المحور األول :الشخص والهوية. المحور الثاني :الشخص بوصفه قيمة. المحور الثالث :الشخص بين الضرورة والحرية. الطرح اإلشكالي: إن الحديث عن الشخص هو حديث عن الذات أو األنا ،والشخص هو مجموع السمات المميزة للفرد الذي هو في األصل كيان نفسي واجتماعي متشابه مع اآلخرين ،ومتميز عنهم في نفس الوقت ،لكن هويته ليست معطى جاهزا ،بل هي خالصة تفاعل عدة عناصر فيها ما هو بيولوجي ،وما هو نفسي ،وما هو اجتماعي … ،وهذا ما يجعلنا نطرح إشكال الشخص على شكل أسئلة فلسفية وهي: فيما تتمثل هوية الشخص؟ أين تكمن قيمته؟ هل الشخص حر في تصرفاته؟ أم يخضع لضرورات حتمية؟ المحور األول :الشخص والهوية: تعود اإلرهاصات األولى إلشكالية الهوية إلى الفلسفة اليونانية ،فبالعودة إلى قولة سقراط "اعرف نفسك بنفسك" يتبين أن ما يميز الشخص هو قدرته على تكوين معرفة حول ذاته وتصرفاته وسلوكه رغم التغيرات المختلفة التي يمر بها في مسيرة حياته ،فما الشخص؟ ومن أين يستمد هويته؟ هل يستمدها من بعده الفكري أم من بعده الحسي أم من بعده الروحي؟ يؤكد الفيلسوف العقالني رونيه ديكارت على أن الفكر هو ما يمثل هوية الشخص ،فالتفكير خاصية مالزمة للذات من خالل ممارسة جملة من العمليات الذهنية ،مثل :الشك والنفي واإلثبات ،...وهي عمليات ال تنفصل عنها بل إنها دليل على وجودها الوجود اليقيني الذي ال يطاله الشك ،وهذا ما نجد له صدى في عبارة الكوجيطو الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود" ،ومتى ما انقطعت الذات عن التفكير انقطعت عن الوجود ،وعلى خالف ديكارت يرى الفيلسوف التجريبي جون لوك أن التفكير وإن كان يجسد هوية الشخص ،فإنه ال يخرج عن إطار اإلحساس ،فهو حصيلة احتكاك الذات بمحيطها الخارجي عن طريق الحواس (البصر ،السمع ،الذوق ،)...وبفضل الذاكرة يمتد الشعور بالهوية الشخصية رغم اختالف األمكنة واألزمنة يقول جون لوك" :فالذات الموجودة اآلن في الحاضر هي نفسها التي كانت في الماضي ،وهذا الفعل الماضي قد أنجز من طرف الذات نفسها التي تقوم باستحضاره في الذهن". إذا كانت نزعة ديكارت العقالنية قد أرجعت الهوية الشخصية إلى التفكير المجرد ،وإذا كانت نزعة جون لوك التجريبية قد رأت في الفكر بما هو خبرات حسية والذاكرة ما يمثل هذه الهوية ،فإن شخصانية إيمانويل مونيي ترفض اختزال الشخص في بعد واحد من أبعاد وجوده المتعددة ،فهو واقع كلي وشمولي ال يقبل التجزيء أو التصنيف في إطار انتماء طبقي أو سياسي أو ثقافي ،...ألنه ليس موضوعا ،إنه بنيان روحي داخلي ال يدركه إال الشخص ذاته. تأسيسا على ما سبق يتضح أن المواقف الفلسفية تروم تحديد هوية الشخص بالنظر إليه كذات مفكرة ،غير أنها تختلف في منظورها لطبيعة هذا الفكر ،فقد حصره ديكارت في الفكر المجرد ،بينما ربطه جون لوك بالتجربة الحسية والذاكرة، في حين اعتبرته شخصانية مونيي روحا داخلية ،وإذا كان من الصعب اإلجماع حول معيار محدد للهوية الشخصية ،فإن ذلك يعود إلى الطبيعة المركبة للشخص ،إذ ال يمكن االقتصار على نعته بالذات المفكرة فحسب ،بل إنه كائن حقوقي وأخالقي أيضا. المحور الثاني :الشخص بوصفه قيمة: خلصنا من خالل النقاش السابق إلى أن هوية الشخص تقوم على استحضار مرجعيات متعددة ومتداخلة لتحديد أسسها وفهمها ،لكن يبقى القاسم المشترك بين الفالسفة هو أن الشخص ذات مفكرة ،عاقلة ،واعية ،قوامها األنا كيفما كانت طبيعة وأسس بنائه وتكوينه (التفكير ،العقل ،الشعور ،الذاكرة ،)...إال أن قيمته تقترن بأبعاده األخالقية والحقوقية ،فما الذي يؤسس البعد القيمي األخالقي للشخص؟ وبمعنى آخر ،من أين يستمد الشخص قيمته؟ هل من كونه كائنا عاقال أم من كونه كائنا أخالقيا يسلك وفق قيم محددة؟ في سياق عرض نظريته للعدالة كإنصاف ،يرى جون راولز أن قيمة الشخص تتأسس على كفاءاته العقلية واألخالقية، والمشاركة في الحياة االجتماعية والتعاون مع اآلخرين أفرادا كانوا أو جماعات وهيأت ،من منطلق أن المجتمع نظام للتعاون المنصف ،فال يمكن الحديث عن قيمة الشخص إال إذا تبين بأنه كائن مفكر وكائن أخالقي يروم العدل والخير وااللتزام والمسؤولية ،وفي ذات السياق يذهب إيمانويل كانط إلى أن الشخص ال يكتسي قيمته من عقله المجرد ،بل من التصرف وفق ما يمليه عليه عقله األخالقي العمليٌ ،ويلزم احترامه ومعاملته كغاية في ذاته ال مجرد وسيلة ،عمال بالمبدأ األخالقي األسمى ومفاده" :تصرف على نحو تعامل معه اإلنسانية في شخصك ،كما في شخص غيرك دائما وأبدا ،كغاية وليس مجرد وسيلة"، أي تصرف مع اآلخرين كما تتصرف مع ذاتك ،وهذا ما يمنح الشخص قيمة مطلقة ويكسبه احتراما لذاته ويلزم اآلخرين باحترامه ،بأن يحافظ على كرامته ،وأن يعتبر اآلخر غاية ال مجرد وسيلة ،يسري عليه قانون العرض والطلب ،أما التصور الهيجلي فينطلق من النظر إلى الشخص كقيمة أخالقية باألساس ال يمكنها أن تتحقق إال بانخراطه داخل حياة المجموع، وتتجلى قيمة األشخاص في امتثالهم لروح شعوبهم وتجسيدهم لهذه الروح ،وهذا يقتضي من الشخص العمل على تحقيق بعده األخالقي وامتثاله للواجب ووعيه بالسلوك الخير الممثل للقانون ،واآلخر المنافي له. ومجمل القول أن الخطاب الفلسفي ينظر إلى الشخص بما هو ذات عاقلة ومسؤولة ،تستوجب االحترام والمعاملة بوصفها غاية ال مجرد وسيلة ،كما أن قيمته ال تتحدد في مجال الوجود الفردي بل في انفتاحه على اآلخرين في إطار أشكال من التضامن اإلنساني القائم على التعاون وااللتزام بالمبادئ األخالقية. المحور الثالث :الشخص بين الضرورة والحرية: لقد مهدت العلوم اإلنسانية الطريق أمام اإلنسان للتعرف على اإلكراهات والحتميات التي تتحكم فيه ،متقاطعة في ذلك مع بعض التوجهات الفلسفية الحتمية التي تنفي عن الشخص كل مبادرة للفعل الحر ،فإذا كانت بعض فلسفات الوعي قد جعلت من الذات سيدة نفسها وأفعالها ،فإن هناك توجهات فلسفية وعلمية كشفت على أن األنا ليس سيد نفسه وأفعاله ولو في عقر منزله الخاص ،فكيف يمكن النظر للشخص؟ هل باعتباره ذاتا حرة ،أم بوصفه كيانا خاضعا لشروط وإكراهات قد تتجاوز إرادته وتحد من حريته؟ أليس بمقدور الشخص أن يتحدى هذه الشروط واإلكراهات وذلك من خالل نزوعه نحو التحرر وقدرته على االختيار؟ لقد كشف رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد على أن الشخص ليس سيد نفسه وأفعاله ،فالجزء األكبر من سلوكاته وأفعاله يعود إلى حتميات ال شعورية ترتبط بتاريخ الفرد منذ طفولته المبكرة ،وذلك من خالل تفاعل مكونات الجهاز النفسي، أي الهو ويمثل الميول والدوافع والغرائز ،األنا األعلى ويمثل القيم والمعايير االجتماعية التي يتشربها الطفل من محيطه عن طريق التنشئة االجتماعية ،األنا وتقوم بوظيفة تنسيقية بين رغبات الهو وإمالءات األنا األعلى وإكراهات العالم الخارجي، وهذا التفاعل يوضح أن الشخص محكوم بحتميات ال شعورية قد ال يعيها ،وتتجلى في مجموعة من السلوكات الالواعية (فلتات اللسان ،زالت القلم ،األحالم ،)...وفي السياق نفسه ،يأتي موقف باروخ اسبينوزا ليؤكد على أن الشعور بالحرية أو القول بحرية الفعل مجرد وهم ناتج عن وعي اإلنسان بأفعاله وجهله بأسبابها الحقيقية الكامنة وراءها ،ومثال ذلك أن الحجر المتدحرج يتوهم أنه يتحرك عن حرية واختيار ـ إذا ما افترضناه يتوفر على الوعي ـ في الوقت الذي يجهل العلة الخارجية التي كانت سببا في حركته ،وبالمثل فالطفل الرضيع يشتهي الحليب ،والشاب المنفعل يريد االنتقام أو الهروب ،والشخص الثرثار يعتقد أنه حر في أقواله في الوقت الذي يجهل األسباب الحقيقية الكامنة خلف سلوكه ،وعلى خالف ذلك تقر شخصانية إيمانويل مونيي على أن الشخص كائن حر وهو الذي يقرر مصيره ويتخذ قراراته دون وصاية من أحد فردا كان أو جماعة، وذلك في إطار مجتمع يكفل ألفراده الحماية والوسائل الالزمة لتطوير ميوالتهم وتنميتها ،بعيدا عن كل نزعة تنميطية وتحكمية ال تؤمن باالختالف ،فالشخص ليس وسيلة كما ال ينبغي أن يقوم أحد مقامه في اتخاذ قراراته ،فحرية الشخص مشروطة بوضعه الواقعي. تأسيسا على ما تقدم يتضح أن الوضع البشري يسيج الشخص بجملة من الشروط واإلكراهات النفسية واالجتماعية والثقافية ،والتي قد تتجاوز إرادته ،غير أن قدرته على التخطيط لمشاريعه وتحقيق تطلعاته ال تنفي قدرته على الفعل واالختيار. استنتاجات عامة: إن هوية الشخص ليست معطى بسيطا ،بل هي عنصرا مركبا يتشكل من مجموع السمات التي تميز ذات اإلنسان، والتي تتجلى في الخصائص الجوهرية والثابتة فيه كالعقل ،والشعور ،واإلرادة ،إن قيمة الشخص ذات طبيعة مزدوجة ،فهي قيمة تمسه كفرد يمتلك كرامة تلزمنا أن نتعامل معه كغاية في ذاته ،كما تمسه كعنصر داخل الجماعة ما دامت الجماعة هي التي تمنح الفرد قيمته ،إن الشخص يخضع لمجموعة من الشروط التي تتحكم في أفعاله وتصرفاته ،لكنه في نفس الوقت يمتلك هامشا من الحرية يستطيع من خالله أن يعدّل ،إن لم نقل يغير تلك الشروط.