You are on page 1of 1

‫الحرية عند ابن رشد‪ :‬معالجة‬

‫املسألة‬
‫لم يتنب ابن رشد‪ ،‬في مسألة الحرية اإلنسانية‪ ،‬املوقف‬
‫املعتزلي القائل بأن اكتساب اإلنسان هو سبب املعصية‬
‫والحسنة‪ ،‬وال موقف الجبرية املناقض للسابق والذي‬
‫حسبه اإلنسان مجبور على أفعاله‪ ،‬وال هو تبنى موقف‬
‫األشاعرة الذي ال يبعد‪ ،‬في صميمه‪ ،‬عن موقف‬
‫الجبرية‪ .‬لم يتنب أي موقف من هاته املواقف املهيمنة‬
‫على الساحة الثقافية إبانئذ‪ ،‬مع االختالف في درجات‬
‫االنتشار‪ ،‬ولم يصدها أويقصيها من دائرة اعتباره‬
‫عندما أعلن عن رأيه في املسألة‪ .‬وكنا قد وقفنا عند‬
‫التساؤل عن كيفية الجمع بني هذا التعارض الذي يوجد‬
‫في املسموع نفسه وفي املعقول نفسه‪ .‬وقد استهل‬
‫فيلسوفنا قوله بمالحظة أن الظاهر من مقصد الشرع‬
‫ليس هو التفريق بني هذين االعتقادين‪ ،‬وإنما قصده‬
‫الجمع بينهما على التوسط الذي هو‪ ،‬كما يقول‪ ،‬الحق‬
‫في هذه املسألة‪" .‬الجمع بني املوقفني على التوسط"؛‬
‫كثيرًا ما سيلجأ ابن رشد إلى هذا الحل في عديد من‬
‫مسائل الخالف في املجال الفلسفي نفسه‪ ،‬كما نطالع‬
‫ذلك مثالً في مواضع عدة في تفسير ما بعد الطبيعة‪.‬‬
‫فاملوقفان اللذان يشكالن طرفني متناقضني‪ ،‬ال شيء‬
‫يجمع بينهما‪ ،‬وال إمكان ‪ ،‬في بادئ الرأي‪ ،‬لتقريب‬
‫أحدهما من اآلخر‪ ،‬قد يوجد خيط رابط بينهما‪ ،‬خيط‬
‫دقيق قد تخطئه كثير من األعني الفاحصة‪ ،‬ولكنه ‪ ،‬مع‬
‫ذلك ‪ ،‬يظل موجودًا ‪ ،‬هناك‪ ،‬إلى أن يأتي من يمسك به‬
‫ليقدمه لنا على أنه الخيط الرابط الذي ينقصنا في‬
‫املسألة برمتها‪ ،‬والذي بدونه ال سبيل للتوصل إلى حل‬
‫املسألة املطروحة على بساط البحث‪ .‬ذاك ما يسميه ابن‬
‫رشد بـالجمع بني الطرفني على التوسط‪ .‬ففي مسألتنا‬
‫هاته‪ ،‬يالحِظ أنه يظهر أن ا‪ Ñ‬تبارك وتعالى قد خلق لنا‬
‫قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد‪ .‬لكن ملا‬
‫كان االكتساب لتلك األشياء ليس يتم لنا إال بمواتاة‬
‫األسباب التي سخرها ا‪ Ñ‬لنا من خارج‪ ،‬وزوال‬
‫العوائق عنها‪ ،‬كانت األفعال املنسوبة إلينا تتم باألمرين‬
‫جميعًا‪ :‬بإرادتنا من جهة‪ ،‬وبموافقة األفعال التي من‬
‫خارج لها‪ ،‬والتي هي املعبّر عنها بقدر ا‪ ،Ñ‬من جهة‬
‫أخرى‪ .‬هذه األسباب املسخرة لإلنسان من خارج تقوم‬
‫بدورين اثنني لكي يتم الفعل‪ :‬أولهما أنها تشكل شرطًا‬
‫خارجيًا لتمام الفعل أو غير تمامه‪ ،‬فهي إما متممة‬
‫للفعل الذي نريد اإلقدام عليه وإما عائقة له فال يتم؛‬
‫والدور الثاني الذي لهذه األسباب أنها هي السبب في‬
‫أن نريد أحد املتقابلني‪ .‬فاإلرادة‪ ،‬في جوهرها‪ ،‬هي‬
‫شوق ‪ ،‬وهذا الشوق يحدث لناعن الخيال أو عن‬
‫التصديق‪ ،‬أي عن تخيل ما أو عن تصديق بشيء‪ .‬وهذا‬
‫التصديق اليعود إلى اختيارنا‪ ،‬وإنما هو شيء عارض‬
‫لنا عن األمور التي من خارج‪ .‬ويضرب ابن شثد مثاالً‬
‫لتوضيح هذا القول‪ :‬فإذا ورد علينا أمر مشتهى من‬
‫خارج‪ ،‬فإننا نشتهيه بالضرورة من غير اختيار‪ ،‬إنه‬
‫يفرض نفسه علينا فرضًا‪ ،‬فنتحرك إليه‪ .‬والعكس وارد‬
‫أيضًا؛ فإننا إذا طرأ علينا أمر مهروب عنه من خارج‪،‬‬
‫فإننا نكرهه بالضرورة‪ ،‬ونقوم بالهرب منه‪ .‬من هنا‬
‫نستنتج أن إرادتنا معلقة باألمور التي من خارج‪،‬‬
‫محفوظة ومربوطة بها‪ .‬وللقرآن الكريم أسلوبه املتفرد‬
‫عند التعرض ملثل هذا األمر‪ ،‬كالتعبير عن األسباب‬
‫الخارجية باملعقبات‪ ،‬وعن هذا التعلق الذي لإلرادة بتلك‬
‫األسباب بالحفظ‪ ،‬فنقرأ في سورة الرعد‪ ،‬مثالً‪،‬‬
‫اآلية‪ ،11‬إشارة إلى هذا الترابط والتعلق‪":‬له معقبات‬
‫من بني يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر ا‪ ."Ñ‬يؤول‬
‫األمر بنا إذن إلى تحليل اإلرادة اإلنسانية‪ ،‬وكشف نوع‬
‫التأثير الذي لهذه األسباب املذكورة على بنية هذه‬
‫اإلرادة‪ .‬وبدءًا‪ ،‬ما طبيعة هذه األسباب التي من خارج‬
‫وكيف هو وجودها؟ إنها تجري على نظام محدود‬
‫وترتيب منضود‪ ،‬كما يقول حكيمنا‪ ،‬ال تُخِلُّ في ذلك‪ ،‬وال‬
‫تتأخر‪ ،‬وهذا الوضع لها هو بحسب ما قدرها بارئها‬
‫عليه‪ ،‬وبتعبير آخر إنها تمثل السنن التي تحكم الكون‬
‫وعالم األشياء‪ ،‬فهي ذات نظام وترتيب قارين‪،‬‬
‫اليعتريهما التغيير‪ .‬وبما أن إرادتنا وأفعالنا ال سبيل‬
‫لها إلى أن تتم وأن توجد بالجملة إال بموافقة هذه‬
‫األسباب التي قلنا إنها من خارج‪ ،‬فإن من الواجب أن‬
‫تكون أفعالنا هي األخرى تجري على نظام محدود‪ ،‬أي‬
‫أنها توجد في أوقات محدودة ومقدار محدود‪ .‬ليست‬
‫هناك إذن حرية مطلقة لإلنسان في إتيان أفعاله‪ ،‬بل‬
‫هي‪ ،‬منذ البدء‪ ،‬مقيدة نظرًا لتوقف اإلرادة التي لنا وكذا‬
‫أفعالنا على أسباب خارجية ال نتحكم فيها وال سبيل‬
‫لنا إلى تغييرها‪ ،‬ألنها سنن كونية‪ ،‬ثابتة‪ ،‬تدور بها عجلة‬
‫النظام املشاهد في العالم‪ ،‬واإلنسان جزء من هذا‬
‫العالم‪ ،‬فالبواجب هو خاضع مثله لهذه السنن‬
‫والقوانني‪ ،‬أو األسباب التي تقع خارجه وتتحكم في‬
‫إرادته‪ ،‬وبالتالي في حريته‪ .‬حرية مقيدة‪ ،‬ذلك ما نصل‬
‫إليه مع ابن رشد في هذا املقام‪ .‬وهي حرية مقيدة ألن‬
‫أفعالنا مقيدة بسبب جريانها على نظام محدود‪ ،‬أي‬
‫بسبب وجودها في أوقات محدودة وبمقدار محدود‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬لم قلنا إن من الواجب أن تكون أفعالنا على هذا‬
‫املنوال؟ والجواب هو أن ذلك الوجود لها واجب بسبب‬
‫ارتباطها باألسباب التي من خارج‪ .‬فأفعالنا مسببة عن‬
‫تلك األسباب‪ .‬وهي بالتالي مرتبطة بطبيعة تلك‬
‫األسباب‪ .‬وبما أن هذه األسباب محدودة ومقدرة‪ ،‬فكل‬
‫ما يكون مسببًا عنها يكون ضرورة محدودًا ومقدرًا‪،‬‬
‫أي يوجد في أوقات محدودة وبمقدار محدود‪ .‬من هنا‬
‫كانت أفعالنا‪ ،‬التي هي مسببات لتلك األسباب‪،‬‬
‫بالضرورة محدودة ومقدرة‪ .‬وعندما نقول األسباب التي‬
‫من خارج‪ ،‬فإن هذا يعني تمييزها عن األسباب التي‬
‫خلقها ا‪ Ñ‬في داخل أبداننا‪ .‬وليس معنى قولنا إن‬
‫أفعالنا مرتبطة باألسباب الخارجية لبدن اإلنسان‪ ،‬أنها‬
‫مقصورة في ارتباطها على تلك األسباب فحسب‪ ،‬بل إن‬
‫أفعالنا ترتبط في اآلن عينه بكال النوعني من األسباب‬
‫املذكورين‪ ،‬أي األسباب التي تأتينا من خارج أبداننا‬
‫واألسباب التي هي في داخل هذه األبدان‪ .‬وما القضاء‬
‫والقدر‪ ،‬بلغة الشرع‪ ،‬الذي كتبه ا‪ Ñ‬تعالى على عباده‪،‬‬
‫وهو ما يعرف باللوح املحفوظ‪ ،‬إال هذا النظام املحدود‬
‫الذي يوجد في مجموع هذه األسباب بصنفيها‪،‬‬
‫الخارجة والداخلة‪ .‬وقد قلنا إن أفعالنا مسببة لهذه‬
‫األسباب‪ ،‬ولنا أن نتساءل عن علة هذه األسباب بدورها‬
‫ما هي؟ والجواب أن العلة في وجودها هي العلم‬
‫اإللهي‪ :‬فعلم ا‪ Ñ‬تعالى بهذه األسباب وبما يلزم عنها‬
‫هو العلة في وجود جميع األسباب‪ ،‬الخارجة منها‬
‫والداخلة‪ .‬ولهذا القول نتيجة عظمى‪ ،‬إذ بسبب كون هذه‬
‫العلة هي علم ا‪ Ñ‬تعالى‪ ،‬فإن اإلحاطة بمعرفة هذه‬
‫األسباب تتجاوز نطاق املعرفة البشرية‪ ،‬فال يحيط‬
‫بمعرفتها إال ا‪ Ñ‬وحده‪ .‬وبهذا كان ا‪ Ñ‬تعالى هو العالم‬
‫بالغيب وحده وعلى الحقيقة‪ ،‬وهو ما تنص عليه اآلية‬
‫"قل ال يعلم من في السموات واألرض الغيب إال ا‪"Ñ‬‬
‫)النمل‪ .(65‬لِمَ كانت معرفة األسباب هذه هي العلم‬
‫بالغيب؟‬

‫الجواب يقدمه لنا تعريف الغيب نفسه؛ فما الغيب سوى‬


‫معرفة وجود املوجود في املستقبل أو ال وجوده‪ .‬فهل‬
‫للقدرات املعرفية اإلنسانية أن ترقى إلى هذا الضرب‬
‫من املعرفة؟ لنترك اإلجابة عن سؤال يبدو جوابه بديهيًا‪،‬‬
‫ولنتساءل‪ ،‬بدل ذلك‪ ،‬عن هذا الترابط بني معرفة‬
‫األسباب وبني معرفة وجود األشياء‪ ،‬ما مبرره؟ أي لِمَ‬
‫كان العلم بأسباب شيء ما هو العلم بوجود ذلك الشيء‬
‫أو عدمه في وقت ما من األوقات؟ والجواب يكمن في‬
‫كون ترتيب األسباب ونظامها هو الذي يقتضي وجود‬
‫الشيء في وقت ما أو عدمه في ذلك الوقت‪ ،‬وإذن‬
‫فبالواجب يكون العلم بأسباب شيء ما هو العلم‬
‫بوجوده أو بعدمه في وقت ما‪ .‬فأما العلم باألسباب على‬
‫اإلطالق فإنه هو العلم بما يوجد منها أو ما يعدم في‬
‫وقت من أوقات جميع الزمان‪ .‬على أن للعلم اإللهي‬
‫موضعه في غير هذا السياق‪ ،‬لذلك يجمل بنا أن نحيل‬
‫على املسألة في مكانها‪ ،‬وأن نستخلص النتيجة مما‬
‫سبق أن قيل آنفًا عن الحرية اإلنسانية‪ .‬إن لنا اكتسابًا‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت‪ ،‬جميع مكتسباتنا هي بقضاء وقدر‬
‫سابق‪ .‬هذا هو رأي ابن رشد الصريح في املوضوع‪.‬‬
‫وهذا هو عينه فحوى الجمع بني الطرفني والذي‬
‫أشارأبو الوليد إلى أنه مقصد الشرع‪ .‬فهذا الجمع‪،‬‬
‫كما يقول‪ ،‬هو الذي قصده الشرع بتلك اآليات العامة‬
‫واألحاديث والتي يظن بها التعارض‪ .‬إن هذا التعارض‬
‫إنما يبدو في الظاهر فحسب‪ ،‬فأما في الحقيقة فال‬
‫تعارض هناك‪ .‬بذلك يرفض ابن رشد وجود تعارض‬
‫سواء في دالئل السمع أو حجج العقول‪ .‬فهذه اآليات‬
‫العامة واألحاديث التي يظن بها التعارض‪ ،‬هي إن‬
‫خصص عمومها هذا النوع من التخصيص الذي قام به‬
‫ابن رشد‪ ،‬فإن ذلك التعارض الظاهر ينتفي عنها‪ .‬وإذا‬
‫انتفى التعارض الظاهر عن تلك اآليات واألحاديث‪ ،‬فإن‬
‫جميع الشكوك التي قيلت فيها وعنها‪ ،‬أي جميع الحجج‬
‫املتعارضة العقلية‪ ،‬تنحل بدورها‪ .‬ليس هذا وحسب‪ ،‬بل‬
‫إن سبب الخطإ في أقوال السابقني والالحقني ينجلي‬
‫للعيان‪ ،‬وما ذاك السبب سوى اقتصار الخائضني في‬
‫املسألة على األخذ إما باإلرادة اإلنسانية وحدها‪ ،‬أو‬
‫باألسباب التي من خارج دون غيرها‪ .‬والصحيح هو‬
‫الربط بني الطرفني معًا‪ ،‬وهو معنى الجمع بينهما‪ .‬ليس‬
‫هناك توفيق إذن بني أقوال الفرق‪ ،‬وإنما نحن إزاء‬
‫تخريج فريد للمسألة ولطريقة معالجتها‪ .‬فأما تخريجها‬
‫فهو التمييز بني اإلرادة اإلنسانية وبني األسباب التي‬
‫من خارج‪ ،‬وأما طريقة الجمع فهي ربط اإلرادة هاته‬
‫باألسباب والنظر إليها على أنها مسببة لتلك األسباب‪،‬‬
‫وأما فرادة هذا القول فهي في اعتبار أن وجود األشياء‬
‫التي توجد عن إرادتنا إنما يتم باألمرين معًا؛ بإرادتنا‬
‫وباألسباب التي من خارج‪ .‬ويدخل الخطأ على من‬
‫ينسب األفعال إلى واحد من هذين الطرفني على‬
‫اإلطالق‪ ،‬وبسبب هذا لحقت سائر الشكوك أقوال الفرق‬
‫في املوضوع‪ .‬وبهذه املالجة‪ ،‬نصير‪ ،‬كما يشبر إلى ذلك‬
‫ابن رشد‪ ،‬أمام قول حسن‪ ،‬يوافق الشرع فيه العقل‪.‬‬
‫على أن هذا الحل الذي انتهى إليه أبو الوليد ال يعدم‬
‫أن ينتصب في وجهه معترض بالدخول إليه من باب‬
‫طريقة توظيفه ملفهوم الفاعل في سياق معالجته‬
‫للمسألة‪ .‬فقد تحدّث عن األسباب واملسببات‪ ،‬وبنى‬
‫تحليله على أساس معرفي يقضي بأن هاهنا أسبابًا‬
‫فاعلة ملسببات مفعولة‪ ،‬في حني أن املسلمني متفقون‬
‫على أال فاعل إال ا‪ .Ñ‬فذلك وجه آخر يقود إليه القول‬
‫في مسألة الحرية اإلنســـانيـــة‪ ،‬وهو في حاجــــة إلـــى‬
‫وقفـــــة مركـــــزة‪ ،‬نظـــــرًا للطــــابـــع الحــــــــــاد‬

‫الذي تعامل به معـه األشاعـرة خاصـة‪ ،‬وذلك في نفيهم‬


‫لالرتباط السببي بني األشياء والوقائع واألحداث ‪.‬‬
‫عـــلـــى مـــوعـــد إذن وإلى‬
‫اللقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء‪ .‬اهـ‬

‫ا‬

You might also like