـا‪ ،‬يضحـك صديقنـا ويقـول بـأ ّن‬
‫«املشـكلة حينهـا بأنّنـي كنـت أنـا مسـؤول اللجنـة االجتامعيـة املرشفـة على‬
‫هذه األنشـطة»!‬
‫يصـف مواقفهـم السـلفية خلال تلـك املرحلـة الدراسـية‪ ،‬يف الكليـة‪،‬‬
‫بـ«الصداميـة الشـديدة»‪ ،‬ويعيـد زايـد هـذا النـزوع إىل أ ّن «املشـايخ والدعـاة‬
‫الذيـن كنـا نعـود إليهـم مل يكونـوا ميتلكـون فقـه الواقـع املتعلـق بالجامعـات‬
‫والكليـات وطبيعتهـا‪ ،‬فك ّنـا نريـد أن نفـرض أفكارنـا ومواقفنـا بالقـوة‪ ،‬لدرجـة‬
‫أنّنـا يف إحـدى الليـايل قمنـا بإغـراق الكليـة بالشـعارات واليافطـات التـي تؤيد‬
‫االنتفاضـة الفلسـطينية‪ ،‬فجـاءين يف اليـوم التـايل عميـد الكليـة محـاوالً نصحي‬
‫بـأ ّن هـذه الطريقـة الصداميـة قـد تـأيت بنتائـج عكسـية»!‬
‫يفسر زايـد تلـك الطريقـة الصداميـة ومحاولـة فـرض املواقـف بأنّهـم كانوا‬‫ّ‬
‫محكومين «بشـعور عميـق بأنّنـا كنا ننفّذ الديـن يف الكليـة واملجتمع‪ ،‬فوصلت‬
‫األمـور إىل درجـة فـرض الفصـل بين الطلاب والطالبـات يف األنشـطة التـي‬
‫نشرف عليهـا»‪ .‬بالرغـم من ذلـك كان صاحبنا يحظـى بانتخاب واسـع من قبل‬
‫الطالبـات‪ ،‬ألنّـه كان يعـ ّوض هـذه املواقـف الصداميـة مبواقـف أخـرى واضحة‬
‫يف الدفـاع عـن حقـوق الطلبـة ويف القضايـا الخدماتيـة‪ ،‬واألهم من هـذا وذاك‬
‫نشـاطه الكبير يف دعـم االنتفاضـة الفلسـطينية‪ ،‬يف الكليـة‪ ،‬مـا دفـع بالتيـارات‬
‫الفلسـطينية األخـرى‪ ،‬إىل القبـول بهـذه الشـخصية السـلفية الجريئـة بالرغـم‬

‫‪163‬‬
‫مـن الخلاف األيديولوجـي معـه‪ ،‬فـكان يتقدم زايد تلـك االتجاهـات جميعاً يف‬
‫دعـم االنتفاضة‪.‬‬
‫عمـل زايـد بعـد تخرجـه يف املكتـب اإلسلامي‪ ،‬وهـو دار للنشر والتوزيـع‬
‫ميلكهـا زهير الشـاويش‪ ،‬أحـد قيـادات جامعـة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬وهـو ذو‬
‫توجـه سـلفي‪ ،‬واسـتثمر صاحبنـا تلك املرحلة بالدراسـة والقـراءة والتع ّمق أكرث‬
‫يف الجانـب الفكـري‪ ،‬واإلطاللـة على الحوارات والنقاشـات التـي كانت تدور يف‬
‫أروقـة املكتـب بين قيـادات التيـار السـلفي واإلخوان والشـخصيات اإلسلامية‬
‫عمن‪.‬‬‫والفكريـة التـي تـزور موقـع املكتـب يف «وسـط البلـد» يف ّ‬
‫خلال فترة التسـعينيات انضـ ّم زايد‪ ،‬أيضاً‪ ،‬إىل حركة أهل السـنة والجامعة‬
‫«حسـم»‪ ،‬التـي أسسـها عمـر محمـود وحسـن أبـو هنيـه‪ ،‬وشـارك الحقـاً يف‬
‫تأسـيس جمعية الكتاب والسـنة‪ ،‬يف العام ‪( 1993‬وسـاعد يف عملها منذ البداية‬
‫يف الجانـب اإلداري‪ ،‬فـكان محاسـباً للجمعيـة)‪ ،‬مع املجموعة نفسـها‪ ،‬وزاوج يف‬
‫تلـك الفترة بين القراءة واملشـاركة يف نشـاطات التيار السـلفي الحـريك الجديد‬
‫على السـاحة األردنيـة‪ ،‬الـذي بـدأ ينتشر ويكتسـب مجموعـة مـن املؤيديـن‬
‫واملعـارف الجديـدة على الخـط الفكري نفسـه‪ ،‬ويسـتفيد من تجربـة الصحوة‬
‫اإلسلامية يف السـعودية‪ ،‬ومـا يصـدر عنهـا مـن أرشطـة كاسـيت تصـل عمان‬
‫وتبـاع بكميـات كبيرة‪ ،‬نظرا ً لحجم التأثر الكبري بشـخصيات سـلفية «كارزمية»‪،‬‬
‫معارِضـة جديـدة يف السـعودية‪ ،‬مثـل سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ونـارص‬
‫العمـر وغريهـم‪ ،‬ممن كان يشـعر أبنـاء التيار الحريك األردين أنّـه ميثلون امتدادا ً‬
‫لهـم‪ ،‬وفـق مـا يسـ ّجله زايـد يف روايتـه لتجربتـه الفكريـة والروحيـة مـع هـذا‬
‫التيار‪.‬‬
‫كان شـيخ هـذا التيـار هـو عمـر محمـود‪ ،‬ويقـف إىل جانبـه حسـن أبـو‬
‫هنيـه‪ ،‬يقـول زايـد «مل يكـن عمر هـو أبا قتادة نفسـه الذي نعرفـه اليوم»‪ ،‬فلم‬
‫يكـن الشـقاق والنـزاع مع التيـار التقليدي قد وصـل إىل املرحلـة الحالية‪ ،‬وكان‬
‫أكثر مرونـة يف العالقـة مـع الجامعـات والحـركات اإلسلامية األخـرى‪ ،‬ويسرد‬
‫تـؤش على مواقفـه خلال تلـك املرحلـة‪ ،‬إذ يقـول « اسـتفتيته يف‬ ‫زايـد قصـة ّ‬

‫‪164‬‬
‫مسـألة دخـول طالبـات يف كتلتـي االنتخابيـة فوافـق‪ ،‬وقلت له ذلـك يعني أننا‬
‫سـنجلس معهـن ونتناقـش‪ ،‬فجـ ّوز ذلك»‪.‬‬
‫مل تكـن قضيـة الحاكميـة هـي املهيمنـة على التيـار الجديـد‪ ،‬الـذي يقـوده‬
‫عمـر محمـود‪ ،‬بالرغـم مـن أن موقـف هذا التيار من صدام حسين كان سـلبياً‪،‬‬
‫وكتبـوا ورقـة تخالـف توجـه الدولـة واإلخـوان الـذي كان يقـوم على دعـم‬
‫الرئيـس العراقـي السـابق‪ ،‬مـا خلق لهم مشـكالت حتـى مع املجتمـع واملصلّني‬
‫املتعاطفين مـع النظـام العراقي‪.‬‬
‫يعـود زايـد بذاكرتـه إىل تلـك الفترة‪ ،‬إذ كانـوا حريصين على البحـث عـن‬
‫أوجـه الخلاف بينهـم وبني اإلخوان‪ ،‬بسـبب الرصاع الكبري يف املسـاجد‪ ،‬فوصلوا‬
‫إىل أ ّن «مـا مييزنـا عـن جامعـة اإلخوان املسـلمني هـو أنّنا مننح مسـألة العقيدة‬
‫والدليـل الرشعـي والتعليـم الدينـي أهميـة كبيرة مقارنـة بالجامعـة‪ ،‬وكنا نرى‬
‫بـأ ّن اإلخـوان يحملـون عقيـدة أشـعرية (تغاير عقيـدة أهل السـنة والجامعة)‪،‬‬
‫وكان التنافـس والصـدام يف املسـاجد يجري مع أبناء جامعة اإلخوان املسـلمني‪،‬‬
‫فصـار السـلفيون يبحثـون عـن مواقـع االختلاف مع جامعـة اإلخوان بـدالً من‬
‫القواسـم املشرتكة»!‬
‫ثـم بـدأ هـذا التيـار (الحـريك) يتميـز عـن السـلفيني اآلخريـن باالتجـاه‬
‫نحـو العمـل الحـريك واملنظّم‪ ،‬والحقـاً بعدم املامنعـة يف االنخراط يف السياسـة‪،‬‬
‫بالرغـم أنّهـم مل يؤسسـوا حزبـاً إىل اآلن‪ ،‬لكـن املوقـف الفكـري والفقهـي كان‬
‫مغايـرا ً للمـزاج السـلفي لتالميـذ الشـيخ األلبـاين‪.‬‬
‫عمـل زايـد يف املكتـب اإلسلامي مـدة ثالثـة أعـوام‪ ،‬وقـرأ خاللهـا العديـد‬
‫مـن الكتـب يف العقيـدة والحديـث والفكـر اإلسلامي‪ ،‬وكتـب ألحـد السـلفيني‬
‫األردنيين‪ ،‬ممـن أسسـوا جمعيـة الكتاب والسـنة‪ ،‬من سـكان محافظـة الزرقاء‪،‬‬
‫وهـو حسـان عبـد املنـان‪ ،‬وكان يذهب لالسـتامع لخطب الشـيخ محمد شـقرة‬
‫ودروس تالميـذ الشـيخ نـارص األلبـاين‪ ،‬ومل يكـن يشـعر بـأن الخلاف مـع أتباع‬
‫الشـيخ األلبـاين وصـل إىل مرحلـة القطيعـة أو التاميـز الـكيل عنهم‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫لك ّنـه بعـد ذلـك‪ ،‬مـع منتصـف التسـعينيات‪ ،‬بـدأ يـدرك متامـاً أ ّن االختلاف‬
‫بـات كبيرا ً يف أوسـاط التيـار السـلفي‪ ،‬وأ ّن الجمعيـة لهـا خـط فكـري آخـر‬
‫مغايـر عـن مدرسـة الشـيخ األلبـاين‪ ،‬وكان حينهـا مـع املجموعـة التـي تـدور‬
‫حـول جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬مثـل حسـن أبـو هنيه وبسـام النارص وهشـام‬
‫الزعبـي وأسـامة شـحادة ومحمد شـتات‪ ،‬وحسـان عبـد املنان وأحمـد الكويتي‬
‫وإبراهيـم العسـعس وغريهـم‪.‬‬
‫الحـظ زايـد أ ّن الخلاف الكبير بين السـلفيني عمومـاً يتمثّـل يف املوقـف‬
‫مـن الحكومـات واألنظمـة القامئـة‪ ،‬ومـا يرتتـب عىل ذلـك من موضـوع الجهاد‬
‫املسـلّح‪ ،‬فهنالـك مجموعـة تـرى بـأ ّن الحاكـم مسـلم وال تتحـدث عـن الجهاد‪،‬‬
‫ومجموعـة أخـرى تكفّـر الحاكم وتصل إىل القول بالجهـاد‪ ،‬عىل غرار الجامعات‬
‫اإلسلامية املرصيـة‪ ،‬ومجموعـة ثالثـة تكفّـر الحاكـم وترفـض القبـول برشعيـة‬
‫الجهـاد يف إدارة الصراع الداخلي‪ ،‬وآخـرون يتوقفـون يف املوقـف مـن الحاكـم‪،‬‬
‫فلا يقولـون بأنّـه مسـلم أو غري مسـلم‪.‬‬
‫خلال تلـك الفترة مل يقـف الفـرز واالختلاف عنـد حـدود العالقة مـع التيار‬
‫السـلفي التقليـدي‪ ،‬بـل بـدأ حتـى يف أوسـاط جمعيـة الكتـاب والسـنة حـول‬
‫القضايـا السـابقة‪ ،‬وكان ذلـك يشي ببدايـة بـروز السـلفية الجهادية يف املشـهد‬
‫األردين‪ ،‬بخاصـة أ ّن عمـر محمـود الذي غادر البالد يف العام ‪ ،1991‬وهو سـلفي‬
‫حـريك‪ ،‬أي قبـل تأسـيس جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬عاد صيتـه للبروز بعد عدة‬
‫أعـوام‪ ،‬بعـد أن اسـتقر يف لنـدن‪ ،‬لكن بوصفه أحـد أهم منظّري التيار السـلفي‬
‫الجهـادي‪ ،‬ومفتـي الجامعـات الجهادية يف شمال أفريقيا!‬
‫تحـوالت عمـر محمـود مـع بـروز أيب محمـد املقـديس‪ ،‬منظّـر السـلفية‬
‫الجهاديـة‪ ،‬على ركـح السـاحة األردنيـة‪ ،‬بالتزامـن مـع الـزج بشـيوخ الصحـوة‪،‬‬
‫سـفر الحـوايل وسـلامن العـودة ونـارص العمـر‪ ،‬يف السـجون لسـنوات طويلة يف‬
‫السـعودية‪ ،‬كل ذلـك خلـق ارتبـاكاً كبيرا ً لـدى القامئين على جمعيـة الكتـاب‬
‫والسـنة ومرشوعهـا‪ ،‬فبـدأت املجموعـة املتأثـرة بالخطـاب السـلفي الجهـادي‬
‫تبرز بوضـوح وتطغـى رؤيتهـا على صـورة الجمعيـة وموقعهـا على خارطـة‬

‫‪166‬‬
‫االتجاهـات اإلسلامية األردنيـة!‬
‫كان زايـد يشـعر بالقـرب أكثر مما تطـرح املدرسـة الحركيـة يف السـعودية‪،‬‬
‫بخاصة سـفر الحوايل‪ ،‬فقرأ كتابه «ظاهرة اإلرجاء يف العامل اإلسلامي»‪ ،‬واسـتمع‬
‫إىل أرشطـة سـفر الحـوايل املختلفـة‪ ،‬وجـد أنّـه يتميّـز عما يطرحـه التقليديون‬
‫والجهاديـون‪ ،‬ومـا يثـار بينهـم من سـجاالت ونقاشـات حا ّدة بين الطرفني‪.‬‬
‫على العمـوم مل يكـن يـرى زايد نفسـه يف وسـط هـذه االختالفـات الفكرية‪،‬‬
‫فنزوعـه أقـرب إىل الجانـب العملي واإلداري‪ ،‬لكنـه اسـتم ّر يراقـب الخالفـات‬
‫داخـل الجمعيـة نفسـها‪ ،‬مـا يدور من نقاشـات بني حسـن أبو هنيـه وإبراهيم‬
‫العسـعس وبسـام النـارص‪ ،‬والحقـاً أحمـد الكويتـي‪ ،‬ومـا يقـع مـن خالفـات‬
‫بينهـم‪ ،‬مـا خلـق ر ّدة فعـل لديـه بأنّه قـ ّرر االنسـحاب الناعم الهـادئ واالبتعاد‬
‫عـن الجمعيـة‪ ،‬ألنّهـا تفتقـر إىل القيـادة والهويـة الفكريـة‪ ،‬مـا عـ ّرض الجمعية‬
‫ملواجهـة مـع املخابـرات‪ ،‬واعتقـال العديـد مـن أعضائها باسـتمرار!‬

‫أن تكون سلفياً يف العمل واملهنة!‬


‫انشـغل صاحبنـا‪ ،‬بعـد ذلـك‪ ،‬أكثر بأموره الشـخصية وبعملـه الخاص‪ ،‬وهو‬
‫شـجن آخـر يتذكّـره زايـد‪ ،‬فعندما ترك املكتب اإلسلامي عمل محاسـباً يف رشكة‬
‫خاصـة‪ ،‬يتقـاىض منهـا راتبـاً مجزيـاً يف تلك الفترة‪ ،‬لكنـه يقيّد رواتـب العاملني‬
‫مـن الحسـابات البنكيـة‪ ،‬فأفتـى لـه نـارص األلبـاين بحرمـة هـذا العمـل‪ ،‬يـروي‬
‫تلـك الحادثـة بقولـه « حاولت أن أناقشـه‪ ،‬فغضـب وقال «أمل تنتـه؟!»‪ ،‬ورأيت‬
‫وجـوه الحارضيـن قـد قطّبـت يب‪ ،‬بالرغـم أنّنـي كنـت أريـد أن أسـأل فيما لـو‬
‫تركـت شـخصاً آخر يسـ ّجل هذه القيـود البنكية‪ ،‬فهـل سـتبقى الحرمة‪ ،‬فرتكت‬
‫العمل»!‬
‫عمـل بعدهـا محاسـباً بـدوام جـزيئ يف العديـد مـن الشركات التجاريـة يف‬
‫النهـار‪ ،‬ويف الليـل يف أحـد املطاعـم يف عمان‪ .‬يقـول « بـدأ الشـباب‪ ،‬أصدقـايئ‬
‫ي بترك العمـل بـه‪ ،‬ألنّـه يـأيت‬
‫السـلفيون‪ ،‬يأتوننـي إىل املطعـم‪ ،‬ويل ّحـون عل ّ‬
‫‪167‬‬
‫مبطـرب يـوم الخميـس يغ ّنـي‪ ،‬فيسـألونني كيـف تعمـل يف مطعـم فيـه غنـاء‬
‫ورقـص‪ ،‬فذهبـت إىل صاحـب املطعـم (وهـو مسـيحي)‪ ،‬وأخربتـه أننـي أريـد‬
‫أن أتـرك العمـل‪ ،‬فقـال يل‪ :‬ملـاذا؟ مـن أجـل الرقـص والغنـاء؟!‪ ،‬فقلـت‪ :‬نعـم‪،‬‬
‫قـال‪ :‬طيـب سـأصنع لـك كوخـاً مح ّجبـاً يف زاوية املطعـم‪ ،‬يك ال ترى وال تسـمع‬
‫املطـرب يـوم الخميـس‪ ،‬وهـذا مـا حـدث فعلاً‪ ،‬فجـاءين األصدقـاء السـلفيون‪،‬‬
‫فقالـوا‪ :‬ال يكفـي‪ ،‬ألن املطعـم فيـه أغـانٍ ‪ ،‬فحجـب األغـاين عـن مـكاين‪ ،‬لكـن‬
‫األصدقـاء اسـتمروا يأتـون ويل ّحـون‪ ،‬حتـى تركـت املطعـم»‪.‬‬
‫عـاد بعـد ذلـك إىل جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬مـع مجموعـة مـن الشـباب‪،‬‬
‫وانتُخـب يف مجلـس اإلدارة‪ ،‬بهـدف إعـادة إحيـاء عمـل الجمعيـة مـع هيئـة‬
‫إداريـة جديـدة‪ ،‬وكان عضوا ً احتياطياً‪ ،‬إالّ أنّه ملا عاد إىل الجمعية‪ ،‬وكان موقعها‬
‫يف جبـل الزهـور‪ ،‬وجـد أنّهـا مـا تـزال تعـاين مـن مشـكالت ورصاعـات داخلية‪،‬‬
‫ومـا تـزال التجاذبـات بين الحركيين والجهاديني للسـيطرة عىل الجمعيـة قوية‪.‬‬
‫بالرغـم مـن ذلـك قـ ّرر زايد االنرصاف ملـا يتقنه وهو جمـع التربعات وإقامة‬
‫العالقـات العامـة واالشـتباك مـع املجتمع‪ ،‬مبتعـدا ً عن الخالفـات الداخلية‪ .‬مع‬
‫االنتخابـات التاليـة قـ ّررت مجموعـة من الشـباب ترشـيح زايـد إبراهيم رئيسـاً‬
‫للجمعيـة‪ ،‬إذ كان البحـث جاريـاً عـن شـخصية إداريـة وحركيـة مرنـة‪ ،‬وليـس‬
‫شـيخاً أو فقيهـاً‪ ،‬ال يحسـن اإلدارة والقيادة‪.‬‬
‫وافـق صاحبنـا على الرتشّ ـح ملوقـع الرئاسـة‪ ،‬فاتفقـت االتجاهـات املتصارعة‬
‫على توليفـة إداريـة تعمـل معـه‪ ،‬مل يكـن هـو صاحـب القـرار فيهـا‪ ،‬مـن بينها‬
‫محمـد عمـر (اتهـم مبحاولة اغتيـال الدبلومايس األميريك فويل‪ ،‬الحقـاً)‪ ،‬فالحظ‬
‫أ ّن املجموعـة املق ّربـة مـن التيـار الجهـادي تـأيت إىل االجتامعـات اإلداريـة وقد‬
‫اتخـذت قرارهـا سـابقاً‪ ،‬مل يصطـدم معهـم‪ ،‬لك ّنـه كان يبنـي قناعتـه الجديـدة‬
‫بضرورة إخـراج الجمعيـة مـن عبـاءة التيـار الجهادي‪ ،‬وحسـم هـذه الخالفات‬
‫مبـا يحمـي الجمعيـة ويج ّنبهـا املواجهة مـع األمن والسـلطات‪.‬‬
‫مل يجـد زايـد يف نفسـه أي قبـول لفكـرة الجهـاد املسـلّح‪ ،‬وال مبـا يطرحـه‬
‫املقربـون مـن التيـار الجهـادي‪ ،‬بالرغـم مـن محاولتهـم باسـتمرار اسـتاملته‬

‫‪168‬‬
‫ملقابلـة املقـديس أو تبنـي أفكارهـم‪ ،‬فكانـت قناعتـه مختلفـة متامـاً مـع هـذا‬
‫الطـرح الفكـري والدينـي!‬
‫بعـد اغتيـال الدبلومـايس فـويل اتهـم نائـب رئيـس الجمعيـة‪ ،‬محمـد عمـر‪،‬‬
‫بتورطـه يف هـذه القضيـة‪ ،‬يقـول « اسـتدعيت للمخابـرات العامـة‪ ،‬وأخبروين‬
‫أنهـم أدركـوا بأنّنـي لسـت على عالقـة بالحادثـة‪ ،‬لك ّنهـم أشـاروا إىل الوضـع‬
‫الخطير للجمعيـة مـع هـذا الحضـور للتيـار الجهـادي»‪.‬‬
‫قـام زايـد بفصـل محمـد عمـر‪ ،‬وتفاجـأ بـأن العضـو االحتيـاط هـو اآلخـر‬
‫قريـب مـن التيـار الجهـادي‪ ،‬فقـرر االنقلاب عىل هذ الخـط والتخلـص منه يف‬
‫الجمعيـة‪ ،‬والحـ ّد مـن وجـوده فيها‪ ،‬وبدأ العمـل عىل االنتخابـات التالية‪ ،‬وض ِّم‬
‫أعـداد كبيرة مـن األعضـاء الجـدد‪ ،‬وهـو ما حـدث فعالً‪ ،‬لكـن مـع اإلبقاء عىل‬
‫بعـض املق ّربين مـن الخـط الجهـادي يف مجلـس اإلدارة‪« ،‬حتى ال يقطـع الحبل‬
‫معهـم متاماً»!‬
‫بـدأ زايـد مـع الهيئـة اإلداريـة الثانيـة‪ ،‬التـي يرأسـها‪ ،‬العمـل على إنجـاز‬
‫مرشوعـه‪ ،‬الـذي يقـوم عىل الخروج مـن األزمـة الفكرية الداخلية‪ ،‬والتوسـع يف‬
‫عمـل الجمعيـة‪ ،‬وافتتـاح فـروع ومراكـز مختلفـة‪ ،‬والرتكيز عىل العمـل الرتبوي‬
‫والدعـوي والعلمـي والخيري‪ ،‬وهـو مـا نجـح بـه بقـوة خلال أشـهر قليلـة‪،‬‬
‫فأسـس ‪ 4‬فـروع وعرشيـن مركـزا ً تابعـاً للجمعيـة‪.‬‬
‫إالّ أ ّن ذلـك مل يج ّنـب زايـد االصطـدام مـع التيـار الجهـادي‪ ،‬إذ كان يتفاجـأ‬
‫بـأ ّن أغلـب املراكـز متأثـرة بالفكـر الجهـادي‪ ،‬وتخلق له مشـكالت أمنيـة كبرية‬
‫مـع جهـاز املخابرات‪ ،‬ويكتشـف‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬بأ ّن ما تثيره األجهزة األمنيـة صحيحاً‬
‫حـول تغلغـل التيـار الجهـادي‪ ،‬ثـم حدثـت مشـكالت حـول دور عمـر يوسـف‬
‫حـي مـاركا الشمالية‪ ،‬وما‬
‫(أيب أنـس الشـامي)‪ ،‬الـذي أسـس مركـز البخـاري يف ّ‬
‫يطرحـه واملجموعـة التـي تلتـف حولـه‪ ،‬قبـل أن يسـتقيل منهـا‪ ،‬ويذهـب إىل‬
‫العـراق‪ ،‬ليصبـح هـو اآلخـر منظّـرا ً لقاعـدة العـراق بقيـادة الزرقاوي!‬
‫تلـك األحـداث عـ ّززت قناعـة زايد بضرورة تصفية وجود التيـار الجهادي يف‬

‫‪169‬‬
‫الجمعيـة بصـورة نهائيـة‪ ،‬واالنقلاب الكامـل عليه‪ ،‬فقـام بأهم حركـة يف تاريخ‬
‫الجمعيـة‪ ،‬ومتثّلـت بفصـل مئـات األعضاء‪ ،‬وإغلاق املراكز كافـة‪ ،‬والتخلص من‬
‫مجموعـة «الرصيفـة»‪ ،‬التـي كانـت متثّـل بـؤرة االتجـاه الجهـادي يف الجمعية‪،‬‬
‫وقـام بإعـادة هيكلـة الجمعيـة وعملهـا ونشـاطاتها‪ ،‬متهيـدا ً النطالقـة أخـرى‬
‫بعيـدة متامـاً عـن التلبس مبـا يطرحـه السـلفيون الجهاديون!‬
‫يفسر صديقنـا هـذه الخطـوة بـأ ّن الجمعية كانت تعاين مـن فقدان الهوية‬ ‫َ‬
‫وضبابيـة الرؤيـة لتصورهـا لإلصلاح والتغيير والعمـل العـام‪ ،‬فكانـت اإلدارة‬
‫تدعـو نائبـاً إللقـاء محارضة‪ ،‬فيقوم أعضـاء الجمعية بتكفريه أمـام الناس‪ ،‬وهذا‬
‫يتناقـض مـع مبـدأ العمـل االجتامعـي والعـام‪ ،‬الذي يقـوم عىل تكويـن قاعدة‬
‫اجتامعيـة وبنـاء خطـوط التواصـل املجتمعـي‪ ،‬وتقديـم خدمـات للجمهـور‪،‬‬
‫فمثـل هـذا الواقـع دفـع به إىل إنهـاء هذه الحالـة والبدء مبرحلـة جديدة تقوم‬
‫على تعريـف الهويـة بصـورة واضحة يف السـياق اإلصالحي‪ ،‬ال الثـوري‪ ،‬والعمل‬
‫السـلمي واملـدين‪ ،‬والرتكيـز على الجوانب الخرييـة والتطوعيـة والدعويـة‪ ،‬بدالً‬
‫مـن اإلغـراق يف الخالفـات الفكريـة أو املواجهـة األمنية مـع الدولة‪.‬‬
‫مـع األزمـة السـورية‪ ،‬تدفـق مئـات اآلالف مـن الالجئين السـوريني إىل‬
‫األردن‪ ،‬وأقيـم مخيـم الزعتري‪ ،‬وضـم عشرات اآلالف منهم‪ ،‬بينما انترش مئات‬
‫اآلالف يف محافظـات اململكـة‪ ،‬شـكّلت هـذه اللحظـة التاريخيـة نقطـة انطالق‬
‫جديـدة يف عمـل جمعيـة الكتاب والسـنة‪ ،‬إذ نشـطت بصورة فاعلـة وملحوظة‬
‫يف العمـل الخيري اإلغـايث‪ ،‬وأصبحـت إحـدى أهـم املؤسسـات املعنيـة بهـذا‬
‫الشـأن على مسـتوى األردن‪ ،‬بـل واملنطقـة‪ ،‬تتلقـى املسـاعدات مـن جمعيـات‬
‫وتوسـعت يف هـذا املجـال‪،‬‬
‫خرييـة قطريـة وخليجيـة وتوزعهـا على الالجئين‪ّ ،‬‬
‫فبـات جـزءا ً حيويـاً وأساسـياً مـن نشـاطها وعملهـا‪ ،‬وشـكّل ذلـك نقطـة تحول‬
‫أخـرى؛ لكـن هـذه املـ ّرة عىل الصعيـد الشـخيص لزايد الـذي وجد نفسـه أخريا ً‬
‫يف هـذا امليـدان الكبير‪ ،‬وبدأ يشـعر بالرغبة الشـديدة بالتفرغ لـه عىل الصعيد‬
‫التطوعـي‪ ،‬باإلضافـة إىل مهنتـه‪ ،‬بوصفـه محاسـباً يف رشكـة تعمـل يف القطـاع‬
‫اإلنشايئ‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫اليـوم؛ عندمـا ينظـر صاحبنـا‪ ،‬الـذي يبلغ مـن العمـر ‪ 46‬عاماً‪ ،‬ولديه خمسـة‬
‫أبنـاء‪ ،‬ويتم ّيـز يف مجـال آخـر وهـو رياضـة املالكمـة‪ ،‬فهو حكـم دويل‪ ،‬وحاصل‬
‫على مسـتوى عـا ٍل يف الرياضـة نفسـها‪ ،‬إىل املسـتقبل يشـعر بأنّـه قـد وجـد‬
‫الشـاطئ‪ ،‬الـذي يريـد أن يسـتقر فيـه‪ ،‬وهـو العمـل الخيري‪ ،‬ما يجعلـه يبتعد‬
‫بـه متامـاً عـن الخالفـات الفكريـة والسـجاالت األيديولوجية‪ ،‬ويضعـه يف املجال‬
‫الـذي يرغـب فيـه؛ اإلدارة واملؤسسـية والنشـاط الواقعـي املنتـج عملياً!‬

‫‪171‬‬
‫‪-2-‬‬
‫أسامة شحادة‪ :‬الشخصية السلفية‬
‫المتماسكة‬

‫نلتقـي يف الصفحـات القادمـة بتجربـة شـخصية مغايرة‪ ،‬يف بعـض اهتامماتها‬


‫حماد‪ ،‬بالرغم مـن التقـارب الفكري بينهما وعملهام‬ ‫وجوانبهـا‪ ،‬لنمـوذج زايـد ّ‬
‫معـاً يف جمعية الكتاب والسـنة؛ فأسـامة شـحادة بخالف زايد اهتـ ّم بالخالفات‬
‫الفكريـة واملـدارس املعـارصة ومتييـز الشـخصية السـلفية عـن االتجاهـات‬
‫«صنـع مبكَـرا ً»‪ ،‬ومتـت صياغـة‬‫األخـرى‪ ،‬فهـو‪ ،‬كما يقـول بعـض الرتبويين‪ُ ،‬‬
‫شـخصيته عبر مناخ سـلفي كامل‪ ،‬إىل مرحلـة الثانوية العامة‪ ،‬فجـاء إىل األردن‪،‬‬
‫بعـد أن تشـكلت قناعاتـه وترسـخت لديـه معرفة جيـدة باالتجاهـات الفكرية‬
‫املختلفـة‪ ،‬وبعـد أن تلقى دراسـة علمية ومـ ّر مبراحل تربويـة متتالية يف املجال‬
‫السـلفي العـام هناك‪.‬‬
‫حوارنـا مـع أسـامة‪ ،‬وهو باحث متخصص بالسـلفية وكاتب إسلامي‪ ،‬ينرصف‬
‫يف جـزء منـه إىل الشـق التحليلي لتجربتـه ورؤيتـه لواقـع السـلفية واتجاهاتها‬
‫يف األردن‪ ،‬ونقـاط القـوة والضعـف يف هـذه الحالـة الهالميـة غير املؤسسـية‬
‫املنقسـمة بين اتجاهـات وأراء متعـددة ومتباينـة‪ ،‬بـل متضاربـة يف كثير مـن‬
‫األحيان‪.‬‬

‫«الصناعة السلفية»‪ :‬الرتكيبة املتوازنة‬


‫أسـامة شـحادة‪ ،‬مـن مواليـد عـام ‪ ،1971‬يف الكويـت‪ ،‬يعمل حاليـاً يف القطاع‬
‫الخـاص‪ ،‬يف محلات تجاريـة مملوكـة للعائلـة‪ ،‬وهـو متـزوج‪ ،‬مـن الطبقـة‬
‫الوسـطى‪ ،‬أتـ ّم دراسـته النظاميـة للمرحلـة الثانويـة‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫البدايـات كانـت منـذ الصغـر‪ ،‬فوالـده سـلفي وهكـذا هـي أجـواء العائلـة‬
‫التـي عـاش يف كنفهـا خالل فرتة الطفولة والشـباب‪ ،‬يقول «نشـأت سـلفياً‪ ،‬منذ‬
‫الصـف األول االبتـدايئ‪ ،‬وأنـا أحضر دروس الشـيخ عبـد الرحمن عبـد الخالق»‪،‬‬
‫واألخير هـو أحـد أهـم رموز السـلفية يف العـامل العـريب‪ ،‬كان يقيـم يف الكويت‪،‬‬
‫ومن مؤسسي جمعية الرتاث اإلسلامي‪ ،‬ومحسـوب عىل التيار الحريك السـلفي‪.‬‬
‫نشـأ أسـامة‪ ،‬إذا ً‪ ،‬يف جـ ٍّو سـلفي‪ ،‬فوالـده يف املنـزل ينقـل هـذا الفكـر‪ ،‬ويهتم‬
‫بـه‪ ،‬ويف املسـجد يسـتمع لـدروس الشـيوخ السـلفيني‪ ،‬وبالرغـم أنّـه تع ّرف عىل‬
‫جامعـة اإلخـوان يف مرحلـة مبكـرة يف الجامـع‪ ،‬منـذ املرحلـة اإلعداديـة‪ ،‬إالّ انه‬
‫مل يجـد نفسـه منسـجامً مـع منهجهـم‪ ،‬يف الكويـت‪ ،‬بالرغـم مـن أنـه حـاول يف‬
‫تلـك الفترة التمـرد عىل نشـأته األوىل‪ ،‬إالّ أ ّن قناعاته السـلفية تغلبت عىل تلك‬
‫املحاوالت!‬
‫سـاعد أسـامة على ذلـك أ ّن السـلفية الكويتيـة كانت متجاوزة كثريا ً لألسـئلة‬
‫األردنيـة واملرشقيـة‪ ،‬إذ كانـت تؤمـن بالعمـل املؤسسي والتنظيمـي‪ ،‬من خالل‬
‫جمعيـة إحيـاء التراث‪ ،‬وتشـارك يف االنتخابـات‪ ،‬وفقـاً ملنهـج عبـد الخالـق‬
‫ومؤلفاتـه‪ ،‬فلـم يجـد أي ميـزة كبيرة للتيـارات األخـرى عليهـم‪.‬‬
‫تلـك التنشـئة املتينـة علميـاً وروحيـاً هي ما مييّز السـلفية‪ ،‬كام يرى شـحادة‪،‬‬
‫حتـى عـن جامعـات إسلامية أخـرى‪ ،‬فتمنـح السـلفي ترسـانة مـن األسـلحة‬
‫لحاميـة النفـس مـن االنـزالق يف طريـق خطـرة‪ ،‬وتحمـي الدعـوة السـلفية من‬
‫االنجـرار وراء الدعـوات العاطفيـة أو االنفعـال غير املـدروس مـع التطـورات‬
‫السياسـية‪ ،‬فاإلخـوان‪ ،‬مثالً‪ ،‬انجـ ّروا وراء الثـورة اإليرانية‪ ،‬والجهاديـون تأثروا يف‬
‫التجـارب املسـلّحة‪ ،‬فيما يجد السـلفي لديـه قواعد علمية وتقاليـد تضع أمامه‬
‫ضوابـط صارمـة يف املنهـج والتعامـل مـع األحداث‪.‬‬
‫مل يكن هاجس أسـامة يف مرحلة التشـكّل األوىل يف الكويت موضوع اإلصالح‬
‫والتغيير‪ ،‬كما هـي حـال الجامعـات اإلسلامية األخـرى‪ ،‬بـل كان البنـاء الذايت‪،‬‬
‫روحيـاً وعلميـاً وفكريـاً‪ ،‬إذ كان يف مرحلـة التشـكّل والتأسـيس‪ ،‬وتلـك حـال‬
‫الدعـوة السـلفية يف الكويـت‪ ،‬التـي كانـت يف مرحلـة التأسـيس والتشـكّل يف‬

‫‪173‬‬
‫عقـد الثامنينيـات‪ ،‬فجمعية إحياء الرتاث تأسسـت يف عام ‪ ،1984‬والسـلفيون مل‬
‫يشتركوا يف االنتخابـات والعمل السـيايس إال يف مرحلة متأخـرة من ذلك العقد‪.‬‬
‫تطـ ّورت شـخصيته عبر مراحـل متعـددة‪ ،‬علميـاً وتربويـاً وروحيـاً‪ ،‬ففـي‬
‫الكويـت عـاش إىل املرحلـة الثانويـة وأخـذ أصـول املنهـج العلمـي والرتبـوي‬
‫السـلفي‪ ،‬عبر دراسـة الكتـب املعتمـدة واالسـتامع إىل شـيوخ املنهـج‪ ،‬ويـرى‬
‫أ ّن ميـزة املرحلـة الكويتيـة أنّهـا وضعتـه يف صلـب البيئـة السـلفية والكتـب‬
‫واألفـكار السـائدة‪ ،‬مثـل كتـب العقيـدة والحديـث والفقـه والدعـوة والرتبيـة‪،‬‬
‫وتط ّور بصورة متدرجة متامسـكة يف إمسـاكه بهذا املنهج‪ ،‬سـواء عرب الكتب أو‬
‫الشـيوخ والحلقـات العلميـة التـي يعقدهـا تالميـذ شـيوخ السـلفيني‪.‬‬
‫يف املقابل‪ ،‬يرى بأ ّن مشـكلة الحالة السـلفية يف األردن أنّها تفتقد إىل التوازن‬
‫الـذي كانـت متنحـه التجربـة الكويتيـة‪ ،‬ففـي األردن ال توجـد مناهـج متدرجة‬
‫روحيـاً وفكريـاً وتربويـاً‪ ،‬كما كانت عليه الحـال هناك‪ ،‬يف جمعيـة إحياء الرتاث‬
‫اإلسلامي‪ ،‬فتجـد اختلاالت وفجـوات كبيرة يف عملية بناء الشـخصية السـلفية‬
‫يف األردن‪ ،‬وهـو مـا نجـا منـه أسـامة‪ ،‬إىل درجـة كبيرة‪ ،‬إذ اسـتكمل جـزءا ً كبريا ً‬
‫مـن حلقات شـخصيته السـلفية يف املرحلـة الكويتية!‬

‫املرحلة األردنية‪ :‬االشتباك داخل البيت السلفي‬


‫عـاد أسـامه شـحادة مـع أرستـه إىل األردن يف العـام ‪ ،1987‬وهـو يف املرحلـة‬
‫الثانويـة‪ ،‬وتعـ ّرف منـذ البدايـة عىل الشـيخ محمود القاسـم (أيب األمين)‪ ،‬وبدأ‬
‫يتردد عىل دروسـه ومجلسـه‪ ،‬ويلتقي مـع مجموعة الشـباب القريبني من هذا‬
‫الخـط‪ ،‬مثـل حسـن أبـو هنية وعمـر محمـود وزايـد إبراهيم وغريهـم‪ ،‬وكانت‬
‫حـي نـزال‪ ،‬حيث يسـكن يف‬‫معرفتـه بهـم عـن طريـق إمـام مسـجد سـلفي يف ّ‬
‫عمان الرشقية‪.‬‬
‫مـع الشـيخ القاسـم طـ ّور أسـامة اهتامماتـه‪ ،‬فأخـذ عنـه االهتمام بالبحـث‬
‫وقـراءة االتجاهـات الفكريـة اإلسلامية والغربيـة املعـارصة‪ ،‬فاكتملـت مرحلـة‬
‫‪174‬‬
‫التنشـئة والتعليـم إىل أن صـار مهتماً بالقـراءة متعـددة الجوانـب‪ ،‬ومعن ّيـاً مبـا‬
‫يـدور مـن أحـداث وقضايـا جديـدة‪ ،‬ومـن قـراءات تاريخيـة‪ ،‬فم ّيـزه ذلـك عن‬
‫أبنـاء التيـار السـلفي عمومـاً‪ ،‬الذيـن ال يهتمـون باألدبيـات التي تناقـش الواقع‬
‫املعـارص واالتجاهـات املختلفـة فيـه‪ ،‬والقـراءة والبحـث والدراسـة‪.‬‬
‫يضيـف أسـامة إىل تلـك االهتاممـات نزوعه الشـخيص إىل لقاء الشـخصيات‬
‫املعروفـة يف حقـل الدعـوة اإلسلامية والفكـر‪ ،‬وتحديـدا ً ذات االتجاه السـلفي‪،‬‬
‫فأصبـح قـادرا ً على االقتراب مـن النماذج املطروحـة بصـورة أكثر عمقـاً‬
‫وتحليلاً‪ ،‬فكانـت تجربتـه السـلفية مط ّعمة مبعرفـة وإطاللة جيـدة عىل الفرق‬
‫واملذاهـب املختلفـة‪ ،‬سـواء كانـت إسلامية أو غير إسلامية‪ ،‬وتكويـن مواقف‬
‫شـخصية مبكّـرة يف تحديـد الوجهـة الفكريـة التـي يسير خاللهـا‪.‬‬
‫بالرغـم مـن أنّـه وجـد بـأ ّن املدرسـة الفكريـة التـي ترعـرع فيهـا يف التنشـئة‬
‫والبدايـات معروفـة يف األردن‪ ،‬إالّ أنّـه تفاجـأ بأنّهـا تواجه نقدا ً كبريا ً يف الوسـط‬
‫السـلفي العـام‪ ،‬الـذي ينتمـي إىل مدرسـة الشـيخ األلبـاين‪ ،‬يشرح ذلـك قائلاً‬
‫«كان هنالـك موقـف سـلبي لـدى تالميـذ األلبـاين مـن عبـد الخالـق‪ ،‬فاألخير‬
‫يؤمـن بالعمـل التنظيمي والحريك‪ ،‬وباملشـاركة يف االنتخابات والعمل السـيايس‪،‬‬
‫وهـذا يخالـف املنهـج الـذي يتب ّنـاه تيـار الشـيخ األلبـاين‪ ،‬فكانـوا يقولـون ع ّنـا‪:‬‬
‫جـاء تالميـذ عبـد الرحمـن عبـد الخالق‪ ،‬لكـن لدى الشـيخ القاسـم (أيب األمني)‬
‫مل تكـن تلـك النظرة السـلبية»‪.‬‬
‫كان هنالـك مسـاران خلال تلـك الفترة يف املشـهد السـلفي‪ ،‬كما يرصـد‬
‫أسـامة‪ ،‬األول مجموعـة تالميـذ األلبـاين‪ ،‬التـي ترفـض العمل الحزيب والسـيايس‬
‫والتنظيمـي‪ ،‬وال تهتـم بالتطـورات الواقعية‪ ،‬والثاين مجموعـة «أيب األمني»‪ ،‬مثل‬
‫حسـن أبـو هنيـة‪ ،‬ومحمد الحـاج‪ ،‬وعدنـان الصوص‪ ،‬وأسـامة شـحادة‪ ،‬ومعهم‬
‫عمـر محمـود يف تلـك الفترة‪ ،‬وأصبحـت هـذه املجموعة متثّـل الحقاً نـواة تيار‬
‫مختلف عـن املجموعـة األوىل‪.‬‬
‫بـدأت املجموعـة الثانيـة‪ ،‬التـي ينضـوي بهـا صاحبنـا‪ ،‬تنشـط يف العمـل‬
‫الخيري‪ ،‬يف لجـان الـزكاة‪ ،‬وكانـت تصـدر نشرة اسـمها املنـار‪ ،‬ويتـوىل أسـامة‬

‫‪175‬‬
‫إعدادهـا وطباعتهـا‪ ،‬حتـى جـاءت أحـداث حـرب الخليـج يف العـام ‪،1991‬‬
‫عندهـا تشـتت املجموعـة‪« ،‬فعمـر محمود غـادر األردن‪ ،‬وتحول نحو السـلفية‬
‫الجهاديـة‪ ،‬وتأثـر به حسـن أبـو هنيه‪ ،‬أما أنـا وعدنان الصوص‪ ،‬فاسـتمرينا عىل‬
‫الفكـرة األساسـية‪ ،‬وهـي العمـل الجامعـي والخيري»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عالقات مـع جمعية الرتاث اإلسلامية يف الكويت‪،‬‬ ‫نسـجت هـذه املجموعـة‬
‫«ك ّنـا نلتقـي جميعـاً يف جمعيـة الكتاب والسـنة‪ ،‬التي تأسسـت يف العام ‪،1993‬‬
‫ومل يكـن حسـن أبـو هنيـه حينهـا قـد تأثـر كثيرا ً بتحـوالت عمـر محمـود (أيب‬
‫قتادة الفلسـطيني)»‪.‬‬
‫إالّ أ ّن بـروز التطـورات والسـجاالت يف «البيـت السـلفي» عـززت التصدعات‬
‫يف الجمعيـة‪ ،‬بين أسـامة ومعـه عدنـان الصـوص واآلخريـن املتأثريـن بالفكـر‬
‫الجهـادي‪ .‬ودخـل حينها أسـامة الخدمة العسـكرية‪ ،‬ثم اشـتغل يف العمل الح ّر‪،‬‬
‫وانـزوى عـن جمعيـة الكتاب والسـنة لسـنوات‪ ،‬بسـبب بـروز امليـول الجهادية‬
‫يف الجمعيـة‪ ،‬مـع اسـتمراره يف الدعـوة الفرديـة واالهتمام بالدعـوة السـلفية‪،‬‬
‫مـع نسـج عالقاتـه مـع أشـخاص يتبنـون األفـكار نفسـها‪ ،‬واسـتمر ابتعـاده عن‬
‫الجمعيـة قرابـة عقـد منذ العـام ‪ 1995‬إىل العـام ‪.2005‬‬
‫مل مينعـه ابتعـاده عـن الجمعيـة مـن االسـتمرار يف العمـل الدعـوي السـلفي‪،‬‬
‫بصـورة مفـردة‪ ،‬ينشر الكتيبـات واملطويـات السـلفية الدعوية‪ ،‬يجمـع تربعات‬
‫وينشر هـذه األوراق‪ ،‬فـكان على عـدم توافـق مـع تالميـذ األلبـاين مـن جهـة‬
‫واالتجـاه الجهـادي يف الجمعية من جهة ثانية‪ ،‬وبـدأ اهتاممه يزداد يف موضوع‬
‫«التشـيع»‪ ،‬وأخـذ يتخصـص يف هـذا املوضـوع‪ ،‬الـذي يـراه مهامً وخطيرا ً‪ ،‬ورمبا‬
‫يعكـس ذلـك جـذور التنشـئة السـلفية يف الكويـت‪ ،‬حيـث الحضـور الكبير‬
‫للطائفـة الشـيعية هناك‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫العودة إىل جمعية الكتاب والسنة‬
‫تطـ ّور اهتاممـه يف موضـوع خطورة التشـيع إىل إنشـاء مرصد خاص بالتشـيع‬
‫منـذ العـام ‪ ،2002‬ثـم بـدأ بإصـدار مجلـة خاصة بهـذا املوضوع‪ ،‬وأسـس رشكة‬
‫الطمـوح الثقافيـة يف العـام ‪ ،2003‬التـي تعنـي بعقـد الـدروس واملحـارضات‬
‫والـدورات لشـيوخ الدعـوة السـلفية‪ ،‬واسـتمرت إىل العـام ‪ ،2007‬ثـم أغلقهـا‬
‫لضعـف التمويل‪.‬‬
‫يف العـام ‪ 2005‬عـاد أسـامة إىل النشـاط يف جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬بعد أن‬
‫أعـاد زايـد حامد تشـكيل هويتها الفكريـة‪ ،‬وتخلّص من االتجـاه الجهادي فيها‪،‬‬
‫وبـدأ صاحبنـا يتو ّجـه بعـد ذلك للكتابـة الصحافيـة‪ ،‬واالهتامم باإلعلام‪ ،‬وينرش‬
‫مقـاالت حاليـاً يف صحيفـة الغـد اليوميـة (الصفحـة الدينيـة)‪ ،‬وبعـض املواقـع‬
‫االلكرتونيـة والصحـف العربية‪.‬‬
‫بالرغـم مـن أنـه يـرى رضورة تطويـر التيـار السـلفي‪ ،‬علميـاً ودعويـاً‪ ،‬إالّ أنّه‬
‫يـرى بـأ ّن االشـتغال يف املوضوع السـيايس ليـس أولوية للتيار الحـريك يف األردن‪،‬‬
‫ألنّـه ليـس مؤهلاً بعـد لهـذا املسـتوى مـن العمـل ومـا يرتبـه مـن التزامـات‬
‫كبيرة‪ ،‬إذ يفتقـد إىل القيـادة واملرجعية والنضوج املطلوب للمامرسـة املتطورة‪.‬‬
‫يـرى أسـامة أن هنالـك «حالة سـيولة» عميقـة داخل البيت السـلفي عموماً‪،‬‬
‫مـع الثـورات العربيـة والثورة السـورية‪ ،‬لكـن لدينـا اتجاهات رئيسـة‪ ،‬فبالرغم‬
‫مـن أن التيـار السـلفي التقليـدي يتسـم برفـض الثـورات وبعـدم قبـول العمل‬
‫السـيايس‪ ،‬ويصر عىل االنشـغال الكامل بالعلـم الرشعي‪ ،‬إالّ أنّه ينشـطر‪ ،‬حالياً‪،‬‬
‫على نفسـه‪ ،‬فهنالـك مجموعـة مـن الشـباب يقدمـون طروحـات مختلفـة عن‬
‫املسـار العـام للتيار‪.‬‬
‫أمـا الخـط القريـب مـن التيـار الجهادي فهو يعيـش أيضاً حالة مـن االرتباك‪،‬‬
‫والحـال نفسـها تنطبـق على مـن يسـمون بـ«الرسوريين»‪ ،‬فهـم بالرغـم مـن‬
‫اختالفهـم مـع السـلفيني اآلخريـن يف التأكيـد على أهميـة العمـل السـيايس‬
‫رون على عدم إبـراز هويتهم‬ ‫واملعـارض‪ ،‬إالّ أنّهـم غير بارزيـن يف األردن‪ ،‬ويص ّ‬

‫‪177‬‬
‫الفكريـة‪ ،‬واملفارقـة‪ ،‬كما يقـول أسـامة‪ ،‬بـأ ّن البعـض يحسـب جمعيـة الكتاب‬
‫والسـنة على هـذا االتجـاه‪ ،‬وهـذا غير صحيح‪.‬‬
‫على العمـوم‪ ،‬هنالـك حالـة سـلفية كبيرة يف األردن‪ ،‬وتتوافـر على توجهات‬
‫للعمـل الجامعـي‪ ،‬لكنهـا ما تـزال تعاين من قصـور يف جوانب كثيرة يف الكفاءة‬
‫اإلداريـة والتنظيميـة واملرجعيـات املقبولـة مـن الجميـع‪ ،‬التي تحظـى بتوافق‬
‫عام مـن مختلـف االتجاهـات واأللوان‪.‬‬
‫ويشير أسـامة‪ ،‬يف هذا السـياق‪ ،‬إىل صعود جيل األكادمييني يف التيار السـلفي‬
‫التقليـدي‪ ،‬الـذي بـدأ يتحـرر قليلاً مـن عبـاءة مشـيخة التيـار‪ ،‬ويـرى رضورة‬
‫تطويـر الواقـع السـلفي يف األردن‪ ،‬مثـل مؤسسي جمعيـة التكافـل يف الرمثـا‪،‬‬
‫وهـي أكبر جمعيـة تنتمـي للتيـار التقليـدي‪ ،‬وهنالـك جمعيـة الصحابـة يف‬
‫الكـرك‪ ،‬ومجموعـة الدكتـور معـاذ العوايشـة‪ ،‬وغريهـم‪.‬‬

‫اتجاهات ومؤرشات سلفية جديدة‬


‫يتجـه صاحبنـا‪ ،‬يف اآلونـة األخيرة‪ ،‬نحـو النشـاطات الدعويـة والعلميـة‬
‫والرتبويـة واسـعة االنتشـار يف املجتمـع‪ ،‬فيسـاهم مـع أصدقائـه يف جمعيـة‬
‫الكتـاب والسـنة يف عقـد جلسـات خاصـة بالقـراءة الرشعيـة‪ ،‬بعنـوان «اقـرأ»‪،‬‬
‫لقـراءة ودراسـة املتـون العلميـة الدينيـة‪ ،‬بأسـانيدها مـن خالل شـيوخ تلقوها‬
‫عـن طريـق السـند (أي درسـوها عـن شـيوخ آخريـن وهكـذا)‪ ،‬ويعترف بأنّـه‬
‫تفاجـأ مـن حجـم اإلقبـال عليهـا‪ ،‬إذ يصـل عـدد املشـاركني إىل آالف األشـخاص‬
‫مـن مختلـف التيارات السـلفية يف األردن‪ ،‬بالرغم من مشـقتها والوقت الطويل‬
‫الـذي تسـتغرقه‪ ،‬فـكان الرجال والنسـاء يشـاركون يف هذه الـدروس والحلقات‬
‫يف املسـاجد‪.‬‬
‫يعترف بـأ ّن السـلفيني عموماً لديهـم عزوف عن القـراءة املعمقة يف الكتب‪،‬‬
‫ويعتمـد عـدد كبير منهم عىل املنتديات السـلفية‪ ،‬ما يسـطّح الثقافة السـلفية‬
‫عمومـاً‪ ،‬ويـرى أ ّن هنالـك تقزميـاً للسـلفية يف األردن‪ ،‬مـا يعكس سياسـة الدولة‬
‫‪178‬‬
‫يف محاولـة «حشر السـلفية يف القضايـا الفرعية‪ ،‬مثل الخالفـات الفقهية»‪.‬‬
‫ويـرى أسـامة أ ّن جـزءا ً أساسـياً مـن مشـكلة الدعـوة السـلفية يف األردن أ ّن‬
‫مـن التفـوا حـول األلبـاين يف البدايـات يف األردن‪ ،‬مل يكـن لديهـم أفـق واسـع‪،‬‬
‫فـ»ق ّزمـوا» الدعـوة السـلفية‪ ،‬وأخـذوا عـن األلبـاين بعـض النصـوص والقضايـا‬
‫الفقهيـة والعلميـة مـن دون إدراك األبعـاد اإلصالحيـة الكبيرة لهـذه الدعـوة‪.‬‬
‫يـرى صاحبنـا بـأ ّن أولويـة الدعوة السـلفية هـي محاربة البدع‪ ،‬التي نسـبت‬
‫يفسر اهتمام الدعـوة‬
‫إىل الديـن والتصقـت بـه وهـي ليسـت منـه‪ ،‬وهـذا ّ‬
‫السـلفية تاريخيـاً بالعلم الرشعـي وتصحيح مفاهيم النـاس الدينية‪ ،‬يف مختلف‬
‫املجـاالت‪ ،‬ويكشـف السـبب يف صدامهـا مع الصوفيـة‪ ،‬التي يـرى بأنّها حاربت‬
‫العلـم الرشعـي الصحيح‪.‬‬
‫لذلـك يـرى أسـامة بـأ ّن ميزة الرؤيـة للسـلفية للمجتمع بأنّـه مجتمع يبحث‬
‫عـن العلـم يف مختلـف املجـاالت‪ ،‬ويعطيـه مكانـة كبيرة‪ ،‬وهـو مجتمـ ُع عمـلٍ‬
‫يفس تأكيد السـلفيني عىل‬
‫أيضـاً‪ ،‬يربط العلم بالسـلوك واملامرسـة‪ ،‬األمـر الذي ّ‬
‫أ ّن العمـل جـزء مـن اإلميـان ومرتبط بـه‪ ،‬ورفض الفصـل بني االثنين‪ ،‬كام تفعل‬
‫فـرق إسلامية أخرى‪.‬‬
‫أمـا عـن الحريـات الفردية يف املجتمع‪ ،‬فيعرتف شـحادة بأ ّن الرؤية السـلفية‬
‫ليسـت ناضجـة متامـاً يف هـذا املجـال‪ ،‬ويضيـف بـأ ّن «هـذه القضايا غير مفكر‬
‫فيهـا بعـد‪ ،‬ومـا تزال خـارج دائرة البحـث املع ّمق»‪.‬‬
‫لكنـه يسـتدرك بـأ ّن السـلفيني يطـ ّورون اليـوم رؤيتهـم لهـذه املسـائل‪ ،‬نظرا ً‬
‫التسـاع حجـم الحالة السـلفية يف العامل‪ ،‬فلـم يعد التفكري الفقهـي مقترصا ً عىل‬
‫حلـول املشـكالت الفرديـة‪ ،‬بـل أصبح يأخـذ بعني االعتبـار األوضـاع االجتامعية‬
‫والسياسـية‪ ،‬ويـرى صاحبنـا بـأ ّن السـلفيني اليـوم وصلـوا إىل «تخـوم هـذه‬
‫القضايـا» وبـدأوا يطرحونهـا مبـا يحقـق التصالـح مـع مـا يؤمـن بـه السـلفيون‬
‫ومـا ميكـن تحقيقـه على أرض الواقع‪ ،‬وما ميكـن أن يتم عرب التـد ّرج واملرحلية‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫هـذا وذاك يدفـع بصاحبنـا إىل خالصـة مهمـة تتمثّـل بـأ ّن هنالـك فجـوة‬
‫بين اسـتقرار املنهـج السـلفي دينيـاً وبين رؤيتهـم السياسـية‪ ،‬التـي مـا تـزال‬
‫قيـد التطـ ّور والنضـوج‪ ،‬بهـذا الخصـوص يؤيـد نظاماً سياسـياً يقوم على تداول‬
‫السـلطة واالنتخابـات النيابيـة ويحترم حقـوق اإلنسـان والحريـات العامـة‪.‬‬
‫يجـد أسـامة االتجـاه السـلفي األقـرب له يف مرص هو حـزب النور‪ ،‬لك ّنه يرى‬
‫حاليـاً بـأ ّن سـلفيي األردن مل يصلـوا إىل مرحلـة تأسـيس حـزب سـلفي‪ ،‬ويع ّرف‬
‫الثـورة يف سـورية بوصفهـا معركـة بني السـنة والشـيعة‪ ،‬ويرى بـأ ّن ما حدث يف‬
‫مصر هـو انقالب عسـكري عىل حكم اإلسلاميني‪.‬‬
‫وعنـد مقاربـة صاحبنـا لألنظمـة الحاكمـة يف العامل العريب واإلسلامي باسـم‬
‫اإلسلام‪ ،‬مـا بين الحكـم السـعودي واإليـراين وحركـة طالبـان يف افغانسـتان‪،‬‬
‫واإلسلامية العلامنيـة يف تركيـا‪ ،‬فيرى أ ّن أفضـل املوجـود هـو النمـوذج التريك‪،‬‬
‫خير يف العيش تحت كنـف أي من هذه‬ ‫ملـا ق ّدمـه مـن إنجـازات واقعيـة‪ ،‬وإذا ّ‬
‫األنظمـة فسـيختار تركيا‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫‪-3-‬‬
‫هشام الزعبي‪ :‬التباس الحركي‬
‫بالجهادي‬

‫تعرف هشـام الزعبي عىل عدنان الصوص يف مسـجد يف حي الزهور يف عامن‬


‫الرشقيـة‪ ،‬وجـذب اهتاممـه أ ّن الصـوص كان يتحـدث عـن أخطـاء الصوفية من‬
‫التوسـل بغير اللـه والدعـاء لغيره (وهي مـن القضايا التـي يعتربها السـلفيون‬
‫رشكاً باللـه)‪ ،‬وكان يشرح مـا يعتربوه السـلفيون «بدعاً» (ليسـت مـن الدين يف‬
‫يشء) مثـل‪ :‬دعـاء القنـوت يف صلاة الفجـر والصالة على النبي بعـد اآلذان‪ ،‬ثم‬
‫تعـرف هشـام عىل عدد من الشـيوخ السـلفيني‪ ،‬مثـل عمر محمود وحسـن أبو‬
‫حـي رأس العين)‪ ،‬وبـدأت صلته بهذه‬ ‫هنيـه (يف مسـجد الخلفـاء الراشـدين يف ّ‬
‫املجموعـة السـلفية الصغيرة‪ ،‬وامتـدت إىل حلقـة محمود القاسـم (أيب األمني)‪،‬‬
‫حـي نزال‪.‬‬
‫يف ّ‬
‫كان ذلـك يف العـام ‪ ،1989‬وهـو يبلـغ مـن العمـر ‪ 24‬عاماً‪ ،‬بينما هو اليوم‬
‫على عتبـة العقـد الخامس من عمـره‪ .‬مل ينخرط قبلها يف جامعـات أو توجهات‬
‫إسلامية‪ ،‬إذ جـاء تدينـه متأخـرا‪ ،‬بعـد أن أنهـى دراسـة دبلـوم إدارة املكتبـات‪،‬‬
‫وخـدم يف العسـكرية‪ ،‬ثـم تطورت عالقتـه باملجموعة وانخرط بالفكر السـلفي‪،‬‬
‫وبـدأ خاللهـا العمـل يف السـوق املركـزي للخضـار يف حـي الوحـدات يف عمان‬
‫الرشقية‪.‬‬
‫آمـن هشـام منـذ البدايـة بأهميـة العمـل املؤسسي‪ ،‬متأثـرا ً بأفـكار حسـن‬
‫أبـو هنيـه ومحمـد شـتات‪ ،‬وشـارك يف تأسـيس جمعيـة الكتـاب والسـنة مـع‬
‫املجموعـة املركزيـة يف التيـار الحـريك‪ ،‬يف العـام ‪ ،1993‬مـع كل مـن حسـن أبـو‬
‫هنيـه ومحمـد شـتات‪ ،‬وإبراهيـم العسـعس وبسـام النـارص وغريهـم‪ ،‬وكان‬
‫مق ّرهـا األول يف حـي رأس العني‪ ،‬بجوار مسـجد الخلفاء الراشـدين‪ ،‬لكن هشـام‬

‫‪181‬‬
‫الحـي الذي يسـكنه‪ ،‬جبـل الزهور‪ ،‬بالقرب مـن رأس العني‪،‬‬
‫سـاهم يف نقلهـا إىل ّ‬
‫يف عمان الرشقيـة‪.‬‬
‫الهـدف الرئيـس الـذي تأسسـت الجمعية لتحقيقه متثّل يف املجال املؤسسي‬
‫الثقـايف‪ ،‬والنيّـة كانـت تتجـه لوضـع موسـوعة يف الحديـث النبـوي‪ .‬لكـ ّن عمل‬
‫الجمعية توسـع وانشـغلت يف الخالفات الفكرية وتشـعبت األولويات واألفكار‪،‬‬
‫فبـدأ تجربتـه الفكريـة بهـذا املنـاخ السـلفي‪ ،‬ومـع حالـة مؤسسـية‪ ،‬جمعيـة‬
‫الكتـاب والسـنة «فأصبحـت ال أرى السـلفية إالّ عبر العمل املؤسسي املنظّم»‪.‬‬

‫السلفية بوصفها عمالً مؤسسياً‬


‫توسـع عمـل الجمعيـة‪ ،‬الحقـاً‪ ،‬وتط ّورت رؤيتـه للعمل السـلفي‪ ،‬فتم إصدار‬
‫مجلـة القبلـة‪ ،‬وبـدأوا بعقـد النـدوات واملحـارضات‪ ،‬وتضاعـف عدد املنتسـبني‬
‫لهـا‪ ،‬ودخلـت شـخصيات جديـدة مثّلـت رافـدا ً فكريـاً‪ ،‬وبـدت األمـور للحظـة‬
‫بـأ ّن أذرع العمـل املؤسسي تتكامـل وتتطـ ّور‪ ،‬وأ ّن الجمعيـة بـدأت تتوافر عىل‬
‫«تعدديـة داخليـة»‪ ،‬حتـى يف ثنايا ما يسـمى يف الفكر اإلصالحي السـلفي‪ ،‬لك ّن‬
‫هـذه التعدديـة مل تكـن على حالـة مـن النضـج السـتيعاب األفـكار الجديـدة‬
‫وتطويعهـا ضمـن مشروع الجمعيـة‪ ،‬فأصبحـت «املؤسسـة نفسـها» يف مهـب‬
‫هـذه الخالفـات واالختالفات الفكرية والشـخصية‪ ،‬التي تتناطـح ألخذ الجمعية‬
‫نحـو املنهـج الـذي تريد!‬
‫اهتـ ّم هشـام بأفـكار إبراهيـم العسـعس‪ ،‬أحد الشـخصيات السـلفية املؤثرة‬
‫يف تلـك املجموعـة‪ ،‬وهـو مؤلـف كتـاب أخـذ صيتـاً كبريا ً يف األوسـاط السـلفية‬
‫يف النصـف األول مـن التسـعينيات‪ ،‬ويحتـوي على نقـد الحالـة السـلفية‬
‫األلبانيـة بعنـوان «السـلف والسـلفيون رؤيـة مـن الداخـل»‪ ،‬وتكشـف أفـكار‬
‫الكتـاب عـن رؤيـة سياسـية مختلفـة متامـاً ومغايـرة للتيـار السـلفي التقليـدي‬
‫اآلخـر‪ ،‬إذ يتحـدث العسـعس يف الكتـاب بوضـوح شـديد عـن «رشك القصـور‬
‫والحاكميـة» ومييـزه عـن رشك «التامئـم والقبـور»‪ ،‬الـذي تركّـز عليه «السـلفية‬

‫‪182‬‬
‫األلبانيـة»‪ ،‬ويدفـع نحـو منهـج سـلفي سـيايس ذات صبغـة معارضـة‪ ،‬متزج بني‬
‫روافـد متعـددة؛ التأثـر بأفـكار سـيد قطـب واملـودودي يف الحاكميـة‪ ،‬وتكفير‬
‫الحـكّام «ممـن يبدلـون رشع اللـه» (وهـو يـر ّد بذلـك على مدرسـة األلبـاين‬
‫التـي ال تكفّرهـم)‪ ،‬ويظهـر تأثير مالـك بـن نبـي (املفكـر الجزائـري املعـروف‬
‫صاحـب املقاربـة الثقافيـة التـي تركـز على التغيري املجتمعـي والـذايت والتحرر‬
‫مـن األوهـام الفكريـة‪ ،‬وبنـاء الوعـي بأهميـة التغيير لـدى األمـة)‪ ،‬ذي الفكـر‬
‫السـلفي اإلصالحـي‪ ،‬يف طبعتـه املغاربيـة‪ ،‬على أفـكار العسـعس‪.‬‬
‫شـعر صاحبنـا بقبـول ألفـكار العسـعس‪ ،‬الـذي عمـل أيضاً توسـيع مسـاحة‬
‫االهتمام والرتكيـز‪ ،‬باالنتقـال مـن مفهـوم «السـلفية»‪ ،‬بوصفـه حلقـة مـن‬
‫حلقـات التغيير‪ ،‬إىل مفهـوم األمـة‪ ،‬الـذي يضـع املشروع اإلصالحي عىل سـكّة‬
‫املجتمـع والتغيير العـام‪ ،‬وال يحصر نفسـه يف الدائـرة السـلفية‪ ،‬وخالفاتهـا‬
‫الداخليـة‪ ،‬وهـي الفكـرة التي تط ّورت الحقاً‪ ،‬يف أوسـاط إسلامية‪ ،‬كما رأينا مع‬
‫تجربـة نعيـم التلاّوي‪ ،‬فأنتجـت «تيـار األمـة»‪ ،‬الذي يقـوده الداعيـة الكويتي‪،‬‬
‫حاكـم املطيري‪ ،‬ويرتكـز على مهمـة «رباعيـة الدفـع»؛ مفهـوم األمـة العابـر‬
‫للحـدود الجغرافيـة‪ ،‬مركّـزا ً على العمـل الشـعبي املشترك‪ ،‬ورفـض الهيمنـة‬
‫األمريكيـة والغربيـة بتحرير إرادة الشـعوب العربية واسـتقاللها‪ ،‬ومواجهة حالة‬
‫االسـتبداد الداخلي‪ ،‬ودعـم مقاومـة الشـعب الفلسـطيني‪.‬‬

‫التيار الحريك وأزمة األيديولوجيا‬


‫حـي نـزال يف العام‬
‫انتقلـت جمعيـة الكتـاب والسـنة مـن جبـل الزهـور إىل ّ‬
‫‪ ،1997‬وبـدأت عالقـة هشـام بالجمعيـة ترتاجـع وتتقلّـص‪ ،‬ثـم اسـتقال مـن‬
‫الجمعيـة‪ ،‬وتعـ ّرض لالعتقـال يف العـام ‪ ،2000‬ووضعـت عليـه إقامـة جربيـة‪،‬‬
‫وات ّهـم مـن قبـل األجهـزة األمنيـة بأنّـه على صلـة مـع السـلفية الجهاديـة‪،‬‬
‫وبأفـراد فاعلين فيهـا‪ ،‬مثـل جـواد الفقيـه (مـن سـكان القويسـمة‪ ،‬حوكم عىل‬
‫قضيـة جيـش محمـد وقضايـا أخـرى‪ ،‬وهو صاحب الصورة املشـهورة يف مسيرة‬
‫السـلفيني الجهاديين يف مدينة الزرقاء‪ 15 ،‬نيسـان ‪ ،2011‬التـي أ ّدت إىل اعتقال‬

‫‪183‬‬
‫مئـات السـلفيني‪ ،‬ثـم اإلفـراج عـن أغلبهـم‪ ،‬بعـد اشـتباكهم مـع قـوات األمن)‪،‬‬
‫وخضر أبـو هـورش (وهو من املتهمين واملحاكمين يف قضايا أمنيـة عىل خلفية‬
‫انتامئـه للسـلفية الجهادية)‪.‬‬
‫حماد‪ ،‬رئيـس جمعيـة الكتـاب‬ ‫مـا ال يقولـه هشـام عـن الخلاف مـع زايـد ّ‬
‫والسـنة ومجموعتـه‪ ،‬أنّهـم كانـوا يـرون صاحبنـا يف منزلـة بين املنزلتين‪ ،‬فهـو‬
‫يريـد الجمـع بين السـلفية الحركيـة‪ ،‬وما تقـوم به مـن عمل مؤسسي ومنظّم‪،‬‬
‫وبين السـلفية الجهاديـة ومـا تطرحـه مـن أفـكار حـول الحاكميـة والجهـاد‬
‫حـي نـزال‬
‫والصـدام مـع السـلطات العربيـة‪ ،‬فوقـع بين املجموعـة األوىل يف ّ‬
‫واملجموعـة الثانيـة يف مدينـة الرصيفـة‪ ،‬وعندمـا متّـت إعـادة هيكلـة الجمعية‬
‫وتصفيـة نفـوذ التيـار الجهـادي فيهـا‪ ،‬كان هشـام أحـد الذيـن خرجـوا نتيجـة‬
‫هـذا الخلاف الداخلي‪.‬‬
‫حي الزهور‪ ،‬لكن‬
‫ّأسـس يف وقـت الحـق (العـام ‪ )2006‬جمعية االعتصام‪ ،‬يف ّ‬
‫عمـل الجمعية توسـع الحقـاً‪ ،‬وافتتح مراكـز متعددة‪ ،‬يف الوحدات والقويسـمة‬
‫والجبيهـة وأحيـاء أخـرى يف عامن‪ ،‬تهتم بدرجة رئيسـة يف رعايـة األيتام والعمل‬
‫الخيري والتطوعـي وتعليـم األطفـال الصغار‪ ،‬وبناء املسـاجد‪ ،‬وتتـوىل الجمعية‬
‫تدريـس العلوم الرشعيـة يف بعض املراكز‪.‬‬
‫ر هشـام على تعريـف جمعيتـه الجديـدة «االعتصـام» بأنّهـا تنتمـي‬ ‫يص ّ‬
‫إىل التيـار السـلفي الحـريك‪ ،‬لكـن اهتامماتهـا واقعيـة مرتبطـة بالعمـل الدعوي‬
‫والخيري والرتبـوي‪ ،‬وال تأبـه باالختالفـات الفكريـة أو الجانـب األيديولوجـي‪،‬‬
‫بصـورة كبيرة‪ ،‬فيما يرى بـأ ّن الفارق بني جمعيتـه وجمعية الكتاب والسـنة أ ّن‬
‫«جمعيـة الكتـاب والسـنة أصبحت قريبة مـن الدولة‪ ،‬تحرص على عدم إزعاج‬
‫املسـؤولني‪ ،‬بينما جمعيتـه تحـرص على عـدم اسـتعداء الدولـة ويف والوقـت‬
‫نفسـه عـدم االقتراب منهـا‪ ،‬أي على مسـافة حياديـة منها»‪.‬‬
‫ومـن الواضـح أ ّن الهـدف مـن ذلـك‪ ،‬وهـو املتـواري يف كالم صاحبنـا‪ ،‬هـو‬
‫اإلمسـاك مبربعـات مـن العمـل والنشـاط‪ ،‬مـن دون الصـدام مـع املؤسسـات‬
‫الرسـمية‪ ،‬لكـن يف الوقت نفسـه عدم القبـول بإمالءاتها أو الخضـوع لرشوطها‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫يجـد هشـام نفسـه قريبـاً مـن جمال الباشـا (أيب طلحـة)‪ ،‬ويص ّنفـه بأنّـه‬
‫أقـرب إىل السـلفية الحركيـة‪ ،‬بعـد ان عـاد مـن الكويـت يف بداية التسـعينيات‪،‬‬
‫واشـتهر بخطـب الجمعـة‪ ،‬مؤث ّـرا ً يف أوسـاط السـلفيني حولـه‪ ،‬إالّ أنّـه ُمنـع من‬
‫الخطابـة الحقـاً‪ ،‬ويعمـل‪ ،‬حاليـاً‪ ،‬يف مهنـة أخـرى‪ ،‬بينما يص ّنفـه آخـرون على‬
‫السـلفية الجهاديـة‪.‬‬
‫رمبـا ذلـك يقودنـا إىل معضلـة صاحبنـا‪ ،‬بـل التيـار السـلفي الحـريك عمومـاً‬
‫يف األردن‪ ،‬مـع عـدم وجـود تعريـف واضـح منضبـط لـه‪ ،‬ال مـن الزاويـة‬
‫األيديولوجيـة وال حتـى الحركيـة‪ ،‬فمصطلـح «حـريك» بـات يعنـي لدى هشـام‪،‬‬
‫وكثير مـن أبنـاء هـذا التيـار‪ ،‬العمـل املنظّـم أو املؤسسي والجامعـي‪ ،‬وهـو ما‬
‫يشترك بـه مـع زمالئـه القامئين على جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬لكـن االختالف‬
‫يتبـدى بوضـوح أكبر عنـد االقرتاب مـن الجانـب األيديولوجـي؛ فامذا سـيتب ّنى‬
‫هـذا «الكائـن املنظّـم» مـن أفـكار ضمن سـياقات االختلاف والتنازع السـلفي‬
‫الحاليـة؟ هل سـيضع مفهوم الحاكمية والسياسـة يف صلـب اهتامماته‪ ،‬ويط ّوع‬
‫العمـل الخيري والرتبـوي والثقـايف يف خدمـة هـذه القضايـا‪ ،‬أم يضـع املعادلـة‬
‫املعكوسـة‪ ،‬يطـ ّوع أفـكاره مبـا يخـدم العمـل التطوعـي والخيري؟!‬
‫املسـألة‪ ،‬إذا ً‪ ،‬ال تقـف عنـد حـدود «الوعـاء» الحـريك و«التنظيمـي»؛ فـإذا مل‬
‫يكـن هنالـك ناظـم أيديولوجـي أو توافـق فكـري عميـق‪ ،‬فـإ ّن ريـاح االختالف‬
‫سـتعصف بـه‪ ،‬وسـيكون تعريـف مثـل هـذا االتجـاه غير منضبـط‪ ،‬فهنالـك‬
‫مروحـة كبيرة مـن االختيـارات األيديولوجيـة املتباينـة‪ ،‬ضمـن مـا يسـمى‬
‫بالتيـار الحـريك‪ ،‬لدينـا املتأثـرون بأفـكار سـيد قطـب‪ ،‬وآخـرون مبالك بـن نبي‪،‬‬
‫وآخـرون بعبـد الرحمـن عبـد الخالـق‪ ،‬فيما هنالـك مـا يسـ ّمى بـ«الرسورية»‪،‬‬
‫فيما تختلـف األولويـات واملواقـف مـن قضايـا مهمـة مفتاحيـة‪ ،‬مثـل واقـع‬
‫الحكومـات واألنظمـة القامئـة‪ ،‬ومنهـج التغيير واإلصلاح االجتامعـي والثقـايف‬
‫والسـيايس‪ ..‬الـخ‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫بني املجتمع والسياسة واإلعالم‬
‫يشـاهد هشـام التلفزيون فيتابع األخبار بصورة خاصة‪ ،‬والربامج االقتصادية‬
‫وبرامـج «التـوك شـو» يف الفضائيـات املحليـة‪ ،‬يرفـض االختلاط يف املـدارس‬
‫والجامعـات‪ ،‬إن أمكـن‪ ،‬مـع قبولـه عمـل املـرأة ضمـن الضوابـط الرشعية‪.‬‬
‫يؤيـد الـزواج عـن طريـق الحـب‪ ،‬وليـس مـع الـزواج التقليـدي‪ ،‬وال يتشـدد‬
‫يف لبـاس املـرأة لكـن مع االلتـزام بالرشوط املحـددة يف الفقه اإلسلامي‪ ،‬ويرى‬
‫حرمـة األغـاين واملوسـيقى‪ ،‬ال يدخّـن‪ ،‬يتابع كرة القـدم‪ ،‬ال يرتـاد املقاهي‪ ،‬بينام‬
‫أغلب وقته يف العمل التطوعي‪ ،‬إذ سـاهم يف تأسـيس مجلس عشـائر الدوامية‪،‬‬
‫ويف عملـه يف جمعيـة االعتصـام‪ ،‬واملراكـز التابعة لها‪.‬‬
‫يـرى بـأ ّن مشـكلة السـلفية أنّهـا تبدو بعيـدة عن املجتمع‪ ،‬غير متواصلة وال‬
‫متصلـة بـه بصـورة عميقة‪ ،‬فهـي يف حالة من «التعايل» عليـه‪ ،‬ال يحرض أفرادها‬
‫بين النـاس والعشـائر املختلفـة‪ ،‬وال يدركـون أهميـة هـذه األوزان االجتامعية‪،‬‬
‫وهـو املجـال الذي يجـد فيه هشـام أحد اهتامماته الرئيسـة‪.‬‬
‫ال يؤيـد هشـام تجربـة األحـزاب السـلفية يف مصر لنقـص الخربة السياسـية‪،‬‬
‫مـا أدى إىل تخبطهـم‪ ،‬لك ّنـه مـن حيـث املبـدأ مـع تأسـيس حـزب سـلفي‪ ،‬بعد‬
‫نضـوج التجربـة والخربة السياسـية‪.‬‬
‫يؤيـد هشـام العمـل يف إطـار الدميقراطيـة‪ ،‬ضمن الظروف الراهنـة‪ ،‬مرحلياً‪،‬‬
‫ففـي الوقـت الراهن ما هـو مطروح من خيار بني الدولة املدنيـة والدكتاتورية‪،‬‬
‫كما حـدث يف تركيـا‪ ،‬فهـو يختـار الدميقراطيـة‪ ،‬مـع مامرسـة الدعـوة املتدرجة‬
‫يف املجتمع‪.‬‬
‫بالرغـم أنّـه ال يسير يف مظاهـرات ومسيرات‪ ،‬إالّ أنّـه مـع هـذه املامرسـة‬
‫السياسـية‪ ،‬وال ميلك تصورا ً ّ‬
‫مفصالً لقضايا الفقه السـيايس اإلسلامي‪ ،‬يف موضوع‬
‫األقليـات واملرأة‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫يرفـض العمـل املسـلح يف التغيير الداخلي‪ ،‬أل ّن التجـارب أثبتـت بأ ّن العمل‬
‫السـلمي قـادر على تحقيـق نتائـج مهمـة وكبيرة مـن دون الحاجة للجـوء إىل‬
‫السلاح ومـا يرتتـب عليـه مـن نتائـج خطيرة يف كثري مـن األحيان‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫‪-4-‬‬
‫أحمد أبو رمان‪« :‬المسار الحائر»في‬
‫«التضاريس السلفية»‬

‫كان أحمـد عبـد الحليـم أبـو رمـان (مـن مواليـد العام ‪ )1973‬أقـرب للتأثر‬
‫بجامعـة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬يف مرحلـة مبكّـرة مـن عمـره‪ ،‬إذ أنّـه عـاش أغلب‬
‫حـي صويلـح‪ ،‬الـذي يقـع شمال العاصمـة عمان‪ ،‬يبعد كيلـو مرتات‬ ‫نشـأته يف ّ‬
‫العمنية األخيرة يف الطريق‬
‫قليلـة عـن مخيـم البقعـة لالجئني‪ ،‬وميثـل املحطـة ّ‬
‫الحـي املعروف بحضور واضح فيـه لجامعة اإلخوان‬‫إىل محافظـة السـلط‪ ،‬وهو ّ‬
‫املسـلمني ولقياداتهـم املحسـوبة عىل جنـاح الصقـور‪ ،‬والفكر القطبـي‪ ،‬مثل د‪.‬‬
‫محمـد أبـو فـارس‪ ،‬ود‪ .‬همام سـعيد‪ ،‬ود‪ .‬صلاح الخالدي‪ ،‬واألخري هـو من كان‬
‫يشـعر صاحبنـا أنّـه األقـرب إليـه يف مرحلتـه املبكّـرة‪ ،‬إذ كان إمام مسـجد عبد‬
‫الرحمـن بـن عـوف‪ ،‬بجـوار منزله‪ ،‬ويحرض أحمد دروسـه‪ ،‬ويـداوم عىل حلقاته‬
‫العلميـة‪ ،‬ويتواصـل معـه شـخصياً عن قرب‪.‬‬
‫التحـول نحـو السـلفية بـدأ مـع أحمـد‪ ،‬خلال دراسـته يف كليـة املجتمـع‪،‬‬
‫يف تخصـص اإلدارة املاليـة‪ ،‬عبر اختالطـه بأعـداد مـن السـلفيني القادمين مـن‬
‫حـي صويلـح‪ ،‬بالتزامـن مـع منـع خطبـاء اإلخـوان مـن‬ ‫الكويـت‪ ،‬بخاصـة يف ّ‬
‫الخطابة يف مسـجده واسـتبدالهم بالسـلفيني التقليديني‪ .‬يف األثنـاء بدأت عالقة‬
‫أحمـد بهـذا التيار‪ ،‬ومل يكن حينها مشـغوالً بانقسـاماته الداخليـة‪ ،‬فكان يحرض‬
‫دروسـاً عنـد بعـض التقليديني‪ ،‬مثل الشـيخ املصري أيب اليرس‪ ،‬أحمد الخشّ ـاب‪،‬‬
‫مـن تالميـذ األلبـاين‪ ،‬وعنـد الشـيخ أيب أنـس الشـامي‪ ،‬عمر يوسـف‪ ،‬الـذي كان‬
‫إمامـاً يف أحـد مسـاجد صويلـح‪ ،‬يف منطقـة اإلرسـال‪ ،‬مـع احتفـاظ صاحبنـا‬
‫بالعالقـة الجيـدة بصلاح الخالـدي وهـو وإن كان مـن اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬فإ ّن‬
‫عقيدته سـلفية‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫ملاذا أصبحت سلفياً؟‬
‫رمبـا مـن القضايـا التـي جعلتـه يقترب من السـلفية أكثر من اإلخـوان‪ ،‬أنّه‬
‫حي من أصول فلسـطينية»‪،‬‬ ‫مل يشـعر لـدى السـلفيني بـ«عقدة الشرق أردين يف ّ‬
‫فبخلاف اإلخـوان‪ ،‬الذيـن يتشـككون أمنيـاً فيمـن أصولـه مـن عشـائر أردنيـة‪،‬‬
‫مثـل أحمـد‪ ،‬الـذي ينتمـي إىل مدينة السـلط املجـاورة لصويلح‪ ،‬فإ ّن السـلفيني‬
‫كانـوا أكثر قبـوالً لـه وانفتاحـاً معـه‪ ،‬ويف الوقـت نفسـه مل يكـن ليقع بين ّ‬
‫فك‬
‫الكامشـة؛ ضغـوط األمـن وشـكوك اإلخوان‪.‬‬
‫عمـل أحمـد يف املكتبـة اإلسلامية‪ ،‬يف مجـال اإلدارة والتحقيـق والنشر‪،‬‬
‫وتعـود ملكيتهـا لصهـر الشـيخ األلباين نفسـه‪ ،‬وهو نظام سـكّجها‪ ،‬ذلـك العمل‬
‫الـذي فتـح لـه نافذة واسـعة عىل التيار السـلفي ورمـوزه وقياداته‪ ،‬مـن تالميذ‬
‫األلبـاين‪ ،‬فالتقـى باأللبـاين نفسـه‪ ،‬لكـن مل يتتلمـذ على يديـه‪ ،‬وحضر دروس‬
‫العلـم ألغلـب طلبتـه‪ ،‬وسـنح لـه عملـه الجديـد أن يطّلـع عـن قـرب وكثـب‬
‫على أرسار الخالفـات السـلفية والحلقـات الخاصـة الداخلية‪ ،‬ويقترب أكرث من‬
‫الشـخصيات املهمـة يف هـذا التيـار‪ ،‬التـي كانـت تشـارك يف نرش تـراث األلباين‪،‬‬
‫ونقـل جـزء كبير منـه مـن الطـور الشـفهي إىل الكتـايب‪ ،‬عبر املكتبة اإلسلامية‬
‫املنـاط بهـا إمتـام هـذه املهمة‪.‬‬
‫سـاهم أحمـد‪ ،‬مـع رفاقـه يف املكتبـة اإلسلامية‪ ،‬يف تجميـع وتحريـر فتـاوى‬
‫األلبـاين‪ ،‬عبر مجلـدات مـن الكتب‪ ،‬ويف تحقيـق العديد من الكتـب الدينية‪ ،‬ما‬
‫منحـه ثقافـة جيـدة يف الحديـث النبوي وتصحيحـه والعلم الرشعـي والتحقيق‬
‫والقضايـا الفقهيـة املختلفة‪.‬‬
‫هـذا االقتراب مـن شـيوخ السـلفية التقليديـة مل مينـع أحمـد مـن االنحيـاز‪،‬‬
‫الحقـاً‪ ،‬إىل الفكـر الحـريك‪ ،‬عندمـا بـدأت حالـة الفرز واالسـتقطاب يف األوسـاط‬
‫السـلفية‪ ،‬فـكان تأثـره بشـيخه عمـر يوسـف (أيب أنـس الشـامي) يف عمان‪،‬‬
‫وبرمـوز الصحوة السـلفية يف السـعودية‪ ،‬سـفر الحوايل وسـلامن العـودة ونارص‬
‫العمـر‪ ،‬كبيرا ً وعميقاً‪ ،‬فاصطـف يف خندق هذا التيار وتب ّنى تصوراته األساسـية‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫كان أحمـد مق ّربـاً وقريبـاً مـن عمـر يوسـف‪ ،‬وأنصـت إليـه ج ّيـدا ً حني كان‬
‫يبـدي تأملـه مـن مواقـف سـفر الحـوايل (الـذي كان ميثّـل منوذجاً وقـدوة لعمر‬
‫يوسـف) مـن أحـداث ‪ 11‬سـبتمرب ومـن القاعـدة‪ ،‬ثـم تجلّـت صدمـة صاحبنـا‬
‫بصـورة جل ّيـة بسـفر عمـر يوسـف إىل العـراق والتحاقـه بالزرقاوي‪ ،‬ثـم تح ّوله‬
‫الواضـح نحـو السـلفية الجهاديـة هناك‪.‬‬
‫يعرتف صاحبنا بالقول « إىل اآلن مل أسـتطع فهم تحول أيب أنس إىل السـلفية‬
‫الجهاديـة‪ ،‬فقـد حضرت عنده األيام األخرية قبل سـفره دروسـاً علميـة‪ ،‬وأخربنا‬
‫بنيتـه السـفر إىل السـعودية ليعمـل هنـاك بعـد اعتقالـه يف األردن والتضييـق‬
‫عليـه يف العمل»‪.‬‬

‫النزوع‪ ،‬املؤقت‪ ،‬نحو الجهادية‬


‫سـافر أبـو أنـس إىل العـراق‪ ،‬وقبلهـا كان شـقيق زوجتـه معتصـم الدرادكـة‬
‫(مـن مدينـة السـلط) يغـادر بـدوره إىل العـراق مـع رائـد خريسـات يف العـام‬
‫‪ ،1999‬بعدمـا أنهـى الثانويـة العامـة مبـارشة‪ ،‬ليقتـل هنـاك بعـد أشـهر خلال‬
‫القتـال بين مجموعتهـم ومجموعـة كرديـة علامنيـة؛ فهاتـان الحادثتـان ألقيتـا‬
‫تأثيرا ً كبيرا ً يف أعامقـه الروحيـة‪ ،‬وخلقتـا لديـه نزوعـاً نحـو االتجـاه الجهـادي‪،‬‬
‫وبخاصـة بعـد فترة اعتقاله ملـدة عرشة أيام يف عـام ‪ ،1998‬يف دائـرة املخابرات‬
‫العامـة‪ ،‬مـا خلـق لديـه موقفـاً سـبياً مـن الدولـة واألجهـزة األمنية‪.‬‬
‫خلال األعـوام التاليـة‪ ،‬منـذ العـام ‪ 2004‬إىل العـام ‪2007‬؛ اقرتب أحمد من‬
‫التيـار الجهـادي يف مدينـة السـلط‪ ،‬وأصبـح كثير منهـم يحضر خطبـة الجمعة‬
‫التـي يلقيهـا يف املسـجد الخـاص‪ ،‬الـذي يعمـل إمامـاً لـه‪ ،‬يف حـي وادي الناقـة‬
‫يف مدينـة السـلط‪ ،‬مـا سـبب لـه مضايقـات أمنيـة متعـددة خلال تلـك الفرتة‪،‬‬
‫مـع عملـه مديـرا ً يف جمعية إسلامية معنية بتدريـس القرآن الكريـم وتعليمه‪.‬‬
‫مل يـؤ ِّد اقرتابـه مـن التيـار الجهـادي إىل انسـجام كامـل معه‪ ،‬فحـاول تعديل‬
‫أفـكار ومواقـف أبنـاءه مبـا يتوافـق مـع مـا تعلّمـه أحمد خلال مرحلـة طلب‬
‫‪190‬‬
‫العلـم الرشعـي‪ ،‬إالّ أنّـه اكتشـف بأنهـا مهمـة صعبـة ومرهقـة‪ ،‬فوجـد نفسـه‬
‫خلال العـام ‪ ،2007‬ومـا تلاه يعـود‪ ،‬تدريجيـاً‪ ،‬إىل قناعتـه بالفكـر الحـريك‪،‬‬
‫واالقتراب مـ ّرة أخـرى فكريـاً وروحيـاً مـن شـيوخ الصحـوة السـلفيني‪ ،‬بصـورة‬
‫محـ ّددة الشـيخ سـلامن العـودة يف السـعودية‪ ،‬وهـو الـذي جمـع أحمـد بعض‬
‫أقولـه يف كتيـب صغير وقـام بنشره‪.‬‬
‫ال يشـعر صاحبنـا بصراع مـع التيـار الجهـادي‪ ،‬لك ّنـه ينتقـد مـا وصلـت إليه‬
‫حالتـه مـن غلـو ومبالغـات يف التكفير والتشـدد مـع االتجاهـات اإلسلامية‬
‫املختلفـة معهـم‪ ،‬وأحمـد اليـوم ليـس منتميـاً ألي تيـار إسلامي‪ ،‬بالرغـم مـن‬
‫صالتـه الواسـعة مبختلـف هـذه الجامعـات‪ ،‬وانغامسـه يف العمـل التطوعـي‬
‫والدعـوي‪.‬‬
‫يعمـل حاليـاً مدرسـاً يف الرتبيـة والتعليـم‪ ،‬وإمامـاً وخطيبـاً ملسـجد خـاص‬
‫يف مدينـة السـلط‪ ،‬وهـو متـزوج ولديـه ابنـة صغيرة‪ ،‬ويسـكن يف شـقة صغرية‬
‫ملتحقـة يف مسـجده الصغير يف وادي الناقـة يف السـلط‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫خالصات واستنتاجات‬

‫بخلاف التجربـة التقليديـة‪ ،‬التـي متتـاز بالوضـوح والبسـاطة‪ ،‬فـإ ّن التجربـة‬


‫الحركيـة‪ ،‬وفـق النماذج التـي قرأناهـا‪ ،‬متتـاز بدرجة كبيرة من االرتبـاك وعدم‬
‫الوضـوح‪ ،‬والتوتـر داخل أروقة التيـار‪ ،‬فنحن أمام تجارب تقترب من التقليدية‬
‫وأخـرى مـن الجهاديـة‪ ،‬وتتلبـس بها‪ ،‬مـا أث ّر عىل هوية التيار نفسـه يف املشـهد‬
‫األردين!‬
‫ظهر ذلك «االلتباس الهويايت» جليّاً عىل شـخصية جمعية الكتاب والسـنة‪،‬‬
‫املولـود والكائـن‪ ،‬الـذي أريد له أن يعرب عـن هوية التيار يف بداية التسـعينيات‬
‫وطمـوح أبنائـه‪ ،‬لك ّنـه كان مرتجماً أمينـاً لحجـم االرتبـاك الداخلي والتباينـات‬
‫الحل لـدى البعض باالبتعاد‬
‫الفكريـة يف تحديـد تلـك الهوية والشـخصية‪ ،‬فكان ّ‬
‫عـن هـذه الخالفـات التي أرهقـت التيار‪ ،‬والتوجـه نحو العمل امليـداين الخريي‬
‫مـؤش نوعـي على هويـة سـلفية متاميزة عن‬ ‫والتطوعـي‪ ،‬الـذي ال يعكـس أي ّ‬
‫الجمعيـات اإلسلامية أو حتـى التطوعية األخرى!‬
‫روافـد التيـار الحـريك‪ ،‬بخلاف التقليـدي‪ ،‬أكثر خصوبـة وتعقيـدا ً‪ ،‬فالحلقـة‬
‫املهمـة التـي سـاهمت يف نشر هـذا الفكـر تتمثـل بشـخصيتني‪ ،‬عمـر محمـود‬
‫وحسـن أبـو هنيـة‪ ،‬وكالهما غـادر التيار الحـريك‪ ،‬األول نحـو الجهـادي‪ ،‬والثاين‬
‫انعتـق متامـاً من الفكر السـلفي‪ ،‬أ ّمـا باقي أفـراد الحلقة التي قاموا بتأسيسـها‪،‬‬
‫وتجنيدهـا يف حركـة أهـل السـنة والجامعـة‪ ،‬أو جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬فهم‬
‫منقسـمون مـا بين التقليـدي والحـريك والجهـادي‪ ،‬أي أ ّن الطريـق الثالـث‬
‫متسـك كثري من‬ ‫السـلفي‪ ،‬كما أريـد لـه أن يكـون‪ ،‬مل يتع ّبـد بعـد‪ ،‬بالرغـم مـن ّ‬
‫السـلفيني بأهميته‪.‬‬
‫الشـخصية الحركيـة ليسـت ضحلـة أو بسـيطة‪ ،‬كما هـي حـال التقليديين‪،‬‬
‫فهنالـك مـن أفرادهـا مـن كان يسـارياً أو علامنيـاً‪ ،‬ومنهـم مـن تنقـل بين‬

‫‪193‬‬
‫الجامعـات املختلفـة‪ ،‬ومـن كان تقليديـاً‪ ،‬ورمبا نجد شـخصيات حركية تحولت‪،‬‬
‫ثـم عـادت‪ ،‬وأخـرى اتجهـت نحـو الجهاديـة‪ ،‬وثالثـة خرجـت مـن أفـق التيـار‬
‫السـلفي عمومـاً‪ ،‬مبعنـى أننا أمام تجارب إنسـانية‪ ،‬روحياً وفكريـاً‪ ،‬أكرث خصوبة‬
‫وتعقيـدا ً مما بـدت عليـه الحالـة السـلفية التقليدية!‬
‫من الروافد املهمة للسـلفية الحركية يف األردن‪ ،‬أولئك القادمون من الخليج‬
‫العـريب‪ ،‬وتحديـدا ً األردنيـون مـن أصـول فلسـطينية مـن الكويـت‪ ،‬فهـم كانـوا‬
‫مـوردا ً كبيرا ً‪ ،‬سـواء للجهاديين أو الحركيين‪ ،‬سـواء املتأثريـن بتجربـة السـلفية‬
‫الكويتيـة (عبـد الرحمـن عبد الخالـق)‪ ،‬أو السـلفية الرسورية‪ ،‬أو حتى سـلفية‬
‫الصحـوة يف السـعودية‪ ،‬فبالرغـم مـن اختالفاتهـم‪ ،‬فإنّهـم يلتقـون بين أطـراف‬
‫الطريـق السـلفي الحـريك الواسـع‪ ،‬الذي يشـمل مروحـة متنوعـة ومتعددة من‬
‫األفـكار واآلراء املتباينـة تجـاه املوقـف مـن الحكومـات والدميقراطيـة‪ ،‬لكنهـا‬
‫تتفـق على العمـل السـيايس ورفـض مبـدأ طاعـة ويل األمـر‪ ،‬ويف الوقت نفسـه‬
‫رفـض اسـتخدام العنـف والسلاح يف الصراع الداخلي والتغيري السـيايس‪.‬‬
‫الهويـة السـلفية الحركيـة أكثر عرضـة للتحـوالت مـن غريهـا‪ ،‬ألنّهـا تفتقـد‬
‫املرجعيـات الفكريـة والقيادات الروحية واالطر الجامعة عىل السـاحة األردنية‪،‬‬
‫لذلـك وجدنـا ظاهـرة التحوالت نحـو الجهادية بالدرجـة األوىل أو خـارج التيار‬
‫بـأرسه بدرجـة ثانيـة هـي ظاهـرة ملحوظـة لهـا حضورهـا يف تجـارب التيـار؛‬
‫حتـى أ ّن أهـم الشـخصيات املؤثـرة يف هـذا التيار مل تعد محسـوبة عليه! سـواء‬
‫مـع عمـر محمـود (أيب قتادة الفلسـطيني)‪ ،‬حسـن أبو هنيه‪ ،‬عمر يوسـف (أيب‬
‫أنـس الشـامي)‪ ،‬فيما لدينا شـخصيات عديـدة أخرى متلبسـة بالتيـار الجهادي‬
‫وأخـرى بالتقليدي!‬
‫هويـة التيـار الحـريك باإلضافـة إىل أنّهـا تعـاين مـن االرتبـاك والغمـوض‬
‫والتوتـر‪ ،‬الناجـم عـن عدم التوافـق عىل موقف محدد من الحـكام والحكومات‬
‫(فيما كانـت كافـرة أم عاصيـة) ومـا يرتتب عىل ذلـك من تحديد منهـج التغيري‬
‫(اعتماد املسـار الدميقراطـي أم السـلمي أم الرتبـوي والدعـوي)‪ ،‬فهـي تعـاين‪،‬‬
‫أيضـاًـ مـن التبايـن يف املوقـف مـن أفـكار سـيد قطـب (مـدى محوريـة فكـرة‬

‫‪194‬‬
‫الحاكميـة يف فكـر التيـار وخطابه)‪.‬‬
‫يقـع «العقـل الحـريك» يف مصيـدة التبـاس هويـة التيـار‪ ،‬فهـو وإن كان أكرث‬
‫مرونـة وانفتاحـاً مـن العقـل التقليـدي يف التعامـل مـع النص الدينـي‪ ،‬وتحديد‬
‫مفهـوم املعرفـة املطلوبـة والرضوريـة‪ ،‬إذ يتوسـع بها ويخرج من نطـاق العلوم‬
‫الرشعيـة‪ ،‬كما هـي الحـال لـدى التقليديني‪ ،‬ويعود ذلـك لحضور مفهـوم «فقه‬
‫الواقـع» لـدى الحركيين‪ ،‬الـذي يجعلهـم أكثر اهتاممـاً باألحـداث املحيطـة‬
‫والجاريـة‪ ،‬سياسـياً وإعالميـاً‪ ،‬إالّ أ ّن العقـل الحـريك يعـاين من تعـدد املرجعيات‬
‫الفكريـة وتباينهـا‪ ،‬ومـن غيـاب مسـطرة أيديولوجيـة واحـدة‪ ،‬يعود إليهـا أبناء‬
‫هـذا التيـار يف املوقـف مـن األحـداث والقضايـا الواقعية‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫من قلب السلفية إىل الخارج!‬


‫مقدمة‬
‫َّ‬

‫يف هـذا الفصـل لدينـا تجربتـان تضيئـان زوايـا أخـرى مـن الصـورة‪ ،‬يف‬
‫جانبين رئيسين؛‬
‫الجانـب األول؛ أنهما تق ّدمـان لنـا خارطـة الطريـق املعاكـس‪ ،‬أي الخـروج‬
‫مـن السـلفية إىل األفـكار األخـرى‪ ،‬سـواء كانـت إسلامية فضفاضـة أو علامنية‪،‬‬
‫فسـنالحظ كيـف أ ّن كالّ مـن نـارت خير وحسـن أبـو هنيـه أصبحـا سـلفيني‪،‬‬
‫بـل وفاعلين يف املشـهد السـلفي‪ ،‬خلال سـنوات معـدودة‪ ،‬ثـم كيـف تطـ ّورت‬
‫تجربتهما الفكريـة والروحيـة‪ ،‬ودفعتهما للخـروج مـن السـلفية مـ ّرة أخـرى!‬
‫يف التجـارب السـابقة اكتشـفنا أ ّن هنالـك حالـ ًة مـن «السـيولة» الشـديدة‬
‫بين التيـارات واألفـكار السـلفية‪ ،‬إىل درجـة ميكـن القـول بارتيـاح شـديد بـأ ّن‬
‫ظاهـرة «التحـول الداخلي»‪ ،‬أي مـن السـلفية الحركيـة إىل التقليديـة أو‬
‫الجهاديـة أو التنقـل يف هـذه التضاريـس ليسـت أمـرا ً غريبـاً‪ ،‬بل طبيعياً‪ ،‬سـواء‬
‫عبر النماذج املشـهورة من السـلفية‪ ،‬مثل عمر يوسـف (أيب أنس الشـامي)‪ ،‬أو‬
‫عمر محمود (أيب قتادة الفلسـطيني)‪ ،‬أو النامذج التي عايشـناها يف الصفحات‬
‫السـابقة مـن الكتـاب؛ مـع كثير من الحـاالت! أ ّمـا يف هـذا الفصل فنحـن أمام‬
‫«واقعـة تحـول» مختلفـة من السـلفية إىل الخـارج‪ ،‬أي خارج العباءة السـلفية‪،‬‬
‫أيديولوجيـاً وواقعيـاً‪ ،‬وهـي بالتـايل تتوافر على حيثيات وإشـارات أكرث قوة من‬
‫التحـول الداخيل السـلفي!‬
‫أ ّمـا الجانـب الثـاين؛ أنّهما ليسـتا تجربتين عابرتين! بـل عميقتين‪ ،‬فنحـن‬
‫أمـام «منـاذج نخبويـة» على الصعيـد الثقايف والفكـري‪ ،‬فكل من نارت وحسـن‬
‫ميتلـكان قـدرا ً مهماً مـن املعرفـة والفكـر والثقافـة‪ ،‬وصلا إىل مرتبـة مميزة يف‬
‫األوسـاط السـلفية‪ ،‬مكانـ ًة وعلماً‪ ،‬ومل تكن عالقتهام بالسـلفية سـطحية عابرة‪،‬‬
‫بـل كانـت ترجمـة أمينـة لرحلـة روحيـة وفكريـة قلقـة‪ ،‬اختلطت فيهـا األبعاد‬

‫‪199‬‬
‫الفكريـة األيديولوجيـة بالواقعيـة والسـلوكية‪ ،‬وامتزجت خربة كليهما باللحظة‬
‫التاريخيـة واألحـداث التاريخيـة املهمـة املؤث ّرة‪ ،‬سـواء عىل صعيـد تب ّنى املنهج‬
‫التخلي عنـه الحقاً!‬
‫ّ‬ ‫السـلفي أو‬
‫حسـن أبـو هنيـة مـن مواليـد عقـد السـتينيات‪ ،‬أردين من أصول فلسـطينية‪،‬‬
‫ُولـد وعيـه عىل وقائع الصراع العريب‪ -‬اإلرسائيلي واللجوء‪ ،‬والهزائم العسـكرية‬
‫املتتاليـة والتناطـح األيديولوجـي يف العـامل العـريب‪ ،‬عايـش الجامهرييـة القومية‬
‫واليسـارية والتحـول يف املـزاج الشـعبي نحـو االتجاه اإلسلامي مـرورا ً بأحداث‬
‫مفصليـة أخـرى‪ ،‬مثـل الثـورة اإليرانيـة واغتيـال السـادات والحـرب األفغانيـة‬
‫وصـوالً إىل حـروب الخليـج ثـم أحداث ‪ 11‬سـبتمرب‪.‬‬
‫أ ّمـا نـارت خير فهـو مـن مواليـد عقـد السـبعينيات‪ُ ،‬ولد وعيه السـيايس عىل‬
‫هزميـة صـدام حسين يف عـام ‪ ،1991‬والشـعور بالخديعة من الخطـاب الديني‪،‬‬
‫مـا دفعـه إىل االشـتباك مـع الخطـاب نفسـه‪ ،‬الستكشـافه وتصفيـة الحسـاب‬
‫مـع اتجاهاتـه التـي خلقـت شـعور «الخديعـة» لديـه‪ ،‬وصـوالً إىل البحـث عن‬
‫أرضيـة صلبـة لنهضـة وتنميـة مجتمعيـة ثقافيـة تخـرج الشـعوب العربيـة من‬
‫حالتهـا الراهنـة‪ ،‬وهـو ما قـاده إىل رؤية نقديـة ملوقع الدين نفسـه يف املجتمع‬
‫والدولة والسياسـة!‬
‫تلـك التجربتـان تعكسـان‪ ،‬مـن زاويـة أخـرى‪ ،‬أزمـة األجيـال الشـابة العربية‬
‫يف متاهـات األيديولوجيـا والسياسـة‪ ،‬والبحـث عـن الـذات والهويـة والطريـق‬
‫للخـروج مـن الواقـع املنكـوب باألزمـات والتخلـف والضعـف‪ ،‬سـواء جرفتهـا‬
‫التجربـة نحـو الراديكاليـة الدينيـة والسياسـية أو قذفتهـا باالتجـاه اآلخـر‪ ،‬أي‬
‫نحـو العلامنيـة التـي تـرى بـأ ّن الطريـق مختلـف متامـاً ميـر عبر تحجيـم دور‬
‫الديـن يف املجـال السـيايس‪ ،‬وتقنني مهمتـه املطلوبة يف املجالني العـام والخاص‪،‬‬
‫مبـا يخـدم التحـرر الفكـري واملعـريف يف هـذه املجتمعـات!‬
‫لـكل منهـا خصوصيتـه الداخليـة‪ ،‬كما ذكرنـا‬
‫هـي تجـارب روحيـة وفكريـة ّ‬
‫ٍ‬
‫أوقـات سـابقة‪ ،‬ذلـك صحيـح؛ لكـن فيهـا جميعـاً مث ّـة عامـل مهـم حـارض‬ ‫يف‬
‫ومؤث ّـر وحيـوي‪ ،‬وهـو «اللحظـة التاريخيـة»؛ فهـي التـي تدفـع بأعـداد كبيرة‬

‫‪200‬‬
‫نحـو السـلفية التقليديـة وأخرى باتجاه الحركيـة وثالثة نحـو الجهادية‪ ،‬أو نحو‬
‫طريـق آخـر مختلـف متاماً!‬
‫كل من نارت وحسـن‪ ،‬املوسـومة بالتحول إىل خارج‬ ‫لكن ما تتميّز به تجربة ّ‬
‫السـلفية‪ ،‬أنّها مسـكونة بالسـؤال املعـريف والفكـري‪ ،‬فكالهام مهتمان باملعرفة‬
‫والفكـر والثقافـة بدرجـة كبيرة‪ ،‬ليـس فقـط على صعيـد العلـم الرشعـي‪ ،‬كام‬
‫هـي حـال أغلـب السـلفيني‪ ،‬بـل يف الثقافـات والفلسـفات الغربيـة والعربيـة‬
‫املختلفـة‪ ،‬مـا مينحهما مذاقـاً خاصاً على التجارب السـابقة التي اطّلعنـا عليها!‬

‫‪201‬‬
‫‪-1-‬‬
‫حسن أبو هنية‪ :‬عبور «السلفيات»‬
‫إلى اإلسالم اليساري الديمقراطي‬

‫مينحنـا حسـن أبـو هنيـة منوذجـاً انخـرط يف التأسـيس للحالة السـلفية يف‬
‫األردن‪ ،‬منـذ البدايـات‪ ،‬يف نهايـة عقـد السـبعينيات‪ ،‬فاتخـذ مـع مجموعـة من‬
‫الشـباب السـلفي مسـارا ً مختلفاً عن الجامعة السـلفية الكربى‪ ،‬مدرسـة الشـيخ‬
‫نـارص الديـن األلبـاين‪ ،‬فسـعوا إىل تأسـيس تيار سـلفي حريك‪ ،‬يسـتلهم املدرسـة‬
‫اإلصالحيـة‪ ،‬وينقـل الدعـوة السـلفية نحو اإلطـار الجامعي واملؤسسي‪ ،‬والعمل‬
‫السـيايس املعارض‪.99‬‬
‫كان أ ّول مـن أدخـل البعـد املؤسسي على العمـل السـلفي األردين‪ ،‬ونسـج‬
‫مـع أصدقائـه شـبكة عالقـات مـع التيـار الحـريك خـارج البلاد‪ ،‬لك ّنـه تحـت‬
‫وطـأة األحـداث التاريخيـة والتطـورات الكبيرة يف مرحلـة التسـعينيات‪،‬‬
‫وسياسـات التضييـق والعـداء التـي واجهها مع زمالئـه يف الدعـوة الحركية‪ ،‬مال‬
‫نحـو السـلفية الجهاديـة‪ ،‬بـل وجـد نفسـه خلال سـنوات‪ ،‬مـن املسـاهمني يف‬
‫التأسـيس الفكـري والنظـري للتيـار الجهـادي الراديـكايل‪ ،‬ونرش كتبـه وأدبياته‪،‬‬
‫وتطويـر رؤيتـه الفلسـفية‪ ،‬ونقلـه مـن طور املحليـة إىل العاملية مـع نهاية عقد‬
‫التسـعينيات‪.‬‬
‫يف مرحلـة الحقـة‪ ،‬استسـلم حسـن لقناعاتـه الجديـدة بأ ّن التيـار الجهادي‬
‫ذهـب بعيـدا ً عـن األهـداف التـي سـعى حسـن إىل تكريسـها يف رؤيتـه‬
‫االستراتيجية الجديـدة‪ ،‬فقـرر االنعتـاق مـن أفـق السـلفية عمومـاً‪ ،‬والتفـ ّرغ‬
‫ألفـكاره وقناعاتـه الفرديـة الفكريـة وتطوره الروحـي‪ ،‬فك ّرس السـنوات األخرية‬
‫(‪ )99‬أجريـت املقابلـة معـه على مرحلتين‪ ،‬يف فنـدق كـراون بلازا‪ ،‬عمان‪ ،‬بتاريـخ ‪-11-15‬‬
‫‪ ،2013‬و‪.2013-11-16‬‬

‫‪202‬‬
‫لدراسـة الحـركات اإلسلامية ونقدهـا‪ ،‬والتأكيـد عىل عـدم التناقض بني اإلسلام‬
‫والدميقراطيـة‪ ،‬وترسـيخ أهميـة القبـول واإلميـان بالتعدديـة الدينيـة والثقافيـة‬
‫والسياسـية‪ ،‬والتخلـص متامـاً مـن الرؤيـة األحاديـة السـلفية‪ ،‬واالنفتـاح على‬
‫الحـركات اإلسلامية الجديـدة‪ ،‬والتطلـع باسـتمرار نحو املسـتقبل‪ ،‬ال املايض‪ ،‬يف‬
‫الدفـع نحـو الحريـة والتعدديـة والدميقراطيـة والعدالـة بوصفها قيماً وغايات‬
‫متثّـل جوهـر الفلسـفة اإلسلامية‪.‬‬
‫خلال الرحلـة املمتـدة منـذ نهايـة السـبعينيات إىل اليـوم‪ ،‬أي قرابـة ثالثـة‬
‫عقـود مـن االنخـراط يف التجارب اإلسلامية‪ ،‬بصـورة خاصة عىل صعيـد التنظري‬
‫والفكـر والعمـل املؤسسي‪ ،‬مث ّـة عوامـل مهمـة أثـرت على تطـور التجربـة‬
‫الروحية والفكرية لحسـن‪ ،‬يف مقدمتها خلفيته اليسـارية ومطالعاته الفلسـفية‬
‫والفكريـة الواسـعة يف الثقافـة الغربيـة والتراث اإلسلامي‪ ،‬األحـداث الكربى يف‬
‫نهايـة السـبعينيات‪ ،‬مثـل الثـورة اإليرانيـة حركـة جهيمان والحـرب األفغانيـة‬
‫وأحداث حامة يف سـورية‪ ،‬مرورا ً ببداية التسـعينيات‪ ،‬انهيار االتحاد السـوفيتي‬
‫وانتصـار املجاهديـن األفغـان‪ ،‬حـرب الخليـج‪ ،‬وانتكاسـة التجربـة الدميقراطيـة‬
‫الجزائريـة‪ ،‬وصعـود الحركـة الجهاديـة‪ ،‬وصـوالً إىل احـداث ‪ 11‬سـبتمرب ‪.2001‬‬
‫صاحبنـا بـدأ يسـارياً يف مقتبـل العمر‪ ،‬واسـتهل تجربته اإلسلامية باالنخراط‬
‫يف السـلفية‪ ،‬ومـ ّر مـن الفكـرة التقليديـة‪ ،‬إىل الحركيـة‪ ،‬ثـم الجهاديـة‪ ،‬ووصـل‬
‫بـه املطـاف إىل الخـروج متامـاً من السـلفية إىل األفق اإلسلامي العـام‪ ،‬والتفرغ‬
‫للعمـل البحثـي والجهـد الفكري‪.‬‬
‫يـروي لنـا حسـن يف تجربتـه املكثّفـة الخصبـة املمزوجة بين العمل الفكري‬
‫والحـريك واملؤسسي؛ كيـف أصبـح سـلفياً؟ وملـاذا؟ وكيـف تطـورت رؤيتـه‬
‫وحدثـت تحوالتـه الواقعيـة‪ ،‬ثـم ملاذا خـرج من رحم السـلفية؟ ومـا هي معامل‬
‫رؤيتـه الفكريـة الجديدة؟‬

‫‪203‬‬
‫البداية‪ :‬املشاركة يف تأسيس السلفية الحركية ومأسستها‬
‫حـي رأس العين يف عمان الرشقيـة‪ ،‬التـي متتـاز بالكثافـة السـكانية‬
‫نشـأ يف ّ‬
‫وبالطابـع الشـعبي‪ ،‬وبحضـور األردنيني من أصول فلسـطينية‪ ،‬مـن الالجئني من‬
‫الضفـة الغربيـة ومناطـق العـام ‪ ،1948‬جـاء مـع عائلتـه إىل عمان‪ ،‬بعـد حرب‬
‫الحـي الشـعبي‪ ،‬حين كانـت أجواء املدينة وأوسـاطها‬
‫‪ ،1967‬فاسـتقروا يف هـذا ّ‬
‫السياسـية ذات طابـع يسـاري وقومـي‪ ،‬أمـا حالـة التديـن فكانـت ضعيفـة‪،‬‬
‫ومسـاجد عمان مل تكـن تتجـاوز عرشة مسـاجد‪ ،‬أمـا اآلن فهي آالف املسـاجد‪.‬‬
‫ولد يف العام ‪ ،1963‬فنشـأ يف مرحلته األوىل يسـاري التوجه واألفكار‪ ،‬وبقي‬
‫كذلـك حتـى العـام ‪ ،1979‬أي عندمـا بلـغ مـن العمـر ‪ 16‬عامـاً‪ ،‬كان هنالـك‬
‫أحـداث كبرى يف نهايـة السـبعينيات‪ ،‬قـد أدت إىل تحـول متـدرج يف املـزاج‬
‫االجتامعـي‪ ،‬حتـى وصلنـا يف نهايـة السـبعينيات‪ ،‬إىل انقلاب كامـل يف املـزاج‬
‫الشـعبي نحـو التيـار اإلسلامي‪ ،‬وهو األمر الـذي ع ّززته مجموعـة من األحداث‬
‫الكبرى املتزامنـة مـع تلك الفرتة‪ ،‬سـواء الجهـاد األفغاين‪ ،‬يف نهاية السـبعينيات‪،‬‬
‫أو الثـورة اإليرانيـة يف العـام ‪ ،1979‬وحادثـة الحـرم املكي مع جهيمان يف العام‬
‫نفسـه‪ ،‬أو حتـى اغتيال السـادات الحقـاً يف العام ‪ ،1981‬فتلـك التط ّورات كانت‬
‫مبثابـة اإلعلان عـن لحظـة تاريخيـة جديـدة تعطـي الحضـور الشـعبي للتيـار‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫مل يعد مغرياً للشـاب الصغري أن يبقى يسـارياً‪ ،‬فكانت مرحلة من التسـاؤالت‬
‫حـول اليسـار والقوميـة ومسـاءلة هـذه التيـارات التـي أوصلـت الشـعوب‬
‫للهزميـة‪ ،‬فبـدأ التوجـه نحو التديّن والتيار اإلسلامي شـيئاً فشـيئاً‪ ،‬وهـو ما ت ّوج‬
‫خلال تلـك األحـداث الكبيرة مـع نهايـة السـبعينيات‪ ،‬فصنعت تلـك األحداث‬
‫والتحـوالت املفصليـة الحاسـمة يف املنطقة‪ ،‬وما خلقته مـن صدمات واهتزازات‬
‫مفتـاح دخـول حسـن إىل البيت اإلسلامي يف نهاية السـبعينيات‪.‬‬
‫تو ّجـه حسـن‪ ،‬مبـارشةً‪ ،‬نحـو املسـاجد القريبـة‪ ،‬ملـلء املسـاحة الواسـعة‪،‬‬
‫والتعـ ّرف على البيئـة التي ستشـكّل حاضن ًة ألفـكاره الجديـدة‪ ،‬ومل يكن هنالك‬
‫الحي‬
‫حـي رأس العين‪ ،‬الـذي يقطنـه‪ ،‬فعمـل مـع عـدد مـن شـباب ّ‬ ‫مسـجد يف ّ‬

‫‪204‬‬
‫على تأسـيس مسـجد جديـد‪ ،‬فبنوا مسـجد «الخلفـاء الراشـدين»‪.‬‬
‫مل تكـن السـلفية ظاهـرة يف أواخـر السـبعينيات‪ ،‬فهنالـك أفـراد معـدودون‪،‬‬
‫بينما كانـت الجامعـة املنتشرة الفاعلة هـي جامعة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬وفيها‬
‫تيـاران األول إصالحـي والثـاين قطبـي‪ ،‬لكـن حسـن مل ينسـجم مـع اإلخـوان‬
‫املسـلمني‪ ،‬وال مـع حـزب التحرير اإلسلامي‪ ،‬وهي الحركات‪ ،‬التي كانت تشـكّل‬
‫حينهـا الحالـة اإلسلامية يف األردن‪ ،‬فانخـرط مع جامعة التبليـغ فرتة قصرية من‬
‫الوقـت‪ ،‬لكنـه وجـد ضالّتـه يف األفـكار السـلفية‪ ،‬بالرغـم مـن عـدم وجـود تيار‬
‫عريـض يعبر عنهـا يف تلـك الفرتة‪.‬‬
‫كان عامـل اإلغـراء يف السـلفية‪ ،‬بالنسـبة لـه‪ ،‬يتمثّـل باهتاممهـا باملنهـج‬
‫العلمـي‪ ،‬والبحـث عـن الدليـل الرشعـي‪ ،‬وهـو مـا مل تكـن تعطيـه الجامعـات‬
‫اإلسلامية األخـرى أهميـة مشـابهة‪ ،‬وبـدأ حسـن مـع أصدقـاء لـه‪ ،‬أغلبهـم من‬
‫الحـي‪ ،‬الـذي يقطـن بـه‪ ،‬واألحيـاء املجـاورة يف عمان الرشقيـة‪ ،‬ويف مقدمتهـم‬
‫ّ‬
‫صديقـه عمـر محمـود‪ ،‬الـذي عـرف الحقـاً بـأيب قتـادة الفلسـطيني‪ ،‬باالهتامم‬
‫بدراسـة السـلفية‪ ،‬وطلبـوا كتبـاً مـن وزارة األوقـاف السـعودية‪ ،‬فأرسـلت لهـم‬
‫أعـدادا ً كبيرة مـن كتـب ابـن تيميـة ومحمـد بـن عبـد الوهـاب واألدبيـات‬
‫السـلفية املختلفـة التـي كانـت توزعهـا اململكة السـعودية‪ ،‬ما أتـاح لهم فرصة‬
‫واسـعة لقـراءة هـذا االتجـاه واإلبحـار فيـه‪.‬‬
‫مـع بدايـة الثامنينيـات حـدث تحـول مهـم مـع قـدوم الشـيخ نـارص الديـن‬
‫األلباين واسـتقراره يف األردن‪ ،‬بالتزامن مع أحداث املواجهات الدامية يف سـورية‬
‫بين جامعـة اإلخوان املسـلمني والنظام هنـاك‪ ،‬فجاء إىل األردن آالف السـوريني‬
‫اإلسلاميني‪ ،‬ومنهـم شـخصيات ذات توجـه سـلفي‪ ،‬من أبرزهم محمود القاسـم‬
‫(أيب األمين)‪ ،‬وغـازي التوبـة وغريهـم‪ ،‬ويضـاف إليهـم مجموعـة مـن قيـادات‬
‫اإلخـوان يف سـورية‪ ،‬مـن ذوي التوجـه السـلفي‪ ،‬مثـل عصـام العطـار وزهير‬
‫الشـاويش‪ ،‬مـا أعطـى قـوة دفـع كبيرة لألفـكار السـلفية وأدى إىل صعودها يف‬
‫األردن‪ ،‬منـذ بدايـة الثامنينيات‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫التقـى حسـن وصديقـه عمـر محمـود (أبـو قتـاده) بالشـيخ نـارص الديـن‬
‫األلباين‪ ،‬وحرضا دروسـه‪ ،‬لكنهام يف الوقت نفسـه أخذا مبراسـلة شـخصيات من‬
‫التيـار الصحـوي الصاعـد يف السـعودية‪ ،‬مثل سـفر الحـوايل‪ ،‬الذي ميثـل االتجاه‬
‫السـلفي املسـ ّيس املعارض‪ ،‬بخالف اتجاه السـلفية األلبانية‪ ،‬التـي بدأت تتطور‬
‫وتنمـو يف األردن‪ ،‬فاصطـدم حسـن وصديقـه أبو قتـاده مع الشـيخ األلباين بعد‬
‫جلسـات قليلة‪ ،‬وكان السـبب يف ذلك موقف الشـيخ نارص السـلبي من العمل‬
‫الجامعي والنشـاط السـيايس‪ ،‬ونظريتـه املعروفة بـ«التصفيـة والرتبية»‪.‬‬
‫ونظـرا ً لخلفيـة حسـن اليسـارية‪ ،‬مل يسـتطع قبـول انعـزال السـلفيني عـن‬
‫املشـهد التنظيمـي والسـيايس‪ ،‬فـكان رأيـه مـع أيب قتـادة هـو رضورة تنشـيط‬
‫الحالـة السـلفية وانخراطهـا يف العمـل التنظيمـي والسـيايس‪ ،‬فحصـل االختالف‬
‫بينهما وبين مدرسـة الشـيخ نـارص السـلفية التـي بـدأت تتشـكّل وتنتشر يف‬
‫مناطـق اململكـة‪.‬‬
‫بـدأ حسـن وأبـو قتـادة ومجموعـة أخرى تشـكلت حولهام بالعمـل والدعوة‬
‫للسـلفية‪ ،‬منفصلين عـن اتجـاه األلبـاين‪ ،‬وانطلقـوا مـن مسـجد الخلفـاء‬
‫الراشـدين‪ ،‬الـذي قاموا بتأسيسـه‪ ،‬وجابـوا محافظات اململكة ينشرون رؤيتهم‪،‬‬
‫إالّ أن الحالـة السـلفية مل تكـن مهيـأة للعمـل الجامعـي والسـيايس‪ ،‬فامتـدت‬
‫عالقاتهـم مـع املجموعـات السـلفية خـارج اململكـة التـي تشـاطرهم املوقـف‬
‫املؤيـد للعمـل السـلفي الجامعـي‪ ،‬مثل جمعية إحيـاء التراث يف الكويت‪ ،‬التي‬
‫تأسسـت حينهـا يف الثامنينيـات مثـرة لرؤية الشـيخ عبـد الرحمن عبـد الخالق‪،‬‬
‫الـذي كان يختلـف مـع شـيوخ السـلفية يف العـامل العـريب‪ ،‬بدعوتـه الواضحـة‬
‫وكتبـه التـي تؤكـد على رضورة العمـل الجامعـي‪ ،‬وتواصـل حسـن ومجموعته‬
‫مع الشـيخ سـفر الحـوايل ومحمـد رسور زين العابديـن‪ ،‬وميثلون جميعـا التيار‬
‫السـلفي‪ ،‬الـذي أصبـح يطلـق عليـه الحقـاً التيـار السـلفي الحريك‪.‬‬
‫أسـس حسـن وأبـو قتـادة ومعهـم مجموعـة مـن الشـباب‪ ،‬الذيـن يؤمنـون‬
‫باألفـكار نفسـها‪ ،‬حركـة أطلقـوا عليهـا حركـة أهـل السـنة والجامعـة‪ ،‬وكان‬
‫مركزهـا عمان‪ ،‬لكـن كان هنالـك امتـداد لهـا يف محافظـة الزرقـاء‪ ،‬وأخـذوا‬

‫‪206‬‬
‫يبحثـون عمـن يشترك معهـم يف هـذه التصـورات يف أنحـاء اململكـة‪.‬‬
‫الهـدف مـن الحركـة الجديدة هو تأسـيس التيار السـلفي اإلصالحي‪ -‬الحريك‪،‬‬
‫واالهتمام باإلصلاح بروافـده املختلفـة‪ ،‬الثقافيـة واالجتامعيـة والسياسـية‪،‬‬
‫ونشروا مجلـة أطلقـوا عليهـا مجلـة املنـار (أسـوة مبجلـة املنـار‪ ،‬التـي أسسـها‬
‫شـيخ السـلفية اإلصالحيـة يف العصر الحديـث‪ ،‬محمـد رشـيد رضـا)‪ ،‬وأخـذوا‬
‫ميارسـون النشـاطات الدعويـة والخرييـة واالجتامعيـة والرياضيـة‪.‬‬
‫كان الهـدف بعيـد املـدى هـو إقامـة الدولـة اإلسلامية‪ ،‬لكنهـم اختلفـوا‬
‫عـن السـلفية األلبانيـة بأنّهـم نظـروا إىل إقامـة الدولـة عبر منظومـة متكاملـة‬
‫مـن األفـكار والنشـاطات‪ ،‬تشـمل الجوانـب االجتامعيـة والثقافيـة والسياسـية‪،‬‬
‫وكانـوا يسـعون إىل تأسـيس حـزب سـيايس الحقـاً‪ ،‬لكـن يف تلـك الفترة‪ ،‬بدايـة‬
‫التسـعينيات‪ ،‬مل يكـن قانـون االحـزاب قـد صـدر‪ ،‬فكان غري مسـموح بتأسـيس‬
‫األحـزاب السياسـية وال الجمعيـات‪.‬‬
‫قـام حسـن مـع مجموعـة من الشـباب مـن أبناء السـلفية الحركية بتأسـيس‬
‫جمعيـة الكتـاب والسـنة يف العـام ‪ ،1993‬مـع إقـرار قانـون األحـزاب‪ ،‬وتحلـل‬
‫الدولـة مـن مرحلـة األحكام العرفيـة‪ ،‬لكن الجمعية واجهت عـدا ًء من مختلف‬
‫األطـراف‪ ،‬سـواء السـلفية التقليديـة‪ -‬األلبانيـة‪ ،‬أو حتـى الدولـة‪ ،‬أو الجامعـات‬
‫اإلسلامية األخـرى‪ ،‬مثـل جامعـة اإلخـوان املسـلمني‪ ،‬فلـم يكـن املنـاخ العـام‬
‫مسـتعدا ً بعـد إلطلاق مشروع السـلفية الحركيـة‪ ،‬وال بصعود جمعيـة الكتاب‬
‫والسـنة بوصفهـا البوتقـة املؤسسـية القانونيـة لهـذا التيار‪.‬‬
‫بـدأت املالحقـات األمنيـة واالعتقـاالت تطال أعضاء الجمعية‪ ،‬ومنهم حسـن‪،‬‬
‫ونتيجـة العـداء والحصـار‪ ،‬تشـتت املجموعـة التـي أسسـت الجمعيـة‪ ،‬فذهب‬
‫بعضهـم باتجـاه االنخـراط يف الدولـة‪ ،‬وآخـرون وجـدوا ضالتهـم يف السـلفية‬
‫الجهاديـة التـي بدأت تربز يف التسـعينيات يف اململكة‪ ،‬وآخـرون تقوقعوا باتجاه‬
‫مغايـر متامـاً نحـو مـا يسـمى بالسـلفية الجاميـة‪ ،‬التـي تؤكـد على طاعـة ويل‬
‫األمـر‪ ،‬وترفـض االنشـغال بالسياسـية‪ ،‬فرتاجعت فكـرة الجمعية وانكفـأ دورها‪،‬‬
‫وعانـت مـن التقوقع‪ ،‬ودخلت يف إشـكالية الهوية‪ ،‬مع بقاء مجموعة محسـوبة‬

‫‪207‬‬
‫على التيـار الجهـادي فيها‪ ،‬مـا جعلها منقسـمة بين الحركيين واإلصالحيني من‬
‫جهـة‪ ،‬والجهاديين من جهـة أخرى‪.‬‬
‫خلال فترة التسـعينيات مل ينقطـع حسـن عـن قراءاته املتنوعـة‪ ،‬فكان يقرأ‬
‫يف التراث اإلسلامي‪ ،‬ويحققـه‪ ،‬ويف الفلسـفة وعلـم الـكالم‪ ،‬والفلسـفة الغربية‪،‬‬
‫وحافـظ على رؤيتـه النقديـة‪ ،‬حتـى تجـاه الحالـة السـلفية‪ ،‬وكان مـا يـزال‬
‫محسـوباً عليها‪.‬‬

‫املشاركة الفلسفية يف تأسيس السلفية الجهادية‬


‫والحي والحركة‪ ،‬عمر محمود‬
‫ّ‬ ‫إالّ أ ّن مغادرة صديق حسـن ورفيقه يف الفكرة‬
‫(أبـو قتـادة) مـع بدايـة التسـعينيات إىل الخـارج‪ ،‬ملاليزيـا‪ ،‬ثـم أفغانسـتان‪ ،‬ثم‬
‫اسـتقراره يف لنـدن‪ ،‬وتحولـه مـن السـلفية الحركيـة إىل السـلفية الجهاديـة‪،‬‬
‫وانخراطـه يف التنظير لهـا‪ ،‬مـع اسـتمرار عالقتـه الوثيقـة بحسـن‪ ،‬كل ذلك أدى‬
‫إىل تشـكّل قناعـة يف األوسـاط السـلفية واألمنيـة عـن حسـن تربطـه بالسـلفية‬
‫الجهادية‪.‬‬
‫عـ ّززت مـن تلـك القناعة رؤية حسـن السياسـية ذات النـزوع الراديكايل‪ ،‬فهو‬
‫ولخلفيتـه اليسـارية‪ ،‬كان يركّـز على مفهـوم العدالـة االجتامعيـة‪ ،‬وينظـر إىل‬
‫التغيير املطلـوب مـن منظور راديكايل للصراع‪ ،‬بوصف األنظمـة القامئة حليفة‬
‫وملحقـة بالغـرب‪ ،‬ورشيـكاً يف محاربـة مشروع النهضـة واإلصلاح املطلـوب‪،‬‬
‫فالتقـت رؤيـة حسـن هـذه مـع األفـكار الراديكالية التـي كان يتب ّناهـا صديقه‬
‫أبـو قتـادة والدعـوة السـلفية الجهادية الصاعـدة يف اململكة خالل تلـك الفرتة‪،‬‬
‫يف التسـعينيات‪ ،‬مـع بـروز شـخصية أيب محمـد املقـديس على الركـح السـيايس‬
‫األردين!‬
‫مل يجابه حسـن تلك القناعة‪ ،‬بل سـاهمت قراءته للمفكر اليسـاري غراميش‪،‬‬
‫وتأثـره بأفـكاره‪ ،‬بخاصـة فكـريت الهيمنة وحـرب املواقع ثم ما حـدث مع جبهة‬
‫اإلنقـاذ يف الجزائـر وظهـور تنظيـم بيعـة اإلمـام يف تعزيـز تصوراتـه الراديكالية‬
‫‪208‬‬
‫يف التغيير‪ ،‬إذ تعمقـت رؤيتـه بعـدم جـدوى إصلاح األنظمـة العربيـة‪ ،‬ال عبر‬
‫الوسـيلة الدميقراطيـة‪ ،‬وال الوسـيلة الرتبويـة‪ ،‬بـل سـعى عبر عالقته بـأيب قتادة‬
‫ومـا كان ميلكـه مـن احترام مـن األوسـاط الجهاديـة‪ ،‬وبالشـيخ املقـديس‪ ،‬إىل‬
‫التأثير على الحالـة الجهادية الصاعـدة‪ ،‬وعقلنتهـا‪ ،‬ومنحها أفقاً فلسـفياً نظرياً‪،‬‬
‫وكان هـو أول مـن صـك مصطلح السـلفية الجهاديـة‪ ،‬للتأكيد على أنّه ال توجد‬
‫سـلفية واحـدة‪ ،‬تتمثـل مبدرسـة األلبـاين‪ ،‬بـل هنالـك مناهـج سـلفية متعـددة‪،‬‬
‫سـلفية إصالحيـة وسـلفية جهادية‪.‬‬
‫متخضـت التحـوالت املحيطـة‪ ،‬والتطـورات الخارجيـة والداخليـة وبروز حالة‬
‫الصراع بين السـلفية الجهاديـة الجديـدة واألنظمـة العربيـة عـن دفـع حسـن‬
‫باتجـاه السـلفية الجهاديـة‪ ،‬لكـن عرب املسـاهمة الثقافية والنظرية والفلسـفية‪،‬‬
‫فشـارك عبر عملـه يف دار البيـارق‪ ،‬التـي تأسسـت يف عمان يف النصـف الثـاين‬
‫مـن التسـعينيات‪ ،‬يف نشر الرتاث السـلفي الجهادي‪ ،‬وطباعتـه‪ ،‬وتعزيز أدبياته‪،‬‬
‫التـي تنظّـر للمفاصلـة واملواجهـة املسـلحة مـع األنظمـة العربيـة‪ ،‬وكانـت دار‬
‫البيـارق مبثابـة الـدار الوحيـدة‪ ،‬يف العـامل العريب‪ ،‬قبـل هيمنة العـامل االلكرتوين‪،‬‬
‫التـي تتـوىل نشر هـذا النوع مـن األدبيـات والكتب‪ ،‬فنشر كتب املقـديس وأبا‬
‫قتـادة الفلسـطيني وأميـن الظواهـري وغريهم من شـخصيات أصبحت معروفة‬
‫يف عـامل التنظير للتيـار الجديد‪.‬‬
‫سـاهم حسـن‪ ،‬عبر عملـه يف دار البيـارق‪ ،‬يف نقـل الحالة السـلفية الجهادية‬
‫نحـو التنظير والسـياق الفكـري‪ ،‬وهـو يحيل هـذا التحول الجديد يف شـخصيته‬
‫لتأثير اللحظـة التاريخيـة يف التسـعينيات‪ ،‬إذ بـدا األمر «بعد انسـحاب االتحاد‬
‫السـوفيتي من أفغانسـتان‪ ،‬والحروب الدامية يف الشيشـان والبوسـنة والجزائر‪،‬‬
‫واشـتعال الجبهـات املختلفـة‪ ،‬وظهـور أنصـار التيـار الجهـادي يف األردن‪ ،‬وكأ ّن‬
‫تعث مسـارات التحول‬ ‫الفرصـة متاحـة اليـوم للجهاديني للصعود واالنتشـار‪ ،‬مع ّ‬
‫الدميقراطـي الجديدة يف العـامل العريب»!‬
‫لكـن رسعـان مـا تبـ ّدد زخـم الحركـة الجهاديـة يف العـامل العـريب‪ ،‬فمنيـت‬
‫بهزائـم كبيرة على يـد األنظمـة العربيـة‪ ،‬يف مختلـف األماكـن‪ ،‬يف مصر وليبيـا‬

‫‪209‬‬
‫والجزائـر‪ ،‬وهـو مـا دفع حسـن مع رفيقه أيب قتـادة إىل التنظير ملرحلة جديدة‬
‫لهـذه الحركـة تنقلها إىل مرحلـة العوملة‪ ،‬بدالً من اإلغـراق يف الرصاعات املحلية‬
‫الخـارسة‪ ،‬إذ كان منظـور تلـك الحـركات يركّـز على مفهـوم «العـدو القريب»‪،‬‬
‫بينما كان الصديقـان (أبـو هنيـه وأبـو قتادة) من أوائـل من دعـوا إىل االنتقال‬
‫نحـو «العـدو البعيـد»‪ ،‬أي الواليـات املتحـدة‪ ،‬والنظـرة العامليـة للصراع بين‬
‫التيـار الجهـادي واألنظمـة السـلطوية وحليفهـا الغريب!‬
‫سـاهم حسـن‪ ،‬الـذي شـارك يف اجتماع غير معلـن يف العـام ‪ ،1994‬مـع‬
‫رفيقـه أيب قتـادة بتدشين فكـرة «عوملـة الحركـة الجهاديـة»‪ ،‬وكان أول من دعا‬
‫إىل ذلـك‪ ،‬عبر التأثير الخـاص على أيب قتـادة‪ ،‬ومـن خلال مـا يكتـب األخير‪،‬‬
‫إالّ أ ّن هـذه الفكـرة ُر ِفضـت يف حينـه مـن الفصائـل الجهاديـة‪ ،‬التـي أرصت‬
‫على البعـد املحلي يف الصراع‪ ،‬وعىل مفهـوم «العـدو القريب»‪ ،‬إىل أن فشـلت‬
‫تلـك الحـركات‪ ،‬فالتقـط أسـامة بـن الدن فكـرة «العوملـة الجهاديـة» يف العـام‬
‫‪ ،1998‬عبر إعالنـه عـن تأسـيس الجبهـة العامليـة ملقاتلـة اليهـود والصليبيني يف‬
‫أفغانسـتان‪ ،‬مـع أميـن الظواهري‪ ،‬وكانت تلـك لحظة االنتقـال يف تاريخ الحركة‬
‫الجهاديـة والقاعـدة‪.‬‬
‫لكـن‪ ،‬مـا حـدث الحقـاً‪ ،‬مل يكـن مـا يريـده وينظّـر لـه حسـن‪ ،‬إذ بـدالً مـن‬
‫مواجهـة املصالـح األمريكيـة والغربيـة يف املنطقـة‪ ،‬وتكبيـد الواليـات املتحـدة‬
‫خسـائر كبيرة‪ ،‬يدفعهـا ملراجعة حسـاباتها‪ ،‬نقل ابـن الدن املعركـة إىل عقر دار‬
‫أميركا‪ ،‬يف أحـداث ‪ 11‬سـبتمرب‪ ،‬فكانـت قفـزة كبرية يف الهواء‪ ،‬بعيـدا ً عن جوهر‬
‫الفكرة الرئيسـة‪.‬‬
‫كانـت أحـداث ‪ 11‬سـبتمرب نقطة التحول الجديدة يف أفكار حسـن وتوجهاته‬
‫الفكريـة‪ ،‬إذ مل يكـن مؤيـدا ً لفكـرة «الجهـاد الهجومـي»‪ ،‬ومـا يرتتـب عليه من‬
‫تداعيـات كبيرة‪ ،‬مـن ناحيـة‪ ،‬ومل يكـن متفقـاً عىل رشعيـة عملية سـبتمرب‪ ،‬فيام‬
‫يتعلـق بجـواز قتـل املدنيين‪ ،‬فشـعر صاحبنـا بفجوة كبرية واسـعة مـع املرحلة‬
‫الجديـدة للقاعـدة‪ ،‬ومـا سـتؤول إليـه‪ ،‬فقـرر قطـع أي عالقـة لـه بهـذه الحركة‬
‫ومآالتهـا‪ ،‬سـواء عبر املسـاندة الفكريـة والفلسـفية أو حتـى على الصعيـد‬

‫‪210‬‬
‫الشـخيص‪ ،‬ملـا أصبحـت عليـه حـال التيار الجهـادي من تطـرف دينـي وفكري‪،‬‬
‫ال يتفـق مـع طبيعتـه ورؤيته الفلسـفية والسياسـية‪.‬‬
‫يف تلك اللحظة التاريخية أصبحت «السـلفيات» يف العامل العريب أكرث وضوحاً‬
‫واسـتقطاباً‪ ،‬فالقاعـدة دخلـت يف رصاع عاملـي شـديد‪ ،‬والسـلفية األلبانية‪ ،‬بعد‬
‫وفـاة الشـيخ نـارص ذهبت بصورة أوضـح نحو تأييـد النظم العربية‪ ،‬والسـلفية‬
‫الحركيـة يف االنخـراط يف العمل العـام واملجتمعي والدعوي‪.‬‬

‫من السلفية إىل اإلسالم اليساري الدميقراطي‬


‫وصـل حسـن إىل قـرار جديد يتمثّـل باالنعتاق من «قيد السـلفية»‪ ،‬والبحث‬
‫عـن آفـاق أكثر اتسـاعاً‪ ،‬لكنـه احتفظ ببعـض العالقات الشـخصية مـع القامئني‬
‫على جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬التـي متثّـل الفكـر الحـريك‪ ،‬وهو يحظـى بقبول‬
‫واحرتام يف هذه األوسـاط‪ ،‬كام أ ّن صالته مل تنقطع متاماً‪ ،‬عىل الصعيد اإلنسـاين‪،‬‬
‫مع قيادات السـلفية الجهادية‪ ،‬ويف الوقت نفسـه مل يعد يص ّنف نفسـه سـلفياً‪،‬‬
‫وال يعتقـد أ ّن أيّـا مـن أبناء التيارات السـلفية يص ّنفـه اليوم كذلك‪.‬‬
‫تحـ ّررت رؤيـة حسـن الفكريـة مـن التزاماتـه السـابقة مـع السـلفيني‪ ،‬فعـاد‬
‫لتأسـيس مواقفـه بدرجـة أكثر وضوحـاً ورصاحـ ًة تجـاه القضايـا اإلشـكالية‬
‫والجوهريـة‪ ،‬التـي مل تكـن السـلفيات املختلفـة‪ ،‬مبـا فيهـا الحركية‪ ،‬قـد وصلت‬
‫إليهـا‪ ،‬مثـل اإلميـان بالدميقراطيـة بوصفهـا فلسـفة سياسـية واجتامعيـة مهمـة‬
‫يف إدارة الصراع الداخلي‪ ،‬وقضيـة العدالـة االجتامعيـة والحريـة واملـرأة‪ ،‬فهـي‬
‫قضايـا تقـع على هامـش الخطـاب السـلفي‪ ،‬وال تجـد اهتاممـاً بهـا إالّ على‬
‫صعيـد العمـل الخيري‪ ،‬ال التنظير الفلسـفي والعمـل الفكـري‪ ،‬الـذي يقـع يف‬
‫عمـق اهتاممـات حسـن وأولوياتـه ورؤيتـه لإلصلاح املطلـوب!‬
‫بـدأ حسـن يكـ ّرس نفسـه وجهـوده للكتابـة والعمـل الفكـري والنشـاط‬
‫البحثـي‪ ،‬وأصبـح يعـرف على الصعيـد اإلعالمي والعلمـي بوصفه خبيرا ً وباحثاً‬
‫يف الحركات اإلسلامية‪ ،‬ومهتامً بالفلسـفة‪ ،‬وصدرت له مجموعة من الدراسـات‬
‫‪211‬‬
‫والكتـب يف هـذا السـياق والطـور الجديـد من تطـوره الروحـي والفكري‪.‬‬
‫يسـعى حسـن للتأكيـد‪ ،‬اليـوم‪ ،‬على أهميـة املسـار الدميقراطـي‪ ،‬وبضرورة‬
‫ترسـيخ التعدديـة يف أبعادها السياسـية والثقافية والدينية‪ ،‬ويـرى عدم تعارض‬
‫ذلـك مـع اإلسلام وفلسـفته ومقاصـده‪ ،‬وهـو إن كان سـيص ّنف نفسـه ضمـن‬
‫معين‪ ،‬فهـو أقـرب إىل اإلسلام الدميقراطي اليسـاري‪ ،‬ما ينسـجم‬‫فكـري ّ‬
‫ّ‬ ‫اتجـاه‬
‫مـع خلفيتـه وتطوراتـه‪ ،‬الروحيـة والفكرية السـابقة‪ ،‬اليسـارية واإلسلامية‪.‬‬
‫احتفـظ حسـن بعدائـه لألطروحـة الليرباليـة‪ ،‬بصيغتهـا الجديـدة (النيـو‬
‫ليرباليـة)‪ ،‬لتعارضهـا مـع مقاصـد العدالـة االجتامعيـة وآلثارهـا الوخيمـة على‬
‫الطبقـة الوسـطى‪ ،‬وإرضارهـا بالتوازنـات االجتامعيـة املطلوبـة إلنجـاح املسـار‬
‫الدميقراطـي‪.‬‬
‫انفتـح حسـن على التجـارب اإلسلامية الجديدة‪ ،‬أو ما يطلـق عليه «حركات‬
‫مـا بعـد اإلسلام السـيايس»‪ ،‬مثـل حـزب العدالـة والتنميـة يف تركيـا‪ ،‬وهـي‬
‫الحـركات التـي قطعـت شـوطاً كبيرا ً يف القبـول بالدميقراطيـة والتعدديـة‪ ،‬إالّ‬
‫أنّـه يسـتدرك بـأ ّن هـذا الطـور مل ينضـج يف الحالـة العربيـة‪ ،‬فبقي هـذا الخيار‬
‫الفكـري خيـارا شـخصيا عقالنيا‪.‬‬
‫مـع ذلـك يسـجل حسـن اختالفـه حتـى مـع الحـركات اإلسلامية الجديـدة‪،‬‬
‫مثـل العدالـة والتنميـة الرتيك واملغريب‪ ،‬يف موضوعة القبـول بالليربالية الجديدة‪،‬‬
‫إذ بقـي أمينـاً مليوله اليسـارية العتيقة‪ ،‬ويرى أ ّن قبول هـذه الحركات بالربنامج‬
‫الليبرايل االقتصـادي ال ينسـجم مع مـا يؤمن به من رضورة التـزاوج بني العدالة‬
‫والدميقراطيـة يف نهاية املطاف‪ ،‬وانسـجام ذلك مع الفلسـفة اإلسلامية‪.‬‬
‫انفتـح حسـن‪ ،‬كذلـك‪ ،‬على التو ّجـه الصـويف‪ ،‬ونشر دراسـ ًة عـن الصوفية يف‬
‫األردن‪ ،‬وهـو مـا جعلـه يهتم بالتجربـة الصوفية‪ ،‬كجزء من التعددية اإلسلامية‬
‫التاريخيـة‪ ،‬التـي تقـف على النقيـض مـن االتجاه السـلفي العـام‪ ،‬الـذي ينظر‬
‫للصوفيـة بوصفهـا عـدوا ً‪ ،‬وفرقا منحرفـة بالكلية!‬

‫‪212‬‬
‫أصبـح اهتمام حسـن بإبـراز التعددية ورفض األحاديـة‪ ،‬وبالتعددية الفقهية‬
‫والفكريـة والدينيـة والثقافيـة‪ ،‬بوصفهـا عامـل قـوة‪ ،‬وليـس ضعـف‪ ،‬مـا يضـع‬
‫رؤيتـه يف حالـة مـن القطيعـة مـع الطـرح السـلفي عمومـاً‪ ،‬الـذي يغـرق يف‬
‫رصاعـات املـايض واألحاديـة‪ ،‬بينما يرى صاحبنـا أ ّن الرؤيـة اإلسلامية املطلوبة‬
‫هـي تلـك التـي تتطلّـع إىل األمـام‪ ،‬لرتسـيخ الدميقراطيـة والحريـة والعدالة‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫‪-2-‬‬
‫نارت خير‪ :‬الطريق المعاكس‪ ،‬من‬
‫السلفية إلى العلمانية‬

‫متثِّـل تجربـة الدكتـور نـارت محمـد خير الفكريـة منوذجـاً على الوعـي‬
‫املبكّـر بالسـلفية‪ ،‬والتوغّـل يف املشـهد السـلفي واالرتقـاء بـه‪ ،‬والوصـول إىل‬
‫مرحلـة متقدمـة فيه‪ ،‬ثم االنسـحاب منـه إىل األفق العقلاين‪ ،‬يف الفكر املعارص‪،‬‬
‫والتراث‪ ،‬أو بعبـار ٍة ّ‬
‫أدق التحول نحـو اإلميان بالعلامنية معرفيـاً‪ ،‬واالنفتاح عىل‬
‫األسـئلة العلميـة والفكرية‪ ،‬يف حقول الدراسـات الفلسـفية واللغوية والرشعية‪،‬‬
‫مـع تـرك البـاب مفتوحـاً أمـام التجربـة الروحيـة والفكريـة للوصـول إىل املرفـأ‬
‫الـذي تقودهـا إليـه األسـئلة املعرفيـة املتحـررة مـن قيـود األيديولوجيـا‪ ،‬وعدم‬
‫االلتـزام بـأي حـدود للتفكير النقـدي والحريـة يف البحث واالسـتنتاج‪.100‬‬
‫السـلفية مثّلـت مرحلـة مـن مراحـل تطـ ّور نـارت‪ ،‬فشـق طريقـاً عريضـاً‬
‫يف األوسـاط السـلفية‪ ،‬على الصعيـد الشـخيص‪ ،‬والفكـري والعلمـي‪ ،‬أيضـاً‪،‬‬
‫وبالرغـم مـن تجربتـه القصيرة‪ ،‬التـي امتـدت أعوامـاً معـدودة‪ ،‬إالّ أ ّن شـغفه‬
‫باملعرفـة والثقافـة والتفكير واألسـئلة النقدية دفعته إىل عمق الحالة السـلفية‪،‬‬
‫ولعل العامـل املهم والرئيـس‪ ،‬الذي‬
‫واستكشـافها عـن قـرب‪ ،‬ثـم اإلفالت منهـا‪ّ ،‬‬
‫يعطينـا مفتـاح شـخصيته هـو السـؤال البحثـي والفضـول املعـريف والتفكير‬
‫النقـدي الدائـم‪ ،‬مـا قـاده يف لحظـة مبكّـرة إىل السـلفية والتع ّمـق فيهـا‪ ،‬وهـو‬
‫الـذي سـحبه نحـو زوايا مغايـرة للعقلية السـلفية السـائدة‪ ،‬وعدم التسـليم أو‬
‫القبـول مبـا يعتبر مسـلّامت لدى هذا التيـار‪ ،‬وما يزال هذا العامل (أي السـؤال‬
‫املعـريف) هـو املحـ ّرك الرئيـس لتجربة نـارت‪ ،‬يتنقل بـه من بكالوريـوس العلوم‬
‫إىل بكالوريـوس الرشيعـة‪ ،‬ثـم الدراسـات العليـا يف األدب العريب ويحـ ّط رحاله‬
‫يف النظريـات اللغويـة والتأويليـة‪..‬‬

‫(‪ )100‬أجريت املقابلة معه يف مكتبي بالجامعة األردنية بتاريخ ‪.2013-12-24‬‬

‫‪214‬‬
‫يجيبنـا الدكتـور العلماين‪ ،‬السـلفي سـابقاً‪ ،‬نـارت؛ عبر الصفحـات التاليـة؛‬
‫كيـف أصبـح سـلفياً؟ وملـاذا؟ مـا هـي أبـرز مالمـح تلـك املرحلـة؟ ثـم كيـف‬
‫تجاوزهـا؟ وملـاذا؟ ومـا هـي املحطّـات التـي مـ ّر بهـا منـذ لحظـة الوصـول إىل‬
‫املسـاحة السـلفية‪ ،‬خاللهـا‪ ،‬بعدهـا‪ ،‬وأيـن وصـل قطـار تجربتـه الفكريـة‪-‬‬
‫املعرفيـة الروحيـة اليـوم؟‪..‬‬
‫يعمـل نـارت‪ ،‬حاليـاً‪ ،‬مديـرا ً ملدرسـة يف وزارة الرتبيـة والتعليـم‪ ،‬ومد ّرسـاً غري‬
‫متفـ ّرغ يف مركـز اللغـات يف الجامعة األردنية‪ ،‬وكان يسـتعد حين أجريت هذه‬
‫املقابلـة معـه ملناقشـة الدكتـوراه يف األدب العـريب‪ ،‬ويعـ ّد مـن أبنـاء الطبقـة‬
‫الوسـطى املرتفعـة‪ ،‬التـي تـكاد تنهـار برأيه‪ ،‬وهو مـن مواليد العـام ‪ ،1974‬من‬
‫سـكان منطقـة الجندويـل يف عمان‪ ،‬ومـن أصول رشكسـية‪.‬‬

‫املحطّة األوىل‪ :‬الشعور بالخديعة يقود إىل «أرض السلفية»!‬


‫تبـدأ تجربـة نـارت مـع السـلفية يف العـام ‪ ،1991‬بعـد االنتهـاء مـن الثانويـة‬
‫العامـة‪ ،‬ومـع بداية حياتـه الجامعية‪ ،‬إذ تفتّح وعيه السـيايس املبكّر حينها عىل‬
‫أحـداث حـرب الخليـج الثانيـة‪ ،‬مع غـزو صـ ّدام للكويت‪ ،‬من ثـم رضب العراق‬
‫على يـد القـوات األمريكيـة والغربيـة‪ ،‬ومـا رافـق هـذه األشـهر مـن مالبسـات‬
‫كبيرة على الصعيـد الشـعبي والسـيايس‪ ،‬ورمبـا يذكـر متامـاً أبنـاء ذلـك الجيل‪،‬‬
‫الـذي ينتمـي لـه نـارت‪ ،‬وهـم مواليـد السـبعينات‪ ،‬تلـك اللحظـات الرتاجيدية‬
‫يف مسـارهم الوجـداين‪ ،‬عندمـا ارتفع سـقف الطموحـات واآلمال كثريا ً‪ ،‬متل ّبسـا‬
‫بخطـاب دينـي‪ -‬إخـواين مؤيـد للرئيـس العراقي السـابق‪ ،‬الـذي وقـف متح ّدياً‬
‫ومهـ ّددا ً بحـرق إرسائيـل‪ ،‬ثم مفاجـأة الهزمية املد ّوية السـهلة الرسيعـة‪ ،‬وتبخّر‬
‫رغـوة الشـعور بالتحـدي والتحرر‪.‬‬
‫يصـف نـارت‪ ،‬الذي كان قد أنهى للت ّو مرحلة الثانوية العامة‪ ،‬مسـتبقاً مواليد‬
‫بصف درايس (إذ دخل املدرسـة األساسـية مبك ّرا ً بعام‬
‫العـام ‪( 1974‬حين ولـد)‪ّ ،‬‬
‫درايس)‪ ،‬تلـك البدايـات بالقـول «البدايـات كانـت متزامنـة مـع أحـداث أزمـة‬

‫‪215‬‬
‫الخليـج‪ ،‬ومـا بعدهـا‪ ،‬إذ شـهدت تلـك الفترة تديّنـاً عامـاً‪ ،‬وانتعاشـاً يف الحالـة‬
‫الدينيـة املجتمعيـة السـائدة‪ ،‬مـع آمـال التحرر وخـوض معركة املصير الكربى‪،‬‬
‫وصعـود الـروح املعنويـة للشـعوب العربية‪ ،‬ثم االنتكاسـة التـي حصلت‪ ،‬فتلك‬
‫الحالـة كانـت سـبباً رئيسـاً يف انتقايل من التديّن الشـكيل الطقـويس (مجرد أداء‬
‫العبـادات)‪ ،‬وكنـت حينهـا‪ ،‬أي قبـل إنهاء املرحلـة الثانوية‪ ،‬أتردد على الجامعة‬
‫األردنيـة‪ ،‬مـع أصدقـاء يكربوننـي سـ ّناً‪ ،‬وأسـتمع إىل أسـاتذة اإلخـوان البارزين‪،‬‬
‫الذيـن كانـوا مـلء السـمع والبصر للجامهير العربيـة‪ ،‬لكـن مـا حصـل بعـد‬
‫الهزميـة مـن سـقوط وخيبـة أمـل كبيرة‪ ،‬وسـقوط الحلـم‪ ،‬هـو والدة شـعوري‬
‫الداخلي بأنّنـا خ ُِدعنـا‪ ،‬وأنّنـا خضعنـا لألوهـام التـي مارسـها علينـا الخطـاب‬
‫الدينـي ور ّوجهـا‪ ،‬خلال تلـك املرحلة»!‬
‫يف لحظـة الوعـي املبكّـر‪ ،‬هـذه‪ ،‬قـ ّرر صديقنـا الخـوض يف العلـوم الرشعيـة‪،‬‬
‫بصـورة دقيقـة ومنضبطـة‪ ،‬وسـاعده على ذلـك ولعه املبكـر بالقـراءة واملعرفة‬
‫منـذ الصغـر‪ ،‬إذ كان يقـرأ يف األدب والفلسـفة‪ ،‬وتزامـن ذلـك مـع دخولـه‬
‫الجامعـة األردنيـة‪ ،‬فغير تخصصه من الهندسـة إىل كلية العلوم‪ ،‬إذ كان شـديد‬
‫الحـب للفيزيـاء والرياضيـات‪.‬‬
‫يف األثنـاء؛ ات ُِّخـذ القـرار الحاسـم‪ ،‬على وقـع صدمـة الهزميـة‪« ،‬لـن أقبـل‬
‫بعـد اليـوم أن أكـون ضحيـة الخطابـات الدينيـة واألحلام الزائفـة»‪ ،‬ومـن هنـا‬
‫بـدأت إرهاصـات املغامـرة الفكرية واملعرفيـة األوىل؛ الدخـول إىل بحور العلوم‬
‫الدينيـة‪ ،‬بحثـاً عـن املعرفـة الصحيحـة‪ .‬إالّ أ ّن املشـكلة التـي واجهـت صديقنـا‬
‫هـي أنّـه مل يكـن لديـه إملـام حينهـا بالخارطة الدينية السياسـية‪ ،‬سـوى أسماء‬
‫وعناويـن عامـة‪ ،‬فهنالـك سـلفيون وإخـوان‪ ،‬وتزامـن ذلـك مـع عـودة مئـات‬
‫اآلالف مـن األردنيين مـن الكويـت‪ ،‬مـن أبنـاء االتجاهـات اإلسلامية‪.‬‬
‫العامـل القـدري‪ ،‬أو الصدفـة‪ ،‬على حـد تعبري نارت‪ ،‬لعـب دورا ً يف البداية‪ ،‬إذ‬
‫كتـب يف العلـوم الرشعيـة‪ ،‬فـكان بحوزتـه مبلـغ ‪ 280‬دينـار‪ ،‬وألنه مل‬
‫قـ ّرر رشاء ٍ‬
‫ميتلـك الخبرة حينهـا‪ ،‬يف رشاء الكتب واملصـادر والعناوين‪ ،‬واألسـعار والطبعات‬
‫املختلفـة‪ ،‬احتـاج إىل خبير يف هـذا املجـال‪ ،‬فأرشـده أحـد األقـارب إىل شـخص‪،‬‬

‫‪216‬‬
‫عائـد مـن الكويـت يعمـل يف مجـال بيـع الكتـب‪ ،‬ويوفرهـا بأرخـص األمثان يف‬
‫السـوق‪ ،‬وكان هـذا الشـخص ذا اتجـاه سـلفي‪ ،‬ويصلي يف مسـجد قريـب مـن‬
‫منـزل نـارت‪ ،‬فأعانـه يف بنـاء مكتبـة مـن الكتـب الرشعيـة‪ ،‬حينهـا كانـت يف‬
‫املسـجد مجموعـ ٌة مـن السـلفيني العائديـن مـن الكويـت‪ ،‬وبدأ نـارت بحضور‬
‫الشـخصيات السـلفية يف مسـجد أسـامة بـن زيـد يف الجـوار‪ ،‬والتعـ ّرف عليهـم‬
‫بالتزامـن مـع قـراءة الكتـب العلميـة‪ -‬الدينية السـلفية‪.‬‬
‫أقلـع صاحبنـا يف رحلـة جـا ّدة إىل طلب العلم الرشعي والبحـث العلمي‪ ،‬منذ‬
‫البدايـات‪ ،‬فلـم يدخـل يف مرحلـة «العاميّة الدينيـة»‪ ،‬إالّ فرتة قصيرة‪ ،‬إذ تحكّم‬
‫مبيولـه وشـخصيته ذلـك الولـع العلمـي واملعـريف منـذ البدايـة‪ ،‬ثـم بـدأ يلتقي‬
‫بشـيوخ السـلفية املعروفين‪ ،‬الذين يأتون إىل املسـجد‪ ،‬ويتعـ ّرف عليهم‪ ،‬ومنهم‬
‫مؤسـس االتجـاه السـلفي يف األردن‪ ،‬نارص الديـن األلباين‪.‬‬
‫كانـت الغوايـة يف السـلفية‪ ،‬بدايـةً‪ ،‬تتمثّـل يف تشـابه حبه للمعرفـة والعلم‪،‬‬
‫مـع تركيـز السـلفيني على أولويـة طلـب العلـم‪ ،‬ومحوريـة ذلـك يف املنهـج‬
‫السـلفي‪ ،‬فـكان مصطلـح «طالـب العلـم» لـه وقـع كبير بني أبنـاء هـذا التيار‪،‬‬
‫ويتوافـر على قـدر كبري من الرومانسـية‪ ،‬بينام الحال مل تكـن كذلك مع جامعة‬
‫اإلخـوان واهتاممـات شـبابها يف النشـاطات الحركيـة‪ ،‬ورمبا ذلك ما سـ ّبب عدم‬
‫حرصهـم على اسـتقطابه‪ ،‬بينما اسـتقطبوا صديقه يف املسـجد والدراسـة‪ ،‬وهو‬
‫مـا أثـار فضـول نارت‪ ،‬ملـاذا يتجاهلـه اإلخـوان؟ ومل يحصل عىل جـواب إالّ بعد‬
‫سـنوات‪ ،‬عندمـا خـرج صديقـه ذلـك مـن الجامعة‪ ،‬وأخبره بأ ّن مسـؤول األرسة‬
‫اإلخوانيـة قـال لـه «صديقـك‪ ،‬كثير السـؤال والقـراءة‪ ،‬وهـذا ال يتناسـب مـع‬
‫املـزاج اإلخـواين‪ ،‬فسـيكون مزعجـاً للجامعة»!‬

‫‪217‬‬
‫املحطة الثانية‪ :‬التوغّل يف السلفية مع استئناف القلق املعريف‬
‫ولـج نـارت مرحلـة «اإلغراق» يف العلوم الرشعية والكتب السـلفية املرجعية‪،‬‬
‫وركّـز قراءاتـه على ابـن تيميـه‪ ،‬يف مجلـدات الفتـاوى والرسـائل القصيرة‪ ،‬مثل‬
‫الرسـالة التدمريـة‪ ،‬والكتـب املختلفـة يف األصول‪ ،‬فكان مهتامً بصورة رئيسـة يف‬
‫هـذا املجـال‪ ،‬أي كتـب األصول؛ أصـول الفقه‪ ،‬وأصـول الدين وغريهـا‪ ،‬ويرى أ ّن‬
‫هـذا االهتمام رمبا هـو الذي قـاده‪ ،‬الحقاً‪ ،‬إىل تحـ ّوالت أخرى!‬
‫بعـد شـهرين فقـط‪ ،‬قابـل الشـيخ نـارص الديـن األلبـاين‪ ،‬الـذي جـاء إىل‬
‫حـي بيـادر وادي السير‪ ،‬إللقـاء محـارضة‪ ،‬ومل يكـن صاحبنـا قـد التقـاه سـابقاً‪،‬‬ ‫ّ‬
‫لكـ ّن الهالـة التـي يضفيهـا السـلفيون على األلبـاين‪ ،‬كانـت قـد سـبقت رؤيتـه‬
‫لـه‪ ،‬فالسـلفيون يضعـون الشـيخ األلبـاين يف منزلـة مرتفعة بني مراتـب العلامء‪،‬‬
‫بوصفـه عاملـاً يف الحديـث النبـوي‪ ،‬هـذا العلـم الدقيـق‪ ،‬وهـو علـم األوائـل‪،‬‬
‫ويـرون فيـه قامـة علميـة كبرية‪ ،‬نادرة يف هـذا العرص؛ إالّ أ ّن نـارت مل يجد‪ ،‬بعد‬
‫االسـتامع إىل الشـيخ‪ ،‬ذلـك الشـعور! ومل ي َر نفسـه أمـام «حالة اسـتثنائية»‪ ،‬وال‬
‫مشـدودا ً إىل تلـك الهالـة التـي يضفيهـا السـلفيون على األلبـاين!‬
‫تجـاوز نـارت تلـك الصدمـة األوىل‪ ،‬إذ وجـد لغـة الشـيخ عادية‪ ،‬بـل أقل من‬
‫عاديـة‪ ،‬وصاحبنـا مسـكون باللغـة وحبهـا‪ ،‬ومل يـ َر فيما يطرحـه الشـيخ ذلـك‬
‫العمـق االسـتثنايئ‪ ،‬ومل يسـتمع إىل رؤى مفارقـة يف العلـوم‪ ،‬فقـال (يف نفسـه)؛‬
‫«رمبـا تكـون املشـكلة عنـدي‪ ،‬وليسـت عنـد الشـيخ»‪ ،‬وهـو الجـواب‪ ،‬الـذي‬
‫عززتـه إجابـة أصدقائـه لـه‪ ،‬عندمـا بـاح لهـم مبشـاعره‪ ،‬فأخبروه بـأ ّن مـا يزال‬
‫«طريّـاً يف العلـم‪ ،‬ومل يـدرك بعـد القيمـة العلميـة الكبيرة للشـيخ األلبـاين»!‬
‫عكـف صاحبنـا‪ ،‬بعـد ذلـك‪ ،‬على طلـب العلـم‪ ،‬وبقـي مصحوبـاً بالسـؤال‬
‫البحثـي واملعـريف‪ ،‬فانكـب على كتب األصول‪ ،‬وأصـول اللغة‪ ،‬وأصـول الحديث‪،‬‬
‫ملـا للحديـث مـن قيمـة كبرى اعتبارية يف الوسـط السـلفي‪ ،‬ثم بـدأ يلتقي مع‬
‫شـيوخ السـلفيني مـن الطبقة الثانيـة‪ ،‬حينها‪ ،‬ويسـتمع ملحارضاتهم ودروسـهم‪،‬‬
‫وتابـع التجربـة السـلفية‪ ،‬مخرتقـاً مراحـل متتاليـة برسعـ ٍة قياسـية‪ ،‬حتى أصبح‬
‫معـدودا ً مـن طلبـة العلم الرشعي‪ ،‬ومعروفاً لدى شـيوخ التيـار وتالميذه‪ ،‬وهي‬

‫‪218‬‬
‫مكانـة يحتـاج املـرء إىل فتر ٍة طويلـة مـن الوقـت والجهـد حتـى يصلهـا‪ ،‬لكـن‬
‫ولـع نـارت بالعلـم والبحـث والقلـق الفكـري واملعـريف قـاده بخطـوات رسيعة‬
‫يف هـذا املجال‪.‬‬
‫أوغل نارت يف الوسـط السـلفي إىل العمق‪ ،‬وتع ّرف عىل الشـيوخ املشـهورين‪،‬‬
‫مثـل علي الحلبـي وسـليم الهاليل ومشـهور حسـن ومحمـد أبو شـقره‪ ،‬واألخري‬
‫كان صاحبنـا يحضر عنـده خطبـة الجمعة يف مسـجد صالح الديـن بالقرب من‬
‫مبنى رئاسـة الوزراء‪.‬‬
‫انتقـل نـارت خلال هـذه األعـوام القليلـة مـن مرتبـة التلمذة إىل املشـيخة‪،‬‬
‫طلاب ومريـدون‪ ،‬وسـاعده يف ذلـك‪ ،‬كما يعتقـد‪ ،‬طبيعـة بنيتـه‬ ‫ٌ‬ ‫فأصبـح لـه‬
‫الجسـدية الكبيرة‪ ،‬ولحيتـه‪ ،‬وصورتـه امللتزمـة باللبـاس والسـلفي‪ ،‬فبالرغم من‬
‫أن عمـره مل يكـن يتجـاوز بدايـة العرشينيـات‪ ،‬إالّ أ ّن سـمته يوحـي بأنّـه يف‬
‫الثالثينيـات‪ ،‬مـا كان يجعـل األمـر مقبـوالً لـدى أبنـاء التيـار!‬
‫بالرغـم مـن هـذه املكانـة املهمـة والرسيعـة التـي حققهـا نـارت يف الوسـط‬
‫السـلفي‪ ،‬إالّ أنّـه مل يسـتقر معرفيـاً‪ ،‬ومل يستسـلم لشـعور «التسـليم» الفكـري‬
‫والعلمـي‪ ،‬آلراء السـلفيني‪ ،‬وبقيت طبيعة أسـئلته مختلفـة‪ ،‬وطريقته يف التفكري‬
‫مباينـة ملـا عليـه الحـال السـلفية‪ ،‬فـكان يطـرح تسـاؤالت غير تقليديـة لديهم‬
‫عـن قضايـا مهمة وأساسـية يف املنهج السـلفي‪ ،‬ما دفع بالشـيوخ السـلفيني من‬
‫تحذيـره من هـذا النـزوع النقدي!‬
‫يتذكـر صاحبنـا إحـدى أبـرز املسـائل اإلشـكالية التـي أثارهـا مـع الشـيوخ‬
‫السـلفيني‪ ،‬وتتمثّـل يف صلـب علـم الحديـث‪ ،‬وتعـارض مـع يطرحه السـلفيون‪،‬‬
‫عندمـا ناقـش موضـوع ضبـط الحديـث‪ ،‬عنـد الصحابـة‪ ،‬فسـأل الشـيوخ‪ :‬إذا‬
‫سـلّمنا بـأ ّن الصحابـة‪ ،‬كما يقـول العـامل املعـروف ابـن حجـر‪ ،‬كلّهـم عـدول‬
‫وثقـات‪ ،‬لنأخـذ عنهـم الحديـث النبـوي‪ ،‬فكيف نسـلّم بأنّهـم جميعـاً ميتلكون‬
‫القـدرة على الضبـط؟!‪ ،‬ونحن نعـرف أ ّن رشوط ص ّحة الحديث بأن يكون سـند‬
‫النقـل متواصلاً عبر الثقـات العـدول‪ ،‬فتسـاءل نـارت «فيما إذا كنا نسـلّم بأ ّن‬
‫الصحابـة جميعهـم يضبطـون الحديـث‪ ،‬أال ينسى أو يسـهو بعضهـم؟!»‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫قـ ّرر نـارت‪ ،‬بعـد أن أنهـى دراسـة الفيزيـاء يف الجامعـة األردنيـة‪ ،‬أن يكمـل‬
‫دراسـته الرشعية‪ ،‬عرب الحصول عىل شـهادة البكالوريوس يف الرشيعة اإلسلامية‪،‬‬
‫مـن كليـة الدعـوة وأصـول الديـن (التي أصبحت الحقـاً كلية يف جامعـة البلقاء‬
‫التطبيقيـة)‪ ،‬وكان هدفـه ليس طلـب العلم الرشعي‪ ،‬فالدراسـة الجامعية‪ ،‬وفق‬
‫اإلدراك السـلفي حينهـا‪ ،‬ال تقـ ّدم العلـم الرشعـي املطلـوب‪ ،‬لكـن مـا دفعه إىل‬
‫الحصـول على هذه الشـهادة هـو ما يسـميه بـ«الرشعية االجتامعيـة»‪ ،‬حتى ال‬
‫يقـال لـه الحقـاً بأنـك تتحـدث يف الديـن‪ ،‬وأنت غير متخصص يف هـذا املجال‪،‬‬
‫فـدرس يف الكليـة بالتزامـن مـع تدريسـه يف مراكـز علميـة ملـادة الفيزيـاء‪ ،‬يك‬
‫يتمكـن من تأمين التزاماتـه املالية‪.‬‬
‫مـع حضـور «الهاجـس املعـريف» الدائم يف شـخصيته‪ ،‬بدأ نارت يكتشـف بأ ّن‬
‫السـلفيني برغـم رجوعهـم الدائـم البن تيمية (الـذي يع ّد أهم مراجـع العقيدة‬
‫واملنهـج السـلفي تاريخيـاً)‪ ،‬ال يعرفـون إالّ القليل عن أفـكاره ومنهجه‪ ،‬وأغلبهم‬
‫ملماً بكثير مما كتبـه الشـيخ‪ ،‬بخاصـة مـا يتعلّـق باملسـائل الجدليـة‬ ‫ليـس ّ‬
‫واإلشـكالية يف املعرفـة اإلسلامية‪ ،‬مـع املخالفين يف التصـورات واآلراء الدينيـة‪،‬‬
‫ويـكاد يكـون كتـاب ابن تيميـه املعـروف «درء تعـارض العقل مـع النقل» غري‬
‫مقـرو ٍء لـدى أغلبهـم‪ ،‬وال توجـد لديهـم إجابـات واضحـة عميقة حـول القضايا‬
‫اإلشـكالية والجدليـة حـول فكـر ابـن تيميـة وسـجاالته مـع املخالفين وردوده‬
‫على علماء الـكالم املعروفين‪ ،‬فضعفـت ثقـة صاحبنـا بالوسـط السـلفي‪ ،‬إنّ ـا‬
‫مفسرا ً ذلـك‪ ،‬يف حينـه‪ ،‬بضعـف السـلفيني‬
‫مل تتـآكل ثقتـه بالسـلفية نفسـها‪ّ ،‬‬
‫أنفسـهم ال مبشـكلة املنهج!‬
‫ازدادت أسـئلة صاحبنـا وشـكوكه يف الحالـة السـلفية مـع بـروز اتجاهـات‬
‫متعددة داخل الحالة نفسـها‪ ،‬ما صاحب ذلك من نقاشـات داخلية وتسـاؤالت‬
‫حـول املنهـج‪ ،‬فظهـرت السـلفيات املتعددة‪ ،‬مثل مـا يعرف باالتجـاه الرسوري‪،‬‬
‫الـذي يختلـف مـع السـلفية العلميـة‪ -‬التقليديـة يف املواقـف السياسـية مـن‬
‫الحكومـات والعمـل السـيايس‪ ،‬وأثير يف منتصف التسـعينيات جـدل كبري حول‬
‫«فقـه الواقـع» لـدى السـلفيني‪ ،‬مـع كتـاب الشـيخ السـعودي‪ ،‬د‪ .‬نـارص العمـر‬
‫«فقـه الواقـع»‪ ،‬ودخلـت السـلفية الجهادية على خط الجدال‪ ،‬وظهـر يف األفق‬

‫‪220‬‬
‫اختلاف عميق حـول املنهـج والطريقة!‬
‫يف األثنـاء التقـى نـارت برمـوز وشـيوخ االتجاهـات السـلفية األخـرى‪ ،‬فقابل‬
‫أبـا محمـد املقـديس‪ ،‬أحـد رمـوز السـلفية الجهاديـة‪ ،‬يف بدايـة التسـعينيات‪،‬‬
‫قبـل أن يصبـح األخير معروفـاً‪ ،‬وقـرأ صاحبنـا مخطوطـة كتابه املعـروف «ملّة‬
‫إبراهيـم وأسـاليب الطغـاة يف متييعهـا»‪ ،‬الـذي يصـل فيه إىل تكفير الحكومات‬
‫والدسـاتري واألنظمـة والجيـوش العربيـة‪ ،‬ويؤكّـد فيـه عىل محوريـة «الحاكمية‬
‫اإللهيـة» بوصفهـا مـن أركان التوحيـد‪ ،‬ووصفـه مـن مل يلتزم بالحكم اإلسلامي‬
‫بـ«الطاغوت»‪.‬‬
‫يف نهايـة تلـك املرحلـة‪ ،‬وصـل نـارت إىل قناعـات تشي ببداية تحـول جديد‪،‬‬
‫تتمثّـل بشـعوره بـأ ّن جميـع االتجاهـات السـلفية الراهنـة تعـاين مـن ضعـف‬
‫التأصيـل العلمـي‪ ،‬يف علـم أصـول الـكالم‪ ،‬ويف أصـول الفقـه‪ ،‬وبعـدم اإلملـام‬
‫بالعلـوم العقليـة‪ ،‬وبضعـف البنيـة املنطقيـة‪ ،‬بـل ومبالغتهـا يف تسـفيه العقـل‬
‫وأهميتـه يف امليـدان العلمـي واملعـريف‪.‬‬
‫تزاوجـت هـذه القناعـات مـع شـعور آخر بسـؤال املصداقية لدى السـلفيني‪،‬‬
‫ويذكـر أنّـه يف تلـك املرحلـة ظهـر كتاب صغري‪ ،‬حظـي بأهمية كبرية يف الوسـط‬
‫السـلفي‪ ،‬للشـيخ املعـروف‪ ،‬د‪ .‬سـفر الحـوايل‪ ،‬حـول موقـف األشـاعرة (وهـم‬
‫اتجـاه إسلامي يخالـف السـلفيني يف قضايـا يف العقيـدة‪ ،‬مثـل تأويـل األسماء‬
‫والصفـات وغريهـا‪ ،‬وميثّـل خصماً لالتجـاه السـلفي يف الدائـرة السـنية)‪ ،‬فوجد‬
‫صاحبنـا يف هـذا الكتـاب‪ ،‬الـذي كان يعد فصـل الخطاب يف الرد عىل األشـاعرة‪،‬‬
‫الكثير مـن املالحظـات العلميـة واملغالطـات‪ ،‬ولكـن األهـم هـو إسـاءة النقـل‬
‫مـن كتب األشـاعرة!‬
‫أيّـدت تلـك املالحظـات‪ ،‬وغريهـا مـا كان عنـد نـارت مـن شـكوك عميقـة يف‬
‫املصداقيـة واألهليـة لـدى الوسـط السـلفي‪ ،‬مـا ّأسـس لديـه يف العـام ‪،1993‬‬
‫بدايـة مرحلـة «النقـد املنهجـي العميق» للسـلفية‪ ،‬لكن مل يكن مسـتعجالً عىل‬
‫النتائـج‪ ،‬وأراد أن يأخـذ وقتـه الكامـل والـكايف لدراسـة األمـور‪ ،‬والوصـول إىل‬
‫نتائـج عميقة‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫عـاد نـارت بعـد ذلـك للرتكيـز يف القراءة عىل الفكر اإلسلامي خـارج الدائرة‬
‫السـلفية‪ ،‬ولكتب الفلسـفة اإلسلامية‪ ،‬والفلسـفات الغربية‪ ،‬فقرأ ملحمد عامرة‪،‬‬
‫وطه جابر العلواين‪ ،‬ومحمد سـليم العوا‪ ،‬وملدرسـة «إسلامية املعرفية»‪ -‬املعهد‬
‫العاملـي للفكـر اإلسلامي‪ ،‬تلـك الكتابات التـي كان يرى فيها الجمـع بني ثوابت‬
‫اإلسلام ومتغيرات العصر وكان حريصـاً بدرجـة كبيرة على اللقـاء مـع هـؤالء‬
‫املفكريـن والتواصـل معهم عندما يـزورون األردن‪.‬‬
‫بيـد أ ّن أكثر مـا أث ّـر فيـه يف تلـك املرحلـة هما كتـايب «اإلسلام بين الرشق‬
‫الحـي» لروجيه جـارودي‪ ،‬ألنهام‬
‫والغـرب» لعلي عـزت بيجوفيتش‪ ،‬و«اإلسلام ّ‬
‫فتحـا عينـي صاحبنـا‪ ،‬كما يقـول‪ ،‬عىل أفـق جديد يف قـراءة اإلسلام والدين‪ ،‬ما‬
‫يسـتجيب لألسـئلة الفلسـفية الحضاريـة التاريخيـة والحديثـة‪ ،‬فقـراءة هذيـن‬
‫الكتابين يف العـام ‪ 1994‬فتحـت عينيـه على قراءة مزيـد من الكتب الشـبيهة‪،‬‬
‫والعـودة إىل االنكبـاب على الفلسـفة التـي كان يـداوم عليهـا‪ ،‬قبـل مرحلتـه‬
‫السلفية‪.‬‬
‫بـدأت خلال تلـك املرحلـة عالقتـه بأبناء االتجاه السـلفي بالفتـور والرتاجع‪،‬‬
‫على صعيد العالقة اإلنسـانية‪ ،‬وأصبحـوا يحذّرون منه ويشـكّكون فيه‪ ،‬بدعوى‬
‫أنّـه «ف ُِتن بتلـك الثقافـات والكتـب التـي يقرأهـا»‪ ،‬واسـتمرت هـذه املرحلـة‬
‫قرابـة عامين‪« ،‬وأسـتطيع أن أقـول بأنني أنهيت مـا بني العامين ‪ 1994‬و‪1996‬‬
‫عالقتـي باالتجـاه السـلفي‪ ،‬وأنجزت التخلص فكرياً من تلـك املحطّة يف حيايت»‪.‬‬
‫أغلـب صلات صاحبنـا انقطعـت بعـد ذلـك بالوسـط السـلفي‪ ،‬إال مع بعض‬
‫األشـخاص األكثر سماح ًة ورحابـة صـدر باالختلاف‪ ،‬لكـن األغلبيـة تخلـط بني‬
‫البعديـن الشـخيص والفكـري‪ ،‬فانقلبـت العالقـة إىل جفـاء‪ ،‬ثـم عـداء وتحذيـر‬
‫ألبنـاء التيـار مـن نـارت وما وصـل إليه‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫املحطة الثالثة‪ :‬استئناف مرشوع القلق الفكري واملعريف‬
‫نهايـة مرحلـة السـلفية آذنـت ببدايـة رحلـة جديـدة مـع االهتمام أكثر‬
‫بالدراسـات اللغويـة‪ ،‬فعـاد إىل الجامعـة األردنيـة لدراسـة اللغـة العربيـة‪ ،‬بعد‬
‫أن وصـل إىل قناعـة بأهميـة اللغـة ومـا تحتلـه مـن موقـع مركـزي يف السـؤال‬
‫الثقـايف‪ ،‬وتحديـدا ً يف التعامـل مـع «النصـوص»‪ ،‬وبعد أن شـعر بعـدم الجدوى‬
‫مـن املكـوث يف حقـل العلـوم الرشعية‪ ،‬لضيق أفـق البحث فيهـا‪« ،‬فقلت‪ :‬لعل‬
‫الدراسـات اللغويـة تكـون أرحـب وأكثر انفتاحاً»‪.‬‬
‫أكمـل رحلتـه املعرفيـة يف الكتـب الرتاثيـة والعرصيـة‪ ،‬ومـال إىل االتجاهات‬
‫االعتزاليـة‪ ،‬ومـا تـزال فيـه بقايا مـن الفكر االعتـزايل‪ ،‬كام يق ّر‪ ،‬لكنه ال يسـتطيع‬
‫أن يصـف نفسـه بأنّـه «معتـزيل»؛ أل ّن الفكـر االعتـزايل ال يخـرج عـن النسـق‬
‫السـلفي باملجمـل‪ ،‬ألنـه متصـل باملـايض‪ ،‬بينما املعرفـة منفتحـة على الزمـان‬
‫واملـكان ومتصلـة بالبحـث والتطـ ّور والتجديـد‪ ،‬وعـدم القبـول بفكـرة احتـكار‬
‫الصواب‪.‬‬
‫وعنـد سـؤال صاحبنـا‪ :‬أيـن يضـع نفسـه اليوم‪ ،‬وأين رسـت سـفينته يف بحور‬
‫الفكـر واملعرفـة والسـؤال البحثـي والنقدي‪ ،‬هل يرى نفسـه إسلامياً أم ليربالياً‬
‫أم علامنياً؟‬
‫يجيـب على ذلـك بالقـول «يف لحظتـي الفكرية الراهنة‪ ،‬أجـد نفيس علامنياً‬
‫فلسـفياً‪ ،‬وليـس فقـط إجرائيـاً‪ ،‬قد أكـون علامنياً جذريـاً»‪ .‬ويكشـف أنّه بصدد‬
‫تأليـف كتـاب يف املرحلـة القادمـة يف جـدل الديـن والعلامنية‪ ،‬يرتكـز فيه عىل‬
‫رؤيتـه للعلامنيـة بوصفهـا خيارا ً ابسـتمولوجياً جذرياً‪ ،‬ال يسـتقيم مـع النزعات‬
‫التلفيقيـة أو التوفيقيـة‪ ،‬وهـي سـمة التجربـة الفكريـة العربيـة يف الجمـع بني‬
‫التناقضـات من وجهـة نظره‪.‬‬
‫وعلى هـذا األسـاس الفكـري يرفـض نـارت الحديـث عـن «العلامنيـة‬
‫املؤسـلمة»‪ ،‬مـن ناحيـة معرفيـة جذريـة‪ ،‬ويـرى أنّه ال بـد من وجود حسـم يف‬
‫الخيـارات‪ ،‬فمـن الصعـب أن تجمـع بين متناقضين‪ ،‬بينهما فصـل مـن الزاوية‬

‫‪223‬‬
‫املعرفيـة‪ ،‬فأغلـب املنتـج الفكـري العـريب يجمع بين التناقضات وينتقـل بينها‪،‬‬
‫مـن دون إحسـاس بهـذا األمـر!‬
‫ويؤمـن صاحبنـا بقـدرة السـؤال املنطقـي على تجـاوز العقبـات التي تقف‬
‫أمامـه‪ ،‬ويـرى أ ّن السـبب يف املوقف السـلبي مـن املنطق يكمـن يف عدم إدراك‬
‫آليتـه بصورة عميقـة وصحيحة‪.‬‬
‫لكـن مـاذا عـن رؤيتـه ملوقـع الديـن يف الدولـة واملجتمـع‪ ،‬ودوره يف الحيـاة‬
‫اليوميـة والسياسـية العربية؟‬
‫مييّـز نـارت بين العلامنيـة بوصفهـا موقفـاً معرفيـاً جذريـاً مـن الديـن مـن‬
‫جهـة‪ ،‬وبين الفـرع اآلخـر الـذي يـأيت بعـد ذلـك وهـو مرتبـط مبـا يسـمى‬
‫بالرباغامتيـة أو الوظيفيـة؛ فقـد يكـون لـه موقـف جـذري معـريف مـن الديـن‪،‬‬
‫لكـن مـن الناحيـة الرباغامتيـة يسـتعني صاحبنـا مبقولة لجـون ديـوي‪ ،‬وإن كان‬
‫يعترف بأنّهـا مختزلـة وصادمـة‪ ،‬لك ّنهـا تؤسـس لرؤيته لهـذه القضيـة‪ ،‬إذ يقول‬
‫ديـوي «اللـه موجـود إذا كان ذلـك يـؤدي إىل الخير والنفـع العـام»‪ ،‬وهـو غري‬
‫موجـود إذا كان األمـر عكـس ذلـك‪ ،‬مبعنـى االهتمام بالـدور الوظيفـي للدين‪،‬‬
‫وهـو يف مرشوعـه القـادم (عن جدل الديـن والعلامنيـة)‪ ،‬فيقترح دورا ً وظيفياً‬
‫للديـن‪ ،‬يقـوم على فكـرة «عقلنـة الديـن وروحنـة التديـن»!‬
‫يقـ ّر صاحبنـا بـأ ّن هـذا الـدور الوظيفـي للديـن‪ ،‬قـد ال يلتقـي مـع املوقـف‬
‫املعـريف الجـذري للعلامنيـة‪ ،‬لكـن طاملـا أنّنـا نواجـه الظاهـرة الدينيـة‪ ،‬وأمـام‬
‫واقـع الثقافـة االنتشـارية للديـن‪ ،‬التـي تتغلغل يف الحيـاة العامـة ويف مختلف‬
‫مجـاالت املعرفـة‪ ،‬حتـى هنالـك مـن يـرى بـأ ّن الديـن يقـ ّدم جوابـاً يف حقـول‬
‫العلـوم البحتـة‪ ،‬فهـذه الثقافـة مـن الصعـب التعامـل معهـا مبوقـف علماين‬
‫جـذري مـن الديـن‪« ،‬مـا مل تحـاول تقديـم اطروحـة وسـطية‪ ،‬أو وسـيطة بين‬
‫اللحظـة العلامنيـة املرجـوة واللحظـة الدينيـة الحاليـة»‪ ،‬عبر عقلنـة الديـن‬
‫مـن خلال تقديـم تفسير عقلي لألصـول الدينيـة‪ ،‬أما مـا يخص سـلوك التدين‬
‫فالجـواب هـو اسـتثامر الطاقـة الروحية للدين‪ ،‬ومـا تقدمه التجربـة الدينية يف‬
‫هـذا السـياق‪ ،‬وهـذا املقرتح مسـتنبط‪ ،‬كام يشير‪ ،‬مما يقدمه روجيـه غارودي‬

‫‪224‬‬
‫الحـي»‪.‬‬
‫يف كتابـه «اإلسلام ّ‬
‫يخلـص نـارت إىل رضورة الفصـل بين املعرفـة التـي نحتـاج فيهـا إىل معرفـة‬
‫دينيـة والتـي ال نحتـاج فيهـا إىل تلـك املعرفـة‪ ،‬فهـو يرى أنـه ال حاجة للسـؤال‬
‫عـن املعرفـة الدينيـة يف املجـال السـيايس‪ ،‬إذ يـرى أ ّن التجربـة السياسـية‬
‫اإلسلامية (أو بعبـارة أدق خبرة املسـلمني) هـي تجربـة علامنيـة منـذ اللحظة‬
‫األوىل‪ ،‬مرتبطـة بالتجربـة املكانيـة والزمانيـة‪ ،‬فهـو ال يؤمـن مبقولـة «املشروع‬
‫اإلسلامي»‪ ،‬مبعنـى أن لـه صبغـة دينيـة ومرتبـط باملرجعيـة الدينيـة‪ ،‬فهـو مـا‬
‫يتحفـظ عليه!‬
‫هـل هـذا يقودنـا إىل التنويـر بوصفـه خيـارا ً ميثـل الحلقـة الوسـيطة التـي‬
‫يتحـدث عنهـا صاحبنا؟‬
‫يطـرح نـارت‪ ،‬هنـا‪ ،‬التنويـر عبر وظيفتـه الوسـيطة‪ ،‬وليـس بوصفـه خيـارا ً‬
‫نهائيـاً‪ ،‬وإالّ فإنّـه سـيعيد إنتـاج الحالة واملشـكالت التـي جاء التنويـر لتبديدها‬
‫أصلاً! أي أ ّن التنويـر لديـه مبثابـة «خطـة عالجيـة مقصـودة ال لذاتهـا‪ ،‬إنّ ـا‬
‫لغريهـا‪ ،‬للحظـة قادمة‪ ،‬نسـتطيع أن نخلـص الحالة الثقافية من هـذا االلتباس‪،‬‬
‫والوصـول إىل الفصـل الـذي يوجبـه املعيـار املعـريف التأصيلي»‪ ،‬فهـو يقبـل‬
‫باإلطـار التنويـري على حـذر‪ ،‬على أال يتـم تجاهـل األسـئلة الكبرى‪ ،‬حتـى ال‬
‫يـؤول األمـر إىل اسـتعادة الحالـة السـلفية‪ ،‬فشرط القبـول بالتنويـر كمرحلـة‬
‫انتقاليـة أن يكـون مرتافقـاً مع التأسـيس والتأثيث الجذري للسـؤال الذي يجب‬
‫أن يكـون فيما بعد‪.‬‬
‫يسـتدرك نـارت على مـا سـبق بالقـول‪ :‬أ ّن هـذا التصـور قـد يحـدث الحقـاً‪،‬‬
‫ورمبـا ال‪ ،‬لكـن ذلـك مـا يسـميه بخطتـه املعرفيـة‪ ،‬يف هـذه اللحظـة الراهنـة‪،‬‬
‫فهـو ال يعـرف أيـن سـيذهب به قطـار البحث املعـريف بعد سـنوات‪ ،‬لك ّن هذه‬
‫الرؤيـة تتثبـت لديـه منذ سـنوات‪.‬‬
‫يف النهايـة يكشـف لنـا نـارت بـأ ّن رحلتـه املعرفيـة‪ ،‬هـذه‪ ،‬مل يقـم بهـا وحده‬
‫يف املحطـات املتتاليـة‪ ،‬إذ رافقـه مجموعـة مـن األصدقـاء عربهـا‪ ،‬انتقـاالً مـن‬

‫‪225‬‬
‫الحالـة السـلفية‪ ،‬وصـوالً إىل الدراسـات والقناعـات الجديـدة‪ ،‬لك ّنـه كان دامئـاً‬
‫صاحـب السـبق واملبـادرة بينهـم على اقتحـام مناطـق املح ّرمات والقـدرة عىل‬
‫تجـاوز العقبـات‪ ،‬وعـدم االستسلام والركـون إىل الراحـة‪ ،‬بـل حافـظ باسـتمرار‬
‫على هاجسـه املعـريف وروحـه النقديـة البحثية!‬

‫‪226‬‬
‫خالصات واستنتاجات‬

‫الكلمـة األكثر تعبيرا ً عـن أمثلـة هـذا الفصـل هـي «ظاهـرة التحـول»‪ ،‬لكن‬
‫هـذه املـ ّرة ليـس داخـل البيـت السـلفي‪ ،‬بـل منـه إىل الخـارج‪ ،‬بعـد رحلـة‬
‫فكريـة‪ -‬روحيـة عميقـة‪ ،‬وتـج طلاق مع املنهـج السـلفي يف تجلّياتـه الراهنة!‬
‫مصطلـح التحـول يف سـياق الحديـث عـن الهويـة‪ ،‬ليـس جديـدا ً على العلوم‬
‫االجتامعية واإلنسـانية‪ ،‬وال حتى يف حقل «السياسـات الدينية»‪ ،‬فهنالك العديد‬
‫مـن األدبيـات التـي تناولـت التحول لكـن يف مسـتويات مختلفـة‪ ،‬كالتحول من‬
‫ديـنٍ إىل آخـر‪ ،‬أو مـن طائفـة أو مذهـب معين نحـو النقيـض أو املختلـف‪.101‬‬
‫حافل بنماذج متعـددة‪ ،‬فثمة مفكرون‬ ‫كما أ ّن الفكـر العـريب اإلسلامي عموماً ُ‬
‫عـرب تح ّولـوا مـن العلامنية إىل اإلسلام السـيايس‪ ،‬وتط ّورت كتاباتهـم عرب هذه‬
‫الرحلـة الفكريـة‪ ،‬واألمثلـة متعـددة‪ ،‬مثـل خالـد محمـد خالـد‪ ،‬وسـيد قطـب‪،‬‬
‫ومحمـد عمارة‪ ،‬ومنري شـفيق‪ ،‬عـادل حسين‪ ..،‬وغريهم‪.‬‬
‫كما أ ّن التحـول مـن السـلفية إىل أفـكا ٍر أخـرى مختلفـة‪ ،‬سـواء يف إطـار‬
‫تجربتـي هذا الفصـل‪ ،‬أيضاً‬
‫ّ‬ ‫الفكـر اإلسلامي أو نحـو العلامنيـة‪ ،‬كما هـي حال‬
‫ليـس باألمـر املحـدث أو الغريـب‪ ،‬فلدينـا يف السـعودية مجموعة مـن املثقفني‬
‫السـلفيني الذيـن اتجهـوا نحـو الليرباليـة وآخـرون نحـو آفاق أوسـع مـن الفكر‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫وإذا أردنـا إجـراء دراسـة اسـتقصائية على التجـارب الفكريـة والثقافيـة‬
‫التـي خرجـت من العباءة السـلفية‪ ،‬عىل صعيـد النخب واملثقفني والسياسـيني‪،‬‬
‫فسـنجد منـاذج كثيرة ومتعـددة‪ ،‬بخاصـة يف السـعودية‪ ،‬إذ متثّـل السـلفية أحد‬
‫(‪ )101‬انظـر على سـبيل املثـال‪ :‬أوليفيهـروا‪ ،‬الجهـل املقـدس‪ :‬زمـن ديـن بال ثقافـة‪ ،‬ترجمة‬
‫صالـح األسـمر‪ ،‬دار السـاقي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2012 ،1‬إذ جـاءت أغلـب فصـول الكتاب ملناقشـة‬
‫ظاهـرة التحـول الدينـي وربطهـا بالسـؤال الثقـايف‪ ،‬وكذلـك‪ :‬هـاين نسيره‪ ،‬املتحولـون دينيـا‪:‬‬
‫دراسـة يف ظاهـرة تغيير الديانـة واملذهـب‪ ،‬مركـز أندلـس لدراسـات التسـامح ومناهضـة‬
‫العنـف‪ ،‬القاهـرة‪ ،‬ط‪.2009 ،1‬‬

‫‪227‬‬
‫أهـم أبعـاد املشـهد الدينـي والثقـايف هناك!‬
‫يف الحالـة السـلفية األردنيـة لدينـا منـاذج متعـددة لشـخصيات عبرت يف‬
‫رحلتهـا الفكريـة وتجربتهـا الروحيـة والشـخصية األعماق السـلفية‪ ،‬ثـم ق ّررت‬
‫كل من حسـن أبو هنية‬ ‫التو ّجـه نحـو رؤى أخـرى‪ ،‬فام ميكـن أن تضيفه تجربتا ّ‬
‫ونـارت خير أنّهما متنحاننـا إضـاءات أفضـل على هـذه التجـارب ومـا تعاينـه‬
‫مـن تحـول ذايت وأسـئلة فكريـة ومعرفيـة‪ ،‬بالتـزاوج مـع متحيص تأثير اللحظة‬
‫التاريخيـة الواضـح وامللمـوس عىل أجيال من الشـباب‪ ،‬ممـن وضعتهم األزمات‬
‫السياسـية يف عمق املشـهد السـلفي‪ ،‬ثم خرجوا منه تحت وطأة عدم الشـعور‬
‫بـأ ّن هـذا املنهـج ميثّـل الجـواب الصحيـح على األزمـة القامئـة يف العـامل العريب‬
‫واإلسلامي اليوم!‬
‫كل‬
‫وليـس مـن الصعوبـة مبـكان أن نكتشـف بـأ ّن النتيجـة التـي يصـل إليها ّ‬
‫مـن حسـن ونـارت بعـد «الرحلـة السـلفية»‪ ،‬وبالرغـم مـن اختلاف املدخالت‬
‫واملخرجـات‪ ،‬تتمثـل يف أنّهما وجـدا عـدم اسـتجابة األفـكار السـلفية الراهنـة‬
‫وال الحالـة السـلفية األردنيـة لألسـئلة اإلصالحية التـي كانا يسـعيان إىل اإلجابة‬
‫عليهـا‪ ،‬سـواء كان ذلـك على صعيـد التـزاوج مـع القيـم األساسـية؛ الحريـة‬
‫الفكريـة‪ ،‬الرؤيـة النقديـة‪ ،‬العدالة االجتامعيـة‪ ،‬الدميقراطية‪ ،‬والخـروج من قاع‬
‫التخلـف نحـو النهضـة اإلنسـانية واملجتمعيـة والتنميـة والتح ّرر من االسـتبداد‬
‫بصـوره املختلفـة وأشـكاله املتعـددة‪ ،‬سياسـياً ودينيـاً وفكريـاً ووجدانياً‪.‬‬
‫النقد الكامن يف كال التجربتني للحالة السلفية يتمثّل يف التسطيح واالختزال‬
‫الـذي متارسـه يف ترسـيمها للطريـق الذي يفرتض أن تسـلكه مجتمعاتنا‪ ،‬وتسير‬
‫عليـه‪ ،‬سـواء يف عالقتهـا مـع الدين ومهمتـه الروحيـة واالجتامعية والسياسـية‪،‬‬
‫أو يف تغيير الواقع الراهن‪.‬‬
‫لـكل منهما‪ ،‬كذلـك‪ ،‬كانـت تحمـل هاجسـاً آخـر‬ ‫«الرحلـة السـلفية»‪ّ ،‬‬
‫يتمثّـل يف البحـث عـن الـذات والهويـة املطلوبـة يف آتـون األزمـات الراهنـة‪،‬‬
‫سـواء كان ذلـك بتمثّـل السـلفية هوي ًة لفرتة مـن الوقت‪ ،‬أو الخـروج منها نحو‬
‫«اإلسلام اليسـاري الدميقراطـي»‪ -‬حالـة حسـن‪ ،‬أو العلامنية‪ -‬حالـة نارت خري‪،‬‬

‫‪228‬‬
‫فنحـن أمـام جيـل يبحـث عـن هويتـه ويريـد تحقيق ذاتـه‪ ،‬عىل صعيـد فردي‬
‫ومجتمعـي وحضـاري وإنسـاين‪ ،‬ويف سـبيل ذلـك يتف ّحـص الشروط املطلوبـة‪،‬‬
‫فوصـل يف خالصـة تلـك الرحلـة إىل نتيجـة مختلفـة عـن النامذج األخـرى‪ ،‬التي‬
‫ي عـن الهوية السـلفية‪ ،‬وهو مـا يتوافق‬
‫عايشـناها يف الدراسـة‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬بالتخل ّ‬
‫معهـم فيـه يف فصـل سـابق‪ ،‬نعيـم التلاوي‪ ،‬وإن كان اشـتباكه مـع الحالـة‬
‫السـلفية جـاء مغايـرا ً يف حيثياتـه وتفاصيلـه‪ ،‬ثـم مخرجاتـه‪ ،‬عما انتهـى إليـه‬
‫صاحبانـا يف هـذا الفصـل!‬

‫‪229‬‬
‫الفصل الختامي‬

‫أسئلة الهوية‪ ،‬األزمة والتحول‬


‫مقدمة‬
‫ّ‬

‫تعكـس التجـارب السـابقة أمناطـاً متعـددة ومختلفـة مـن الحالـة السـلفية‬


‫عمومـاً‪ ،‬وهويـة السـلفي خصوصـا وهـي حالـة هالميـة‪ ،‬ليسـت منضبطـة‬
‫بتنظيمات هرياركيـة أو مؤسسـية صارمـة‪ ،‬كما هـي الحـال يف أحـزاب أو‬
‫مؤسسـات إسلامية أخرى؛ وتبدو الهوية السـلفية مفتتة ومرشذمة بني التاريخ‬
‫والواقـع واملسـتقبل‪ ،‬إالّ أنّهـا يف الوقـت ذاته ال تخلو من معـاين القيادة األدبية‪،‬‬
‫أو العلميـة‪ ،‬أو حتـى العمليـة مـن جهـة‪ ،‬ومن سـلطة تقليدية غير مبارشة‪ ،‬وال‬
‫مرئيـة‪ ،‬وهـي سـلطة التاريخ و«املنهـج»‪ -‬األيديولوجيا‪ ،‬والجامعـة أو املجموعة‬
‫أو بعبـار ٍة أخـرى «املجتمـع السـلفي»‪ ،‬الـذي ينتمـي إليـه أولئـك األفراد‪.‬‬
‫قـراءة هـذه التجـارب ال تقـف‪ ،‬إذا ً‪ ،‬عنـد حـدود هويـة األفـراد الخاصـة‪،‬‬
‫بـل تسـتدعي بصـورة أساسـية اسـتنطاق عالقتهـم بالجامعـات أو املجموعـات‬
‫التـي ينتمـون إليهـا‪ ،‬وعالقـة هـذه املجموعات باملجتمـع بصورة خاصـة واألمة‬
‫املتخيلـة بصـورة عامـة‪ ،‬وهنا تبرز أهمية عـدم االكتفاء باملنظـور األيديولوجي‬
‫لدراسـة الحالـة السـلفية‪ ،‬إذ مـن الضروري أن يتـزاوج ذلـك مـع تحليـل‬
‫«سيسـيولوجيا الهويـة»‪ ،‬والتحليـل «الثقـايف»؛ إذ يقـ ّدم لنـا املنهجـان تأطيرا ً‬
‫وتفسيرا ً تكامليـا لتق ّمـص األفـراد للهويـة السـلفية عبر عالقتهـم باملجموعات‬
‫والجامعـات والبيئـة الثقافيـة التـي ينتمـون إليهـا‪ ،‬ومـا تخلقـه هـذه العالقـة‬
‫مـن أدوار تقـوم على تصـورات ومتثيلات ومامرسـات يتخذهـا هـؤالء األفـراد‬
‫فتتأسـس على مـا يسـتدعيه انتامؤهـم لهـذه الجامعـة أو املجموعـة السـلفية‬
‫أو تلـك‪.‬‬
‫ويفسر لنـا املنظـور السيسـيولوجي للهويـة‪ ،‬كذلـك‪ ،‬األسـباب التـي تدفـع‬ ‫ّ‬
‫فـردا ً مع ّينـا ليكـون سـلفياً يف إطـار بحثـه عـن هويتـه الذاتيـة االختياريـة‪ ،‬يف‬
‫سـياق حالـة األزمـة أو االختلال التـي ميـ ّر بهـا املجتمـع املحيط بـه‪ ،‬من خالل‬
‫االنتقـال والعبـور مـن البنيـة التقليديـة إىل البنيـة الحداثيـة‪ ،‬سـواء كانت هذه‬

‫‪233‬‬
‫األزمـة سياسـية أو اقتصاديـة أو فكريـة‪ ،‬أو كانـت ناجمـة عـن املواجهـة بين‬
‫التقاليـد التاريخيـة املوروثـة أو الهويات التي تشـكلت محليا مـن جهة‪ ،‬أو تلك‬
‫التـي تشـكلت تحـت ضغوطـات التحديـث والعوملـة مـن جهـ ٍة أخرى!‬
‫وسنسـتعني‪ ،‬باإلضافة إىل التجارب السـابقة‪ ،‬لبعض السـلفيني‪ ،‬بعد ٍد محدو ٍد‬
‫مـن االسـتبيانات التـي وزّعناهـا على مجموعـات مختلفـة مـن السـلفيني يف‬
‫األردن‪ ،‬فبالرغـم مـن أنّنـا نتحـدث فقـط عـن ‪ 33‬اسـتبانة؛ إالّ أنّهـا ستسـاعدنا‬
‫على إلقـاء مزيـد مـن الضـوء على هـذه النماذج والتجـارب‪ ،‬وبخاصـة أ ّن‬
‫املجيبين على االسـتبيانات توزّعـوا بين االتجاهـات السـلفية الثالثـة الرئيسـة؛‬
‫التقليديـة‪ ،‬والجهاديـة والحركيـة‪.‬‬
‫يناقـش هـذا الفصـل منظـور الهويّـة السـلفية‪ ،‬مـن خلال طـرح جملة من‬
‫األسـئلة اإلشـكالية ومـن أهمها‪ :‬ملـاذا أصبحت سـلفياً؟ وكيف أصبحت سـلفياً؟‬
‫ومـاذا يعنـي أنّنـي سـلفي (سـؤال األنا)؟ وكيـف أتعامل مـع (مسـألة اآلخر)؟!‬
‫تبي‬
‫ومـا يرتتـب عليهـا مـن نتائج يف متثيل وتجسـيد وترجمـة هذه الهويـة عرب ّ‬
‫سمات الشـخصية السـلفية األسـاس‪ ،‬وتحققهـا على أرض الواقـع‪ ،‬سـواء عبر‬
‫شـخصية الفـرد أو املجموعـة أو الجامعـة السـلفية‪ ،‬وال نسـتخدم هنـا مفهـوم‬
‫الجامعـة باملعنـى التنظيمـي الحديـث بالضرورة‪ ،‬بـل باملعنـى االجتامعـي‬
‫التقليـدي العـام‪ ،‬الـذي يـدرس «املجتمـع السـلفي» وعالقته بأفـراده واملجتمع‬
‫األكبر املحيـط به‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫‪-1-‬‬
‫موحدة أم هو ّيات متعددة؟‬
‫ّ‬ ‫هوية‬

‫قبـل البـدء بالحديـث عـن «الهويـة السـلفية»‪ ،‬مـن بـاب أوىل أن نطـرح‬
‫السـؤال األكثر أهميـة؛ هل هنالك فعالً هويّة سـلفية واحـدة؟ أم هويّات ذريّة‬
‫تجسـد مالمح عامة‬
‫متعـ ّددة تعكـس حالـة «األزمـة» يف هـذه الهوية أكثر مام ّ‬
‫يتفـق عليها السـلفيون؟‬
‫إذا حاولنـا اإلجابـة على السـؤال السـابق‪ ،‬من خالل النامذج السـابقة‪ ،‬وعرب‬
‫الخطاب األيديولوجي للسـلفية‪ ،‬وباالسـتناد إىل ما بني أيدينا من اسـتبيانات يف‬
‫تحديـد السمات العامـة املشتركة بين الجميع‪ ،‬أو لنقـل بني األغلبيـة العظمى‬
‫مـن االتجاهـات السـلفية يف املجتمـع األردين‪ ،‬سـوف نجـد أنّنـا نتحـدث‪،‬‬
‫عمومـاً‪ ،‬عـن «دور فاعـل» للديـن يف تكويـن هـذه الهويـة وتحديـد توجهاتها‪،‬‬
‫فالسـلفي هـو شـخص يؤمن بـأ ّن للدين دور حاسـم يف تحديد تصـ ّورات األفراد‬
‫الالهوتيـة واأليديولوجيـة‪ ،‬وضبط سـلوكياتهم ومامرسـاتهم االجتامعية‪ ،‬كام أنه‬
‫يتحكـم يف اختياراتهـم األخالقيـة والقيميـة‪ ،‬لكـن هـذا املعلـم رمبا تشترك فيه‬
‫«الهويـة السـلفية» نسـبياً مع الهويات اإلسلامية األخرى‪ ،‬مثـل جامعة اإلخوان‬
‫املسـلمني‪ ،‬وجامعـة التبليغ وغريهـا من الجامعات اإلسلامية‪ ،‬وإذا كانت الحال‬
‫كذلـك‪ ،‬فبماذا تتميّـز الهوية السـلفية‪ ،‬عـن غريها؟‬
‫إذا تجاوزنـا التجـارب السـابقة وحاولنـا اسـتنطاق معامل الهوية‪ -‬الشـخصية‬
‫السـلفية عبر االسـتبيانات املتوافـرة لدينا؛ ما هـي القضايا التي شـكّلت إجامعاً‬
‫أو شـبه إجامع بني السـلفيني من خالل اإلجابة عىل أسـئلة االسـتبيان املتعددة؟‬
‫على صعيـد التجنيـد والتأث ّـر‪ ،‬وبغـض الطـرف عن االتجاه السـلفي‪ ،‬هنالك‬
‫الحي‪ ،‬وبعض الشـيوخ‬
‫دور محـوري يف أغلـب الحـاالت ملجتمع املسـجد وأبناء ّ‬
‫السـلفيني‪ ،‬إذ أحـال كثي ٌر مـن السـلفيني إىل هـذه العوامـل حـول الطريقة التي‬

‫‪235‬‬
‫تع ّرفـوا بهـا عىل الدعوة السـلفية‪ ،‬ضمـن كل اتجاه‪.‬‬
‫أ ّما عىل صعيد التط ّور واالنخراط يف العالقة مع االتجاه السلفي؛ فيختلف‬
‫ترتيـب األوليـات بين هـؤالء األفـراد‪ ،‬فنجـد دورا ً حيويـاً للمشـايخ السـلفيني‪،‬‬
‫لـدى التقليديين‪ ،‬يف تعزيـز عالقتهـم بالتيـار عبر طلـب العلـم الرشعـي‪ ،‬ومـن‬
‫الحـج والعمـر ومتابعة القنـوات التلفزيونية الدينيـة‪ ،‬بينام لدى‬‫خلال رحلات ّ‬
‫الحركيين تسـاهم املخيامت الصيفيـة ومراكز القرآن بدور حيـوي‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫املشـايخ واألرشطـة الدينيـة والربامج التلفزيونيـة‪ ،‬أ ّما الجهاديـون فباإلضافة إىل‬
‫والحـي ودور الشـيوخ‪ ،‬ونظـرا ً للبعـد األمني‪ ،‬فـإ ّن «اللقـاءات املنزلية»‬
‫ّ‬ ‫الجامـع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تأخـذ دورا أساسـيا يف تأطير عالقـة الفـرد بالتيـار وهنـاك دور بـارز ألهميـة‬
‫اإلنرتنـت وشـبكات التواصل االجتامعـي الحديثة‪.‬‬
‫على صعيـد التنظير السـيايس؛ نجد التشـاكل واالقرتاب بين أغلب املجيبني‬
‫عنـد تعريـف الدولـة اإلسلامية‪ ،‬إذ يتوافقـون على أنّهـا الدولـة التـي ت ُحكـم‬
‫بالرشيعـة اإلسلامية يف مختلـف مجـاالت الحيـاة‪ ،‬إالّ أ ّن بعـض الحركيين‬
‫يضيفـون إليهـا االلتـزام مبعايير العدالة والنزاهـة‪ ،‬أما الجهاديـون فيضيفون إىل‬
‫ذلـك بأنّهـا الدولـة التـي تعلن الجهـاد أو النفري يف سـبيل اللـه‪ ،‬وال نجد حضورا ً‬
‫لـدى جميـع الحـاالت املدروسـة ملصطلح الدميقراطيـة والحريات العامـة‪ ،‬مثالً‪،‬‬
‫يف تعريـف مفهـوم الدولة اإلسلامية!‬
‫ينقسـم السـلفيون‪ ،‬كما هـو متوقّـع‪ ،‬انعكاسـاً لالختالفـات األيديولوجيـة‪،‬‬
‫حـول املوقـف من السياسـة والعمـل الحـزيب والدميقراطيـة والتعددية وحقوق‬
‫األقليـات‪ .‬فبينما يتجـه التقليديـون والجهاديـون‪ ،‬عمومـاً وغالبـاً‪ ،‬إىل رفـض‬
‫العمـل السـيايس بصيغتـه الراهنـة‪ ،‬ورفـض األحـزاب السياسـية القامئـة‪ ،‬ومـن‬
‫بينهـا اإلسلامية‪ ،‬ورفـض الدميقراطيـة‪ ،‬وتحديد حقوق األقليات‪ ،‬مبـا ال يصل إىل‬
‫املواقـع العليـا يف الدولـة؛ فإ ّن الحركيني منقسـمون تجـاه الدميقراطية والحزبية‬
‫والعمـل السـيايس‪ ،‬مـع وجـود أفضليـة للقبـول املشروط بتلـك املفاهيـم‬
‫واإلجـراءات‪.‬‬
‫على صعيـد الربنامـج االجتامعـي؛ تتفـق األغلبيـة العظمـى مـن السـلفيني‬

‫‪236‬‬
‫على عـدم جـواز االختلاط بين الرجل واملـرأة يف املـدارس والجامعـات وأماكن‬
‫العمـل‪ ،‬وإن كانـت هنالـك أقليـة محـدودة تـرى جـواز بعـض ذلـك برشوط‪.‬‬
‫ال يسـتمع السـلفيون إىل الغناء واملوسـيقى‪ ،‬فيكاد يكون هنالك إجامع عىل‬
‫تحرميهما‪ ،‬فيما تجيزهما نسـبة محـدودة جـدا ً (‪ 3‬مـن ‪ )33‬بشروط‪ ،‬وتقـف‬
‫األغلبيـة السـلفية مـع تحريم لعبة الشـ ّدة وكـرة القدم والشـطرنج‪ ،‬بينام تقف‬
‫أقليـة معتبرة مـع قبول كـرة القـدم‪ ،‬وبدرجة أقـل منها الشـطرنج برشوط‪.‬‬
‫السـلفي يـرى بـأ ّن إطلاق اللحيـة للرجـال واجـب‪ ،‬فيما يـرى البعـض أنّـه‬
‫سـ ّنة‪ ،‬ويتفق السـلفيون بوجوب اللبـاس الرشعي للمرأة‪ ،‬لكنهم ينقسـمون بني‬
‫مـن يـرى وجـوب تغطيـة الوجـه مع اليديـن والكفني‪ ،‬ومـن يـرى أ ّن ذلك ليس‬
‫واجبـاً‪ ،‬وهـو انقسـام مرتبـط‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬باختلاف الفتـوى بين الشـيوخ السـلفيني‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫معي‪،‬‬
‫عالقـة السـلفيني بالتلفزيـون ليسـت وطيـدة‪ ،‬فهـي مح ّددة يف نطـاق ّ‬
‫عمومـاً‪ ،‬إذ يجمـع املسـتجيبون على عـدم مشـاهدة األفلام واملسلسلات‪،‬‬
‫وينقسـمون بين مـن يشـاهد األخبـار والربامـج العلميـة‪ ،‬ومـن ال يهتـم بذلك‪،‬‬
‫ومـن ال يشـاهد إالّ الربامـج الدينيـة‪ .‬فيما نجـد نسـب ًة كبير ًة منهـم‪ ،‬بخاصـة‬
‫التقليديين‪ ،‬تتابـع القنوات الدينية السـلفية‪ ،‬مثل قناة األثـر‪ ،‬ووصال‪ ،‬والبصرية‪،‬‬
‫والنـاس‪ ،‬والرحمـة‪ ،‬والرسـالة‪ ،‬واملجـد‪ ،‬وفور شـباب‪ ،‬وشـذى الحريـة‪ ،‬والروضة‪.‬‬
‫وتتابـع نسـبة جيدة من السـلفيني القنـوات اإلخبارية‪ ،‬مثل الجزيـرة‪ ،‬والجزيرة‬
‫مبـارش‪ ،‬والعربيـة‪ ،‬والبـي يب يس‪ ،‬ونسـبة محـدودة القنـوات العلميـة‪ ،‬مثـل‬
‫ناشـونال جيوغرافيـك‪ ،‬والجزيـرة الوثائقيـة‪ ،‬وبعضهـم يتابـع الربامـج الحواريـة‬
‫السياسـية على القنـوات املحلية‪.‬‬
‫يف عالقة املسـلمني باملسـيحيني‪ ،‬يجمع السـلفيون عىل عدم جواز املشـاركة‬
‫يف احتفـاالت املسـيحيني الدينية‪ ،‬ويختلفون يف املوقـف من الصداقة والعالقات‬
‫السياسـية واملشـاركة االجتامعية‪ ،‬مثل األفراح واألحزان‪.‬‬
‫أ ّمـا مواقـف السـلفيني من الربنامج السـيايس فتبدو أكرث تباينـاً؛ إذ يختلفون‬

‫‪237‬‬
‫تجـاه العديـد من القضايـا‪ ،‬مثل تطبيق الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬فالجهاديون يرون‬
‫التطبيـق الكامـل الفـوري لهـا‪ ،‬أمـا التقليديـون والحركيـون فمنقسـمون بين‬
‫التطبيـق على املـدى القريـب أو البعيـد‪ ،‬ويختلـف السـلفيون حـول إمكانيـة‬
‫تطبيـق وإقامـة الحـدود الرشعيـة (مثـل قطع األيـدي والجلـد والرجـم) اليوم‪،‬‬
‫وعلى إجراء االنتخابات الربملانية والرئاسـية والبلديـة؛ لكنهم يف املقابل يكادون‬
‫يجمعـون على إلـزام الدولة اإلسلامية للمرأة املسـلمة باللبـاس الرشعي‪ ،‬وعىل‬
‫إقامـة املصـارف اإلسلامية بديالً عـن البنـوك «الربوية»‪.‬‬
‫يـكاد يجمـع السـلفيون على أ ّن الحـرب يف سـورية هـي حـرب عقائديـة‪،‬‬
‫لكنهم يختلفون يف املوقف من قضية مشـاركة الشـباب السـلفي األردين‪ ،‬الذي‬
‫يغـادر إىل القتـال هنـاك‪ ،‬فترى أغلبية السـلفيني أ ّن مـآل الثـورات الحالية هي‬
‫أنظمـة إسلامية يف نهايـة اليوم‪ ،‬وينقسـمون يف املوقف تجاه انخراط السـلفيني‬
‫املرصيين يف العمـل الحـزيب والسـيايس هنـاك‪ ،‬ويف املوقـف مـن املظاهـرات‬
‫واملسيرات والعمـل السـيايس واالحتجاجـات واإلعلام بوصفها أدوات ووسـائل‬
‫تغيري ‪.‬‬
‫يختلـف السـلفيون‪ ،‬كذلـك‪ ،‬يف املوقـف مـن التسـوية السـلمية‪ ،‬إذ يقترب‬
‫أغلـب الحركيين والجهاديين من رفض هذه التسـوية‪ ،‬فيام ينقسـم التقليديون‬
‫بين القبـول بهـا ورفضهـا‪ ،‬ويختلـف السـلفيون تجـاه تقييـم تجربـة جامعـة‬
‫اإلخـوان املسـلمني يف الحكـم‪ ،‬إذ تـرى األغلبيـة أنّهـا فاشـلة‪ ،‬بينما تـرى األقلية‬
‫أنّهـا حققـت نتائـج إيجابية‪.‬‬
‫تبـدو نتائـج هـذه االسـتبانات متوقعـة ومنطقيـة‪ ،‬يف ضـوء قـراءة الخطابات‬
‫األيديولوجيـة للسـلفيني‪ ،‬عموماً واالتجاهات السـلفية املتعـددة بصورة خاصة‪،‬‬
‫وتعـ ّزز هـذه النتيجـة النامذج‪ ،‬التي تع ّرفنـا عليها يف هذه الدراسـة‪ ،‬إالّ أ ّن ذلك‬
‫يُعي ُدنـا إىل السـؤال الـذي بدأنـا بـه هـذا الجـزء األخير مـن الدراسـة؛ فيما إذا‬
‫كانـت هـذه القواسـم املشتركة تضـع أسسـاً ملعـامل هوية سـلفية عامـة أم أنّها‬
‫أقـل مـن ذلك؟‬‫ّ‬
‫نجسـد هـذه «املشتركات» يف شـخصية واحـدة‪ ،‬ونتعـ ّرف‬
‫دعونـا نحـاول أن ّ‬

‫‪238‬‬
‫عليهـا أكثر؛ إذا ابتعدنـا عـن املجـال السـيايس‪ ،‬الـذي ميثّـل بـؤرة االختلاف‬
‫الجوهريـة بين هـذه االتجاهـات‪ ،‬ونظرنـا إىل الشـخصية السـلفية مـن الزاوية‬
‫الدينيـة واملجتمعيـة‪ ،‬فماذا سـنجد أمامنـا؟‬
‫سـنجد أ ّن مفتاح هذه الشـخصية هو االهتامم الكبري مبفهوم االلتزام الديني‪،‬‬
‫مقارنـ ًة بالتيـارات األخـرى؛ فالسـلفي هـو شـخص متديّـن ملتزم‪ ،‬طقـويس‪ ،‬ويف‬
‫األغلـب يهتـم باملظاهـر الدينيـة الظاهـرة أو الشـكلية‪ ،‬أو مـا يسـميه بعـض‬
‫علماء االجتامع «السمات الظاهريـة»‪ ،‬يف حني ميكن أن تأخذ هـذه االلتزامات‬
‫الفرديـة‪ ،‬الشـخصية‪ ،‬لـدى أبنـاء الجامعـات أو األحـزاب اإلسلامية األخـرى‪،‬‬
‫درجـ ًة أقـل مـن االهتمام‪ ،‬يف مقابـل االهتمام بالعمـل السـيايس أو الحـزيب أو‬
‫التنظيمـي‪ ،‬أي ميكـن التغـايض‪ ،‬قليلاً عنهـا‪ ،‬إىل درجـة معينـة‪ ،‬فيما تأخذ عند‬
‫السـلفيني درجـة عليـا مـن االهتمام واألهمية‪.‬‬
‫الحظنـا هـذا االهتمام بالجانـب الطقـويس والتعبـدي وبالعلـم الرشعي عرب‬
‫التجارب السـابقة‪ ،‬إذ كان السـبب‪ ،‬الذي دفع بأعداد منهم إىل املسـار السـلفي‬
‫هـو البحـث عـن «النقـاء الديني» غير املتل ّبـس بالجانـب الحزيب أو السـيايس‪،‬‬
‫الـذي يـرون أنّه يسـم تجارباً إسلامي ًة أخرى‪.‬‬
‫السـمة الثانيـة تتمثّـل يف أ ّن السـلفي مينـح النصـوص الدينيـة والفتـاوى‬
‫الرشعيـة درجـة كبيرة مـن األهميـة‪ ،‬مقارنـ ًة بالتيـارات اإلسلامية األخـرى‪.‬‬
‫واملقصـود بالنصـوص‪ ،‬هنـا‪ ،‬القـرآن الكريـم والسـ ّنة النبويـة‪ ،‬التـي تأخـذ جانباً‬
‫كبيرا ً مـن األهميّـة لـدى السـلفيني‪ ،‬سـواء يف االلتـزام الشـكيل‪ -‬الظاهـري بهـا‪،‬‬
‫عبر الهيئـة واملظهـر والسـلوك‪ ،‬أو حتـى تحقيـق كتـب املوروثـات (األحاديث)‬
‫السـنيّة ومتييـز الصحيـح من الضعيف فيهـا‪ ،‬وهي قضية تتفاوت بني السـلفيني‬
‫واالتجاهـات السـلفية‪ ،‬وتبـدو أكثر وضوحـاً وتجليّـاً يف السـلفية التقليديـة‪ ،‬ثم‬
‫الحركيـة‪ ،‬وأخيرا ً الجهادية‪.‬‬
‫تحتكـم الهويـة السـلفية‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬إىل قيـمٍ رئيسـ ٍة تحكـم الهويـة السـلفية‬
‫العامـة‪ ،‬تتمثّـل بتطبيـق الرشيعـة اإلسلامية (مـع االختلاف يف فهـم وإدراك‬
‫كيفيـة تطبيقهـا)‪ .‬فالسـلفيون وإن اختلفوا يف املوقف من الحكام والسياسـيني‪،‬‬

‫‪239‬‬
‫ويف ترسـيم منهـج التغيير أو اإلصلاح املطلـوب‪ ،‬ويف املوقـف مـن العمـل‬
‫السـيايس أو العسـكري‪ ،‬فهـم مجمعون على تطبيق الرشيعة اإلسلامية وإقامة‬
‫الدولة اإلسلامية‪.‬‬
‫الشـخصية السـلفية‪ ،‬عموماً‪ ،‬تربط نفسـها بالرتاث والخربة اإلسلامية‪ ،‬سـواء‬
‫عبر متثّـل دور الدفـاع عـن عقيـدة أهـل السـنة والجامعـة يف مواجهـة العقائد‬
‫والفـرق والتصـ ّورات األخـرى‪ ،‬القديـم منها والجديد‪ ،‬اإلسلامي وغري اإلسلامي‪،‬‬
‫فـإ ّن أراد السـلفي التعريـف بهويتـه ومنهجـه‪ ،‬عـاد بـك مبـارش ًة إىل عصر‬
‫الصحابـة والتابعين‪ ،‬وإىل الفقهـاء والعلماء املسـلمني السـابقني‪ ،‬ثـم الالحقين‬
‫الذيـن ميثّلـون برأيـه هـذا املنهـج‪ ،‬فث ّمـة حضـور بـارز البـن تيميـة وأحمد بن‬
‫حنبـل وابـن القيـم الجوزيـة‪ ،‬يف املقابـل فـإن حضـور مـن يختلفـون مـع هـذا‬
‫املنهـج إ ّمـا محـدود أو سـلبي‪ ،‬مثـل علماء الـكالم والفالسـفة املسـلمني‪ ،‬كابـن‬
‫رشـد والغـزايل وابـن سـينا واملعتزلـة والخـوارج والشـيعة وغريهـم‪ ،‬فهـم إ ّمـا‬
‫مغيّبـون أو خصـوم ومخطئـون يف التصـ ّور السـلفي للهويـة الذاتيـة‪.‬‬
‫حسـناً‪ ،‬إذا كانـت هـذه هـي املعـامل العامـة التـي مت ّيـز‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬الهويـة‬
‫السـلفية املشتركة‪ ،‬فما هي مصـادر التوتّر وعدم االتفاق بني السـلفيني‪ ،‬وكيف‬
‫تتجسـد هـذه املسـاحة يف الشـخصية السـلفية التـي نتعامـل معهـا؟‬ ‫ميكـن أن ّ‬
‫نجـد أ ّن الشـخصية السـلفية مرتبكـة‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬وبدرجـة رئيسـة‪ ،‬يف التعامل‬
‫مـع التنظير السـيايس‪ ،‬أوالً‪ ،‬والواقـع الراهـن‪ ،‬ثانيـاً؛ فهـذه الشـخصية تبدو غري‬
‫محـ ّددة فيما يخـص الدولـة اإلسلامية‪ ،‬التـي تنشـد التعامـل معهـا‪ ،‬فهـي غري‬
‫واضحـة‪ ،‬متامـاً‪ ،‬بخصـوص املوقف مـن تطبيق الرشيعة اإلسلامية مـ ّرة واحدة‪،‬‬
‫أو بالتـد ّرج على املـدى القريـب أو البعيـد‪ ،‬ويف املوقـف من «إقامـة الحدود»‪.‬‬
‫يبرز االرتبـاك‪ ،‬بصـورة أكثر وضوحـاً‪ ،‬يف املوقـف مـن االنتخابـات وقضايـا‬
‫الحريـات العامة وحقوق اإلنسـان والدميقراطية‪ ،‬واملوقف من العمل السـيايس‬
‫واألحـزاب والتعدديـة السياسـية والدينيـة‪ ،‬فهنالـك مـن يرفـض الدميقراطيـة‬
‫بصـورة مطلقـة‪ ،‬ومـن يقبـل بها مـن باب «أقـل الرضريـن»‪ ،‬ومن يراهـا أفضل‬
‫املوجـود‪ ،‬وكذلـك الحـال مـع العمـل السـيايس‪ ،‬فهنالـك مـن يؤيّـد انخـراط‬

‫‪240‬‬
‫السـلفيني يف التجربـة السياسـية املرصيـة‪ ،‬لكـ ّن الحماس يبـدو أقـل للحالـة‬
‫األردنيـة‪ ،‬وهكـذا سـنجد أ ّن الشـأن السـلفي يُضعـف كثيرا ً من وحدة واتسـاق‬
‫الشـخصية السـلفية العامـة‪.‬‬
‫الشـخصية السـلفية العامـة مرتبكـة‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬يف ترسـيم أولوياتهـا األساسـية‪،‬‬
‫فبينما نجـد أ ّن التقليديين مينحـون «العلم الرشعـي» أهمية كبرى‪ ،‬ويراهنون‬
‫على دوره يف عملية التغيري‪ ،‬ويشـكّل السـلّم الرئيـس يف تحديد املواقع واألدوار‬
‫يف بنيـة هـذه االتجـاه‪ ،‬نجد أ ّن الحريك يضيـف إليه العمل الدعـوي والتنظيمي‬
‫واملؤسسي‪ ،‬أ ّمـا الجهـادي فيعطـي قضيتـي الحاكميـة والجهـاد أهميـة كبيرة‪،‬‬
‫السـلّ َم الرئيس يف‬
‫ومتثّـل تجربتـا السـجن والنفير (القتال يف السـاحات املتاحة) ُ‬
‫تحديـد املواقـع واألدوار يف هـذا التيـار أو املجتمـع املصغّر‪.‬‬
‫***‬
‫مـاذا لـو انتقلنـا إىل املسـتوى الجـزيئ أو الهويـات السـلفية الفرعيـة‪ ،‬هـل‬
‫سـنجد أنفسـنا مـع هويّـات أكثر اتسـاقاً وانسـجاماً؟ ّ‬
‫أي لـو صغنـا السـؤال‬
‫بعبـارات أخـرى‪ :‬هـل الهويـات التقليديـة‪ ،‬والجهاديـة والحركيـة أكثر وضوحـاً‬
‫ومتاسـكاً مـن الهويـة السـلفية العامـة؟‬
‫لـو بدأنـا بالشـخصية السـلفية التقليديـة‪ ،‬على صعيـد األفـراد واملجمـوع؛‬
‫سـنجد باإلضافـة إىل مـا ذكرنـاه مـن السمات العامـة‪ ،‬أنّهـا تأخـذ موقفاً سـلبياً‬
‫مـن العمـل السـيايس‪ ،‬إذ يحظـى الشـيوخ بسـلطة علميـة ومعنويـة‪ ،‬يليهـم يف‬
‫الدرجـة التاليـة طلاب العلـم الرشعـي‪ ،‬ثـم املبتدئين‪ ،‬وأخيرا ً املريدين‪.‬‬
‫تتسـم الشـخصية السـلفية التقليديـة‪ ،‬نسـبياً‪ ،‬بالبسـاطة والحسـم‪ ،‬فهـي‪،‬‬‫ّ‬
‫أوالً‪ ،‬تعطـي النصـوص الرشعيـة مرتبـة عليـا وكذلـك الفتـاوى التـي تصـدر عن‬
‫املشـيخة السـلفية‪ .‬وموقف هذه الشـخصية محسـوم من الدميقراطية والعمل‬
‫الحـزيب والسـيايس‪ ،‬وتضـع العقل يف مرتبة ثانوية يف األمور الشـائكة‪ ،‬فاالختالف‬
‫حتـى حـول النصـوص النبويـة ليـس يف مطابقتهـا للعقـل والزمـن‪ ،‬بـل يف علـم‬
‫«الجـرح والتعديـل»‪ ،‬أي األسـانيد والـرواة‪ ،‬وهـو علـم يقـوم على الحفـظ‪ ،‬ال‬

‫‪241‬‬
‫التحليـل والتفكير واإلبداع‪.‬‬
‫الشـخصية السـلفية التقليديـة قـد تكـون مبدعـة يف مجـاالت مختلفـة مـن‬
‫الحيـاة‪ ،‬لك ّنهـا على الصعيـد الدينـي واملجتمعـي هـي شـخصية «محافظـة‬
‫تنفيذيـة»‪ ،‬أي أنّهـا ليسـت مسـكونة باألسـئلة الفلسـفية يف العالقـة بين الدين‬
‫واملجتمـع والحداثـة والعوملـة والعقـل والنقـل‪ ،‬ويف ّ‬
‫فـك االشـتباك فيما يتعلّق‬
‫بالعالقـة بين الديـن والدولـة والعلامنيـة واإلسلام‪ ،‬فمثـل هـذه األسـئلة تـكاد‬
‫تكـون شـبه مغيّبـة لـدى املجتمـع السـلفي التقليـدي‪ ،‬الـذي يقـع جوهـر‬
‫اهتاممـه وأولوياتـه يف العلـم الرشعـي‪ ،‬ونشر العقائـد السـلفية‪ ،‬مـن دون‬
‫الدخـول يف رصاع سـيايس مـع السـلطات‪ ،‬وال يف نقـاش فكـري مع ّمـق حـول‬
‫األسـئلة الفلسـفية السـابقة يف املنتديـات الثقافيـة والفكريـة!‬
‫أ ّمـا عـن الشـخصية السـلفية الجهاديـة‪ ،‬فهـي شـخصية ح ّديـة يف خطابهـا‬
‫ومواقفهـا السياسـية وسـلوكها االجتامعـي‪ ،‬تنظـر إىل الديـن مـن منظـور شـبه‬
‫مطلـق‪ ،‬تجمـع مـا بني االهتمام بااللتـزام الديني الـذايت الصارم وبين املواجهة‬
‫مـع مـا تعتبره انحرافـات يف املجتمـع من جهـة‪ ،‬ومع النظـام والدوائـر األمنية‬
‫مـن جهـ ٍة أخـرى‪ ،‬وتجد نفسـها دومـاً يف حالة صدام مـع البيئـة املحيطة‪ ،‬فهي‬
‫يف صـدام مـع املحيـط االجتامعـي‪ ،‬غير امللتـزم بالرؤيـة الجهادية‪ ،‬وصـدام مع‬
‫األنظمـة العربيـة‪ ،‬وصدام مـع الواليات املتحـدة األمريكية والغـرب‪ ،‬وصدام مع‬
‫إيـران والشـيعة واملشروع الصفوي!‬
‫إذا عدنـا إىل شـخصية مؤيـد؛ فهـو يقـ ّدم لنا بوضوح األزمة النفسـية التي م ّر‬
‫بها قبل أن يق ّرر االنسـحاب تدريجياً من األوسـاط السـلفية الجهادية‪ ،‬ويتحلّل‬
‫مما تلبّـس بـه من سمات هذه الشـخصيات والتزاماتهـا‪ ،‬إذ بدأ يقـارن طريقة‬
‫تديّـن الجهاديين مـع التيـارات اإلسلامية األخرى‪ ،‬التـي اسـتطاعت الجمع بني‬
‫الديـن والدنيـا‪ ،‬والنجـاح يف االثنين معـاً‪ ،‬والقـدرة على بنـاء مؤسسـات مدنية‬
‫مختلفـة‪ ،‬ومتنـح قـدرا ً أكبر مـن املرونـة ألفرادهـا‪ ،‬بينما السـلفي الجهـادي‬
‫محـارص متامـاً (أو يحـارص نفسـه) من البيئـة املحيطة‪.‬‬
‫نظـرا ً لهـذا التبايـن بين التيـار الجهـادي واملجتمـع املحيـط‪ ،‬فـإ ّن املجتمـع‬

‫‪242‬‬
‫املصغـر (الجهـادي) حريـص دومـاً على التظافـر الداخلي‪ ،‬وإقامـة عالقـات‬
‫وطيـدة بين أفـراده وأتباعـه‪ ،‬وعلى التعـاون واملشـاركة الداخليـة الكبيرة‪ ،‬فال‬
‫تجـد مناسـبة اجتامعيـة ألحـد أفـراد التيـار إالّ وهنالـك حضـور واسـع ألبنـاء‬
‫التيـار وأفـراده‪ ،‬كام هي الحـال يف األفراح واألتراح‪ ،‬أو حتى ما يسـمى بـ«عرس‬
‫الشـهيد»‪ ،‬ملـن يقتلـون يف الخـارج‪ ،‬مثـل العـراق وسـورية سـابقاً‪.‬‬
‫وطاملـا أ ّن القيمـة الكبرى واألوليـة لـدى أفراد هذا التيار هـي الجهاد‪ ،‬نجد‬
‫أ ّن عيـون كثيرٍ مـن أبنائـه تتجـه صـوب السـاحات املفتوحـة يف تلـك املناطق‪،‬‬
‫فهـي التـي تسـتجيب لتشـكّلهم األيديولوجـي والنفسي‪ ،‬ومتثّل البيئة املناسـبة‬
‫التـي يبحـث عنها أبنـاء التيار‪ ،‬وهـذا البُعد النفسي واأليديولوجي هو السـبب‬
‫الـذي يقـف وراء سـفر املئـات مـن أبنائـه يف األردن إىل السـاحات املختلفـة‪،‬‬
‫وتحديـدا ً السـورية اليوم‪.‬‬
‫يف املقابـل‪ ،‬نجـد أ ّن الشـخصية الحركيـة هـي األقـل وضوحاً‪ ،‬واألكثر ارتباكاً‬
‫وقلقـاً بين النامذج السـلفية املختلفـة‪ ،‬فهي مرتبكة أكرث تجاه التنظري السـيايس‬
‫واملوقـف مـن الدميقراطيـة والعمـل السـيايس والحـزيب‪ ،‬وتجـاه مفهـوم الدولة‬
‫اإلسلامية‪ ،‬وتجـاه املوقـف مـن الحكومـات العربيـة الراهنـة‪ ،‬ومـن تحديـد‬
‫وسـائل التغيير والعمـل ومنهـج اإلصلاح‪ ،‬ويف املوقـف مـن التيارات اإلسلامية‬
‫األخـرى‪ ،‬مثـل التقليديين والجهاديين‪ ،‬ويف مـدى االنفتـاح على الفكـر الغـريب‬
‫والحداثـة والعـامل والعوملـة والثقافـات األخرى‪.‬‬
‫الحظنـا كيـف أ ّن هـذا االرتبـاك والتوتـر يف الشـخصية الحركية ظهر بوضوح‬
‫لتعبر عن‬
‫على هويـة جمعيـة الكتـاب والسـنة‪ ،‬التـي ّأسسـت يف العـام ‪ّ 1993‬‬
‫هـذا التيـار وأفـكاره‪ ،‬والحظنـا كيـف أ ّن التحول من أوسـاط هذا التيـار باتجاه‬
‫الجهاديين والتقليديين‪ ،‬وحتـى إىل الخـارج متامـاً هـو ظاهـرة كبيرة‪ ،‬تبدو أكرث‬
‫بـروزا ً من التيـارات األخرى‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫‪-2-‬‬
‫السلفيون واألزمة أو «أزمة الهوية‬
‫السلفية»‬

‫يحيـل كثي ٌر مـن السـلفيني‪ ،‬سـواء يف النماذج السـابقة أو االسـتبيانات‪،‬‬


‫األسـباب التـي دفعتهـم نحو السـلفية إىل عوامل مبارشة مثل «النقـاء الديني»‪،‬‬
‫أي عـدم التلبـس بأهـداف سياسـية أو حزبية‪ ،‬والهتامم السـلفية بتنقيح الدين‬
‫وبالعلـم الرشعـي‪ ،‬الـذي يقـ ّدم الديـن‪ ،‬كما هـو‪ ،‬كما فهمـة الرسـول الكريـم‪،‬‬
‫صلى اللـه عليـه وسـلم‪ ،‬وصحابتـه‪ ،‬أي «إسلام» أو «هويّـة البدايـات» التـي مل‬
‫غير وب ّدل مـن هذه املفاهيـم وأخرج الديـن عن السـكّة األوىل إىل‬
‫تختلـط مبـا ّ‬
‫طـرق فرعيـة وأخـرى خاطئة‪.‬‬
‫هـذا «الجـواب السـلفي»‪ ،‬يسـتبطن سـبباً آخـر‪ ،‬غير مبـارش‪ ،‬ميثّـل مفتاحـاً‬
‫ويفسر أسـباب صعودهـا وانتشـارها خلال‬ ‫ّ‬ ‫أساسـياً يف فهـم الهويـة السـلفية‪،‬‬
‫العقـود املاضيـة‪ ،‬سـواء يف األردن‪ ،‬أو يف الـدول العربيـة األخـرى‪ ،‬ويتمثّـل يف‬
‫جوهـره بتحـ ّدي الحداثة والتغريـب والوافد من الخارج‪ ،‬الـذي أصبح جزءا ً من‬
‫الداخـل‪ ،‬والحقـاً تحـ ّدي العوملـة‪ ،‬أو األزمـة التـي متـ ّر بهـا املجتمعـات العربية‬
‫واإلسلامية‪ ،‬مـا ع ّزز الشـعور لدى رشيحة واسـعة مـن املجتمعـات املحلية بأ ّن‬
‫هويتهـا الدينيـة وثقافتهـا أو موروثهـا وقيمهـا مهـ ّددة بهذا التحـدي أو الخطر‬
‫بالتمسـك بالهوية الدينية‪ ،‬وتأيت السـلفية‬
‫ّ‬ ‫والتهديـد الجديـد‪ ،‬فيكون الـر ّد عليه‬
‫بوصفهـا تعبيرا ً عـن أقصى اليمين يف حاميـة هـذه الهويـة وحفظهـا مـن تلـك‬
‫األخطـار الواقعيـة أو املتخيّلـة لـدى هـذه املجتمعات!‬
‫تحـ ّدي التغريـب والحداثـة وخطـره يأخـذ‪ ،‬لـدى التيـار السـلفي‪ ،‬أبعـادا ً‬
‫متعـددة‪ ،‬أوالً سياسـية عبر أيديولوجيـات وثقافات سياسـية مغايرة لإلسلامية‬
‫املحليـة‪ ،‬ومذاهـب فكرية‪ ،‬مثل العلامنيـة والدميقراطية والليربالية والشـيوعية‬

‫‪244‬‬
‫والرأسمالية وغريهـا‪ ،‬ثانيـاً اجتامعيـة عبر العـادات والقيـم الغربيـة واألفـكار‬
‫والتقنيـات واألمنـاط السـلوكية الجديـدة املرتبطـة بهـا‪ ،‬والتـي تتعـارض مـع‬
‫الرشيعـة اإلسلامية أو مـا تعتبره التيـارات الدينيـة مبثابـة هجـوم على الهوية‬
‫االجتامعيـة الدينيـة‪ ،‬وثالثـا اقتصادية‪ ،‬مثل البنـوك واالسـتثامرات التي تتناقض‬
‫مـع الرشيعـة اإلسلامية‪ ،‬ورابعـاً تعليميـة‪ ،‬وخامسـاً إعالميـة‪ ..‬وهكـذا دواليك!‬
‫ينجـرف املوقـف السـلفي نحـو ترسـيم العالقـة بين األنـا واآلخـر‪ ،‬يف حـدود‬
‫الشـعور بتهديـد كبير لـ«هويـة الـذات»‪ ،‬أو بعبـار ٍة أخـرى التصـدي ملهمـة‬
‫«الدفـاع عـن الـذات» يف مواجهـة تلـك األخطـار املنتشرة‪ ،‬التـي أصابـت‬
‫املجتمعـات العربيـة واملسـلمة يف ثقافتها وقيمها‪ ،‬وكأ ّن السـلفية تعيش معاناة‬
‫«جـرح الهويـة الرنجسي»!‬
‫تتبايـن درجـة االسـتجابات السـلفية السـلبية أو املتخ ّوفـة مـن تحـ ّدي‬
‫الحداثـة والتغريـب والعوملـة‪ ،‬بين مـن يعتربها تحديـاً ومن يراهـا تهديدا ً‪ ،‬من‬
‫يحـاول التك ّيـف الرسيـع بأقـل قـدر مـن الخسـائر‪ ،‬ومـن يتصلّـب يف االنطـواء‬
‫على الـذات يف مواجهـة العواصـف املعارصة‪ ،‬لكـ ّن ما يجمع هذه االسـتجابات‬
‫جميعـاً هـو النظـر إىل «اآلخـر» (ثقافيـاً‪ ،‬سياسـياً‪ ،‬فكريـاً‪ )..،‬بوصفـه عـدوا أو‬
‫خصما أو تهديـدا‪ ،‬ال بوصفـه مثيلاً أو تنوعـاً جديـدا ً ميكـن أن يثري الـذات‬
‫ويضيـف إليهـا قيماً وأبعـادا ً أخـرى‪ ،‬أي أ ّن السـلفية – بالرغـم مـن تبايـن تلك‬
‫االسـتجابات‪ -‬مبثابـة «آليـة دفاعيـة»‪ ،‬تتجه نحـو الداخل ال إىل الخـارج عموماً‪.‬‬
‫يـزداد نفـوذ تلك التحديات والتهديدات يف الضغط عىل االسـتجابة السـلفية‬
‫يتحل به اآلخـر‪ ،‬فيأخذ طابع الهيمنة والسـطوة والقوة‬
‫عبر عامـل القـوة الذي ّ‬
‫الصلبـة والناعمـة يف كثير مـن األحيـان يف مواجهـة حالـة مـن الضعـف الـذي‬
‫تعـاين منـه املجتمعـات العربية واملسـلمة‪ ،‬وهو ما يحيلنـا إىل تعريف داريوش‬
‫شـايغان‪ ،‬الـذي تح ّدثنـا عنـه يف مقدمـة الدراسـة (يف املنظور املنهجـي)‪ ،‬عندما‬
‫وصـف الهويـة بأنّهـا مبثابـة «غطـاء أيديولوجـي ارتـكايس تعتمـده املجتمعات‬
‫الضعيفـة يف ظـل التحـوالت الدولية»‪ ،‬فالسـلفية هي البديل للحداثـة الكونية‪،‬‬
‫لك ّنهـا‪ ،‬كما يـرى شـايغان نفسـه‪ ،‬هـي «صـورة مغلوطـة للـذات»؛ ملـاذا؟ أل ّن‬

‫‪245‬‬
‫رفـض قـراءة التحـوالت االجتامعيـة والتغيرات الكبيرة التـي تحـدث وعـدم‬
‫تقديـر عامـل الزمـن ومـا يحدثـه مـن تغييرات هائلـة يف مسـار املجتمعـات‬
‫وثقافاتهـا وقيمهـا يعكـس حالـة ضعـف وعجز وهـروب إىل األمام عبر محاولة‬
‫اسـتعادة «العصر الذهبـي» للحضـارات اإلسلامية يف القـرون الوسـطى‪ ،‬إىل‬
‫البدايـات‪ ،‬واالكتفـاء بهـا باالتـكاء على «أوهـام» املثاليـة واألفضليـة‪ ،‬والحنين‬
‫بـدالً مـن مواجهـة التحديـات بـأدوات فاعلـة تـدرك عنـارص التحـول والتغيري‪،‬‬
‫وذلـك رمبـا مـا يسـم ّيه شـايغان بـ«عبـادة البدايـات»‪ ،‬التـي تؤسـس النظـر إىل‬
‫الحداثـة بوصفهـا مؤامرة‪.102‬‬
‫يتعـ ّزز ذلـك الشـعور بتهديـد الهوية مـع حالة «األزمة»‪ ،‬أيّـاً كانت تعبرياتها‪،‬‬
‫على صعيـد املجتمعـات واألفراد‪ ،‬سـواء يف مواجهة حالة الهزمية العسـكرية أو‬
‫ظـروف اقتصاديـة وسياسـية ونفسـية صعبة؛ وقـد نجد مثل هذا التفسير عىل‬
‫الصعيـد التاريخـي يف مرحلـة مـا بعـد حرب الــ‪ ،67‬وصعـود االتجاه اإلسلامي‬
‫اإلحيـايئ‪ ،‬ملـلء الفـراغ‪ ،‬الـذي أحدثتـه هزميـة األيديولوجيـا القوميـة يف تحقيق‬
‫أهدافهـا ووعودها للجامهير العربية‪.‬‬
‫صحيـح أ ّن الصعـود السـلفي مل يكـن متحـ ّررا ً مـن عامـل املـال والدعـم‬
‫الكبير‪ ،‬الـذي قدمتـه السـعودية‪ ،‬تحديـدا ً‪ ،‬لنرش الدعوة السـلفية ومؤسسـاتها‬
‫ونشـاطاتها يف مختلـف أرجـاء املعمـورة‪ ،‬ويف العـامل العـريب‪ ،‬بصـور ٍة خاصة‪ ،‬إالّ‬
‫أ ّن هـذا الدعـم جـاء كعامـل مسـاند وداعـم‪ ،‬ومل يكـن ل ُيحـدث ذلـك التأثير‬
‫واملفعـول الكبير لـو أ ّن الرتبـة مل تكـن مناسـبة واألجـواء مهيـأة لنمـو هـذه‬
‫الحالـة بهـذه الصـورة امللحوظـة!‬
‫خلال العقـود املاضيـة‪ ،‬نشـأت وصعـدت األجيـال العربيـة على وقـع‬
‫سلسـلة مـن الهزائـم العسـكرية واالنتكاسـات النفسـية الجامعية‪ ،‬منـذ النكبة‬
‫الفلسـطينية عـام ‪ ،1948‬ونكسـة العـام ‪ ،1967‬فاجتيـاح بيروت عـام ‪،1982‬‬
‫والشـتات الفلسـطيني‪ ،‬ثم حروب الخليـج املتتالية‪ ،‬الحرب العراقيـة‪ -‬اإليرانية‪،‬‬
‫اجتيـاح الكويـت ‪ ،1991‬ثم احتلال العراق عام ‪ ،2003‬وانعكسـت هذه األزمة‬

‫(‪ )102‬داريوش شايغان‪ ،‬أوهام الهوية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.31-5‬‬

‫‪246‬‬
‫يف قلـب املعـادالت الداخليـة العربيـة وسـؤال الرشعيـة مـع إخفـاق األنظمـة‬
‫القامئـة يف إقنـاع الشـعوب بقدرتهـا على توفير مناخـات الحريـة والكرامـة‬
‫والعدالـة‪ ،‬بـل قامـت بإغلاق الطريـق أمـام محـاوالت التغيير السـلمية‪ ،‬مـع‬
‫تجريـم عملي لالنشـغال يف العمـل السـيايس والحـزيب‪.‬‬
‫بالتـزاوج مـع أسـئلة الكرامـة والرشعيـة واالنغلاق السـيايس التـي رضبـت‬
‫العديـد مـن املجتمعـات العربية مع بداية عقـد التسـعينيات‪ ،‬ومرحلة التحول‬
‫نحـو الخصخصـة والقطـاع الخاص وبـروز األزمـات االقتصادية ومتـدد معضلتي‬
‫البطالـة والفقـر‪ ،‬مـع انتشـار ظاهـرة األحيـاء العشـوائية‪ ،‬مـا جعـل األزمـة‬
‫االقتصاديـة رافـدا ً بنيويـاً لتعزيز األزمة السياسـية‪ ،‬يف جوار ذلـك كانت مفاعيل‬
‫األزمـة املقيمـة املرتبطـة بإشـكالية الهويـة الثقافيـة تفـرض أسـئلة صعبـة عىل‬
‫املجتمعـات وخصوصـا فئـة الشـباب بين ضغـوط الديـن والتراث مـن جهـة‬
‫واجتيـاح الثقافـة الغربيـة املعـارصة مـن جهـة أخرى‪.‬‬
‫تعـد ّدت ردود النخبـة الفكريـة والسياسـية العربيـة وتباينـت وتضاربـت‬
‫يف اإلجابـة على أسـئلة «األزمـة»‪ -‬املحنـة العربيـة املعـارصة‪ ،‬ومـا تفرضـه‬
‫مـن تحديـات؟ هـل املشـكلة يف املجتمعـات أم الحكومـات والسـلطات؟ هـل‬
‫البلاء يف العامـل الداخلي أم الخارجـي؟ وهـل أولوياتنـا هي يف العمـل الثقايف‬
‫واملجتمعـي أم السـيايس والحـزيب؟ أم العمـل املسـلح؟‬
‫أل ّن الجـواب العلماين ارتبـط بسـمعة سـيئة مـع نتائـج الفشـل التـي منيت‬
‫بهـا األنظمـة السياسـية الثوريـة واملحافظـة القامئـة والهزائـم املتتاليـة‪ ،‬تلـك‬
‫التـي حاولـت إمـا اسـتبعاد الديـن من املجـال العـام أو تأطريه يف نطـاق خارج‬
‫السـلطة‪ ،‬أو حتـى توظيفـه ضمـن أجنداتهـا السياسـية؛ مثـل هـذا الربط جعل‬
‫مـن الديـن والجـواب اإلسلامي مخرجـاً آخر لألجيـال الجديـدة املتتاليـة‪ ،‬التي‬
‫ُولـد وعيهـا ونضـج على آتـون هـذه «املحنة»!‬
‫التفسير اإلسلامي للمحنـة املعارصة خاطب الوجـدان الديني للمجتمعات؛‬
‫السـبب هـو «البعـد عـن اللـه»‪ ،‬وكانـت السـلفية هـي أحـد الروافـد الرئيسـة‬
‫للجـواب الدينـي‪ ،‬وأل ّن السـلفية ليسـت لونـاً واحـدا ً‪ ،‬فاقتسـمت التيـارات‬

‫‪247‬‬
‫السـلفية «الكعكـة املجتمعيـة»؛ فأخـذت السـلفية التقليديـة الرشيحـة‬
‫االجتامعيـة املسـاملة‪ ،‬أو تلـك التـي تهـرب مـن إكراهـات الواقـع السـيايس‬
‫واالجتامعـي‪ ،‬وأخـذت السـلفية الجهاديـة الشـباب الثـوري الراديـكايل األكثر‬
‫تأث ّـرا ً بهـذه الضغـوط‪ ،‬فيما حاولـت السـلفية الحركيـة البحـث عـن الطريـق‬
‫الثالـث بين هذيـن الخياريـن!‬
‫لكـ ّن السـؤال املطـروح على صعيد الجواب السـلفي نفسـه؛ ملـاذا تراجعت‬
‫وتالشـت الرؤيـة السـلفية اإلصالحيـة املنفتحـة‪ ،‬التي بـرزت مع بدايـات القرن‬
‫العرشيـن‪ ،‬وهـي األكثر تفاعلاً وانفتاحـاً مـع أسـئلة الحداثـة واملشـكالت‬
‫االجتامعيـة والسياسـية والثقافيـة املعـارصة‪ ،‬كما تبـ ّدى مـع رشـيد رضـا‪،‬‬
‫والسـلفية املغاربيـة الوطنيـة والسـلفية الشـامية يف مقابـل الصيغـة الراهنـة‬
‫مـن السـلفية املعـارصة‪ ،‬التـي تقـ ّدم رؤية أقـل انفتاحـاً وتفاعالً مع املشـكالت‬
‫الواقعيـة الحاليـة؟‬
‫مث ّـة تفسيرات عـ ّدة لهـذا السـؤال‪ ،‬تتضافـر معـاً ملحاولـة تقريـب اإلجابـة؛‬
‫يقـع يف مقدمـة هـذه التفسيرات «العامل السـعودي»‪ ،‬إذ حرصـت الحكومات‬
‫السـعودية خلال العقـود املاضيـة على نشر السـلفية‪ ،‬التـي تزاوجـت مـع‬
‫نظـام الحكـم هنـاك‪ ،‬يف مواجهـة األفـكار القوميـة واليسـارية‪ ،‬التـي سـادت‬
‫خلال عقـدي الخمسـينات والسـتينات‪ ،‬ودفعـت هـذه الدولـة مـن أجـل ذلك‬
‫أمـوالً وبذلـت جهـودا ً كبيرة‪ ،‬سـواء عبر الدعـم املـايل أو من خالل املؤسسـات‬
‫الدعويـة والتعليميـة (يف السـعودية والخـارج) التي اسـتقطبت عرشات اآلالف‬
‫مـن العاملين والدارسين‪ ،‬أو يف نشر الكتـب واألدبيـات السـلفية‪.‬‬
‫«السـلفية السـعودية» تلبّسـت بالظـروف املحليـة السـعودية‪ ،‬وبطبيعـة‬
‫الدولـة واملجتمـع هنـاك‪ ،‬وتغلّـب عليهـا البعـد اإلحيـايئ‪ ،‬بـدالً مـن اإلصالحي‪،‬‬
‫وأخـذت الطابـع التقليـدي‪ ،‬قبـل أن تتحـ ّول مجموعـات سـلفية نحـو املنحـى‬
‫الجهـادي (مـع التـزاوج مـع التيـار الجهـادي)‪ ،‬وأخـرى نحـو املنحـى الحـريك‬
‫(بتأثير الفكـر اإلخـواين)‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫نظـرا ً للقـرب الجغـرايف؛ فـإ ّن األردن تأث ّـر بالعامـل السـعودي‪ ،‬والخليجـي‬
‫بصـورة عامـة‪ ،‬مـع حركة العمـل والتعليم والدراسـة باتجـاه الخليـج‪ ،‬وانخراط‬
‫مئـات اآلالف بهـذه الحركـة‪ ،‬وحركة النشـاط السـلفي اإلقليمية‪ ،‬واتسـاع مدى‬
‫الحـج والعمـرة‪ ،‬ثم عـودة العاملني يف الخليـج‪ ،‬مع بداية التسـعينيات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫رحلات‬
‫مـا سـاعد على انبثاق وصعـود االتجاهـات السـلفية يف األردن خلال العقدين‬
‫األخرييـن بصـورة ملحوظـة وواضحة‪.‬‬
‫العامـل الثـاين الـذي سـاهم يف التحـول نحـو االنتقـال إىل الصيغة السـلفية‬
‫الراهنـة‪ ،‬هـي اللحظـة التاريخيـة؛ إذ واجهت السـلفية اإلصالحية األوىل أسـئلة‬
‫مختلفـة وظروفـاً سياسـية مغايرة‪ ،‬فـكان سـؤال النهضة واإلصلاح والتقدم هو‬
‫الطاغـي على النقاشـات والسـجاالت املجتمعـات والنخـب العربيـة؛ لكـن مـع‬
‫بـروز الدولـة اإلقليميـة وتشـكّل األنظمـة السياسـية الجديـدة‪ ،‬بعـد الحـرب‬
‫العامليـة الثانيـة‪ ،‬والصراع الـدويل والحـرب البـاردة‪ ،‬واملعضلات الداخليـة‪،‬‬
‫كل ذلـك أعـاد صـوغ األسـئلة لتذهـب نحـو منحـى الهوية‬ ‫والهزائـم املتكـررة؛ ّ‬
‫والصراع السـيايس بني التيـارات األيديولوجية ليتـوارى سـؤال النهضة واإلصالح‬
‫وراء السـؤال اإلحيـايئ‪ -‬الهويّـايت يف أغلـب املجتمعـات العربيـة‪.‬‬
‫العامـل الثالـث؛ الـذي يرتبـط بالعامـل الثـاين‪ ،‬يتمثّـل بالظـروف العامـة‪،‬‬
‫املبسـط على‬‫التـي تدفـع إىل منـط مـن الجـواب االحتجاجـي والـر ّد الثقـايف ّ‬
‫التحديـات والتهديـدات واملشـكالت واملعضلات التـي تواجـه املجتمعـات‬
‫العربيـة؛ فاملدرسـة اإلصالحيـة ال تحمـل إجابات بسـيطة فورية حاسـمة‪ ،‬بقدر‬
‫مـا تقـوم بعملية نقديـة للذات‪ ،‬بينام املدرسـة اإلحيائية‪ -‬السـلفية تقدم جواباً‬
‫محسـوماً‪ ،‬بسـيطاً للشـارع‪ ،‬فث ّمـة فرق بني أن تقول بأ ّن السـبب هـو البعد عن‬
‫اللـه وعـن اإلسلام الصحيـح‪ ،‬والحل بالعودة إليه‪ ،‬سـواء كان عبر تعظيم مهمة‬
‫العلـم الرشعـي النقلي أو الجهـاد يف مواجهة الهزمية العسـكرية‪ ،‬وبني أن تقول‬
‫بـأ ّن لدينـا مشـكالت ثقافيـة ومجتمعيـة‪ ،‬حتـى يف املـوروث الفقهـي والديني‪،‬‬
‫وعلينـا القيـام بعمليـة تنويـر وإصلاح دينـي داخليـة مسـتمرة لنط ّور أنفسـنا‬
‫لنتمكّـن مـن الوقـوف على أقدامنا وننافـس العـامل باملعرفـة والتقنية!‬

‫‪249‬‬
‫***‬
‫هـذه الخلفيـة التاريخيـة مبثابـة رشط رضوري لفهـم الحالـة السـلفية‪،‬‬
‫بصـورة عامـة‪ ،‬والحالـة األردنيـة منهـا بصـورة خاصـة‪ ،‬ففـي نهايـة اليـوم متثّل‬
‫السـلفية جوابـاً لسـؤال البحـث عـن الهويـة والـذات لألجيـال العربيـة يف ظـل‬
‫ظـروف طارئـة‪ ،‬لكـن هـذه الحالة ليسـت آنيـة أو مؤقتـة‪ ،‬فهي ما تـزال فاعلة‬
‫ومؤث ّـرة‪ ،‬بـل رمبـا متتـد ظاللها عرب عقـود من الزمـن‪ ،‬وتأخذ مدى واسـعاً‪ ،‬وهو‬
‫مـا الحظنـاه بوضـوح يف حالـة حسـن أبـو هنية‪ ،‬الـذي ُولد وعيه السـيايس عىل‬
‫النكسـة واللجـوء والهزميـة‪ ،‬أو نـارت خري‪ ،‬الـذي ُولد وعيه السـيايس عىل حرب‬
‫الخليـج ‪ ،1991‬والشـعور بالخديعـة مـن قبل خطـاب اإلخوان املسـلمني‪ ،‬الذي‬
‫أوهمـه بالنصر‪ ،‬فأخـذ يبحـث يف داخـل هـذا الخطـاب نفسـه عـن الطريـق‬
‫الصحيـح‪ ،‬وعـن مصـدر تلـك الخديعـة والخلـل الكامـن يف الخطاب نفسـه!‬
‫هـذه الخلفيـة تحيلنـا‪ ،‬مـ ّرة أخرى‪ ،‬إىل سيسـيولوجيا الهوية‪ ،‬وإىل رؤية كلود‬
‫دوبـار يف قراءتـه ملاكـس فيبر‪ ،‬إذ يرى بأ ّن أزمـة الهوية وما يرافقهـا من اكتئاب‬
‫وانهيـارات عصبيـة وحنين إىل املـايض‪ ،‬و«انطـواء على الذات» ليسـت مرتبطة‬
‫بجـذور نفسـية محضـة تعـود للطفولة املبكّرة أو تاريخ الشـخص فحسـب‪ ،‬بل‬
‫لهـا أيضـاً «إطـار اجتامعـي» وأسـباب موضوعيـة يف التاريـخ الحديـث‪ ،‬متمثّلة‬
‫بخسـارات ماديـة واضطرابـات يف العالقات وبتغيير يف الذاتية‪.103‬‬
‫على هـذا األسـاس مـن التفسير؛ فإ ّن السـلفية مبثابة ر ّد فعـل عىل «مرحلة‬
‫صعبـة» متـر بهـا مجتمعـات أو أفـراد معينـون‪ ،‬ومتثّـل يف املحصلـة «تص ّدعاً يف‬
‫التـوازن بين مكونـات متباينـة»‪ ،‬أيّاً كانت هذه الظروف؛ سـواء كانت سياسـية‬
‫أم اقتصادية أم نفسـية أم مجتمعية أم عسـكرية‪..‬الخ‪.104‬‬

‫(‪ )103‬انظر‪ :‬كلود ديبارت‪ ،‬أزمة الهويات‪ :‬تفسري تحول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.87-67‬‬
‫(‪ )104‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.87-67‬‬

‫‪250‬‬
‫ال يعنـي ذلـك‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬الحكـم على السـلفية – إجماالً‪ -‬بأنّهـا ر ّد فعـل‬
‫سـلبي أو تفاعـل خاطـئ مـع الظـروف والتحديـات واملخاطـر التـي تواجـه‬
‫املجتمعـات واألفـراد يف العـامل العـريب؛ إذ نحـن نتحـدث عـن أجوبـة سـلفية‬
‫متعـددة‪ ،‬وصيـغ مختلفـة مـن التفاعـل‪ ،‬ودرجـات متفاوتـة‪ ،‬وعمليـة تحول يف‬
‫صمء‬
‫داخـل التيـارات نفسـها‪ ،‬فليسـت الجامعـات واملجموعـات واألفراد كتلاً ّ‬
‫جامـدة متشـابهة متامـاً يف حالتهـا وسماتها‪ ،‬إنّ ـا مـا نريـد ّ‬
‫التوصـل إليـه مـن‬
‫خلال هـذا املنظـور السيسـيولوجي أال نفصل بني السـلفية والشروط الواقعية‬
‫املحيطـة بهـا‪ ،‬صعـودا ً وهبوطـاً‪ ،‬وال بينهـا وبين األزمـة التاريخيـة الراهنة التي‬
‫منـت بهـا‪ ،‬ونكتفي بدراسـة الخطـاب األيديولوجي مج ّردا ً من هذه االلتباسـات‬
‫التـي متثّـل مفتاحـاً مهماً يف إدراك وفهـم طبيعـة الحالـة السـلفية‪ ،‬بوصفهـا‬
‫طريقـاً يف البحـث عن الـذات والهوية وسـط مناخ متخم باألزمـات والتحديات‬
‫واألسـئلة التـي تواجـه األفـراد واملجتمعـات العربيـة اليوم!‬

‫‪251‬‬
‫‪-3-‬‬
‫بين الماضي والحاضر والمستقبل‬

‫الحمولـة الدالليـة لكلمـة السـلفية تـؤرش‪ ،‬بحد ذاتها‪ ،‬إىل املايض واسـتلهامه‬
‫وتحكيمـه يف الواقـع املعـارص‪ ،‬ورمبـا يف املسـتقبل‪ ،‬فالسـلف هـم الرسـول‬
‫والصحابـة والتابعـون‪ ،‬والعصور اإلسلامية األوىل الذهبيـة‪ ،‬والدين الصحيح هو‬
‫مـا كانـوا عليـه‪ ،‬واملهمـة اإلصالحيـة تتمثّـل بدرجـة رئيسـة يف إزالـة مـا علـق‬
‫بهـذا «الفهـم» لدى املسـلمني من تصـ ّورات مغلوطة ومشـ ّوهة‪ ،‬وعلوم حرفت‬
‫اإلسلام عـن غاياتـه ومقاصـده الصحيحـة‪ ،‬ويجـد السـلفي امتداده‪ ،‬كما ذكرنا‬
‫يف الفصـل النظـري األول‪ ،‬يف أهـل الحديـث‪ ،‬الذيـن قامـوا باملهمـة التاريخيـة‬
‫بحاميـة العقيـدة الصحيحـة مـن األفـكار الخاطئـة والعقائـد الوافـدة‪ ،‬التـي‬
‫تأث ّـرت بالفلسـفات اإلغريقيـة الوافـدة‪.‬‬
‫اليـوم‪ ،‬يسـتأنف السـلفي معركـة «الهويـة الدينيـة» الصحيحة‪ ،‬عبر التأكيد‬
‫على «كمال اإلسلام» وبتصحيـح املفاهيـم املغلوطـة ومواجهـة «تيـارات‬
‫االنحـراف» سـواء مـا كان منهـا موروثـاً مـن العصـور اإلسلامية املتأخـرة‪ ،‬مثـل‬
‫الفـرق اإلسلامية املوسـومة بالضالّـة‪ ،‬أو حتـى األفـكار املعـارصة الوافـدة‪ ،‬مثل‬
‫العلامنيـة والشـيوعية والدميقراطيـة املوسـومة بالكافـرة‪.‬‬
‫مـن أجـل ذلـك‪ ،‬فـإ ّن أحد املصطلحـات الرئيسـة يف اللغة السـلفية املتداولة‬
‫هـو مصطلـح «البدعـة»‪ ،‬ويشير إىل مـا تـ ّم «إحداثـه مـن الديـن‪ ،‬وهـو ليـس‬
‫السـ ّني‪،‬‬
‫منـه»‪ ،‬وهـو مـا جاءت به الفـرق اإلسلامية األخرى‪ ،‬من خـارج املجال ُ‬
‫مثـل املعتزلـة والخـوارج والشـيعة والفالسـفة‪ ،‬أو مـن داخلـه‪ ،‬مثـل الصوفيـة‬
‫ولعـل أوجـز مـا يختـزل هـذا املفهـوم‬ ‫وعلماء الـكالم واألشـاعرة واملاتريديـة‪ّ ،‬‬
‫البنيـوي يف الرؤيـة السـلفية العبـارة املعروفـة «االتبـاع ال االبتـداع»‪.‬‬
‫السلاح الفتّـاك‪ ،‬الـذي يسـتخدمه السـلفيون‪ ،‬لتحقيـق هـذه املهمـة‪ ،‬رفـض‬

‫‪252‬‬
‫البـدع واملحدثـات يف الديـن‪ ،‬يتمثّـل يف االهتمام الكبير الـذي تأخـذه قضيـة‬
‫التمييـز بين الصحيـح والضعيـف واملوضوع من كتب السـنة النبويـة املعروفة‪،‬‬
‫والرتكيـز على موضوعـة الجـرح والتعديـل يف سلسـلة رواة األحاديـث‪ ،‬وهو ما‬
‫حـاز على االهتمام األكبر لـدى شـيوخ السـلفية التقليدية‪.‬‬
‫تأخـذ العقيـدة‪ ،‬بدورهـا‪ ،‬املوقـع األسـايس والرئيس يف بناء الهوية السـلفية‪،‬‬
‫فالتمييـز‪ ،‬بالدرجـة األوىل بين مـن هـو سـلفي وليـس سـلفياً‪ ،‬لـدى التيـار‬
‫التقليـدي يتعلـق باإللهيـات النظرية‪ ،‬ويتمثّل يف السـؤال الجوهـري‪ :‬أين الله؟‪،‬‬
‫فـإذا كان الجـواب‪ :‬اللـه يف السماء‪ ،‬فـإ ّن املجيـب يكـون قـد نجـح يف اجتيـاز‬
‫أحـد أهـم األسـئلة يف امتحـان الهويـة األسـاس‪ ،‬ثم تتـواىل األسـئلة األخرى‪ :‬هل‬
‫القـرآن كالم اللـه أم مخلـوق؟ هـل تثبـت للـه يديـن وسـمعاً وبصرا ً أم تـؤول‬
‫هـذه الصفـات‪ ،‬كما تفعل األشـاعرة؟‬
‫تشـكل اإلجابـات السـابقة «املنظومـة العقائديـة» الرئيسـة لـدى السـلفية‬
‫عمومـاً؛ لكـن االختلاف يقـع بين السـلفيني عندمـا يقرتبـون‪ ،‬بدرجـة رئيسـة‬
‫مـن القضايـا العقائديـة ذات األبعـاد والدالالت السياسـية‪ ،‬املتعلقـة بااللهيات‬
‫العملية‪ ،‬فالسـلفي التقليدي يضيف إىل الجوانب العقائدية عدم جواز الخروج‬
‫على الحاكـم املسـلم‪ ،‬بينما الجهاديـون يـرون أ ّن أغلـب الحـكام والحكومـات‬
‫طيف مـن الحركيني يـرى ذلك‪،‬‬ ‫املعـارصة تقـع يف دائـرة الكفـر والضلال‪ ،‬بينما ٌ‬
‫وطيـف آخـر منهـم يـرى جـواز الخـروج على الحاكـم الظـامل الفاجـر‪ ،‬أو الذي‬‫ٌ‬
‫ال ميتلـك الرشعيـة السياسـية‪ ،‬مـع اشتراط القـدرة واإلمكانيـة الواقعيـة‪ ،‬ومـع‬
‫ترجيـح كفّـة املصالـح عىل املفاسـد‪ ،‬بأالّ يـؤدي الخروج عىل الحاكـم‪ -‬أو بعبارة‬
‫معـارصة‪ :‬الثـورة‪ ،‬إىل مفاسـد ودمـاء وفـوىض‪ ،‬وهـو مـا يصطلـح السـلفيون‪،‬‬
‫تاريخيـاً‪ ،‬على تسـميته بـ«الفتنـة»‪ ،‬وترجمتـه العبـارة املشـهورة «حاكـ ٌم ظلوم‬
‫خي ٌر مـن فتنـ ٍة تـدوم»!‪ ،‬وهذه األسـئلة هي األسـاس يف تحديد الهويـة الفرعية‬
‫التـي متيـز السـلفية التقليديـة عـن الحركيـة عـن الجهادية‪.105‬‬

‫(‪ )105‬ميكـن العـودة إىل تفاصيـل هـذه الخالفـات يف الفصـل النظـري األول مـن‬
‫الدراسـة‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫تـزداد الخالفات وتتع ّمق يف األوسـاط السـلفية عندمـا يتم تعريف املقصود‬
‫أي معارضـة‪ ،‬حتـى لو‬ ‫مبصطلـح الخـروج على الحاكـم؛ فالتقليديـون يعتبرون ّ‬
‫كانـت سـلمية‪ ،‬وأي عمليـة تنظيـم حزبيـة‪ ،‬مبثابـة مقدمـات أوليـة للخـروج‬
‫املسـلّح والفتنـة‪ ،‬ويصفـون مـن يدعـو إىل املعارضـة السـلمية بـ«الخـوارج‬
‫القعـدة»‪ ،‬أي ال يخرجونهـم مـن دائـرة «السـلفية»‪ ،‬بـل مـن املجـال السـ ّني‬
‫بـأرسه‪ ،‬فهـم كالخـوارج‪ ،‬يكفّرون باملعـايص‪ ،‬ويخرجون عىل طاعـة «و ّيل األمر»‪.‬‬
‫يف مقابـل تهمـة «الخـوارج» يلقـي الجهاديـون يف وجـه التقليديين تهمـة‬
‫«اإلرجـاء»؛ أي الفصـل بين اإلميـان والعمل‪ ،‬بعدم تكفري الحاكـم الذي ال يحكّم‬
‫رشع اللـه؛ فعلى النقيـض مـن التقليديين يـرى الجهاديـون بأ ّن مسـألة الحكم‬
‫تدخـل يف صميـم العقيـدة واإلميـان‪ ،‬لكـن على قاعـدة معاكسـة متامـاً‪ ،‬تتمثل‬
‫بالقـول بـأ ّن الحاكـم الـذي ال يطبـق الرشيعـة هـو حاكـم كافـر‪ ،‬وبـأ ّن القبـول‬
‫بالقوانين الوضعيـة الراهنـة وتطبيقهـا هـو خـروج على الديـن‪ ،‬أل ّن الحـق يف‬
‫الترشيـع هـو للـه‪ ،‬وهـو مـن مقتضيـات التوحيد الرئيسـة‪.‬‬
‫يف املقابـل؛ تبـدو مسـألة العقيـدة والتنظير السـيايس‪ ،‬لـدى الحركيين أكثر‬
‫تعقيـدا ً‪ ،‬وليسـت موضـع اتفـاق كامـل يف أوسـاطهم‪ ،‬لك ّنهـم يقفـزون‪ ،‬عموماً‪،‬‬
‫عـن االنشـغال يف الخلاف يف تعريـف املوقـف مـن الحكومـات العربيـة‬
‫املعـارصة‪ ،‬وهـل هـي مسـلمة أم كافـرة أم ضالـة‪ ،‬إىل االتفاق على عدم إهامل‬
‫أو تجاهـل العمـل العـام‪ ،‬وخصوصـا العمـل السـيايس‪ ،‬ويبـدون أكثر انفتاحـاً‬
‫تجـاه اإلسلاميني اآلخريـن‪ ،‬ويتقبلـون الخلاف واالختلاف يف هذه املسـألة‪ ،‬وال‬
‫يقفـون عنـده بصـورة حـا ّدة‪ ،‬كما يفعـل أشـقاؤهم التقليديـون والجهاديـون!‬
‫يدخـل يف صميـم املنظومـة العقائديـة السـلفية‪ ،‬يف أبعادهـا السياسـية‬
‫واالجتامعيـة‪ ،‬مفهـوم الـوالء والبراء؛ واملقصـود الـداليل لـه هـو رضورة مـواالة‬
‫الديـن والرسـول واملؤمنين والتبرؤ مما يخالـف ذلـك ومعـاداة أعداء اإلسلام‪،‬‬
‫لكـن السـلفيني يختلفـون يف تطبيـق ودالالت هـذا املفهـوم على أرض الواقـع‬
‫اليوم!‬

‫‪254‬‬
‫التقليديـون يضيفـون إىل الـوالء والبراء الـدالالت املرتبطـة بتعريفهـم هـم‬
‫لــلمفاهيم الصحيحـة والعقائـد السـليمة؛ فالبراء يكـون‪ ،‬كذلـك‪ ،‬مـن العقائد‬
‫الضالـة والفـرق املنحرفـة‪ ،‬ويدخـل يف هـذا التعريـف ليـس فقـط الفـرق‬
‫اإلسلامية‪ ،‬بـل حتـى االتجاهـات السـلفية التـي تتبنـى مـا يعتربونـه «عقائـد‬
‫الخـوارج»‪ ،‬بينما الجهاديـون يدخلـون يف دائـرة البراء األنظمـة العربيـة‬
‫املعـارصة والدسـاتري والقوانين وعلماء السـوء والفـرق املنحرفـة عـن طريقهم‬
‫املتمثّـل بالحاكميـة واعتماد الجهـاد بوصفـه املسـار الوحيـد السـتعادة الحكم‬
‫اإلسلامي واعتبارهـم مـن «فـرق املرجئة»‪ ،‬أ ّمـا الحركيـون فيمنحون قـدرا ً أكرب‬
‫مـن املرونـة يف التعامـل مـع مفهـوم الـوالء والبراء‪.‬‬
‫تكمـن أهميـة اسـتدعاء تلـك الخالفـات السـلفية‪ -‬السـلفية يف عمليـة‬
‫ترسـيم حـدود «أنـا السـلفية» و«اآلخـر» ويف توضيـح طبيعـة العالقـة معـه؛‬
‫ومـن الضروري أن نتذكّـر‪ ،‬هنـا‪ ،‬مـا تحدثنـا بـه يف الفصـل النظري عـن مفهوم‬
‫«الفرقـة الناجيـة»‪ ،‬فهـو مفهـوم محـوري ومفتاحـي يف بحثنـا هـذا عـن الهوية‬
‫السـلفية؛ إذ أنّـه أحـد املك ّونـات الرئيسـة للهويـة السـلفية‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬وموضـع‬
‫اختلاف يف األوسـاط السـلفية‪ ،‬يف تحديـد مـن هـي الفرقـة الناجيـة التـي تقع‬
‫تعب عـن جوهر‬ ‫وسـط مـا يزيـد عىل سـبعني فرقـة إسلامية أخرى ضالـة‪ ،‬فهي ّ‬
‫«األنـا» السـلفية‪ ،‬التـي تتمثـل يف حاميـة الدين ومتثّلـه يف مواجهـة االنحرافات‬
‫والضلاالت والتهديـد والتحـ ّدي‪ ،‬سـواء كان مصـدر هـذه «الشرور» خارجياً ام‬
‫داخليّاً!‬
‫لكـن كيـف ن َُتجِـم ذلـك يف املشـهد السـلفي األردين؟‪ ..‬دعونـا نبـدأ برتسـيم‬
‫األنـا السـلفية التقليديـة وتعريفهـا لآلخـر الداخلي والعالقـة معـه؛ فالسـلفي‬
‫التقليـدي يـرى بأنّـه الوريـث الرشعـي ألهـل السـنة والجامعـة‪ ،‬الـذي يحمـل‬
‫الفهـم الصحيـح لإلسلام‪ ،‬ومـا عدا ذلـك فهي انحرافـات وضلاالت‪ ،‬أو بتعريف‬
‫أبنـاء مقاربـة سيسـيولوجيا الهويـة‪ :‬مـا عـدا ذلـك فهـو اآلخر‪.‬‬
‫مـن هـو «اآلخـر» لـدى السـلفي التقليـدي؟ هـو تاريخيـاً الفـرق اإلسلامية‬
‫الضالـة؛ ويدخـل يف هـذا التعريـف‪ :‬الخـوارج والشـيعة واملعتزلـة‪ ،‬ويف داخـل‬

‫‪255‬‬
‫وكل مـن قـال قـوالً يف‬
‫السـنة يدخـل األشـاعرة واملاتريديـة وعلماء الـكالم‪ّ ،‬‬
‫العقائـد والشـعائر والرشائـع مبـا يخالـف الرؤيـة السـلفية‪.‬‬
‫وتتوسـع لـكل مـن هو ليس‬‫ّ‬ ‫أ ّمـا يف الواقـع املعـارص؛ فمسـاحة اآلخـر تتمـ ّدد‬
‫سـلفياً تقليديـاً‪ ،‬حتـى لـو كان ي ّدعـي االنتسـاب إىل السـلفية‪ ،‬ويتسـ ّمى بهـا‪،‬‬
‫فاآلخـر‪ ،‬باإلضافـة إىل تلـك الفـرق التاريخيـة‪ ،‬هـو الفـرق واملذاهـب املعارصة‪،‬‬
‫سـواء كانـت داخليـة أم خارجيـة‪ ،‬اإلخـوان املسـلمني والتحريـر والجهاديين‬
‫والحركيين والدميقراطيـة والعلامنيـة والشـيوعية والقوميـة واليسـارية‪ ..‬الـخ‪.‬‬
‫ال يختلـف األمـر‪ ،‬يف ترسـيم األنا واآلخر‪ ،‬لدى الجهاديين‪ ،‬فهم الفرقة الناجية‪،‬‬
‫التـي تحافـظ على الديـن‪ ،‬لكـن يدخـل يف صميم هـذه الهوية مفهـوم الجهاد‪،‬‬
‫بوصفـه «ذروة سـنام اإلسلام» أو الفريضـة الغائبـة‪ ،‬عىل حد تعريـف القيادي‬
‫الجهـادي املصري السـابق‪ ،‬محمد عبد السلام فرج‪.‬‬
‫الفـرق جوهـري بني التقليدي والجهادي يف ترسـيم «األنـا»‪ ،‬أل ّن ما عداها هو‬
‫«اآلخـر»‪ ،‬فالجهاديـون يـرون األنـا يف أبنـاء التيار الجهـادي‪ ،‬ويصوغـون ترتيب‬
‫الهويـة الجهاديـة على قاعـدة أولويـات مختلفـة‪ ،‬ذات طابـع سـيايس؛ فالعدو‬
‫املرتبـص هـو «العـدو القريـب» (الحكومـات العربيـة)‪ ،‬و«العـدو البعيـد»‬
‫(الواليـات املتحـدة األمريكيـة)‪ ،‬ويضعـون أ ّوليـات الصراع واملعركـة واملواجهـة‬
‫معـه‪ ،‬بينما يكتفـي التقليديون باملعركـة الفكريـة واملهمة العلميـة والدعوية‪.‬‬
‫أ ّمـا الحركيـون فهم مختلفون‪ ،‬فيام بينهم‪ ،‬يف ترسـيم حدود «األنا» و«اآلخر»؛‬
‫لكـن االتجـاه العـام يبـدو أكثر انفتاحـاً وأقـل تشـ ّددا ً يف مفهـوم «الفرقـة‬
‫الناجيـة»‪ ،‬سـواء يف الوسـط السـلفي العـام‪ ،‬أو حتـى يف التعامـل مـع «املجـال‬
‫السـ ّني»‪ ،‬وإن كانـوا أقـل تسـامحاً مـع الفـرق اإلسلامية األخـرى‪ ،‬ويقعـون‬
‫يف دائـرة االرتبـاك والتحفّـظ‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬تجـاه املذاهـب املعـارصة‪ ،‬وتحديـدا ً يف‬
‫املوقـف مـن الدميقراطيـة‪.‬‬
‫***‬

‫‪256‬‬
‫األفـكار والقناعـات السـابقة مبثابـة «عقائـد» وتصورات ميتلكها السـلفيون‪،‬‬
‫وتحديدهـم لهويّتهـم هـي مسـألة خاصـة بهـم‪ ،‬كما هـي خاصة بـكل جامعة‬
‫ومجتمـع يبحـث عـن هويّتـه‪ ،‬لكـ ّن اإلطاللة عليهـا واسـتحضارها يعنينـا‪ ،‬هنا‪،‬‬
‫يف نطـاق البحـث يف الهوية السـلفية‪ ،‬السـتنطاق نتائجها وداللتهـا وتأثريها عىل‬
‫عالقـة الهويـة السـلفية باملجتمـع والسياسـة؛ كيـف تو ّجـه السـلفي ملواجهـة‬
‫التحديـات واملشـكالت والتحديـات واألفـكار والتوجهـات األخرى؟‪..‬‬
‫تأسيسـاً على مـا سـبق؛ ميكـن صـوغ األسـئلة األخيرة يف هـذا البحـث؛ فيام‬
‫إذا كانـت الهويـة السـلفية مدعـاة لالنغلاق والتعصـب والتقوقـع على الذات‬
‫وإقصـاء اآلخـر أم على النقيـض مـن ذلـك لالنفتـاح والتسـامح والتفاعـل مـع‬
‫اآلخريـن على قاعـدة املصالـح املشتركة والعامة؟‬
‫ات أخـرى؛ هـل يبحث السـلفي يف ترسـيمه لهويّته عن «املشتركات»‬ ‫بعبـار ٍ‬
‫واملسـاحات الواسـعة مـن العالقـة بالعـامل املحيـط بـه أم العكـس يبحـث عـن‬
‫نقـاط االختلاف والتقاطـع والرصاع؟‬
‫إذا اعتمدنـا على مـا ق ّدمنـاه سـابقاً‪ ،‬وتج ّنبنـا التكرار وتعريف املعـ ّرف‪ ،‬فإ ّن‬
‫النتيجـة التـي ميكـن أن نخلص إليهـا باطمئنان هي‪:‬‬
‫أ ّن الهويـة السـلفية‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬هـي «هويـة دفاعيـة» تتأسـس على منطق أو‬
‫آليـات «الدفـاع عـن الذات»‪ ،‬وهـي هوية متّجهة إىل الداخـل تبحث عن النقاء‬
‫والطهوريـة‪ ،‬مبعنـى أنّهـا هويـة «منقبضـة»‪« ،‬متقوقعـة»‪ ،‬وإن اختلفـت درجة‬
‫التقوقـع واالنقبـاض بين االتجاهـات السـلفية املختلفـة‪ ،‬فالحركيـون أقل شـأناً‬
‫يف ذلـك مـن غريهـم‪ ،‬ورمبا ينطبـق عليهم‪ ،‬أكرث‪ ،‬مصطلـح «الهويـة املتحفّظة»‪.‬‬
‫أ ّن الهويـة السـلفية هـي هويـة غير متسـامحة‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬تجـاه اآلخـر؛ فهـي‬
‫ر‪ ،‬الصـح والخطـأ‪ ،‬على مفهوم‬ ‫تقـوم على ثنائيـة الحـق والباطـل‪ ،‬الخير والش ّ‬
‫«الفرقـة الناجيـة»؛ وتقترب مـن حكـم اإلطلاق ال املسـطرة النسـبية يف قيـاس‬
‫العالقـة مـع «اآلخـر‪ ،‬وهـي وفقاً‪ ،‬لتعريـف أمارتيا صـن‪ ،‬ال تقوم على االعرتاف‬

‫‪257‬‬
‫العـام‪ ،‬بـل على اإلقصـاء‪ ،106‬وال تنظـر لآلخـر مـن بـاب التنـوع والتعدديـة‪ ،‬بل‬
‫مـن منظـور االختلاف‪ ،‬ليس عىل قاعـدة التعاون والتفاعل‪ ،‬بـل القلق والخوف‬
‫والخصومـة‪ ،‬ويف أقـل تقديـر التحفّظ‪.‬‬
‫أ ّن اتجـاه الهويـة السـلفية هـو نحـو االختـزال والتسـطيح واالنقسـام ال‬
‫يفسر «الواقع الذ ّري» يف الوسـط السـلفي‬
‫التوسـع واالجتماع‪ ،‬ورمبـا ذلـك مـا ّ‬
‫ّ‬
‫ويرسـمون عليها‬
‫األردين‪ ،‬فالسـلفيون يبحثـون عـن حـدود االختلاف والتبايـن‪ِّ ،‬‬
‫معـامل «األنـا» و»اآلخـر»‪.‬‬
‫***‬
‫ليس من الرضوري أن تنعكس السمات والطبائع السـابقة للهوية السـلفية‪،‬‬
‫بصـورة حـا ّدة وواضحـة‪ ،‬يف تفاعـل األفـراد والجامعات السـلفيني مـع املجتمع‪،‬‬
‫كما أنّهـا – كما ذكرنـا‪ -‬ال تأخـذ يف تداعياتهـا وتجلّياتها مقاسـاً واحـدا ً مو ّحدا ً‪،‬‬
‫إذ تتبايـن بحسـب االتجـاه واألفـراد‪ ،‬فهنالـك دو ٌر فاعـل يف التأثير على هـذه‬
‫التجليـات للعوامـل املوضوعيـة االجتامعيـة والسياسـية واالقتصاديـة‪ ،‬كما‬
‫سـنذكر الحقـاً‪ ،‬وهنالـك اختالفـات وتباينـات بين واقـع السـلفية والسـلفيني‬
‫بين املجتمعـات املختلفـة‪ ،‬وإن كانـت هنالـك مسـاحات مشتركة بين هـذه‬
‫االتجاهـات‪ ،‬إالّ أنّهـا تختلـف توسـعاً وانقباضـاً بين حالـة وأخـرى‪.‬‬
‫إالّ أنّنـا إذا اقترصنـا الحديـث هنـا على املشـهد السـلفي األردين‪ ،‬ويف إطـار‬
‫الحديـث عـن بحث السـلفي عن هويته‪ ،‬فمن الواضح أنّها شـخصية مشـدودة‬
‫إىل املـايض‪ ،‬وإىل العصـور الجميلـة‪ ،‬مـن حيث املبـدأ‪ ،‬وهي شـخصية متقوقعة‬
‫على صعيـد مدى قبولهـا باآلخر الفكري والثقـايف واملجتمعـي‪ ،‬وتغلّب الجانب‬
‫العقائـدي يف عالقتهـا مـع املجتمـع والسياسـة‪ ،‬وإن كان الحركيون‪ ،‬مـ ّرة أخرى‪،‬‬
‫أكثر مرونـة مـن التقليديين والجهاديني يف هـذا املجال‪.‬‬
‫تقـع إشـكالية هوية السـلفيني مـع املجتمعات العربية اليـوم بأنّهم ينظرون‬
‫إىل املسـتقبل بعيـون املـايض‪ ،‬وليـس املقصـود هنـا بحـث السـلفي عـن جذور‬
‫(‪ )106‬انظر‪ :‬أمارتيا صن‪ ،‬الهوية والعنف‪ :‬وهم املصري الحتمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.53-17‬‬

‫‪258‬‬
‫هويتـه يف التراث أو يف العصـور األوىل املثاليـة‪ ،‬بالنسـبة إليـه‪ ،‬لكـن يف سـجن‬
‫الهويـة يف حـدود املـايض‪ ،‬ويف حـدود مـا أنتجـه وق ّدمـه على الصعيـد الدينـي‬
‫ودور الديـن يف املجالين الخـاص والعـام‪ ،‬وهنـا يبرز التضارب الصارخ والسـافر‬
‫بين مقتضيـات هـذه الهويـة والتحـوالت االجتامعيـة والسياسـية والثقافيـة‪،‬‬
‫أو بعبـار ٍة أخـرى الواقـع والعصر ومـا يضعـه مـن رشوط االندمـاج والتك ّيـف‬
‫والتطـ ّور حتـى على صعيـد إدراك دور الديـن ومهمتـه وقدرتـه على تقديـم‬
‫األجوبـة الواقعيـة املمكنـة يف مواجهـة هـذه التحديـات‪.‬‬
‫ر ّد فعـل السـلفي يف تعريفـه للهويـة الدينيـة ال يقـوم على محاولـة تطويـر‬
‫هـذه الهويـة لتكـون قـادرة ومؤهلـة ملواجهـة «الواقـع»‪ ،‬بـل هـو يف صميمـه‬
‫«إدانـة الواقـع»؛ وهنـا تبـدو معضلـة الهويـة السـلفية‪ ،‬عمومـاً‪ ،‬إذ هي تفرتض‬
‫– ابتـدا ًء‪ -‬الصراع والتضـارب‪ ،‬مـع إدراكهـا على أ ّن تغيير الواقـع والخروج من‬
‫اسـتحقاقات العصر مبثابـة مهمـة يف غايـة الصعوبـة‪ ،‬وتتطلـب أن نعيـد صوغ‬
‫وإنتـاج كل مـا حولنـا‪ ،‬ال العكـس مـن ذلـك أنفسـنا‪ ،‬وطاملـا أ ّن هـذه املهمـة‬
‫ليسـت يف متنـاول اليـ ّد‪ ،‬وبعيـدة التحقّـق‪ ،‬فـإ ّن خيـار السـلفي إ ّمـا أن يكـون‬
‫الوصـول إىل أكبر قـدر مـن التكيّف واالنفتـاح‪ ،‬ضمن هـذه الحـدود الهويّاتية‪،‬‬
‫وإ ّمـا االنغلاق على الـذات والجامعـة التـي ينتمـي إليهـا‪ ،‬أو القيـام مبغامـرة‬
‫جارفـة مبحاولـة تغيير هـذا الواقـع املحيـط بالقوة!‬
‫يف نهايـة اليـوم يقـع السـلفي يف حالـة مـن التشـتت واالنفصـام بين‬
‫«الهويـة املتخيلـة»‪ ،‬التـي ينتمـي إليهـا فكريـاً‪ ،‬ويحـاول عربهـا التحايـل على‬
‫«غربتـه االجتامعيـة» عبر العالقة مع جامعتـه أو املجموعة التـي ينتمي إليها‪،‬‬
‫نفسر ذلك‬‫ويحـ ّدد سـلوكه ومواقفـه على أسـاس هـذا التصـ ّور‪ ،‬كام ميكـن أن ّ‬
‫عبر املقاربـة التفاعليـة االجتامعيـة‪ ،107‬وبني الهويـة الواقعية التـي تضع الرؤية‬
‫السـلفية يف مواجهـة مـع املجتمـع والواقـع واسـتحقاقات العصر!‬

‫(‪ )107‬انظـر حـول مقـوالت املقاربـة التفاعليـة الرمزيـة‪ :‬أيـان كريـب‪ ،‬النظريـة االجتامعية‬
‫مـن بارسـونز إىل هابرمـاس‪ ،‬مرجـع سـابق‪ ،‬ص‪.147-129‬‬

‫‪259‬‬
‫خاتمة‬

‫يف خامتـة الخامتـة؛ مـن الضروري أن نعـود إىل إشـكالية األيديولوجيـا‬


‫والسيسـيولوجيا يف بحـث الهويـة السـلفية‪ ،‬فـإذا كانـت األيديولوجيا السـلفية‪،‬‬
‫كما رأينـا‪ ،‬تقودنـا إىل تلـك النتائـج حـول الهويـة السـلفية وطبائعهـا‪ ،‬فإنّنـا‬
‫حرصنـا‪ ،‬يف الخالصـات‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬على أهميـة الربـط بين الشروط املوضوعيـة‬
‫مهماً ومؤث ّـرا ً يف تشـكيل الهويـة السـلفية وتحوالتهـا بين عرص‬
‫بوصفهـا عاملاً ّ‬
‫وآخـر ومـكان وآخـر‪ ،‬ورضبنـا املثـال الواضـح على دور العامـل الواقعـي يف‬
‫توضيـح االختلاف بين الهويـة السـلفية اإلصالحيـة األوىل وتجل ّياتهـا ودورهـا‬
‫والهويـة اآلنيـة املرتبطـة بظـروف وأسـئلة ورشوط واقعيـة مختلفـة‪.‬‬
‫لـو عدنـا إىل الهويـة اإلصالحيـة فسـنجد أنّهـا مختلفـة يف سماتها جوهريـاً‬
‫عـن الراهنـة‪ ،‬دعونـا نقف فقـط عىل املوقف مـن املذاهب الفكريـة املعارصة‪،‬‬
‫مثـل الدميقراطيـة واألدب والفنـون والعمـل السـيايس‪ ،‬فسـنجد هويـة منفتحة‬
‫ومنبسـطة لإلفـادة مـن تلـك املذاهـب والتجـارب‪ ،‬كما هـي الحال يف مدرسـة‬
‫املنـار ورشـيد رضـا وابـن باديـس والسـلفية الشـامية األوىل‪ ،‬فهـو اختلاف‬
‫جوهري‪.‬‬
‫سـنجد أ ّن فقيهـاً ومفكّـرا ً‪ ،‬مثـل رشـيد رضـا‪ ،‬الـذي يعتبر األب الروحـي‬
‫للسـلفية اإلصالحيـة‪ ،‬وبالرغـم مـن أ ّن كثيرا ً مـن املؤرخين يعتربونـه نقطـة‬
‫التحـول يف مسـار الفكـر اإلسلامي واالرتـكاس عـن املدرسـة التي ق ّدمهـا اإلمام‬
‫محمـد عبـده؛ إالّ أنّـه يقـ ّدم تصـورا ً يقبـل بالتـزاوج بين الدميقراطيـة والنظـام‬
‫اإلسلامي ويتحـدث عـن رضورة اإلفـادة مـن التجربـة الغربيـة يف العمـل‬
‫االجتامعـي واملؤسسـايت‪ ،‬ويف تطويـر الحيـاة السياسـية والعامـة‪.108‬‬

‫(‪ )108‬انظـر‪ :‬محمـد أبـو رمـان‪ ،‬بين حاكميـة اللـه وسـلطة األمـة‪ :‬الفكـر السـيايس للشـيخ‬
‫محمـد رشـيد رضـا‪ ،‬وزارة الثقافـة‪ ،‬عمان‪ ،2010 ،‬ص‪.75-70‬‬

‫‪261‬‬
‫سـنجد رشـيد رضـا مرنـاً يف التعامل مـع التحديات الواقعيـة ورشوط العرص‪،‬‬
‫فيتحـدث عـن تغليـب العقـل عىل النقـل يف فهم النصـوص الرشعيـة‪ ،‬يف بعض‬
‫األحيـان‪ ،‬ويف القبـول بالبنـوك الربوية من باب الحاجـة العرصية‪ ،109‬ويف رضورة‬
‫فتـح بـاب االجتهـاد‪ ،‬والنقد الـذايت‪ ،‬وإلقاء اللـوم عىل الفقهـاء والعلامء يف عدم‬
‫قدرتهـم على تقديـم حلول وإجابات إسلامية عىل املشـكالت القامئـة‪ ،‬ما دفع‬
‫باألنظمـة والحكومات نحو القوانين الوضعية‪!110‬‬
‫ملـاذا نذهـب بعيـدا ً؟! لـو نظرنـا إىل موقـف التيـارات السـلفية املرصيـة من‬
‫ثـورة ‪ 25‬ينايـر ‪ 2011‬يف مصر‪ ،‬التـي أسـقطت حكـم الرئيس مبارك‪ ،‬سـنجد أ ّن‬
‫أغلـب هـذه التيارات أعـادت تعريف مواقفهـا األيديولوجية ورؤاها السياسـية‬
‫مبـا يتناسـب مـع التحـول يف الواقـع السـيايس‪ ،‬وعملـت على «التكيّـف» مـع‬
‫الواقـع الجديـد‪ ،‬مبـا فرضـه من تحديـات مختلفـة عن السـابقة‪.111‬‬
‫يف الخالصـة؛ فـإ ّن الواقـع ‪ -‬ورشوطـه ومتغرياتـه وإكراهاتـه‪ -‬يسـاهم بصورة‬
‫فاعلـة‪ ،‬غير مبـارشة‪ ،‬يف صناعـة الهويـة السـلفية‪ ،‬وتحديـد أبعادهـا وتجلياتها‪،‬‬
‫املفسرة لهـا هـو «األزمـة»‪ ،‬وتختلـف طبيعـة االسـتجابة‬
‫ّ‬ ‫فأحـد أهـم العوامـل‬
‫والتكيـف مـع اختلاف رشوط األزمـة وحيثياتهـا وانعكاسـاتها على املجتمعات‬
‫العربية واملسـلمة!‬

‫(‪ )109‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.189-186‬‬


‫(‪ )110‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.219-201‬‬
‫(‪ )111‬محمـد أبـو رمان‪ ،‬السـلفيون والربيـع العريب‪ :‬سـؤال الدين والدميقراطية يف السياسـة‬
‫العربيـة‪ ،‬مرجع سـابق‪ ،‬ص‪.127-113‬‬

‫‪262‬‬
‫اﻟﻤﺮاﺟﻊ‬

‫‪-۱‬‬

‫‪.۲۰۰۸ ،۳٥۲‬‬

‫‪-۲‬‬

‫‪.۲۰۱۰‬‬

‫‪-۳‬‬
‫‪.۱۹۸۸ ، ٤ ۳‬‬

‫ّ‬ ‫‪-٤‬‬

‫‪،۱‬‬
‫‪.۱۹۹۷‬‬

‫‪-٥‬‬
‫‪.۲۰۱۲ ،۱‬‬

‫‪-٦‬‬

‫‪۲٤٤‬‬
‫‪.۱۹۹۹‬‬

‫‪-۷‬‬
‫‪۲۰۱۱‬‬

‫‪-۸‬‬

‫‪.۲۰۱۱‬‬

‫‪-۹‬‬
‫‪.۲۰۱۰ ،۱‬‬

‫‪-۱۰‬‬

‫‪٢٦٣‬‬
‫الدراسات واإلعالم (الرياض)‪ ،‬ط‪.2004 ،1‬‬

‫‪1111‬داريوش شايغان‪ ،‬أوهام الهوية‪ ،‬ترجمة محمد علي مقلد‪ ،‬دار الساقي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪.1993 ،1‬‬

‫‪1212‬دور ابن تيمية في تطوير المنهج السلفي في‪ :‬عبد الغني عماد‪ ،‬الحركات‬
‫اإلسالمية في لبنان‪ ،‬إشكالية الدين والسياسة في مجتمع متنوع‪ ،‬دار‬
‫الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.2006 ،1‬‬

‫‪1313‬رضوان السيد‪ ،‬الصراع على اإلسالم‪ :‬األصولية واإلصالح والسياسات‬


‫الدولية‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.2004 ،1‬‬

‫‪1414‬سفر بن عبد الرحمن الحوالي‪ ،‬العلمانية‪ :‬نشأتها وتطورها وتأثيرها في‬


‫الحياة العامة‪ ،‬ط‪.1982 ،1‬‬

‫‪1515‬سفر بن عبد الرحمن الحوالي‪ ،‬ظاهرة اإلرجاء في الفكر اإلسالمي‪ ،‬دار‬


‫الكلمة للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪.1999 ،1‬‬

‫‪1616‬السلفية الجامية‪ :‬عقيدة الطاعة وتبديع المختلف‪ ،‬مركز المسبار للدراسات‬


‫والبحوث‪ ،‬دبي‪ ،‬ط‪.2012 ،1‬‬

‫‪1717‬صحيحي مسلم والبخاري‪.‬‬

‫‪1818‬صموائيل‪ -‬ب‪ -‬هنتكتون‪ ،‬من نحن‪ -‬التحديات التي تواجه الهوية األمريكية‪،‬‬
‫ترجمة حسام الدين خضور‪ ،‬دار الحصاد – دمشق‪ ،‬ط‪.2005 ،1‬‬

‫‪1919‬طه عبد الرحمن‪ ،‬العمل الديني وتجديد العقل ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪.1997 ،2‬‬

‫‪2020‬عبد الحكيم أبو اللوز‪ ،‬الحركات السلفية في المغرب‪ 1971( ،‬ـ ‪،)2004‬‬
‫بحث انثروبولوجي سوسيولوجي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪.2009 ، 1‬‬

‫‪2121‬عبد الرحمن عبد الخالق‪ ،‬السياسة الشرعية في الدعوة إلى اهلل‪ ،‬شركة بيت‬
‫المقدس للنشر والتوزيع‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪.2006 ،1‬‬

‫‪2222‬علي بن حسين بن علي بن عبد الحميد الحلبي اآلثري‪ ،‬هذه هي السلفية‪:‬‬


‫دعوة اإليمان واألمن واآلمان المنهجية العلمية التربوية‪ ،‬وكشف اآلثار‬
‫التدميرية لألفكار التكفيرية‪ ،‬منشورات منتديات «كل السلفيين»‪ ،‬عمان‪،‬‬
‫ط‪.2011 ،1‬‬

‫‪264‬‬
‫‪2323‬غني ناصر حسين القريشي‪ ،‬المداخل النظرية لعلم االجتماع‪ ،‬دار صفاء‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪.2011 ،1‬‬

‫‪2424‬فهمي جدعان‪ ،‬في الخالص النهائي‪ :‬مقال في وعود اإلسالميين والعلمانيين‬


‫والليبراليين‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪2007 ،1‬‬

‫‪2525‬كلود دوبار‪ ،‬أزمة الهويات‪ :‬تفسير تحول‪ ،‬ترجمة رندة بعث‪ ،‬المكتبة‬
‫الشرقية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.2008 ،1‬‬

‫‪2626‬محمد أبو رمان‪ ،‬اإلصالح السياسي في الفكر اإلسالمي‪ :‬المقاربات‪ ،‬القوى‪،‬‬


‫األولويات‪ ،‬االستراتيجيات‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2010‬‬

‫‪2727‬محمد أبو رمان‪ ،‬بين حاكمية اهلل وسلطة األمة‪ :‬الفكر السياسي للشيخ محمد‬
‫رشيد رضا‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬عمان‪ ،‬مشروع القراءة للجميع (مكتبة األسرة‬
‫األردنية)‪.2010،‬‬

‫‪2828‬محمد أبو رمان‪ ،‬حسن أبو هنية‪ ،‬الحل اإلسالمي في األردن‪ :‬اإلسالميون‬
‫والدولة ورهانات الديمقراطية واألمن‪ ،‬مركز الدراسات االستراتيجية في‬
‫الجامعة األردنية ومؤسسة فريدريش أيبرت‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪.2013 ،1‬‬

‫‪2929‬محمد عمارة‪ ،‬تيارات الفكر اإلسالمي‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1997 ،2‬‬

‫‪3030‬محمود الرفاعي‪ ،‬المشروع اإلصالحي في السعودية‪ :‬قصة الحوالي‬


‫والعودة‪ ،‬واشنطن‪ ،‬ط‪.1995 ،1‬‬

‫‪3131‬مقبل بن هادي الوادعي‪ ،‬هذه دعوتنا وعقيدتنا‪ ،‬دار اآلثار‪ ،‬صنعاء‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2002‬‬

‫‪3232‬هاني نسيره‪ ،‬المتحولون دينيا‪ :‬دراسة في ظاهرة تغيير الديانة والمذهب‪،‬‬


‫مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2009 ،1‬‬

‫‪265‬‬
‫المقابالت‪:‬‬

‫المهندس منتصر‪ ،‬عمان‪ 61 ،‬تشرين الثاني ‪3162‬‬ ‫‪-1‬‬

‫حسن أبو هنية‪ ،‬عمان‪ 61 ،‬و ‪ 61‬تشرين الثاني ‪3162‬‬ ‫‪-2‬‬

‫عمر البطوش‪ ،‬عمان‪ 1 ،‬كانون الثاني ‪3162‬‬ ‫‪-3‬‬

‫‪ -4‬عقــدت مقابلــة مــع مجموعــة مــن الســلفيين بتــارخ ‪ 66‬تشــرين األول‬


‫‪ 3162.......‬فــي منــزل شــخص تابــع للمجموعــة فــي حــي الطفايلــة الواقــع‬
‫‪.......‬فــي عمــان‪.‬‬

‫فتحي العلي‪ ،‬عمان‪ 2 ،‬كانون األول ‪3162‬‬ ‫‪-5‬‬

‫معاذ العوايشة‪ ،‬عمان‪ 2 ،‬كانون األول ‪3162‬‬ ‫‪-6‬‬

‫منيف سمارة‪ ،‬الزرقاء‪ 32 ،‬تشرين الثااني ‪3162‬‬ ‫‪-7‬‬

‫مؤيد الطيراوي‪ ،‬عمان‪ 66 ،‬تشرين الثاني ‪3162‬‬ ‫‪-8‬‬

‫نارت خير‪ ،‬عمان‪ 32 ،‬كانون األول ‪3162‬‬ ‫‪-9‬‬

‫‪ -10‬نعيم التالوي‪ ،‬عمان‪ 36 ،‬تشرين الثاني ‪3162‬‬


‫المواقع اإللكترونية‪:‬‬

‫منتدى التوحيد والجهاد‪:‬‬ ‫‪-1‬‬


‫‪http://www.alsunnah.info.r?i=j37307wg‬‬

‫الشيخ محمد أمان الجامي‪:‬‬ ‫‪-2‬‬


‫‪http://www.eljame.com/mktba/pageother.php?catsmktba=40‬‬

‫الشيخ ربيع بن هادي المدخلي‪:‬‬ ‫‪-3‬‬


‫‪http://www.rabee.net‬‬

‫حركة التوحيد واإلصالح‪:‬‬ ‫‪-4‬‬


‫‪http://www.alislah.ma‬‬

‫الشيخ مقبل بن هادي الوادعي‪:‬‬ ‫‪-5‬‬


‫‪http://www.muqbel.net‬‬

‫الموقع اإللكتروني للمجموعة السلفية‪:‬‬ ‫‪-6‬‬


‫‪http://www.salafi.net‬‬

‫الشيخ صفر الحوالي‪:‬‬ ‫‪-7‬‬


‫‪http://www.alhawali.com‬‬

‫جمعية الكتاب والسنة‪:‬‬ ‫‪-8‬‬


‫‪http://ktabsona.com‬‬

‫منتديات ورش بن نافع‪:‬‬ ‫‪-9‬‬


‫‪http://r-warsh.com‬‬

‫‪267‬‬

You might also like