Professional Documents
Culture Documents
َ ح
ُ َــ نـمِ
ـان َمـ ْذهــ َ ِ
ب في بيـــ َ ِ
الوجــُـو ِد
وحدَ ِة ُ
ْ
تصنيف
األستاذ العالمة المتقن
سعيد فودة
حفظه هللا تعالى
1
لست عدواً للصوفية ،وال منكراً
[ اعلم أيها القارئ العزيز ،أين ُ
لوجود أولياء هللا وكرامتهم.
وأعرتف أبن علم العلماء قد ال يكفي يف إصالح الناس وهتذيب
ُ
نفوسهم ،بل ويف هتذيب العلماء أنفسهم ،فتحصل احلاجة إىل الطرق
الصوفية إلكمال هذا النقص بتدريب املسلمني ومترينهم على العمل
مبقتضى علم العلماء من أحكام الشرع األنور ،ال ملصادمة علم العلماء
ومذاهب أهل السنة يف أصول الدين وفروعه.
ولست أيضاً من الوهابيني الذين ال حيرتمون عباد هللا املكرمني بعد
ُ
موهتم.
وال أدعي الفضل على أحد ،وال أحس ُد أحداً على فضله.
ومع هذا كله فإين عبد هللا ،ال عبد أي أحد اشتهر أبنه ويل من
أولياء هللا ،فال أضحي مبقام ريب جل وعال ملنـزلة ذاك الويل عند الناس،
وال أعرتف له ابمتياز أن يقول يف ذات هللا ما ال يقبله العقل وال شرع
اإلسالم ،وال ابمتياز أن يفسر كالم هللا وكالم رسوله مبا يشاء هواه
ويشبه التالعب هبما أو يضاد ما سيقا له ].
العاََِل ()92/3
و ِ
م ل
ْ العقل والعِ
موقف ِ
َ ُ
شيخ اإلسالم
مصطفى صبري
رحمه هللا تعالى
2
بسم هللا الرحمن الرحيم
مقـ ِدمة
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على سيدنا محمد
أفضل األنبياء والمرسلين:
وبعد:
رمبا كانت مسألة وحدة الوجود من أهم املسائل العويصة والكبرية اليت دار
حوهلا البحث والنظر بني أطراف عديدة ،ال يف التاريخ اإلسالمي فقط ،بل يف
اتريخ الفكر اإلنساين بشكل عام ،وال أقول إن هذه النظرية كانت منتشرة مقبولة
بني الناس منذ أوائل التاريخ اإلنساين ،ال ،بل أقول فقط إهنا كانت من املسائل اليت
وضعها العقل اإلنساين حتت النظر والبحث ،بل أستطيع أن أقول أكثر من ذلك،
إن هذه املسألة َل تزل من املسائل املردودة منذ أبعد األزمان والتاريخ ،إال عند طائفة
حمصورة معدودة من الفالسفة الذين َل يكتب ألرائهم النجاح واالنتشار والقبول
مقارنة بغريها من املسائل.
إن فكرة توحيد هللا تعاىل هي الفكرة األبعد واألكثر قبوالا عند اجلنس
البشري ،وتوحيد اإلله ،ال يعين من قريب وال من بعيد ،املعىن الذي يريده القائلون
بوحدة الوجود ،فاإلميان بوحدة هللا تعاىل أساسه هو االعتقاد أبنه ال واجب للوجود
وجل ،وأنه هو الفاعل املختار ،ال مؤثر يف الوجود إال هو ،وأنه ال إال هو عز َّ
اشرتاك بينه وبني املخلوقات يف حقيقة الذات وال يف حقيقة الصفات ،وإن كان
االشرتاك يف اإلطالق اللغوي حاصالا بني اخلالق واملخلوق يف بعض األلفاظ ،كاسم
العاَل ،يطلق على اإلنسان وعلى هللا تعاىل ،واسم السميع والبصري ،وغريها، ِ
فاالشرتاك واقع فقط يف اللفظ ،وال اشرتاك يف املعىن .وأما االشرتاك يف األحكام
واالعتبارات والنسب فال حمذور منه ،كما هو معلوم ،وبناء عليه جتوز القسمة إىل
الواجب واملمكن ،والقدمي واحلادث.
3
وفكرة التوحيد كما هي عند أهل السنة ال تنايف تعدد الوجود واملوجود ،كما
سيتضح ،فتكثر الوجود واملوجود ،هو أساس التوحيد عند أهل السنة ،مبعىن أن
التوحيد إمنا هو حصر الوجود الواجب يف هللا تعاىل ،وال يتضمن ذلك نفي الوجود
اجلائز عن املخلوقات.
واحلقيقة أن مذهب وحدة الوجود من املذاهب املشكلة اخلطرية ،وسوف
أوضح جهة اخلطورة يف ما سيأيت من املباحث.
وأساس هذا املذهب هو االعتقاد أبنه ال وجود إال هلل تعاىل ،وأن املخلوقات
ال وجود هلا ،وإمنا ينسب إليها الوجود على سبيل اجملاز ،وأما يف احلقيقة فال وجود
هلا مطلقا.
وهذا هو املقصود من القول بوحدة الوجود ،فال موجود مطلق ا إال هللا تعاىل،
أو ال وجود مطلقا إال هلل تعاىل ،وما يظهر لنا من ذوات موجودة ،فإنه ال وجود هلا
غري عني وجود هللا تعاىل ،فهي قائمة بعني وجوده عز امسه ،ومذهب وحدة الوجود
يستلزم أن إثبات الوجود مطلقا لغري هللا تعاىل إمنا هو نوع من أنواع الشرك،
والتوحيد عندهم ،إمنا هو نفي الوجود عن كل ما سوى هللا ،واعتقاد أن كل السوى
هو عني هللا .فتكثر الوجود منفي عندهم ،ويتبقى وحدة الوجود.
وكما هو واضح ،فإنه يوجد فرق عظيم بني اعتقاد أهل السنة وبني اعتقاد
أهل الوحدة .وهذا ما سأوضحه يف هذه الرسالة.
وال بد أوالا من أن أذكر السبب يف أتليف هذه الرسالة ،والغاية منها ،فال
شك أن كل فعل حكيم من أفعالنا احلادثة ،له سبب وله غاية. َّ
إنين مع طول صحبيت لعلم التوحيد ،وحمبيت له ،ومعرفيت للعديد من تفاصيله،
اتَّضح عندي علو شان هذا العلم ،وتبني يل ملاذا مساه علماؤان احملققون بعلم أصول
الدين ،وما ذلك إال لعلو شأنه وعظيم خطره ،يف تصحيح اآلراء ،ونقد األوهام،
والتفريق بني احلق والباطل من امليول واألفكار ،فهو العلم احلاكم على سائر العلوم،
4
ومنه تستمد سائر العلوم أصوهلا الكلية ،وتنبين عليه أهم قواعدها .ومنه عرفت أن
هللا تعاىل أوجب على املكلفني نقد اآلراء الباطلة ،ونصرة احلق اليقني ،ودفع أوهام
املتومهني ،والرد على القائلني بغري علم.
أيت يف بعض األزمان أن مذهب التجسيم انتشر بني الناس، ولذلك ملا ر ُ
وطالت مبادئه حىت عقول املثقفني ،ومحلة الشهادات العالية ،فقد متسكوا مبفاهيم
مذهب التجسيم ،حىت دون أن يعرف بعضهم أهنم كذلك ،واخندع كثري منهم أبمساء
قد َر هللا تعاىل أن تربز حلكمة ال شك فيها ،تفيد متييز الصادقني عن غريهم.المعة َّ
ط به هذا املذهب من أنصار وأعوان ،وتنوع أيت ذلكَ ،ل مينعين ما أحي َ فلما ر ُ
أرد عليهم ببيان حقيقة اعتقادهم،
وسائلهم اليت ميلكوهنا يف إشاعة مذهبهم ،من أن َّ
أبسلوب ال أظن أحدا من أهل هذا العصر قام به ،وكان هديف من ذلك هو متييز
احلق عن الباطل ،فمن اتبع احلق فإمنا يتبعه عن بينة ،ومن يتبع الباطل فال حجة له.
وملا كان سبيل احلق واحدا ،وسبل الباطل متكثرة متعددةَ ،ل يقتصر الباطل
على مذهب التجسيم ،بل كانت له صور متنوعة ،وأشكال خمتلفة ،وكم كان عجيب
أن مذهب وحدة الوجود ال يزال له يف الوجود نصري وأعوان ،وكثري عندما عرفت َّ
من هؤالء من املشايخ الذين ينتسبون يف ظاهر كالمهم إىل األشاعرة من أهل
يصرحون أن مذهب وحدة الوجود مطابق ملا يقوله السادة األشاعرة، السنة ،بل ِ
بعض من أعرفه ويعرفين ،والعجب أن كثريا من أساليب اجملسمة وكان أن مال إليهم ُ
يتبعها هؤالء يف استجالب األعوان واألنصار ،حىت وإن كانت ممنوعة شرع ا ،أو
مؤدية إىل مفاسد ال تعد وال حتصى.
وأكثر الذين يؤيدون وحدة الوجود إن َل يكن مجيعهم ،هم من الصوفية ،أي
إن الصوفية كلهم يقولون بوحدة الوجود ،ال بل املنتسبني إىل التصوف ،وال أقول َّ
كثري من الصوفية ينفون وحدة الوجود ،ويرفضوهنا ،ولكن غاية ما أقوله هو أن أكثر
القائلني ابلوحدة ،من الصوفية.
5
وأيضا فقد الحظت أن كثريا من هؤالء يدعون يف أول الطريق أهنم منتسبون
إىل األشاعرة ،وأن عقائد األشعرية موافقة ملذهب وحدة الوجود ،وهذا ادعاء كبري ال
دليل هلم عليه ،وواقع األمر أن الصوفية القائلني بوحدة الوجود (وليس كل الصوفية
كذلك) إمنا يدعون انتساهبم إىل األشعرية ،ألهنم يعرفون أن األشعرية هم أكرب
الفرق اإلسالمية ،واالنتساب إىل أكرب الفرق اإلسالمية أمر حيميهم من أعدائهم.
سن هلم هذا األمر إمنا هو ابن عريب احلامتي الصويف املشهور، وأعتقد أن من َّ
صاحب الفتوحات املكية ،الذي جعل يف صدر كتابه هذا خمتصرا يف العقائد وصفه
أبنه "عقيدة العوام" ،وهو عبارة عن ملخص لعقيدة األشعرية ،وَل يبتدئ ابن عريب
كتابه هذا هبذا املختصر إال تروجيا له بني الناس ،ال اعتقادا خالصا هبذه العقيدة.
وقد اخندع بذلك كثري من الناس والعلماء فصاروا يتوقفون يف مسائل كثرية
موجودة يف كتب ابن عريب ملالحظتهم ابتداءه هبذه العقيدة يف أول كتابه ،فيقولون
كيف ميكن أن يقول ابن عريب بعقيدة وحدة الوجود وقد ابتدأ كتابه بعقيدة
األشاعرة؟! وكيف ميكن أن يقول ابن عريب ابلفيض الفلسفي وهو قائل بعقيدة
األشاعرة؟! وكيف وكيف ...بل صار بعض العلماء إذا أراد أن يوضح عقيدة ابن
عريب يكتفي بذكر هذا املختصر املشار إليه.
وكل ذلك يف نظري غري صحيح وال موافق للتحقيق ،ألن الصحيح أن ابن
عريب وإن ابتدأ كتابه بذلك املختصر ،إال أنه مساه بعقيدة العوام ،وعقبه بعقيدة
إن البن عريب كتب ا كثرية غري هذه الصفحات اليت ابتدأ اخلواص وخاصة اخلاصة ،مث َّ
هبا "الفتوحات املكية" ،وكثري من هذه الكتب فيها من العقائد ما خيالف ما صرح
جيوُز الباحث لنفسه أن جيعل من هذا املنت املختصر به يف عقيدته تلك .فكيف ِ
حاكما ََ على كل تلك الكتب والكلمات املصرحة ابخلالف؟ إن هذا لعمري
احنراف عن احلق.
6
ولنرجع إىل وحدة الوجود ،فهي َل تكن مقصورة على ابن عريب ،بل قال هبا
غريه ،ممن سبقه ومن تاله.
قلت سابقا :إن هناك سببا ََ دفعين إىل الشروع يف كتابة هذه الرسالة ،وهو
ُ
أن بعض الناس يف هذا الزمان قالوا مبذهب وحدة الوجود أو مالوا إليه ،وملا كنت
أردت أن أحرر كالما ولو خمتصرا
أعلم أن هذا املذهب خمالف لعقيدة أهل احلقُ ،
يف نقد ذلك ،وبيان احنرافه عن احلق .وقد نظرت يف واقع هؤالء ورأيت أهنم يدورون
على كالم ابن عريب أساسا ،ويستأنسون بغريه من الناس ،ولكن حمورهم هو ابن
عريب ،وشراحه.
عبد الغين
الشيخ ُ
ُ ومن أكرب من صرح بوحدة الوجود على طريقة ابن عريب
النابلسي ،صاحب رسالة (إيضاح املقصود من وحدة الوجود) ،وله كتاب آخر يف
نفس املوضوع ،أمساه (الوجود احلق واخلطاب الصدق).
وقد عرفت أن هؤالء أشاعوا الرسالة املسماة (إبيضاح املقصود) بينهم،
واعتمدوها بياان لعقيدة وحدة الوجود ،وقد اغرت بعضهم مبا فيها من كالم ،واتبعهم
شيخ وتوقريه ،أو عن جمرد
اآلخرون من غري فهم بل جملرد تقليد انشيء عن حمبة ٍ
هوى نشأوا عليه ،وصاروا يستخفون بكالم العلماء من أهل السنة يقدمون كالم
هؤالء على كالمهم.
وهذه الرسالة كتبها الشيخ عبد الغين ليوضح فيها معىن وحدة الوجود الذي
ينبغي على الناس –حسب رأيه -القول به ،ويدافع عنها ،ويقرر بعدة وجود أن
مذهب األشاعرة موافق لوحدة الوجود.
وهذا االدعاء غريب ،وقد استنكرتُه ملا رأيته ،وتعجبت كيف يصرح واحد
مثل الشيخ عبد الغين بذلك الرأي واالدعاء ،ويتجاهل كثريا من قواعد األشاعرة ال
تتوافق مع القول حبدة الوجود وال مع مقتضياهتا ،بل تنافرها وتناقضها ،وختالفها
أشد املخالفة.
7
أيت الرسالة ،أحببت أن أكتب عليها بعض التعليقات والنقود ،وذلك وملا ر ُ
بياانا للرأي الذي يوافق عليه علماء أهل السنة ،وإرشادا للقاصر ،ودفعا للمغرت مبثل
هذا الكالم عن أن ينجرف وراء أتويالت فاسدة لقواعد التوحيد ،كان ينبغي أن ال
تنطلي على املبتدئني فضالا عن أن يغرت هبا من يعترب نفسه مربزا يف علم التوحيد.
ولكن وإن كنت أقول ذلك ،فإنين أعرف أن بعض املسائل خاصة يف علم
التوحيد قد تكون واضحة عند البعض ،أشد الوضوح ،وهي عينها مشكلة يف أشد
مراحل اإلشكال عند غريهم .وخصوصا إذا كان الناظر قد تلبس أصالا مبحبة
وتقليد من هو قائل مبذهب وحدة الوجود ،فكيف إذا كان يعتقد بواليته وأبنه خامت
األولياء ،أو أعظم العارفني وسيدهم ،وكيف إذا كانوا يعتقدون أنه ال يقول أبمر إال
إذا أوحى هللا تعاىل به إليه ،فهو ال يكتب شيئا إال أبمر ،وإال بوحي ،وإال بكشف،
فهو العارف الذي يدور على كالمه العارفون ،فهو قطب الرحى وحجر الزاوية،
وعمود اخليمة.
وإذا كان القائل بذلك املذهب يعتقد أن املخالف ملذهب وحدة الوجود َل
يرتق بعد إىل مراتب التحقيق ،وَل تدخل يف نفسه معاين الدين ،وَل خيرج عن طور َّ
العقل الظاهر ،فهو ال يعرف املعاين الباطنة للكالم ،والعقل عند هؤالء ليس إال
أوهام ا وخياالت دائرة على اخنداع أبمور يستقيها الواحد من احلواس الظاهرة،
فالعقل ال يفيد يف املعارف احلقيقية ،وال بد من الكشف واملعاينة ،حىت يتبني لك
أن وجود احلق ليس غري وجود اخللق ،فالوجود واحد ،واحلق واحد.
إذا كان الناس القائلون هبذا املذهب يعتقدون هبذه اآلراء ،فكيف نرجو منهم
أن يعيدوا النظر مبا يقولون ،وهم ال يعتربون غريهم يستحقون القول أصالا ،فاألغيار
هم أصل اجلهل ،وهم أهل الظاهر احملتجبون عن احلق ابملظاهر ،وهم املتعلقون
ابلرسوم وقد غابت عنهم احلقائق.
8
واحلقيقة أن املسألة أكرب من أن أدعي حلَّها هبذه الرسالة الصغرية ،ولكن رمبا
تكون هذه الرسالة فاحتة لبحوث أخرى تدور حول نفس املوضوع ،جتلي أغواره،
وتنبه الناس إىل احملذورات العديدة املرتتبة على القول به ،ولعمق املوضوع فقد أردت
أن أهتم مبناقشة رسالة الشيخ عبد الغين النابلسي فقط ،واالهتمام ببيان املغالطات
اليت وقع هبا ،واملعاين الباطلة اليت أودعها يف هذه الرسالة ،فهي وإن كانت صغرية
احلجة إال أن فيها أصوال عديدة ينبين عليها مذهب وحدة الوجود .فرمبا إذا بينت
خطأ بعض هذه القواعد ،وأظهرت بوضوح خمالفة وحدة الوجود ملذهب أهل السنة
األشاعرة ،رمبا يكون هذا دافعا للبعض لكي يعيد النظر يف موقفه ،وحياول أن يتجرد
من مجيع العالئق الدنيوية اليت يتلبس هبا ،لعل ذلك يكون مساعدا له للخروج من
ظلم نفسه وغريه .فالناظر إذا َل جيرد نفسه ن العالئق الغريبة عن حمل النظر ،ال بد
أن يقع يف الغلط واملغالطة.
وعلى كل حال ،فهذه الرسالة دعوة إىل اإلخوة املخالفني واملوافقني إلعادة
النظر لتحرير العقل والفكر من األوهام العالقة فيها ،وال يضري هذه الدعوة أن
يتخللها نقد صريح ،رمبا جيرح البعض ،ويضايقه ،ولكن هذا من لوازم النقد ،فال
يعيبه ،ومن وجد فيها خطأ أرجو منه أن يدلين عليه ،ويصوبين فيه ،فإمنا العلم
يتكامل ابلنقد واملراجعة والتحرير الصريح املبين على القواعد العلمية املقررة عند
احملققني من علمائنا.
وهللا املوفق
سعيد فودة
وليس لنا إىل غري هللا حاجة وال مطلب
9
تمهيد
موضوع هذه الرسالة هو بيان املفاسد اليت يشتمل عليها مذهب وحدة
الوجود ،وسوف أقسمها إىل قسمني رئيسيني:
األول :حيتوي على بيان مفهوم وحدة الوجود أبوجز شكل ممكن.
والثاين :حيتوي على نقد رسالة الشيخ عبدالغين النابلسي (إيضاح املقصود
من وحدة الوجود).
وغاييت من هذه الرسالة أمران:
األول :بيان فساد مذهب وحدة الوجود.
الثاين :بيان أن مذهب وحدة الوجود ال ميكن أن يكون متوافق ا مع عقيدة
األشاعرة ،وأنه ال ميكن أن يكون الواحد من الناس قائالا بوحدة الوجود ،ويدعي أنه
أشعري ،وبعبارة أخرى ،إن املذهب االشعري ال ميكن أن جيتمع مع عقيدة وحدة
الوجود.
وال أدعي أنين سأستويف البحث يف هذا املوضوع ،بل مرادي إمنا هو لفت
أنظار القراء واملهتمني ،إىل خطورة هذا املذهب ،وبعض لوازمه الفاسدة ،وذلك
على حسب ما يتيحه الوقت والظرف.
وأان ال أشك أنه سيكون يل كالم تفصيلي واتم يف حبث خمتلف نواحي هذا
املذهب والرد على القائلني به وبيان غاايهتم املختلفة يف كتاب مستقل إن شاء هللا
تعاىل ،وحىت ذلك احلني أرجو أن يكون حبثي هذا حمققا ملا رجوته منه.
10
الباب األول
في بيان مذهب وحدة الوجود
إن مذهب وحدة الوجود عويص متعدد األطراف ،كثري الفروع واجلوانب،
ولكنه مع ذلك ينبين على أصول كلية ،مشرتكة ،وسوف أبني هنا أهم هذه األصول
وأشري بعد ذلك إىل بعض األمور املتفرعة على هذه األصول ،وإن كان القوم
خيتلفون يف بعضها ،وكان بعضهم يصرح هبا وبعضهم يلوح.
وسأحاول فيما يلي أن أوضح أبقرب صورة حمور هذه القضية.
عندما يقول الواحد" :أان موجود" ،فإنه يفهم ما معىن ذلك ،وكذلك فإن
السامع هلذا الكالم يفهم أيضا ما يريده املتكلم ،وخالصة هذا املعىن هو إثبات
الوجود للذات ،وعندما يقول آخر "أان موجود" ،فإن نفس السامع يفهم أيضا
إثبات الوجود لآلخر ،ويفهم من مالحظة العبارة الصادرة عن األول ،والعبارة
الصادرة عن الثاين ،أن وجود األول غري وجود الثاين ،وهذا الفهم هو الفهم الظاهر
املتبادر إىل ظاهر العقل ،وهو املوافق للغة ،وال يصح للواحد أن يقول إن املتبادر إىل
مثل
الفهم ،هو أن وجود األول نفس وجود الثاين ،نعم قد يقال إن وجود األولُ ،
الوجود الثاين ،ولكن أن يقال إنه هو عينه ،فال ،ويوجد فرق كبري بني أن يقال إن
الشيء مثل الشيء ،وبني أن يقال إنه هو عينه ،فاملثلية ال تثبت إال ابلتغاير،
خبالف العينية.
وكذلك فوجود اجلبل مفهوم ،ووجود هذا البيت مفهوم ،وال شك أن وجود
اجلبل غري وجود البيت .وسوف أوضح ذلك بشكل أكرب:
11
إننا عندما نقول البيت موجود ،فإن معىن هذه العبارة يتضمن إثبات "كون
البيت موجودا" ،وهذا ال بد أن يسبقه إثبات الوجود للبيت ،مبعىن أنه لكي يشتق
اسم لشيء ،فيجب أن يكون الشيء موصوفا أبصل مصدر هذا االسم ،أي أصل
مصدر االشتقاق ،وبعبارة أخرى ،فال بد من إثبات كون البيت له وجود ،فالقول
أبن البيت موجود ،يسبقه االعتقاد إبثبات الوجود للبيت.
وكذلك فعندما نقول :إن اجلبل موجود ،فخالصة هذا الكالم إمنا هو إثبات
وجود للجبل ،بنفس األسلوب السابق.
فاحلاصل من هذا الكالم أننا نثبت وجودا معينا للجبل ،ووجودا آخر
للبيت ،واملتبادر للذهن والعقل ،هو أن الوجود األول غري الوجود الثاين ،فهاهنا
وجودان اثنان ،كل منهما غري اآلخر يف اخلارج ،أي يف العاَل اخلارجي ،وإن كان
أصل املعىن املتبادر إىل ذهننا من إثبات الوجود للجبل مثل املعىن املتبادر إىل ذهننا
من إثبات الوجود للبيت ،بل رمبا ال يبعد أن يقال إن املعىن املتبادر يف احلالة األوىل
هو عني املعىن املتبادر يف احلالة الثانية.
ولكن ،هل كون املعىن املتبادر هو عينه يف احلالتني أو مثله ،هل يقتضي هذا
أن يكون ما صدق عليه املعىن يف احلالة األوىل هو عني ما صدق عليه املعىن يف
احلالة الثانية؟!
إننا ال نشك حلظة يف أن املصداق متغاير يف احلالتني ،وتغاير املصداق ال
يستلزم تغاير املعىن املتبادر كما ال خيفى ،وحنن ال نقصد ابملعىن الصورة اخليالية
املستحضرة يف الذهن عند قولنا اجلبل موجود ،بل ال نقصد أكثر من استحضار
مفهوم الوجود ومعناه ،ال الصورة اجلبلية وال الصورة البيتية ،فهااتن الصوراتن
ومهيتان ،مبعىن أهنما حاضراتن يف الوهم ال يف العقل ،ومقام الكالم هنا إمنا هو
العقل ال الوهم.
12
خنلص من هذا الكالم كله ،أن معىن الوجود مفهوم بداهة ،أو يكاد يكون
كذلك ،وال نريد ابملعىن حقيقة الوجود ،بل ال نريد أكثر من مفهومه احلاضر يف
الذهن عند احلكم به على املاهيات كاجلبل والبيت ،وغريمها.
وأيضا ،فإننا رأينا أن التغاير يف الوجود املتحقق يف اخلارج هو األصل ،وهو
املتبادر إىل الذهن ،ولذلك قلنا إن وجود اجلبل يف اخلارج غري وجود البيت يف
اخلارج ،وإن كان معىن الوجود هلما واحدا يف الذهن .فاالتفاق يف املفهوم ال يستلزم
بد من مالحظته.االتفاق يف املصداق ،وهذا الفرق مهم جدا ال َّ
وما مضى كان عرضا سهالا ملا يقول به أهل السنة وأكثر الفالسفة
واملتكلمون يف هذه املسألة.
وأما غريهم ،فقد قالوا :إن ما يظهر لنا أنه تكثر يف الوجود اخلارجي فما هو
كذلك ،بل هذا حمض الوهم ،والواقع يف اخلارج ليس إال وجودا واحدا ،ولكنه يظهر
يف صور كثرية ،مبعىن أن املوجود فعالا إمنا هو واحد حقيقي ،ال كثرة وجودية فيه،
وأما ما نالحظه من كثرة ،فإمنا هي كثرة ومهية ،أو إضافية اعتبارية .وهؤالء هم
القائلون بوحدة الوجود ،وسوف ننقل بعض كالمهم فيما يلي لنبني مذهبهم كما
يريدون هم.
يعتربُ أن الوجود املتحقق هو الوجود الواجب فقط، إن مذهب وحدة الوجود ِ
وال وجود للممكنات مطلقا ،فوجود املمكنات مستحيل يف اخلارج ،واملمكن
املتحقق إمنا هو تلبس الوجود الواجب أبحكام املمكنات .وهذا كما هو معلوم
ألن وجوده جائز ،وعدمه خمالف ملا قرره أهل السنة من أن املمكن ،إمنا كان ممكناَّ ،
جائز ،أي إن العقل ميكن أن ينسب إليه الوجود ،وميكن أن ينسب إليه العدم ،وأما
على مذهب أهل الوحدة ،فليس األمر كذلك ،ألن وجود املمكن عندهم مستحيل
مطلقا ،فال ميكن للعقل أن ينسب الوجود إىل املمكن.
13
واحلقيقة أن هذا القول عندهم مرتتب على القول أبن الوجود ال ميكن أن
ينعدم ،وال ميكن أن يطرأ ،مبعىن أنه ال ميكن أن حيدث وجود بعد عدم ،وال أن
ينعدم وجود ،فال يوجد خلق للوجود ،بل اخللق إمنا هو تقدير للوجود عندهم ،أي
أن اخللق إمنا هو تصوير الوجود بقدر وبصفة املمكن ،وهذا الوجود الذي يظهر
بصفة املمكن هو الوجود الواجب ألنه ال وجود غريه عندهم ،ولذلك يقولون إن هللا
تعاىل –وهو الوجود الواجب -جتلى لذاته أبحكام املمكنات ،وإمنا الثابت عندهم
جمرد رسوم وتقييدات للواجب الوجود ،وال يوجد موجود واجب وموجود جائز بل
ال موجود إال واجب.
14
الفصل األول
قواعد وضوابط عامة في وحدة الوجود
سوف أورد فيما يلي بعض أهم الضوابط والقواعد اليت يتميز هبا مذهب
وحدة الوجود ،لكي أستعني هبا فيما أييت من املباحث.
15
قسموا املوجودات إىل الواجب واملمكنة ،قالوا :إن إن أهل السنة ملا َّ َّ
املمكنات غري مستحيلة الوجود ،ومعىن ذلك أن أي أمر ممكن ،فمعىن إمكانه هو
أنه ميكن وجوده وميكن عدمه ،وعند وجوده جيوز عليه االتصاف ابلصفات
املتقابلة ،كاحلركة والسكون إن كان جسما ،أو الصفات املتقابلة إن َل يكن جسما،
وهذا على قول من قال إبمكان وجود غري األجسام .فاملالئكة عند هؤالء ليسوا
أبجسام وجيوز عليهم االتصاف ابلصفات املتقابلة فليس كل املالئكة على نفس
الصورة.
ولكن القائلني مبذهب وحدة الوجود ،ال يقولون إبمكان وجود املمكن ،بل
يقولون ابستحالته ،وإمنا املمكن ينحصر أبحكامه ،وماهيته ،فاملمكن عندهم
مستحيل الوجود ،وأما ماهيته ،فمعىن إمكاهنا إمنا هو قدرة هللا تعاىل على التلبس
والظهور أبحكامها ،فهو الظاهر يف املظاهر ،فاجلسم مثالا ليس موجودا بوجود
ممكن ،فاملاهية اجلسمانية ظاهرة بعني الوجود اإلهلي ،فاهلل تعاىل هو الذي تصور
أبحكام اجلسمية من الطول والعرض واالرتفاع واحلركة ،والصورة اجلسمانية اخلاصة.
ومثال هذا الكالم الصورة الظاهرة على شاشة التلفزيون ،كيف تظهر صورة
بعد أخرى على نفس الشاشة ،فالشاشة نفسها مظهر -أي احملل الذي يظهر فيه-
تلك الصور املتالحقة ،واحدة بعد األخرى ،فلو رأينا سيارة أو رجالا يف التلفزيون،
فال يوجد ال رجل وال سيارة فيه ،بل املوجود فيه إمنا هو صورة الرجل والسيارة،
وأحكام الرجل والسيارة ،فاألشعة التلفزيونية تتجلى هبا هذه الصور لألعني ،وال
حقيقة وراء نفس الصور إال الشعاع ،فالشعاع واحد ،ولكنه يظهر مبظاهر خمتلفة.
وكذلك فال حقيقة وراء املوجودات املتكثرة إال حقيقة واحدة وهي الوجود
اإلهلي ،فهو الظاهر يف املظاهر ،وال وجود خاص لنفس العاَل ،بل الوجود كله هلل
تعاىل ،ولكن هللا تعاىل أظهر صورة العاَل يف ذاته ،أي إنه جتلى بصورة العاَل ،وجتلى
بصورة املمكنات ،وهذه الصور هي اليت يسموهنا ابلقيود اليت إذا جترد الواحد عنها
16
وختلص منها ابجملاهدات عرف أنه هو ،ال غريه ،أي إذا استطاع اإلنسان أن يتجرد
من مالحظة هذه الصور ،فإنه سيعرف أن حقيقة وجودها الذي وجدت هي به،
إمنا هو عني وجود هللا تعاىل ال غري وجود هللا تعاىل.
17
وال يصح أن يقوم اجلوهر (العني) بعرض ،وال أن يقوم جبوهر آخر ،مبعىن أن
اجلوهر ال يقوم يف جوهر آخر ،كم يقوم العرض يف جوهر غريه.
هذا هو خالصة قول علماء السنة يف هذه املسألة.
وأما القائلون مبذهب وحدة الوجود ،فال يوجد عندهم إال موجود واحد قائم
بذاته ،أي غري حمتاج إىل حمل ليقوم فيه ،وهو واجب الوجود ،وأما ما نالحظه يف
العاَل من أجسام وأعراض ،فإمنا هي صور األجسام واألعراض القائمة بذات الباري
جل ،فكما جتلى سيدان جربيل لسيدان حممد عليه السالم بصورة آدمي فكذلك
يتجلى هللا تعاىل عندهم بصورة العاَل مبا فيها من تنوع وتقييدات ،ولكن يبقى هو
هو ،وليس هو عني العاَل ،ألن العاَل هو حمض الصور ،وهللا تعاىل حمض الوجود،
فال عاَل حقيقي فعالا عندهم ،بل إمنا هو هللا تعاىل ،فحقيقة وجود العاَل إمنا هو
عني وجود هللا.
وال يعين هذا أهنم ال يفرقون بني اجلوهر والعرض ،بل يفرقون ،ولكن بناء
على هذا األصل الكبري القائلني به ،ورمبا نشري إىل كيفية تفريقهم بني اجلوهر
والعرض الحق ا.
19
وملا الحظ بعض علماء السنة هذا الفرق بني وجود العاَل وبني وجود هللا
تعاىل ،أطلقوا على العاَل أن وجوده جمازي ،هبذا املعىن ،وَل يريدوا أن العاَل غري
موجود أصال ،بل إهنم ملا الحظوا قوة وجود هللا تعاىل ابملقارنة مع وجود العاَل ،صار
وجود العاَل ابلنسبة إىل وجود هللا تعاىل كأنه وجود جمازي ،ألنه ال يقوم إال إبجياد
هللا تعاىل ،كما ال يقوم اجملاز إال بناء على لفظ له معىن حقيقي.
فإن أهل السنة إذا أطلقوا القول أبن العاَل له وجود جمازي َل يريدوا إال هذا
املعىن ،وأما القائلون بوحدة الوجود ،فإهنم عندما يطلقون على العاَل أن وجوده
جمازي ،فإهنم يريدون حقيقة هذا اللفظ .فإطالق أهل السنة اسم اجملاز على العاَل
جماز ،وإطالق أهل الوحدة اسم اجملاز على العاَل حقيقة عندهم.
واإلنسان يكون مشرك ا عند أهل الوحدة ما دام معتقدا بوجود العاَل ،ولكنه
يصل إىل أعلى مراتب التوحيد إذا اعتقد بعدم العاَل ،وان وجوده هو عني وجود هللا
تعاىل.
وأما أهل السنة فإن اإلنسان يكون مشركا عندهم ،إذا اعتقد استقالل العاَل
ابلوجود لذاته ،وأما إذا اعتقد أن العاَل موجود بوجود مغاير لوجود هللا تعاىل ،ولكن
بقاءه كذلك متعلق بتعلق قدرة هللا تعاىل فإنه يكون قد وصل إىل التوحيد احلقيقي.
ولذلك فإن التوحيد عند القائلني مبذهب وحدة الوجود معناه :ال وجود إال
هلل تعاىل ،فهم ينفون وجود كل ما سوى هللا تعاىل.
وأما توحيد أهل السنة ،فإنه يتم إبثبات أن كل األفعال فإمنا هي هلل تعاىل.
وال يصح االعتقاد بعدما مضى أبن أهل السنة يلزمهم على مذهبهم القول
ابشرتاك هللا تعاىل مع خلقه حبقيقة الوجود ،أي من حيث مصداقه ،فإنه ال يقول
ذلك إال من جهل مذهب أهل السنة ،أو أراد ترويج مذهبه.
21
هو إال وجود جمازي ،متوهم ،فهم يف جماهداهتم حياولون أن يرتقوا عن أوحال الوهم،
ويصلوا إىل أهنم عني الذات إلهلية ،أو بعبارة أصح ،يصلوا إىل أن وجودهم هو عني
وجود الذات اإلهلية.
ومن هنا برز عندهم مصطلح العوام واخلواص ،وإن كان مستخدما عند أكثر
الفرق اإلسالمية ،إال أهنم استعملوه مبعىن خاص ،فاخلواص عندهم هم من اعتقدوا
أنه ال وجود إال هلل تعاىل ،والعوام هم من ساروا مع أوهامهم ،واعتقدوا بوجود ذواهتم
بوجود غري وجود هللا تعاىل.
والقائلون ابلوحدة عندما يعتقدون بذلك ،فهم ال يريدون فقط نفي االعتقاد
بوجود مستقل يف القيام عن وجود هللا ،بل يريدون نفي كل وجود مغاير لوجود هللا
تعاىل .وفرق عظيم بني نفي اعتقاد استقالل الوجود احلادث عن وجود هللا تعاىل،
وبني نفي الوجود احلادث أصالا .فال وجود حاداثا مطلقا عندهم ،بل كل الوجود
قدمي ،وهو هو وجود هللا ،الذي ظهر لذاته أبحكام املمكنات.
فاحلادث عندهم هو فقط ظهور أحكام املمكنات بوجود هللا تعاىل ،وليس
ظهور عني املمكنات ،فهذا مستحيل عندهم.
فالوصول عند الصوفية القائلني بوحدة الوجود عبارة عن ظهور أن وجودان
هو عني وجود هللا تعاىل ،فهو ظهور احتاد وجودان بوجود هللا تعاىل ،ولكن ال بعد
تعدد وتكثر ،بل نفي الكثرة أصالا ،واعتقاد أهنا جمرد وهم.
وأما الوصول عند صوفية أهل السنة فهو االعتقاد ابالفتقار إىل هللا تعاىل يف
كل شيء ،مع بقاء مالحظة أن وجودان مغاير لوجود هللا تعاىل .فال احتاد مطلقا
عند أهل السنة.
والقائلون بوحدة الوجود ينفون االحتاد الناتج عن اثننيَّ ،
ألن االثنينية عندهم
منفية ،والتكثر وهم حمض ،ولذلك أيضا ينفون احللول ،ألن احللول سراين شيء
موجود يف شيء موجود آخر ،وال موجود إال هللا عندهم.
22
ولذلك فال يبعد عندهم نفي احللول واالحتاد ،بل ذلك واجب ،ألن احللول
واالحتاد ال يصدقان إال بعد االعتقاد ابلتكثر وتعدد الوجود ،فكيف يقال بذلك
والوجود واحد عندهم .فنفي احللول واالحتاد ليس دليالا على براءة النايف من وحدة
الوجود ،إال بعد بيان مراده وعلة نفيه.
بينما أهل السنة ينفون احللول واالحتاد ويقولون يف نفس الوقت بتكثر
الوجود وتعدده ،فالوجود اجلائز هو غري الوجود الواجب .ولكن أهل السنة ينفون
احللول واالحتاد الستحالة احتاد هللا تعاىل مبخلوقاته ،واستحالة سراينه وحلوله فيها،
وليس علة النفي نفيهم لوجود املخلوقات كما هو زعم القائلني بوحدة الوجود.
24
ففعل هللا تعاىل عند أهل السنة هو العاَل من حيث هو موجود يف اخلارج،
والنسبة الزمة له ،فإن الحظوا جمموع هذا املعىن ،يقولون إن العاَل هو أثر قدرة هللا
تعاىل ،وإذا َل يالحظوا النسبة الثابتة قالوا إن العاَل هو عني الفعل ،ولكنهم على كل
األقوال ال يقولون إن الفعل قائم بذات هللا تعاىل.
وأما القائلون بوحدة الوجود ،فلما انتفى وجود العاَل اخلارجي عندهم ،وَل
يبق بعد إال النسبة ،فاهلل تعاىل ليس فاعالا إال للنسبة ،والنسبة هذه قائمة بعني
وجود هللا تعاىل ،وملا كانت النسبة ليست موجودة بنفسها ،فال وجود مستقل
للنسبة عن ما تقوم هي به ،وملا َل يكن مثة موجود إال هللا تعاىل ،فالنسبة قائمة بعني
ذاته جل وعال.
وهلذا يعربون عن ذلك أبن العاَل موجود بوجود هللا تعاىل ،وال يقولون إن
العاَل موجود إبجياد هللا تعاىل ،بل هو قائم بعني وجود هللا تعاىل .ألن العاَل ليس إال
النسبة فال وجود له ،وليس العاَل إال جمرد االنتساب هلل تعاىل ،ولذلك فاملخلوقات
عندهم معدومة حقيقة ،وموجودة جمازا لتلبسها بوجود هللا تعاىل الذي ليس وجودا
هلا.
ولذلك يعتقدون أن الواحد من املخلوقات إذا جترد عن قيوده اليت هي عني
النسبة ،رأى أن وجوده هو عني وجود هللا تعاىل ،ولكن كان ينبغي أن يقولوا أن
هذه القيود هي قيود للذات اإلهلية ونسب الحقة هلا ،وال يقولوا أهنا قيود
للمخلوقات ،ألنه ال وجود للمخلوقات قط ،ومن ليس له وجود فكيف يتجرد عنه.
25
الفصل الثاني
الرد على رسالة النابلسي
المسماة
(إيضاح المقصود من وحدة الوجود)
إن الشيخ عبد الغين النابلسي ،ألـَّف العديد من الرسائل والكتب يف العديد
من املسائل واملواضيع ،يف الفقه واحلديث والتصوف والتوحيد ،وال خيلو كتاب من
كتبه من إشارات إىل عقيدة وحدة الوجود ،فهو يصرح هبا وال يلوح ،وينتهز الفرصة
بعد الفرصة يف سبيل بيان هذه العقيدة ونصرهتا.
وقد كتب كتاابا مطوالا يف توضيح معىن وحدة الوجود ونصرهتا وإثباهتا ،مساه
(الوجود احلق واخلطاب الصدق) ،وألف رسالة خمتصرة لنفس الغاية مساها (إيضاح
املقصود من وحدة الوجود) ،يف صفحات معدودة.
وحنن سوف خنصص هذا الفصل لنقد ما أودعه الشيخ عبد الغين النابلسي
يف رسالته ،ونعتمد يف ذلك على حتليل عبارته ،بناء على ما سبق بيانه من قواعد
وأصول ،وبناء على ما وضحه أئمة القائلني بوحدة الوجود يف كتبهم ورسائلهم
وأورادهم وأشعارهم ،وإشاراهتم وكلماهتم املرسلة املنقولة عنهم.
سبب أتليف الرسالة
لقد حدد النابلسي هدفه من أتليف الرسالة فقال ص" :6هذه رسالة عملتها
يف حتقيق املعىن املراد عند أهل هللا تعاىل احملققني األجماد ،إبطالق وحدة الوجود،
وقوهلم :ال شيء مع هللا تعاىل موجود ،وبيان صحة هذه املقالة ،ونفي ما عداها من
ضالالت أهل الغواية واجلهالة ،واحلكم على ما خيالف ذلك ابالستحالة".
26
النابلسي يقرر يف هذه املقدمة أن سبب أتليفه للرسالة هو حتقيق معىن وحدة
الوجود ،ويعرتف أن هذه العقيدة صحيحة ،وأن ما عداها إمنا هو ضالالت ،ومن
خيالفها فهو من أهل الغواية واجلهالة ،بل إن كل ما خيالفها من العقائد فإمنا هو
مستحيل ،مث ينسب هذه العقيدة إىل احملققني األجماد من أهل هللا تعاىل ،وسوف
نعرف أمساء بعض هؤالء من النابلسي كما سيذكرهم بعد قليل.
والنابلسي يقرر أن ملخص عقيدة وحدة الوجود هو (ال شيء مع هللا تعاىل
موجود) ،وهذا هو معناها الذي سبق أن أشران إليه يف الفصول السابقة ،وهذا املعىن
هو املعىن الباطل املخالف لعقيدة أهل السنة ،كما قلنا ،ولكن النابلسي يعكس
الوضع هنا.
والذي ال بد من مالحظته هو أن الصوفية القائلني بوحدة الوجود ال يعرتفون
لعلماء التوحيد أبهنم هم الذين يقررون العقائد الصحيحة ،بل يعتربوهنم جمرد
متكلمني ابلباطل ،ويتهموهنم أبهنم ال يستندون إال إىل اجلهل ،ويصفوهنم أبهنم
حمجوبون ،واحلجب هنا يف اصطالح الصوفية انشئ عن أن املتكلمني يعتقدون
بكثرة الوجود ،أي إهنم يقولون إن هللا تعاىل خلق العاَل املوجود بقدرته ،وهذا يلزم
منه تكثر الوجود واملوجود ،وإن كان العاَل ال ميكن استمرار وجوده إال إبذن هللا
تعاىل وتعلق قدرته تعاىل إبجياده.
فمن يعتقد أن العاَل موجود ،فإنه عند أهل الوحدة حمجوب عن احلقيقة،
واحلقيقة عندهم هي أن هللا تعاىل َل خيلق شيئ ا من العدم ،وَل يوجد العاَل من عدم،
بل َل يوجد شيئا مطلقا .وإذا كانوا يعتقدون هبذا األمر فالطبيعي عندهم أن القائل
ابلكثرة يف املوجودات يكون حمجوابا عن احلقيقة.
ولكن اعتبارهم ووصفهم للمتكلمني هبذه األوصاف ال يقلب احلق ابطالا،
فالكفار كانوا يقولون عن سيدان حممد عليه الصالة والسالم أنه صابئ ،والنصارى َل
يعرتفوا بنبوة النيب ،واليهود ينكروهنا ،والشيوعيون كانوا ينكرون اإلسالم ،ويقولون:
27
إن املسلمني جاهلون العتقادهم بوجود هللا تعاىل ،والصوفية هنا يقولون إن
املتكلمني جاهلون العتقادهم بوجود العا ََل ،وكلٌّ يـُغَِين على لَْياله.
28
والعيان ،وعلومهم غري مستفادة من اخلواطر الفكرية واألذهان وبداية طريقهم
التقوىوالعمل الصاحل ،بداية طريق غريهم مطالعة الكتب"
هذه الفقرة فيها عدة دعاوي:
الدعوى األوىل :أن الكالم يف عقيدة وحدة الوجود قدمي عند العلماء.
الدعوى الثانية :أن الذين ردوا ورفضوا عقيدة وحدة الوجود هم احملجوبون،
ومن قبلها وقال هبا فهم العارفون احملققون.
الدعوى الثالثة :يوجد معىن صحيح لوحدة الوجود ومعىن آخر فاسد.
الدعوى الرابعة :القول بوحدة الوجود ال خيالف قول أهل السنة.
وسوف ندير الكالم على هذه الدعاوي على الرتتيب املذكور.
29
مث إن بعض من أشار إىل وحدة الوجود وإىل القول هبا من املتقدمني ،حكم
عليه كثري من العلماء املتقدمني ابالحنراف والزندقة ،ومنهم احلالج ،وقصته مشهورة
معروفة ،وقد يستغرب البعض من نسبتنا القول بوحدة الوجود إليه ،واملشهور أنه
كان قائالا ابالحتاد واحللول ،ولكن هذا االستغراب ينحل مبجرد معرفة وقراءة كلماته
نفسها ،مث فهمها .وقد يقول البعض إن احلالج َل يكن قائال بوحدة الوجود ،بدليل
وجود كالم له موافق يف كثري من ظاهره لكالم أهل السنة ،واجلواب ،كما أنه يوجد
له كالم حيتمل موافقة أهل السنة ،ولكنه يصح محله على عقيدة وحدة الوجود ،وملا
وجد له كالم أصرح يف القول بوحدة الوجود ،قلنا بظهور اعتقاده بوحدة الوجود.
واألمر حيتمل النظر.
وأيضا إذا تنبهنا إىل أن مصطلح وحدة الوجود َل يظهر إال يف القرون
املتأخرة ،وعلى أقل تقدير القرن السادس والسابع ،وقبل ذلك كانت توجد إشارات
إىل هذا املذهب ،فالذين كانوا يقولون به َل يكن عندهم اسم له ،والذين ردوا عليه،
أطلقوا عليه أقرب اسم معروف لديهم ،وأقرب مذهب إىل وحدة الوجود هو احللول
واالحتاد ،بفارق أن احللول واالحتاد يسبقه التكثر يف الوجود ،خبالف وحدة الوجود،
والنتيجة بينهم واحدة ،وهي أن اخللق عني اخلالق ،وأيضا عدم التكثر يف الوجود،
بل تصبح أنت هو ،وهو أنت.
فجاء إطالق اسم احللول واالحتاد على وحدة الوجود من هذا اجلانب ال
رد على القائلني ابحللول واالحتاد ،فاحلقيقة أنه رد
غري ،فتصبح النتيجة أن بعض من َّ
على وحدة الوجود.
فالقول إذن أبن وحدة الوجود كانت مقبولة مشهورة عند العلماء املتقدمني،
قول ابطل ،بل ادعاء قبوهلا بني العلماء املتأخرين أيضا مردودة ،فأكثر املتأخرين
ردوها ،كما ردها أكثر املتقدمني.
30
31
هل املعارضون لوحدة الوجود حمجوبون
احلقيقة أن القول أبن من نفى وحدة الوجود حمجوبون ،وأن من قال هبا فهو
املكشوف له ،واملطلع على احلقيقة ،هو قول مغالطي ال يقوم على دليل .وإطالقه
هكذا سفسطة واضحة.
إن وحدة الوجود أصالا حسب املعايري العلمية والعقلية الرصينة قول َل يتضح
برهانه بعد ،واختلف فيه الناس ،وإن كان أكثر اخللق ينفونه ،ولكن قول البعض
منهم به ،ال جيوز اختاذه دليالا على صحته يف نفسه ،فال خيلو قول ابطل أو صحيح
من أن يوجد قائل به من الناس.
وكون القائل به حمجوابا ،ال يصح قوله إال ممن يعتقد بصحة وحدة الوجود،
ويقطع هبا ،ولكن هذا احملجوب حيكم أيض ا على القائل بوحدة الوجود ابحلجب
واجلهل أيضا.
واستعمال لفظ احلجب هنا للداللة على اجلهل موافق ملذهب أهل الوحدة،
ألن احلجب مقابل للكشف ،والطريق الصحيح للعلم عندهم هو الكشف ،فمن ال
كشف له ،فهو حمجوب ،ولكن أهل احلق يستعملون مصطلح العلم واجلهل ،ال
مصطلح الكشف واحلجب ،فمن خالف احلق فهو جاهل ،أو معاند ،ومن وافق
احلق وقال به ،فهو عاَل أو متيقن.
32
املعىن الصحيح واملعىن الباطل لوحدة الوجود
إن البدء ابلقول أبن لوحدة الوجود معىن صحيح ا ومعىن آخر ابطالا ،ال
يسمن وال يغين من جوع ،فاجملسمة يقولون إن َّ
احلد واجلسمية هلا معىن حممود ومعىن
آخر مذموم ،أو معىن صحيح ومعىن آخر ابطل ،وكل إنسان ميكن أن يتبع هذا
السبيل ،وهذا املنهج إمنا هو اخلطوة األوىل يف سبيل تشكيك الناس يف احلكم مطلقا
ابلبطالن على وحدة الوجود ،وهذا هو نفس هدف اجملسمة من ادعاءاهتم.
واحلق أنه ال يلتفت إىل القائلني هبذا القول مطلقا ،بل إذا سلمنا بوجود
معنيني أحدمها صحيح واآلخر ابطل ،فإن هذا يوجب االبتعاد عن استعمال مثل
هذا اللفظ يف مقام الدعوة إىل علم التوحيد .وعلى كل األحوال ،فإننا سوف ما دار
حول هذا املعىن بني العلماء.
لقد اشتهر بني بعض من تكلم يف وحدة الوجود أن لوحدة الوجود معنيني
أحدمها ابطل واآلخر صحيح ،واحتج البعض مبا قاله الصاوي يف ذلك املعىن يف
شرحه على جوهرة التوحيد ،ومبا ذكره بعض العلماء ،وسوف أبني هنا حقيقة هذا
احلال ليعرف هل استناد هؤالء صحيح أم ابطل.
ولكي نتوصل إىل ذلك سوف أنقل النص الذي يعتمدون عليه يف ذلك
املقام ،وحنلله ،لنعرف حقيقة املقام.
قال الصاوي يف شرحه على جوهرة التوحيد(]:)[1
"تنبيه:
شاع على ألسنة العوام( :هللا موجود يف كل الوجود) ،وهو كالم صحيح يف
نفسه ،ألن مفاده وحدة الوجود ،لكنه غري الئق منهم ،إليهام احللول ،وأتويله أن
تقول:
33
معناه أنه مع كل موجود ،أي :ال يغيب عن موجود أصالا ،ومعيته معه
معناها :تصرفه فيه وتدبريه له ،معية معنوية ال يعلمها إال هو ،كما أن ذاته ال
يعلمها إال هو ،ال خيفى عليه شيء يف األرض وال يف السماء.
ومن كالم ابن وفا .....:أن من أعظم إشارات وحدة الوجود ،قوله
ِ
يكف تعاىل(سنريهم آايتنا يف اآلفاق ويف أنفسهم حىت يتبني هلم أنه احلق ،أ ََوََلْ
بكل ٍ
شيء بربك أنه على كل شيء شهيد ،أال إهنم يف ِمْريٍَة من لقاء رهبم ،أال إنه ِ
حميط)
قول أيب مدين ومن ألطف إشاراهتا كما قال شيخنا األمري يف حاشيته ُ
التِلِمساين:
ـت م ـ ـراتدا بلـ ــو َ كمـ ـ ِ
ـال إن كن ـ َ الوجود وما حـوى َ هللاَ قُ ْل َوذَ ِر
عــدم علــى التفصــيل واإلمجـ ِ
ـال فالك ـ ـ ـ ــل دون هللا إن حققت ـ ـ ـ ــه
ل ــواله يف َْحمـ ـ ٍو ويف اض ــمحالل واعلـ ـ ــم أبنـ ـ ــك والع ـ ـ ـواَلَ كلَّهـ ـ ــا
فوج ـ ـ ــوده ل ـ ـ ــواله ع ـ ـ ــني حم ـ ـ ــال م ــن ال وج ــود لذات ــه مــن ذات ــه
ش ـ ــيئا س ـ ــوى املتك ـ ــرب املتع ـ ــايل والع ــارفون فَـنُ ـوا ب ــه َل يش ــهدوا
يف احلــال واملاضــي واالسـ ِ
ـتقبال ورأوا س ـ ـ ـ ـ ـواه عل ـ ـ ـ ــى احلقيق ـ ـ ـ ــة
هالكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
35
فاملعية الواردة يف القرآن معناها تصرف هللا تعاىل لكل املوجودات ،وتدبريه
هلا ،ال وجوده معها ،وال كون وجودها عني وجوده ،مث قال :إن هذه املعية معية
معنوية ال يعلمها إال هو ،كما أن ذاته ال يعلمها إال هو.
إذن فاحلاصل أن العبارة حمل التحليل ،إذا قلنا أن معناها صحيح ،فإن املعىن
الصحيح الذي نصرفها إليه ،هو معىن املعية املعنوية اليت معناها تدبري هللا تعاىل
للمخلوقات.
إذن املعىن الصحيح الذي يراه الصاوي لوحدة الوجود ،هو معىن املعية
املعنوية ،ال املعية احلقيقية ،أي املعية الذاتية ،اليت قال هبا بعض الناس ،واليت
حاصلها أن هللا تعاىل متحد يف وجوده مع وجود املخلوقات ،أو أن وجود
املخلوقات هو عني وجود هللا تعاىل ،وهو املعىن الصحيح لوحدة الوجود ،الذي
وضحناه سابقا يف التمهيدات.
إذن ،إذا قلنا أن لوحدة الوجود معىن صحيح ،فإن هذا املعىن الصحيح راجع
إىل أن هللا تعاىل مدبر جلميع املخلوقات ،ومتصرف فيها ،وعاَل هبا ،وال يعزب عن
علمه أي شيء يف الوجود.
أي إننا إذا قبلنا وحدة الوجود على رأي الصاوي ،فإننا ال جيوز أن حنملها
على معىن غري املعىن الذي ذكرانه ،وهو معىن املعية على رأي أهل السنة ال على
رأي القائلني بوحدة الوجود احلقيقية.
وهذا يف احلقيقة نفي لوحدة الوجود ،كما يقول هبا ابن عريب والنابلسي،
وليس موافقة على هذا املعىن.
وأما املعىن الثالث ،وهو االستشهاد بكالم البعض كابن وفا ،والتلمساين،
فأكتفي هنا ابلقول أبن ابن وفا حسب ما يظهر يل من قراءة ما نقل عنه ،قائل
بوحدة الوجود على معناها الباطل ،واستشهاده ابآلية املذكورة ،فوجه االستدالل
هبا ،أن اآلايت اليت يف اآلفاق ويف األنفس ،هي عني املوجودات اليت هي مظاهر
36
الذات اإلهلية ،فهذا اآلايت هي موجودات بنفس وجود الذات اإلهلية ،ال بوجود
آخر خاص هبا ،فمن رأى هذه اآلايت ،ورأى أهنا مظاهر ،علم أن هللا تعاىل هو
احلق ،أي هو الثابت ،وهو املوجود احلق بوجود خاص ،ال غري ،أي يعلم الناظر أن
هذه اآلايت ما هي إال مظاهر ال وجودات مغايرة لوجود هللا تعاىل.
وأما التلمساين ،فكالمه يف هذه األبيات الشعرية ،ليس نصا يف وحدة
الوجود ابملعىن احلقيقي كما يقول به ابن عريب والنابلسي ،وهو املعىن الباطل الذي
ال يقبله أهل السنة ،وليس كذلك نصا صرحيا يف املعىن الذي ميكن أن يقبله العلماء
ومنهم الصاوي ،والذي أرجعه إىل معىن املعية املعنوية ،ال املعية الذاتية.
فاحلاصل أننا خنالف الصاوي يف فهمه لكالم ابن وفا ،والتلمساين ،فهو
حيمل كالمهما على املعىن الصحيح املقبول عنده ،ولكننا نرى أن كالمهما ليس
كذلك ،ومحله على ما قال حيتاج إىل قرائن أخرى قد ال تتوفر له.
فنحن نوافق إذن الصاوي يف خالصة املعىن الذي محل عليه كالم العوام،
ولكننا ال نوافقه يف تفاصيل كالمه ،وال نوافقه يف احلكم بتصحيح العبارة حبجة أن
مفادها هو وحدة الوجود ،ألن معىن املعية املعنية ،ال يسمى عند العلماء بوحدة
الوجود ،فتسميته للمعية ابسم وحدة الوجود ،غري صحيح .بل وحدة الوجود آيِل
إىل املعية الذاتية ،اليت حاصلها أن ال معية أصالا ،بل الكل واحد .مث إن معىن
مصطلح (وحدة الوجود) ليس معىن مقبوال مشهور القبول حىت يتخذ معيارا لقبول
الكالم ورده .بل هو مشكل يف غاية اإلشكال كما سنبني ،وكما وضحنا سابق ا.
فهذا هو تعليقنا املختصر على عبارة الصاوي.
وقد ذكر العالمة األمري يف حاشيته على شرح الشيخ عبد السالم على
جوهرة التوحيد ،كالما له تعلق مبا هنا ولذلك سوف نذكره لزايدة الفائدة.
37
قال العالمة األمري(] )[2تعليقا على قول الشارح(" :فواجب له) صفة نفسية
له (الوجود) الذايت مبعىن أنه وجد لذاته ال لعلة فال يقبل العدم ال أزالا وال أبدا
لوجوب افتقار العاَل وكل جزء من أجزائه إليه تعاىل":
"(قوله :الذايت) وأما غريه فهو فعله ،وذهب بعض املتصوفة والفالسفة إىل أنه
تعاىل الوجود املطلق ،وأن غريه ال يتصف ابلوجود أصال ،حىت إذا قالوا اإلنسان
موجود ،فمعناه أن له تعلقا ابلوجود وهو هللا تعاىل ،وهو كفر ،وال حلول وال احتاد.
فإن وقع من أكابر األولياء ما يوهم ذلك أ ُِوَل مبا يناسبه كما يقع منهم يف
وحدة الوجود ،كقول بعضهم ما يف اجلبة إال هللا ،أراد أن ما يف اجلبة بل والكون كله
ال وجود له إال ابهلل ،فاهلل ميسك السموات واألرض أن تزوال ،ولئن زالتا إن
أمسكهما من أحد من بعده ،وذلك اللفظ وإن كان ال جيوز شرع ا إليهامه ،لكن
القوم اترة تغلبهم األحوال ،فإن اإلنسان ضعيف إال من متكن إبقامة املوىل سبحانه.
ورأيت يف مفاتيح الكنوز أن احلالج قال( :أان) وفيه بقية من شعوره بنفسه ،مث فين
بشهوده فقال ( :هللا) ،فهما كلمتان يف مقامني خمتلفني ،لكن ممن أفىت بقتله اجلنيد
كما يف شرح الكربى عمالا بظاهر الشريعة الذي هو أمر الباطن الظاهر.
وابجلملة فاملقام العظيم ال حتيط به العبارة ،والوجدان خيتلف حبسب ما يريد
احلق(] ".)[3انتهى
هذا هو كالم األمري الذي اعتمد عليه الصاوي ،وكالم األمري أكثر حتقيقا
من كالم الصاوي ،واملتأمل فيه يرى أنه يتألف من املعاين األساسية التالية:
أوال اَ :وضح ما هو مذهب وحدة الوجود عند الصوفية القائلني به ،وحكم
عليه أبنه كفر.
اثنياً :حدد املوقف الشرعي الذي جيب اختاذه من الكلمات الدالة على
وحدة الوجود.
38
فأما املعىن األول ،فقد بني رمحه هللا أن معىن وحدة الوجود ،هو أنه ال وجود
إال هلل تعاىل ،ألن هللا تعاىل هو الوجود املطلق ،وهو عني مذهب وحدة الوجود
الباطل ،وبناء على هذا املذهب يلزم أنه ال وجود لغريه أصالا ،وابلتايل فإن معىن
قوهلم اإلنسان موجود ،أنه له تعلق ابلوجود ،أي أنه عبارة عن نسبة بني ماهية
وهوية اإلنسان وبني وجود هللا تعاىل الذي هو الوجود املطلق ،وهو املراد بقوهلم أبن
هللا تعاىل يظهر أبحكام املمكنات ،ويتجلى لذاته بذاته ،وهذا املعىن معىن ابطل
عند العالمة األمري ،وهو كفر ال ريب فيه ،ومع ذلك فال حلول وال احتاد ،أي إن
القائل هبذا املعىن ال يلزمه القول ابحللول وال القول ابالحتاد ،ألنه ال تكثر للوجود
أصالا عنده ،وهو كفر .فاألمري إذن مييز هنا ابلضبط املذهب احلقيقي لوحدة
الوجود ،وينص على بطالنه.
مث يبني املوقف العملي من كلمات صادرة عن الناس يظهر فيها هذا املعىن،
كقول احلالج ما يف اجلبة إال هللا ،فاألمري فسره أبنه أراد أن الكون كله ال يوجد إال
إبجياد هللا تعاىل ،بناء على ما قاله أوالا من أن الوجود الذايت إمنا هو هلل تعاىل وحده،
والوجود املفتقر لسائر العاَل ،وهذا وإن كان هو املذهب الصحيح ،إال إننا ال نقطع
أنه مراد احلالج ،فإن كلمته رمبا يظهر منها مع غريها من كلماته املنقولة عنه معىن
وحدة الوجود ابملعىن الباطل الذي حكم عليه األمري أبنه كفر.
وإرجاعه اختالف العبارات عن هؤالء الناس حبسب اختالف األحوال
واملقامات ،وقدرهتم على هذه املواقف ،وإن كان قاله غريه ،إال أن هذا التعليل ال
ينبغي أن مينعنا من اختاذ موقف من نفس هذه الكلمات أبهنا ابطلة ،وهو عني ما
فعله األمري هنا.
إ َذ ْن فاملقصود عند العلماء امللتزمني أبحكام الشريعة ،من أنه يوجد معىن
صحيح لوحدة الوجود ،هو أنه جيب علينا أتويل الكالم الدال على املعىن الباطل
الذي يقول به أصحاب هذا املذهب ،ملعىن آخر مقبول عندان إذا صدرت هذه
39
الكلمات ممن اشتهر عندان حسن سريته ،فاملسألة إذن ليست إال موقفا عمليا مما
ينقل من كلمات معناها الظاهر ابطل ،وهذا املعىن الصحيح حاصله أن الكون
والعاَل املوجودَ ،ل يكن ليوجد بسبب علة ذاتية له ،بل وجود إمنا هو بسبب إجياد
هللا تعاىل إايه .فوجود العاَل ليس عني وجود هللا تعاىل.
هذا الكالم وإن كان خمتصرا يف ما يدعيه البعض من وجود معىن صحيح
لوحدة الوجود ،إال إننا نرجو كفايته يف هذا املقام ،وسوف أييت لنا كالم آخر عند
نقد كالم النابلسي املتعلق هبذا املقام.
40
هل القول بوحدة الوجود ال خيالف قول أهل السنة
هذا هو املعىن الرابع مما ذكره النابلسي الذي سوف نقوم بتحليله هنا.
إن الشيخ النابلسي َّادعى يف كالمه السابق أن االعتقاد بوحدة الوجود على
صر -ال خيالف مذهب أهل السنة مطلق ا. املعىن الصحيح –كما ي ِ
ُ
وقد عرفنا مما مضى قصة املعىن الصحيح واملعىن الفاسد لوحدة الوجود،
وعرفنا أنه ال يوجد معنيان ،بل املعىن الذي يسميه بعض العلماء أبنه صحيح ،إمنا
هو أتويل للعبارات الظاهرة يف املعىن الباطل ،هروابا من احلكم ابلتكفري على من
قاهلا ،واملعىن املؤول ال يقال عليه إنه معىن اثن ،بل ال معىن حقيقي إال واحد،
واآلخر مؤول ،هذا عند أهل السنة ،وأما عند القائلني بوحدة الوجود ،فاملعىن
احلقيقي عندهم لوحدة الوجود هو املعىن الباطل هلا عند علماء أهل السنة ،كما
رأينا ذلك يف عبارة العالمة األمري.
وسنعرف املعىن الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي ،لنعرف أن لوحدة
الوجود معىن ابطالا آخر عند الفريقني أقصد أهل السنة والقائلني بوحدة الوجود كما
عند النابلسي وابن عريب ،وغريهم ،وهذا املعىن اآلخر ،هو يف احلقيقة مذهب آخر
قال به بعض املنحرفني ومسوه ابسم وحدة الوجود ،وهو وجه آخر لوحدة الوجود
النابلسية.
وال نريد هنا أن نعلق على ادعاء النابلسي أبن النافني لوحدة الوجود إمنا هم
جاهلون ،وعلومهم غري صحيحة ،وأهنم َل يعرفوا اصطالح القائلني هبا ،وما قاله من
أن علوم القائلني هبا مبين على الكشف والعيان ،فإن الكشف ليس طريقا من طرق
املعرفة عند أهل السنة ،ألنه ال ضابط له.
41
نص العلماء على كونه ليس وأنت ترى أن النابلسي يقدم الكشف الذي َّ
طريقا للعلم عند أهل السنة ،يقدمه على النظر الصحيح الذي عرب عنه تنـزيالا من
َخذ من الكتب ،وكيف يَ ُذم األخ َذ من الكتب وقد أنزل هللا تعاىل إلينا
مقامه أبنه أ ْ
كتاابا لنأخذ منه ،وأمر العلماء بتدوين ما عرفوه يف الكتب ،فهل يكون هذا كافيا
لذم علوم النافني لوحدة الوجود ،كال ،بل األمر ال يتعدى أن يكون زايدة تشنيع
من النابلسي لينفر أتباعه من كتب العلماء الراسخني من أهل السنة.
ولكن الذي ال بد من تقريره هنا ،أن العلماء الذين نفوا وحدة الوجود هم
من أعاظم أهل العلم ،ومن األئمة املتَّبعني ،وال يقال على هؤالء أهنم جاهلون ،وال
أهنم غري عاملني ،فمنهم السعد التفتازاين ،ومنهم عالء الدين البخاري ،ومنهم عالء
الدولة السمناين ،ومنهم األئمة املتقدمون الذين أنكروا على احلالج كاجلنيد،
مر
وأصحابه ،ومنهم من شنع على ابن عريب خاصة كالسرهندي النقشبندي ،وقد َّ
معنا كالم العالمة األمري ،وغريهم كثري ،وأما الذين يلزم من كالمهم الرد على
مذهب وحدة الوجود ،فهم أعاظم علماء األمة ،من القرون األوىل واملتأخرة ،وليس
هذا املوضع هو املالئم الستقراء أمسائهم ،ولكين ال أعتقد أن أحدا يقول أبن هؤالء
جاهلون ابالصطالح ،أو من احملجوبني ،وليت شعري إذا كان هؤالء حمجوبني،
فمن هم الذي انكشفت هلم احلقيقة.
واحلاصل من هذا أن قول النابلسي أبن وحدة الوجود ال يعارض مذهب
أهل السنة جمرد ادعاء ،ال دليل عليه ،بل الدليل قائم على بطالنه ،وحنن سوف
نبني ذلك تفصيال يف أثناء نقدان لباقي كالم النابلسي يف رسالته هذه ،وسوف
يتضح لنا بصراحة أن مذهب وحدة الوجود ال ميكن أن يتوافق مع مذهب أهل
السنة ،وال ميكن أن يوجد إنسان قائل بوحدة الوجود ،يف حال كونه معتقدا أبقوال
أهل السنة ،إذن؛ فمذهب وحدة الوجود ال ميكن اجتماعه مع مذهب أهل احلق.
42
موقف النابلسي من علم الكالم
وقد أوجب النابلسي على كل واحد بعد ذلك(] " :)[4أن يبحث عنه –أي
عن املعىن الصحيح لوحدة الوجود ،-ويتحقق به على الوجه التام ،وحيفظ عليه
ويرتك ما عداه من أقوال علماء الكالم ،ألنه القول احلق واالعتقاد الصدق،
والواجب أيضاا محايته من طعن الطاعنني وذم اجلاهلني له ،املتكلمني فيه من غري
معرفة به الضالني املضلني".اهـ.
إذن جيب شرعا على اإلنسان املكلف أن يبحث عن املعىن الصحيح لوحدة
الوجود ،وأن يؤمن به ،وأن يدافع عنه ،وحيرم عليه ابلتايل أن يتأثر بكل من خيالف
القول بوحدة الوجود.
وإجياب القول بوحدة الوجود ،على كل مكلف ،هو إفراط يف االنتصار هلذا
املذهب الذي ذمه أكثر علماء األمة احملققني ،ينقلب هذا املذهب عند النابلسي
إىل فرض عني على كل مكلف ،فسبحان هللا!
وهذا املوقف العملي من النابلسي ينبين على عدم اكرتاثه مطلقا ابملخالفني،
وذلك لسبب بسيط جدا وهو أن املخالفني لوحدة الوجود ال يعتمدون على
الكشف ،مث هم خيالفون أولياء هللا الذين انكشف هلم احلجاب ،واطلعوا على
املغيبات عياانا.
إذا التفتنا حنن إىل هذه اخللفية للمعتقد بوحدة الوجود فإننا نرى موقف
النابلسي املتشدد من املخالفني مربرا.
وأما علم الكالم وعلماء الكالم عند النابلسي فهو علم مذموم ،كما هو
حكمه ابلضبط عند اجملسمة والفالسفة ،وأما علم الكالم عند أهل السنة فهو علم
أصول الدين وهو علم واجب على الكفاية ،ألن به ميكن الكشف عن البدع
43
االعتقادية ،وبواسطة القواعد املبينة فيه ،ميكن الرد على املخالفني للدين اإلسالمي،
الرِديَِّة ،كامل َج ِس َم ِة
وعلماء الكالم هم الذين ميكنهم الرد على أصحاب املذاهب َّ
ُ
والقائلني بعصمة األئمة ،والقائلني حبلول هللا تعاىل يف أبدان األئمة ،وعلى املذاهب
املناقضة لإلسالم الذي هو الدين احلق ،كالشيوعية والرأمسالية والنصرانية واليهودية،
وغريها ،من املذاهب املناقضة للدين اإلسالمي.
هكذا هم علماء الكالم عند أهل السنة ،ولكنهم عند النابلسي أصحاب
كالم ابطل ،جمرد كالم يف كالم ،ال يغين وال يفيد ،فهل موقف النابلسي يعكس
حقيقة موقف أهل السنة ؟!
إنه من الواضح اجللي أن النابلسي خيالف كالم علماء أهل السنة عندما
يضع علماء الكالم يف حمل العابثني ،واحلقيقة أن هذا ليس موقف النابلسي فقط
بل هو موقف مجيع القائلني بوحدة الوجود قاطبة ،كابن عريب ،وابن سبعني،
وغريهم ،ومجيع أتباعهم ،بل إنين يف هذا الزمان رأيت بعض القائلني بذلك واملتأثرين
مبوقف ابن عريب ،من يقلل من شأن علماء الكالم ،ويدعي أهنم عابثون ،وهو مع
قوله الفاسد هذا يعتقد أنه موافق ألهل السنة ،ومتبع هلم ،وواقع احلال أنه خيالفهم
بل يناقض أقواهلم ،ويعاديها اعلم أو َل يعلم.
والسبب يف أن القائلني بوحدة الوجود يعرتضون على علماء الكالم ،ويذمون
النظر العقلي املبين على القواعد اليت بينها العلماء يف علم الكالم واملنطق وأصول
الفقه ،هو أن عقيدة وحدة الوجود ال تتفق مع القواعد املقررة اليت حققها علماء
اإلسالم ،بل إن الذي يتبع القواعد الصحيحة فإنه ال شك سينتهي إىل خمالفة
القول بوحدة الوجود ،وإىل نفيها ،وهكذا هم علماء الكالم الذين يتبعون هذه
رد على أصحاب الوحدة القواعد النظرية العظيمة ،فقد كان املتكلمون هم من َّ
الوجودية ،من الفالسفة والصوفية ،فلذلك كان أهم األمور اليت يوصي هبا أهل
الوحدة أتباعهم هي عدم التعمق يف علم الكالم ،وعدم االعتماد على القواعد
44
النظرية ،بل إهنم يصرحون أبن علماء الكالم هم أهل الرسوم واملتبعون لظواهر
األمور ،ويصفون أنفسهم أبهنم أهل الكشف والتحقيق ،املطلعون على حقائق
األمور ابلكشف العيان ،ويقولون أبهنم يستمدون علومهم ومعارفهم من احلق
مباشرة ،خبالف علماء الكالم ،الذين أيخذون علومهم ومعارفهم عن األموات.
مث إن بعض املشايخ املعاصرين القائلني بوحدة الوجود ينهون أتباعهم عن
األخذ عمن يتمسك ابلقواعد النظرية وأساليب أهل السنة يف البحث والنظر،
وحيضوهنم على التمسك ابملكاشفات اليت نص أهل السنة أنفسهم على أهنا ال تفيد
العلم.
فيتضح من ذلك أن أهل الوحدة خمالفون ألهل السنة يف الطريقة ويف
األحكام ،وهذا يعين أهنم خيالفوهنم يف املذهب العقائدي ،واملوقف العملي التابع
لذلك.
وما أقرب هذا األسلوب الذي يتبعه النابلسي هنا وابن عريب وغريهم،
أبسلوب ابن تيمية ،واحلقيقة أن طريقة معاجلة القائلني بوحدة الوجود للنصوص
الشرعية قريبة جدا من الطريقة اليت تبعها اجملسمة ،واملوقف العملي الذي يتخذه
هؤالء من خمالفيهم قريب جدا من موقف أولئك .واجلامع املشرتك بينهم هو عدم
كون مذهبهم مبني ا على أدلة قوية ،بل َّ
إن مذهبهم مبين على جمرد تومها فاسدة ال
قيمة هلا يف ميزان العلم والنظر والقواعد العقلية ،ولذلك فإن كال هذين الفريقني
يهربون من االحتكام إىل املنهج العقلي يف النظر والبحث.
45
بيان وحدة الوجود عند النابلسي
قال الشيخ عبد الغين النابلسي(]" :)[5واعلم أن ليس املراد بوحدة الوجود
خالف ما عليه أئمة اإلسالم ،بل املراد يف ذلك ما اتفق عليه مجيع اخلاص والعام،
وما هو معلوم من الدين ابلضرورة من غري إنكار أصالا من مؤمن وال من كافر ،وال
يتصور فيه إنكار عند العقالء من األانم.
إن مجيع العواَل كلها على اختالف أجناسها وأنواعها وأشخاصها موجودة
من العدم بوجود هللا تعاىل ال بنفسها ،وإذا كان كذلك فوجودها الذي هي موجودة
به يف كل حملة هو وجود هللا تعاىل ،ال وجود آخر غري وجود هللا تعاىل.
فالعواَل كلها من جهة نفسها معدومة بعدمها األصلي ،وأما من جهة وجود
هللا تعاىل فهي موجودة بوجوده تعاىل ،فوجود هللا تعاىل ووجودها الذي هي موجودة
به وجود واحد ،وهو وجود هللا تعاىل فقط ،وهي ال وجود هلا من جهة نفسها
أصالا ،وليس املراد بوجودها الذي هو وجود هللا تعاىل عني ذاهتا وصورها ،بل املراد
ما به ذواهتا وصورها اثبتة يف أعياهنا ،وما ذلك إال وجود هللا تعاىل إبمجاع العلماء
العقالء منها ،وأما ذواهتا وصورها من حيث هي يف أنفسها ،مع قطع النظر عن
إجياد هللا تعاىل هلا بوجودها] [6سبحانه ،فال وجود ألعياهنا أصالا.
وأما الوجود الذي به تلك الذوات والصور موجودة فال شك أبنه وجود هللا
تعاىل عند مجيع العقالء بال خالف ،وكالم احملققني من أهل هللا تعاىل عن هذا
الوجود ال عن الوجود الذي هو عني ذات املوجود ،فاخلالف يف رد القول بوحدة
الوجود وقبوله ،مبين على تعيني املراد ابلوجود ،فمن فسره بعني ذات الوجود يرد
القول بوحدة الوجود ،إلثباته وجوداا حاداثا ،هو عني ذات املوجود احلادث ،ومع
ذلك رده للقول بوحدة الوجود حمض خطأ ،ألن هذا الوجود احلادث الذي يزعم أنه
46
وجود اثن غري وجود هللا تعاىل ،قائم عنده بوجود هللا تعاىل ،فرجع الوجود كله إىل
وجود هللا تعاىل عنده أيضاا.
ومن فسر الوجود هبا صار بيان الوجود املوجود احلادث موجوداا ،فإنه يقبل
القول بوحدة الوجود ويعتقده حقاا ،وهو الصواب الذي ترجع إليه األقوال مجيعها،
ألن وجود هللا تعاىل الذي به كل موجود موجوداا إبمجاع العقالء ،فاخلالف يف ذلك
لفظي راجع إىل تفسري املراد من لفظ الوجود ".اهـ.
ولنا على هذه الفقرة مالحظات:
أوالً :يدعي النابلسي يف هذه الفقرة أن وحدة الوجود متفق عليها بني مجيع
املسلمني ،بل يدعي أهنا معلومة ابلضرورة ،وهذا االدعاء غريب جدا ،فلو أنه
اكتفى ابدعاء قيام األدلة عليها ،لكان أمرا معتادا ،ولكن ال جيوز لنا أن نستغرب
من هذا املوقف ،إذ كيف يقارن النابلسي نفسه بغريه ،وهو أيخذ علومه مكاشفة
وعياانا ،وغريه أيخذها ابلنظر ؟! ولكن على كل األحوال ،كان ينبغي أن ال يغفل
النابلسي أن بعض الصوفية أيض ا املشهود هلم ابلقدم الراسخة أنكروا على القائلني
بوحدة الوجود ،واعتربوها بدعة وجمرد خيال.
ألي أحد أن يدعي أن قوله وعقيدته ضرورية وقطعية، واحلقيقة أنه ميكن ِ
ولكن هذا ال يكون إال جمرد ادعاء عا ٍر مادام عارايٍ عن الدليل !!
فإننا ال ميكن أن ننسى ابن تيمية كيف يدعي اإلمجاع من السلف واخللف،
ووجود النص من القرآن والسنة بل من مجيع العقالء على عقيدة التجسيم اليت يقول
هبا ؟
وكيف يدعي ابن عريب أن ما يقوله إمنا جاء به عن طريق الكشف واملعاينة
!!
وكيف يقول ابن رشد أن فلسفته موافقة لألدلة العقلية القطعية اليت ال تردد
كل واحد َل يعتمد يف أخذه ملذهبه على القواعد العقلية الصحيحة، لكن َّ
فيها ،و َّ
47
اليت قررها علماء الشريعة املقتدى هبم ،وليس أهل الوحدة ،فإنه من الطبيعي أن
يكون هبذه النفسية الشديدة التعصب ملا يقول ،فهو يف احلقيقة ال ميلك برهاانا على
تدعيم موقفه ،إال تعصبه له.
ولكن لو كان معىن وحدة الوجود كما وصفه النابلسي يف الوضوح واالشتهار
والقطعية ،فإننا نستبعد جدا أن يقع حوهلا هذا اخلالف الكبري بني املسلمني منذ
أوائل ظهورها إىل هذا الزمان ،شأهنا يف ذلك شأن أي مذهب آخر ،وحنن نقول
أيضا ،لو كان مذهب الشيعة بوجود نص قطعي على إمامة اإلمام علي بن أيب
طالب ،بعد النيب عليه الصالة والسالم ،لو كان ذلك صحيحا ،فإننا نستبعد جدا
أن يقع خالف كبري مرتامي األطراف بني املسلمني حول هذه املسألة ،ويتقاتلوا
عليها ،إىل هذا الزمان ،ولوال أهنا مبنية على حمض تعصب خملوط ابدعاء يستند إىل
تومهات ألدلة غري قاطعة ،ملا حصل ذلك.
اثنياً :بقية كالم النابلسي عبارة عن تلخيص جيِد ملفهوم وحدة الوجود على
طريقة ابن عريب ،يفهم ذلك العاقلون ،وحاصل ذلك أن املخلوقات هلا ذوات،
وهذه الذوات خاصة ابملخلوقات ،وكل خملوق له ذات ،وهذه الذات ال وجود هلا،
بل حقيقتها إمنا هو جمرد كوهنا ذااتا حمضة ،أي ماهية وصورة ،وأما الوجود فبما أنه
ال ثبوت للوجود إال هلل تعاىل ،فالوجود واحد ،على رأيهم ،فينتج من ذلك كله أن
هذه الذوات والصور واملاهيات قائمة بوجود هللا تعاىل ،ألنه ال وجود غريه ،فهي
معدومة بعدمها األصلي فعالا وال تزال كذلك ،فال وجود إال هلل تعاىل ،قبل اخللق
وبعده ،فال تكثر للوجود ،وهذه الذوات أيضا موجودة بنفس وجود هللا تعاىل ،ال
وجود هلا يف أنفسها ،كما ال وجود هلا ألنفسها ،وال وجود هلا أبنفسها ،فهي أقرب
ما تكون كاألعراض القائمة يف اجلواهر ،فال وجود هلا يف أنفسها إال عني وجودها
يف اجلواهر .وهكذا يتصور القائلون بوحدة الوجود الذات اإلهلية وعملية اخللق.
48
ولكن إذا كان هذا هو حقيقة معىن وحدة الوجود ،فكيف يتجرأ النابلسي
أن يقول أبن هذا املعىن متفق عليه ومتقرر بني احملققني ،وال ميكن ألحد أن خيالفه،
كيف يقول ذلك واحلاصل أن أكثر الناس خيالفون هذا املعىن ألن أكثر الناس
يقولون بتكثر الوجود ؟! وَل يقل بوحدة الوجود إال بعض طوائف من الصوفية
والفالسفة وغريهم.
إن ادعاء النابلسي االتفاق على هذا املذهب ادعاء بال دليل ،فهو مردود.
اثلثا اَ :ليتأمل القارئ يف العبارات التالية اليت أطلقها النابلسي:
إن مجيع العواَل كلها على اختالف أجناسها وأنواعها وأشخاصها -
موجودة من العدم بوجود هللا تعاىل ال بنفسها ،وإذا كان كذلك فوجودها الذي هي
موجودة به يف كل حملة هو وجود هللا تعاىل ،ال وجود آخر غري وجود هللا تعاىل.
وأما من جهة وجود هللا تعاىل فهي موجودة بوجوده تعاىل -
فوجود هللا تعاىل ووجودها الذي هي موجودة به وجود واحد ،وهو -
وجود هللا تعاىل فقط ،وهي ال وجود هلا من جهة نفسها أصال
وأما ذواهتا وصورها من حيث هي يف أنفسها ،مع قطع النظر عن -
إجياد هللا تعاىل هلا بوجوده سبحانه ،فال وجود ألعياهنا أصالا.
كل هذه الفقرات والعبارات يرتكز معناها على أن وجود هللا تعاىل هو نفسه
الوجود الذي توجد به املخلوقات ،ونريد هنا أن حنلل هذا املعىن ليزداد وضوحا.
إن الذوات عند النابلسي هي عني الصور والتجليات ،وهذه الصور ال تقوم
أن األعراض ال تقوم بذاهتا ،أما اجلواهر فهي قائمة ابلذات ،فال حتتاج بذاهتا ،كما َّ
إىل حمل ،بل ما حتتاج إليه إمنا هو املخصص ،أي الفاعل ،فاملخلوقات عنده هي
جمرد صور يكوهنا هللا تعاىل بذاته ،أي بوجوده ،فهي لذلك مظاهر الذات ومظاهر
احلق ،واملظهر هو الصورة ،والصورة تقوم ابلذات وال تقوم بذاهتا هي ،فكل العواَل
قائمة بذات احلق ،ألهنا ال قيام هلا بذاهتا.
49
وأهل السنة يقولون إن العاَل هو جواهر وأعراض ،واجلواهر قائمة ال يف حمل،
بل أبنفسها ،والعاَل جبواهره وأعراضه غري قائم ابهلل تعاىل ،وال بذات هللا تعاىل ،بل
هللا تعاىل هو الفاعل للعاَل واخلالق له ،ولذلك يقال إن العاَل موجود لغريه أي
بسبب غريه ،ولكنه قائم بذاته ،مبعىن أنه غري قائم يف غريه.
فالعاَل الذي هو خملوق هلل تعاىل غري قائم بذات هللا تعاىل وال قائم بوجوده
كما يعرب النابلسي ،بل هو موجود هلل تعاىل ،أي بسبب هللا تعاىل.
وأما قول النابلسي أبن العاَل موجود بوجود هللا تعاىل ،فاإلشكال وحمل جتلي
املعىن املراد ،هو حرف الباء ،فقوله (ابهلل) هو الذي عليه دوران املعىن ،فالباء كما
هو معلوم إما أن تكون سببية ،وإما للمالبسة ،وأما قولنا إن العاَل موجود لغريه وهو
هللا تعاىل ،فالالم هنا هي الم السببية ،وال إشكال هنا فاملعىن املراد واضح وغري
حمتمل ،كما عند النابلسي .فالباء إذا أريد هبا املالبسة ،فيصبح العاَل مالبس لوجود
هللا تعاىل عند النابلسي ،وهو ما يريده القائلون بوحدة الوجود ،فال وجود لغري هللا
تعاىل ،وأما لو أريد هبا السببية ،فريجع املعىن إىل كالم أهل السنة وهو ما خيالفونه
صراحة بقوهلم إنه ال وجود لغري هللا تعاىل.
والعجب من استعمال النابلسي حرف الباء هنا ووضوح إرادته ملا قلناه ،ومع
ذلك يوجد بعض املتعصبني من أتباعه ،يقولون" :رمبا أراد معىن السببية" ،يظنون
أهنم بذلك األسلوب يزيلون اخلالف ويرفعونه ،وهيهات ،فال ترتفع اخلالفات برمبا
وليت ولعل.
وتكريره استعمال حرف الباء هنا دليل على إرادته للمعىن الذي ذكرانه.
مث قال النابلسي:
"وكالم احملققني من أهل هللا تعاىل يف مسألة الوجود من أعلى عليني ،وكالم
غريهم فيها من أسفل سافلني ،وكون املراد ابلوجود ما به كل موجود موجود يف
القدمي واحلادث أقرب إىل التحقيق ،فإنه ال غىن للموجود املمكن عن الوجود القدمي
50
أصالا ،فوجوده هو وجوده ،وذات املوجود املمكن وصورته غري املوجد القدمي ،فهما
اثنان والوجود الذي مها موجودان به وجود واحد ،هو للقدمي ابلذات واحلادث
ابلغري ،فالقدمي موجود بوجود هو عني ذات القدمي ،وليس احلادث هو عني ذات
القدمي ،وال القدمي هو عني ذات احلادث ،بل كل واحد منهما مباين لآلخر يف ذاته
وصفاته وإن اجتمعا يف الظهور ابلوجود الواحد وثبوت العني به ،فإن الوجود الواحد
للقدمي ابلذات وللحادث ابلقدمي ال بذاته ،فالوجود الواحد يف القدمي وجود مطلق
على وجه ال أعظم منه ،ويف احلادث وجود مقيد على وجه يليق ابحلادث أدىن من
الوجه األول دنوا صادرا من جهة القدمي".
يقطع النابلسي هنا أبن كالم القائلني بوحدة الوجود كالم ال ريب يف
صحته ،وأنه ليس قابالا للنقض وال للمراجعة ،ولكن احلقيقة أن كالمه اشتمل على
مغالطات نبينها فيما يلي:
أوالً :إن ما به كل موجود موجود هو الوجود فعالا ،ولكن ال يلزم لكي
تصح هذه العبارة أن يكون الوجود واحدا ،كما يدعيه النابلسي وغريه ،بل تصح
هذه العبارة مع القول بتعدد وتكثر الوجود ،فوجود كل موجود هو عني ذلك
املوجود ،وليس أمرا غريه ،وهذا هو مذهب اإلمام األشعري ،ولكن النابلسي ،يقول
إن كل موجود إمنا وجوده هو عني وجود هللا تعاىل.
اثنياً :يصرح النابلسي أن وجود كل ممكن إمنا هو عني وجود هللا تعاىل،
واالختالف إمنا هو يف كون املمكن صورة ومظهرا من مظاهر احلق ،واحلق ليس
شيئا من هذه الصور ،بل هذه الصور إمنا تنسب إىل الوجود نسبة إضافة ال غري،
كما تنسب العرض إىل اجلوهر ،فصور املمكنات اتبعة لوجود احلق ،وال وجود هلا
يف أنفسها.
وأهل السنة يقولون :إن كل ممكن حيتاج يف وجوده وبقائه إىل هللا تعاىل ،ال
من حيث إنه ال يقوم إال بذات هللا تعاىل ،ولكن من حيث إنه ال ميكن حتققه يف
51
اخلارج إال إبجياد هللا تعاىل له وتعلق قدرته جل شأنه به ،فما دام تعلق القدرة اثبتا
فإن املمكن موجود ،وإذا انقطع هذا التعلق انعدم املوجود املمكن ،وواضح أن هذا
جل شأنه كما يقول به أهل القدر ال يستلزم قيام الصورة املمكنة بعني وجود احلق َّ
الوحدة.
اثلثاً :االثنينية اليت يقول هبا النابلسي ليست هي اثنينية وجودية ،بل هي
اثنينية املظهر والوجود ،وهي اثنينية الصورة والوجود الذي هو وجود الواحد احلق.
فالوجود الذي به توجد ذات املمكن وصورته هو وجود واحد وهو وجود هللا تعاىل.
فيثبت موجودان بوجود واحد ،املوجود األول هو املمكن واملوجود الثاين هو
احلق تعاىل ،ومها موجودان بوجود واحد ،وحقيقة املوجود املمكن غري حقيقة املوجود
القدمي ،ألن املمكن ما هو إال صورة ال قيام هلا إال بذات القدمي ،كمظهر له واعتبار
من اعتباراته ،ووجود القدمي هو عني ذاته ،ولكن وجود املمكن هو غريه ألنه عني
وجود القدمي.
52
وحدة الوجود قريبة من احللول واالحتاد
نعم إن مذهب وحدة الوجود قريب من احللول واالحتاد ،ولكن بفارق أن
احللول واالحتاد يستلزم أكثر من موجود ،ووحدة الوجود ،ينفي ذلك ،ورمبا كان هذا
هو السبب يف أن العلماء املتقدمني كانوا ينسبون إىل القائلني ابلوحدة ،القول
ابحللول واالحتاد ،وذلك لعالقتهما القريبة.
إن القائل بوحدة الوجود يقول إن اإلنسان يتخلص من مالحظة القيودات
الومهية احلادثة واليت هبا يرى لنفسه وجودا مستقالا عن وجود هللا ،وهذه التقييدات
مر بيانه ،فإن ختلص العارف من مالحظة وهم ما هي إال اعتبارات عدمية كما َّ
الوجود املستقل ،ظهر له أبن وجوده هو عني وجود هللا تعاىل ،فال وجود إال هلل
تعاىل.
ولكن إذا كان األمر كذلك ،فما هي هذه املوجودات اليت نراها حولنا ؟!
إن هذا السؤال يكون صعب ا جدا اجلواب عليه على طريقة أهل الوحدة،
ولكنهم ال يعدمون طريقة ولو ملفقة ،فيقولون بكل وضوح ،أبن هذه القيودات ما
هي إال أوهام ووجودات جمازية ،ال حقيقة هلا يف نفس األمر ،إال من حيث هي
مظاهر ،واملظهر من حيث هو مظهر ما هو إال اعتبار للظاهر يف هذا املظهر.
ولذلك قال النابلسي يف ص" :11وكذلك وجود هللا تعاىل املطلق إذا ظهر
على احلوادث املفروضة املقدرة وجوداا مقيداا ال يلزم أن يكون قد تغري عما هو عليه
من إطالقه ،فإنه وجود مطلق ال ينقسم وال يتغري ،وكيف املعدوم بغري املوجود
احلق(] ، )[7وإمنا التغري والتبديل واقع يف الذوات احلادثة وصورها ،فاهلل تعاىل يغريها
كيف شاء ،ويقلبها من عدمها األصلي إىل وجودها الطارئ الذي هو عني وجوده
سبحانه فتتصف بوجوده سبحانه على حده كائنا هبا كما كانت متصفة به يف
53
الوجود العلمي من غري أن ينقسم وجوده سبحانه وال يتغري بسبب هذا االتصاف
املذكور ،كما أن املاء الصايف إذا فرضنا وقدران أننا وضعنا فيه زاجا فإنه يصري أسود
اللون من غري أن يتغري هو يف نفسه وال زال عنه صفاه".اهـ
فالنابلسي يرى أن املخلوقات املمكنة تتصف بعني وجود هللا تعاىل ،فوجود
الواجب صار صفة للممكنات ،وهذا هو معىن تعبريه أبهنا موجودة به الذي نبهنا
إليه سابقا.
ومثال اللون واملاء الذي وضحه يبني متاما املعىن الذي ننسبه إىل النابلسي،
فاملخلوقات (الزاج ،اللون) احلادثة أمور قائمة ابلذات احلق والوجود املطلق (املاء)،
واملاء يصبح ظاهرا ابللون ،ولكن ماهيته ال تتغري كما هو معلوم ،فاهلل تعاىل يكون
ظاهرا ابملخلوقات املمكنة ،يف حال أنه ال يتغري عن حقيقته اليت هي الوجود
املطلق.
نص
وهذا هو مفهوم احللول واالحتاد ،أو هو قريب منه ،وهو املفهوم الذي َّ
علماء أهل السنة على أن القائل به كافر.
وقد الحظ النابلسي هذا املعىن ولذلك حاول بكل سرعة أن ينفيه عن
األذهان ،ولذلك أكمل قائالا" :وكذلك إذا فرضنا وقدران أن فيه زجنفرا فإنه يصري
أمحر اللون وهكذا مجيع األلوان ،واملاء ال يتغري أصالا يف نفسه وال يزول صفاه عنه،
ومها شيئان ماء وزاج أو ماء وزجنفر ،ال شيء واحد لكنه ماء حمقق وزاج أو زجنفر
مفروض مقدر ،ومها موجودان بوجود واحد ،وهو وجود املاء فقط ،وليس الزاج
املفروض موجوداا بوجود آخر عني وجود املاء ،بل ال وجود له أصالا مع وجود املاء،
والوجود للماء وحده ،ولكنه استعري للزاج املفروض املقدر أو الزجنفر وجود املاء
لكونه مفروضاا مقدراا فيه وال حال يف املاء شيء ،وال احتد املاء مع ذلك الزاج
املفروض املقدر ،وال الزاج مع املاء وإمنا مها حقيقتان ماء حقيقي موجود بنفسه وزاج
54
أو زجنفر مفروض مقدر ال وجود له بنفسه ،بل بوجود املاء الفارض املقدر له
فيه".اهـ
لو اكتفى النابلسي هبذا املثال على صورته السابقة بدون تقييد كما فعل
هنا ،ملا كان املثال كافيا لبيان وحدة الوجود ،ولذلك حاول يف هذه الفقرة أن يبني
أصر على أنه جمرد أمر مفروض ومقدر كيف أن اللون ال وجود له يف نفسه ،و َّ
فقط ،وأىن له ذلك ،فال أحد جيهل أن اللون له وجود يف نفسه ،ولذلك خيلط
ابملاء ،واللون الذي ظهر املاء به هو لون الزجنفر أو الزاج ،ال جمرد لون مفروض
مقدر ،كما يدعي النابلسي.
وإذا كان األمر كما نقول ،فإن احلقيقة أن ما هنا هو حلول واحتاد ال وحدة
وجود .أو هو اختالط ومزج بني أمرين وليس جمرد أمر واحد كما يريده النابلسي.
وأان أتعجب كيف يقول النابلسي أبن اللون ما هو إال أمر مقدر ومفروض
واحلال أن له حقيقة يف نفسه بدون املاء ،وهذا القدر ال ينكره أحد.
حل يف املاء ،واحتد به نوع احتاد،
وكيف ينفي النابلسي أن يكون الزجنفر قد َّ
واحلال أن هذا هو الواقع ابلفعل يف اخلارج ،وهو أمر ال جيوز أن يكون مورد الشك
والقلق.
فاحلاصل أن هذا املثال يبني أن وحدة الوجود مستحيلة ،وال بد من فرض
الكثرة ،ليستقيم لنا بيان اخللق ،وال ميكن أن يكون اخللق واملخلوقات جمرد أمور
مقدرة ومفروضة ،كما يدعي أصحاب هذا املذهب الغريب.
ونقول للنابلسي :نعم ميكن أن تقول أبن الوجود اجلوهري واحد ،ولكن
التعدد والتكثر الظاهر انتج من احتاد أعراض ممكنة هبذا الوجود اجلوهري ،وعلى كل
قدرت املعىن ،فإنه ينتج عندان أن الوجود الذي به تقوم األكوان
األحوال ،ومهما َ
واأللوان يتغري وتبدل ويتحد بغريه وحيل فيه غريه ،سواء كان هذا الغري عرضا أم
جوهرا.
55
مث تعرض النابلسي لكون الوجود مشرتكا ،فقال" :إن الوجود مشرتك حبسب
الظاهر بني املوجود احملقق وهو املاء ،وبني املفروض املقدر وهو الزاج أو الزجنفر ،فال
ميتنع أن يكون مشرتكاا أصالا يف حقيقة األمر ،كما أن اللفظ الواحد إن كان مشرتكاا
يف االستعمال بني معناه احلقيقي املوضوع ومعناه اجملازي املوضوع له ،ال ميتنع أن ال
يكون مشرتكا أصال يف الوضع ،بل الوجود هو وجود املاء احملقق وحده ،والزاج
والزجنفر املفروض املقدر له وجود آخر مفروض مقدر مثل هو عني ذاته ونفس
صورته" اهـ.
كذا قال ،واحلقيقة أن الكالم يف االشرتاك إما أن يكون على اللفظ ،أو
على مصداق الوجود ،أي ما يقع عليه لفظ الوجود يف اخلارج أو يف نفس األمر.
فإن كان على اللفظ ،فهذا يلزم عنه أن يكون الوجود احلقيقي أمرا واحدا ،والثاين
جمازا ،واجملاز يف الوجود إما أن يستلزم نفي التكثر فيه أصالا ،أو ال يستلزم ،فإن
استلزم ،فهو وحدة الوجود ،وإال فإن اخلالف يكون لفظي ا فقط ،أو أن يكون لفظ
الوجود واقعا على حقيقتني خمتلفتني اثبتتني يف اخلارج ،وهذا القول هو قول اإلمام
األشعري ،فإنه قائل أبن وجود كل شيء هو عني ذلك الشيء ،أي إن الوجود ليس
زائدا على حقيقة املوجود ،بل هو عينه.
وأما مذهب اإلمام الرازي فهو قائل أبن الوجود عبارة عن لفظ واقع على
معىن واحد فقط ،هو مشرتك اشرتاكا معنوايا بني الواجب واملمكن ،واشرتاكه اشرتاك
يف العروض ال يف احلقيقة الستحالة اشرتاك أمر حقيقي بني الواجب واملمكن.
وقد وضح النابلسي االشرتاك على غري حقيقته اليت ذكرانها ،بل خلط بني
االشرتاك يف اللفظ وبني االشرتاك يف املصداق ،وهو االشرتاك اخلارجي ،واحلقيقة أن
ال اشرتاك عنده ،ألن االشرتاك يشرتط فيه سبق التكثر ،وال تكثر على مذهب
وحدة الوجود ،فكيف يقال ابالشرتاك.
56
مث حاول النابلسي بعد ذلك أن يؤول مذهب اإلمام األشعري واإلمام الرازي
ليكوان متوافقني مع ما يقول به هو من وحدة الوجود ،وكالمه ال قيمة له ،فقد قال:
"بل الوجود هو وجود املاء احملقق وحده ،والزاج والزجنفر املفروض املقدر له وجود
آخر مفروض مقدر مثل هو عني ذاته ونفس صورته مثلما قال األشعري رمحه هللا
تعاىل وزاد على ذاته وصورته كما قال الفخر الرازي وهو مذكور يف مواضع من علم
الكالم ،يف مبحث الوجود ،فإن القائلني بوحدة الوجود مرادهم ابلوجود الوجود
الذي به صار املوجود موجودا ،ال الوجود الذي هو مفروض مقدر ،لكن من
جنسه ،فافهم هذا املثال ،وهلل املثل األعلى يف السموات ".اهـ.
ولكن قد تبني لنا أن مذهب األشعري ال ميكن التقاؤه مع مذهب وحدة
الوجود ،ألنه قائل أبن وجود كل شيء عني ذلك الشيء ،على املعىن الذي ذكرانه
سابقا ،وأما اإلمام الرازي فقد وضحنا مذهبه أيضا ،وال يتفق مذهبه مع قول أهل
الوحدة ،والنابلسي يهمه جدا أن يبني أن مذهب األشعري ال يتعارض مع ما يقول
به من الوحدة ،ال ألن كالم األشعري وال ألن كالم الرازي مهم جدا عنده ،بل ألن
أكثر العلماء يف اإلسالم يتبعون هذين اإلمامني ،وأما عنده فإن كلمة واحدة من
ابن عريب -الذي يتعلم بواسطة املكاشفة الصرحية ،وابرتفاع احلجاب بينه وبني احلق
تعاىل! -تغنيه عن كالم كثري للرازي واألشعري مع ا.
وتفسريه الوجود عند أهل الوحدة أبنه الذي به صار كل موجود موجودا ،ال
يكفي ليدلل على صحة مذهبه ،ألن الوجود اخلاص لكل ممكن أخرجه هللا
تعاىل من العدم إىل الوجود ،هو الذي به يصري هذا املمكن موجودا ،فإنه وجوده
اخلاص ،وقولنا إن الوجود اخلاص هو الذي به صار املمكن موجودا ،ال يستلزم أن
يكون علة كل ممكن عني ذاته ،بل علة كل ممكن وسببه هو تعلق قدرة هللا تعاىل،
ولكن هذا املمكن ال يقوم يف اخلارج يف ذات هللا تعاىل وال بوجود هللا تعاىل كما
يقول أهل الوحدة ،بل يقوم بعني ذات اليت هي الوجود اخلاص.
57
واملثال الذي وضحه النابلسي ال يربئه من القول بوحدة الوجود ابملعىن الذي
وضحناه حنن سابقا ،وال تنفي عنه الشنائع اليت تلزم القائلني ابلوحدة.
إن املشكلة الكربى عند النابلسي هي أنه ال يتصور قيام أي ممكن إال بعني
ذات هللا تعاىل ،وبعني وجود احلق تعاىل ،وسواء عنده يف ذلك للممكن العرض أو
املمكن اجلوهر.
والتناقض الكبري الواضح عند القائلني ابلوحدة ،هي قوهلم أن كما قال
النابلسي ":املخلوق ابلنظر إىل ذاته إمنا هو عدم صرف ،وإمنا وجوده بوجود هللا
تعاىل ،فالوجود هلل تعاىل وحده وإن وجد به ما سواه".اهـ ،فكيف يكون املخلوق
املمكن عدما صرفا يف ذاته ويكون قائما بذات هللا تعاىل ،وكيف يكون يف ذاته
عدم ا صرف ا وهللا تعاىل خالقه ،أخيلق هللا تعاىل عدم ا صرف ا ،أم يقوم يف ذاته تعاىل
عدم صرف.
وال يضطر أحد إىل القول مبذهب وحدة الوجود إذا تنبه إىل احلقائق اليت
بيناها فيما مضى ،من الفرق بني قيام الشيء يف نفسه وبنفسه ولنفسه ،أو قيامه
بغريه أو لغريه ،فإن اإلنسان إذا أتمل يف هذه املعاين َل يبق عنده حمل للشك والرتدد
يف عدم احلاجة إىل القول حبدة الوجود.
واحلقيقة أن الوحدة املطلقة عند أهل السنة ال ترجع إىل الوحدة يف الوجود،
بل إىل الوحدة يف األفعال ،ولذلك فإهنم أرجعوا كل شيء إىل كونه خملوقا هلل تعاىل،
وَل يقولوا إن كل شيء موجود ابهلل تعاىل ،ألن ذلك يلزم أن يكون كل شيء عرض ا،
الستحالة قيام اجلوهر ابجلوهر ،ويلزم بعد ذلك قيام األعراض ابلذات اإلهلية وهو
مستحيل.
والنابلسي يرفض إثبات وجود آخر غري وجود هللا تعاىل ،ويعترب كل من أثبت
وجود اثنيا للمخلوقات فإنه يلزمه إثبات املضاهاة التامة بني العاَل واملعلوم ،والصانع
واملصنوع .وهذا اإللزام كما تراه أيها القارئ إلزام ابطل ،ال يلزم من أثبت أكثر من
58
موجود ،ألنه يقول مع كثرة املوجودات ،إن حقائقها خمتلفة ،وليست حقائقها
متساوية ،فمن أين يلزمه إثبات املضاهاة بني اخلالق واملخلوق؟! فما هذا الكالم إال
جمرد اهتام ال دليل عليه من النابلسي كأكثر ما يف هذا الكتاب ،ساحمه هللا.
وأما عند النابلسي فحقيقة املخلوق خمتلفة اختالفا اتما عن حقيقة الواجب،
ألن حقيقة املخلوق عدم صرف ،وحقيقة الواجب وجود اتم ،فال مشاهبة بينهما،
":ألن املفروض املقدر يف نفسه عدم صرف ،وكيفية الوجود حيل به يف العدم،
وكذلك ال يتصور أن يتحد معه أصال ،ألن احلقيقتني متباينتان تباينا كليا ،حبيث ال
مشاهبة بينهما أصالا ،فحقيقة احلق وجود صرف مطلقا حىت عن اإلطالق ألنه قيد،
وحقيقة املفروض املقدر عدم صرف مقيد ".اهـ.
هذا هو ما يعتقده النابلسي والقائلون بوحدة الوجود معه ،فوجود املخلوقات
متوهم ،واحلقيقة أهنا غري موجودة ،بل هي عدم صرف ،وهي وجود مقدر يف وجود
هللا تعاىل.
مث قال النابلسي" :واألمر كله راجع على كل حال إىل وجود هللا تعاىل عن
اجلميع ،فوجود هللا تعاىل هو الوجود ،والوجود كله بال وجود هللا تعاىل عدم صرف،
فال وجود إال وجوده تعاىل ،فكلهم قائلون بوحدة الوجود طوعا أو كرها ".اهـ.
الوجود القائم بذاته لذاته ال أحد يعدده ،وال أحد يقول بكثرته ،ولكن
الوجود املستقل يف القيام بذاته ،وإن كان معلوال ومسبَّبا لغريه ،فأكثر اخللق والعقالء
أىن له
يقولون به ،والنابلسي حياول بكل طريقة أن يلزم الناس بوحدة الوجود ،و َّ
ذلك ،ووحدة الوجود عنده أن ال يكون مثة موجود إال هللا تعاىل ،وسائر األمور
األخرى من املمكنات قائمة بذاته ،اتبعة له يف الوجود ،بل وموجودة بنفس وجوده،
وهذا املذهب ضعيف ال دليل عليه إال جمرد حتكمات وتومهات كشف ومعاينة.
وكيف أمكن للنابلسي أن جيزم ههنا أن اجلميع يلزمهم القول بوحدة الوجود
على املعىن الذي يقول به هو ،واحلال أن أكثر املتكلمني الذين يسميهم هو
59
ومجاعته أصحاب الرسوم ،ينفون وحدة الوجود ،ويثبتون كثرته ،ولكن مع قوهلم
بكثرته يقولون ابحتياج سائر املوجودات يف قيامها وبقائها إىل واجب الوجود الواحد
احلق.
وهذا املعىن ليس هو املقصود عند النابلسي ،بل هو يريد أن ال يثبت وجود
قط إال للحق ،فكل ما عداه فهو نفي حمض!
فكيف إذا كان األمر كذلك ،يقول النابلسي أن اجلميع يلزمهم القول بوحدة
الوجود ؟!!
أليس هذا جمرد هتويل يشابه هتويالت اجملسمة كابن تيمية عندما يدعون أن
سائر العقالء يلزمهم القول ابجلهة أو أهنم يثبتون اجلهة هلل تعاىل؟!
إن مثل هذه املباحث ال يليق ابلعاقل أن يتبع هذه الطريقة من التهويل،
ألهنا إن جازت على العامة والغافلني من الناس ،فإهنا ال جتوز على العقالء الناهبني،
واألمر موقوف أخريا على اقتناع العقالء ألهنم هبم يقتدي العامة ،بل إن هذا
التشدد يرتك أثرا سلبيا كبريا يف نفوس العوام والعلماء ،فيدفع العوام إىل التعصب
والتشدد ،ويدفع العلماء إىل مهامجة هذا املذهب بشدة وقسوة كما حصل عند
البعض ،فال يستفيد أصحاب هذا املذهب إال مناصرة جاهل وعداء عاَل.
وملا كان النابلسي غارق ا حىت أذنيه يف القول بوحدة الوجود ،توهم أنه ال
دليل واحد عند املخالفني من العلماء املتكلمني ،فقال ص":17واحلاصل أن مجيع
حق معهم يف الطعن على القائلني بوحدة الوجود من احملققنيعلماء الظاهر ال َّ
العارفني القائلني بذلك على وجه احلق والصواب كما ذكران".اهـ
وهو يوهم بذلك أن املخالفني لوحدة الوجود من العلماء إمنا خيالفوهنا لكوهنم
َل يتبني هلم املعىن الصحيح من هذا املذهب ،وهو ادعاء بعيد ،ال برهان عليه ،بل
الرباهني قائمة على أن املخالفني قد فهموا متام الفهم معىن الوحدة ،وردوا عليها
أبدلة صحيحة ،وأتمل كيف يسمي املخالفني لوحدة الوجود بعلماء الظاهر،
60
ويسمي القائلني هبا ابلعارفني احملققني ،وهذه التسمية تداولوها كابرا عن كابر،
وتناقوهلا حىت صارت عالمة عليهم ،وال يريدون هبا إال التنقيص من علم علماء
الشريعة ،الذين أيخذون ابلظاهر من العقول واملنقول ،وهذه هي الطريقة احلقة،
ويريد أصحاب الوحدة بذلك إعالء مذهبهم وأصحاهبم ،بوصفهم أبمساء عالية
املعاين مثل احملققني ،والعارفني ،واملكاشفني ،وال ينخع هبذه الطريقة إال العوام كما
قلنا ،بل إن هذه الطرق اليت يتبعها أصحاب املذاهب الباطلة عالمة على بطالن
أقواهلم فإهنم ال جيدون ما يتشبثون به إال مثل هذه الطريق والوسائل الدعائية القائمة
على جمرد الرتويج الذي ال حاصل حتته ،إال طلب خداع العوام ،وأتييدهم.
ولو كان أصحاب هذه الطريقة قائلون ابحلق ومعهم األدلة على ذلك ،ملا
ركنوا إىل مثل هذه الطرق املكشوفة ،بل متسكوا أوالا بذكر األدلة وإفحام اخلصوم
كما فعل أصحابنا من املتكلمني من أهل السنة ،ومن بعد ذلك ميكنهم أن يسموا
أنفسهم مبا يشاؤون من األمساء ،ولكن ذلك ال يكون إال بعد إقامة احلجة ،وال
يكون هو بعينه احلجة ،فما هذه األمساء إذن إال أمساء يـَتَ َسمو َن هبا ال حاصل
حتتها.
61
املعىن الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي
ملا ذكر النابلسي املعىن الذي يعتقد به من وحدة الوجود ،أشار إىل أن هناك
من قال بوحدة الوجود ولكن على معىن ابطل ال يوافقهم هو عليه ،وسوف نورد
كالمه يف بيان املعىن الباطل لوحدة الوجود اآلن ،ومن مث نوضحه ،ونعلق على
كالمه.
قال النابلسي ص" :17وأما القائلون بوحدة الوجود من اجلهلة الغافلني
والزاندقة امللحدين الزاعمني أبن وجودهم املفروض املقدر هو بعينه وجود هللا تعاىل،
وذواهتم املفروضة املقدرة هي بعينها ذات هللا تعاىل ،وصفاهتم املفروضة املقدرة هي
بعينها صفات هللا تعاىل ،الذين حيتالون بذلك على إسقاط األحكام الشرعية عنهم،
وإبطال امللة احملمدية وإزالة التكليف عن نفوسهم ،والطعن عليهم بسبب القول
بوحدة الوجود على هذا املعىن الفاسد طعن صحيح ،وعلماء الظاهر مثابون بذلك
كمال الثواب من امللك الوهاب ،والعارفون احملققون معهم يف هذا الطعن من غري
خالف".اهـ.
مث ذكر كالما عن اجليلي يذم هؤالء ،مث قال ":انتهى كالمه هذا عن القائلني
بوحدة الوجود على حسب ما ذكرانه من املعىن الفاسد ،ولكن علماء الظاهر إذا
ترقوا من الطعن يف هؤالء الرعاع السفلة املارقني من الدين مروق السهم من الرمية
إىل الطعن يف تلك السادة األئمة العارفني احملققني ،بظنهم أهنم يقولون بوحدة
الوجود مثل قوهلم ،كان ذلك أمرا شنيعا يف الدين ،وال يـُرْ ِضي مَنْ يـُْؤِمنُ ابهلل واليوم
اآلخر".اهـ
إذن فاملعىن الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي هو أن يعتقد اإلنسان أن
وجوده املقيد املفروض هو عني وجود هللا تعاىل ،وتوضيح ذلك ابالعتماد على ما
62
مر ،أن هناك أمرين ،األول هو الوجود املطلق ،وهو عني وجود هللا تعاىل ،والثاين َّ
هو التقييدات الواردة على هذا الوجود ،وهي اليت يسميها أهل الوحدة ابلصور
واملظاهر ،والتقييدات ،فيثبت أمران ،فوجود هللا تعاىل عند النابلسي ،هو ذلك
الوجود املطلق عن كل قيد حىت عن قيد اإلطالق ،وأما الوجود املقيد فهو الوجود
املمكن ،وهو يف احلقيقة ليس موجودا بل هو عدم حمض ،ال حتقق له ،وال وجود،
وإطالق الوجود عليه جمرد أمر جمازي ،يصح نفيه على قوانني اللغة.
فهذا هو خالصة معىن وحدة الوجود ،وأما املعىن الباطل الفاسد الذي ينبه
عليه النابلسي ويذم القائلني به ،فهو القول أبن هذا الوجود املقيد هو عني وجود
هللا تعاىل ،فاحلاصل أن هذا القول يؤدي إىل أن هناك احتادا بني املوجودات،
وجمموعها يسمى بوجود هللا تعاىل ،وليس هو وحدة وجود ،ورمبا لذلك نفى
النابلسي هذا املعىن ،فنسبة القيد إىل املطلق ابطل.
فهذا املعىن ابطل عند النابلسي كما هو ابطل عند علماء أهل السنة ،ولكن
النابلسي حيصر البطالن فيه ،وحيكم ابلصحة على مذهبه هو ،وعلماء أهل السنة
يبطلون أيضا مذهب النابلسي.
والنابلسي يصور املسألة كما لو كان علماء أهل السنة قد الحظوا بطالن
هذا املعىن الباطل من الوحدة ،فتوسلوا به إلبطال املعىن الصحيح الذي يدعيه
النابلسي وغريه ،ويعترب هذا األمر غري موافق للشريعة ،ألنه يعتقد أن املعىن الذي
يقول به النابلسي حق عنده.
ولكن احلقيقة أن أهل السنة أبطلوا املعنيني معا ،أقصد املعىن الذي يصححه
النابلسي واملعىن الذي يبطله هو.
والنابلسي يعرتض على هذا املوقف ،ويريد من علماء أهل السنة أن
يصححوا املعىن الذي يصححه هو ،ويبطلوا املعىن الذي يبطله ،هذا هو ما يريده
النابلسي ،وهو منهج غلط وطريق غري صحيح ،كما ال خيفى.
63
وال يهمنا حنن أن يغضب النابلسي ملخالفة الناس له ،بل ما يهمنا هو أال
يغضب هللا تعاىل ،وجتنب غضبه تعاىل إمنا يكون يف اتباع القول احلق ال غري ،سواء
قال به النابلسي أو ال.
والوجود املقدر املفروض الذي يثبته النابلسي إمنا هو نفي حمض يف اخلارج،
مر بيان ذلك ،أو إنه جمرد عرض قائم ابلوجود القدمي ،وكل من وليس بشيء ،كما َّ
هذين التقديرين حمض ابطل.
واحلقيقة أن نظرة مذهب وحدة الوجود كما يبينها النابلسي وهي عينها اليت
يقول هبا ابن عريب ،غريبة جدا ،أي أستغرب أن يقول هبا واحد من املسلمني،
وجهة الغرابة تتجلى يف قول النابلسي ص":19والوجود املفروض املقدر عدم صرف
يف نفسه ،وإمنا الوجود احملقق وجود احلق تعاىل وحده اخلالق ،أي الفارض املقدر
لكل شيء ،أو املوجد بطريق الفرض والتقدير لكل شيء ،وال يقال لو كان كل
شيء من املخلوقات مفروضا مقدراا ملا كان كما نشاهده حمسوساا ومعقوالا اثبتاا
موجوداا حمققاا ،ألان نقول فرض هللا وتقديره لوجودات األشياء يف أعياهنا ،ليس
كفرضنا حنن وتقديران للشيء املعدوم ،وقد جعل هللا تعاىل ما نفرضه ونقدره ،أنزل
رتبة منا ليكون ذلك فينا مثاال ملا يفرضه هللا تعاىل ويقدره من وجودات األشياء
املعدومة ،وأهنا أنزل منه تعاىل يف الوجود".اهـ
أرأيت وجه الغرابة فيما نقلناه عن النابلسي ،إن املوجودات عنده جمرد تقدير
يف ذات هللا تعاىل ،وجمرد فرض وتقدير يف نفسه جل شأنه ،والتقدير والفرض ليس
مثل املق ِد ِر والفارض ،ومثل لتوضيح ذلك املعىن ،ما نفرضه ونقدره يف أنفسنا ،فإنه
ُ
أنزل منا وجودا ورتبة ،وال ينفي ذلك أنه جمرد فرض وتقدير ،وهذا الفرض والتقدير
حمله يف أنفسنا وليس يف اخلارج ،فال وجود له إال من جهة كونه تقدير وفرض قائم
يف أنفسنا ،واملخلوقات كذلك ما هي إال جمرد تقديرات وفرضيات يف نفس هللا
تعاىل وهو الوجود احلق عنده ،وكما أن ال قيام هلذه التقديرات والفرضيات إال يف
64
نفس اإلنسان ،فكذلك فإن املخلوقات املمكنة ،ما هي إال جمرد تقديرات
وفرضيات يف نفس هللا تعاىل.
فما العاَل كله إال جمرد تقدير للواجب الوجود وهو الوجود املطلق،
والتقديرات ما هي إال اعتبارات ونسب قائمة يف ذات هللا تعاىل ،ال قيام هلا إال يف
عني ذات احلق ،وهذا هو معىن وحدة الوجود.
ووحدة الوجود عند النابلسي هو املذهب احلق ،الذي ال ريب فيه ،وخمالفه
كافر ،قال النابلسي ص " :19فإذا حكمنا على اجلاهل مبا يرى يف مذهب حكمنا
بكفره حيث أنكر ما هو احلق على أهل احلق".اهـ
فوحدة الوجود حق اثبت عند ،وعند أصحابه ،وخمالفها كافر ال ريب يف
كفره.
وقد وجه النابلسي يف آخر رسالته هذه نصيحة حاصلها أن" :اجلاهل الذي
ال يعرف علوم األذواق ،وإمنا علمه الذي هو غري عامل به أيضاا ،مأخوذ من
الكتب واألوراق له مندوحة عن اإلنكار ،وهو حتسني الظن ابهلل تعاىل ،واالعرتاف
أبهنم أعلم منه ابهلل تعاىل ،وأنه جاهل بكالمهم ،فال ضرورة له يف اإلنكار عليهم،
مع علمه بكفر من أنكر احلق إمجاعاا".اهـ
وحاصل هذه النصيحة أن خمالف وحدة الوجود ابملعىن الذي ذكره النابلسي،
هو أن خمالفها ال شك جاهل ابهلل تعاىل ،وأن من قال هبا ال شك أنه من العارفني
الكاملني ،الذين ال جتوز خمالفتهم ،وال اإلنكار عليهم ،فإذا اعتقد املخالف نزول
مرتبته العلمية عن املثبتني ،فإن عليه أن حيسن الظن بكالمهم.
ولكن ،هذه النصيحة مبنية على ابطل وكل ما هو مبين على ابطل فهو
ابطل ،فإن النصيحة جيب أن تكون بعد إقامة احلجة ،وَل يقم النابلسي احلجة على
أحد ،بل غاية ما كرره يف كالمه ،جمرد وصف القائلني ابلعلم ،واملنكرين ابجلهل،
ووصفه غري مسلم له ،وَل يقم دليالا واحدا على ما قاله ،نعم لقد أرجأ االستدالل
65
على ما قاله إىل حمل آخر ،وحنن قد تعقبناه يف غري موضع من كتبه اليت ذكر فيها
بعض األدلة ونقضنا عليه مجيع ما ذكره على أنه دليل وزيفنا كالمه ،وبيَّـنَّا أنَّه َل
يقمه إال على جمرد الوهم.
وكيف جيوز للنابلسي أن يستهني مبن استمد علومه من الكتب ،وقد أنزل
هللا تعاىل كتابه هداية للناس ،وفرقاانا بني احلق والباطل ،وَل جيعل هللا تعاىل حجته يف
كشف من يسميهم النابلسي ابلعارفني ،بل أودع حجته يف كتابه الكرمي ،وجعل
عليها العقل السليم عالمة.
وال يقصد النابلسي من ذلك إال جعل الكشف بعينه دليالا على وحدة
الوجود ،وحنن ال نرى للكشف كشفا ،وقد نص علماء السنة على أنه ليس من
طرق العلم واملعرفة عند أهل احلق ،والقائلون بوحدة الوجود يعتربون الكشف
واإلهلام طريق املعرفة األهم ،فهم يف ذلك خمالفون ألهل السنة وألهل احلق.
وأغرب ما يف الكتاب ما نقله النابلسي عن" :الشيخ أمحد القشاشي املدين
رمحه هللا تعاىل يف رسالته يف وحدة الوجود عن ابن كمال ابشا رمحه هللا تعاىل ومن
خطه نقل ،كما صرح بذلك ،أنه جيب على ويل األمر أن حيمل الناس على القول
بوحدة الوجود ".اهـ.
فسبحان هللا تعاىل ،من أوضح حجة وأبني برهاانا ،وحدة الوجود ،أم ما ذكره
اإلمام مالك يف موطئه ،وقد رفض اإلمام مالك عرض اخلليفة أن حيمل الناس على
الناس على القول بوحدة ما يف كتابه ،ولكننا نرى النابلسي يؤيد أن حيمل اإلمام َ
الوجود وهو املذهب الذي اشتد اختالف الناس فيه ،حىت بلغ من بعض كبار
العلماء أن يكفر القائل هبا ،وحيكم بزندقته ،وها حنن نرى النابلسي يقول بوجوب
القول هبا ،وبلزوم محل اإلمام للناس على القول هبا .فسبحان هللا تعاىل ،فانظر
أصحاهبا إىل التمسك مبثل هذه املواقف َ كيف تدعو البدعة واالحنراف العقائدي
املختلَّ ِة الضعيفة لبادئ الرأي.
66
وما أقرب هذا املوقف إىل موقف املعتزلة الذين اشتطوا وغلوا يف قوهلم خبلق
القرآن ،حىت أوجبوا على الناس أن يقولوا هبا ،ولو أهنم تركوا األمر إىل الدليل،
وأودعوا هذه املسألة للناس يتجادلون هبا فيما بينهم ،ملا أنكر عليهم أحد من الناس
كما أنكروا ،ولكان هلم شأن وأي شأن يف اتريخ املسلمني !!
وهبذا نكون قد انتهينا من التعليق على ما يف رسالة الشيخ عبدالغين
النابلسي ،ونقدان ما فيها من مدعيات ،وأقوال فاسدة ،واكتفينا إبشارات واضحة،
كما اكتفى مؤلفها مبثل ذلك ،ليكون مقابلة الشيء مبثله ،وقد تركنا التفصيل يف
الرد على أدلة القوم يف قوهلم بوحدة الوجود إىل موضع أكثر مناسبة.
67
الباب الثاني
وحدة الوجود بيـن الفالسفة
هــذا البــاب وضــعته لكــي أوضــح بعــض احلقــائق املختلفــة عــن عقيــدة وحــدة
الوجود ،ال من حيـث إن ابـن عـريب والنابلسـي أو غـريهم ،قـائلون هبـا ،بـل مـن حيـث
امتــدادها بــني املفك ـرين املتقــدمني واملتــأخرين ،وبــني الفالســفة عل ــاختالف مــذاهبهم
وأوضاعهم.
وال أريد أن يكون هذا أترخيا لوحدة الوجود بل جمرد لفت نظر إىل بعض مـن
قــال هبــا ليتبــني لنــا مــدى االنفعــال احلاصــل بــني القــائلني هبــا ،أو مــدى االش ـرتاك يف
أقواهلم ومذهبهم.
إكسينوفان
إن م ــذهب وح ــدة الوج ــود ممت ــد من ــذ أوائ ــل الفكــر الفلس ــفي وامتداداتــه ال ــيت
متثلت يف اليوانن ،فممن قال بوحدة الوجود إكسينوفان.
قال عبد الرمحن بدوي يف كتابه ربيع الفكر اليوانين ص" :118ومن هنا فمن
ال ـراجح متام ـا إن إكســينوفان كــان موحــدا ،لكــن علــى أي حنــو جيــب أن نفهــم هــذا
التوحيــد؟ أنفهمــه علــى طريقــة املــؤهلني أم علــى طريقــة القــائلني بوحــدة الوجــود؟ هنــا
خيتلــف املؤرخــون أشــد االخــتالف ،ولكــن خالصــة ال ـرأي أن إكســينوفان كــان يقــول
بوحدة الوجود وَل يكن يقول ابلتأليه ابملعىن املفهـوم ألنـه مجـع بـني الطبيعـة وبـني هللا،
وحتدث عن هللا بوصفه الطبيعة ،وعن الطبيعة بوصفها هللا ".اهـ.
فهــذا الفيلســوف اليــوانين يقــول إذن بوح ـدة الوجــود ،وهــو يعتقــد أن هللا هــو
الطبيعــة ،والطبيعــة هــي هللا ،وحنــن نفهــم أن بــني هــذا املعــىن لوحــدة الوجــود وبــني مــا
68
وضحناه عن النابلسي فرقا ،ولكن خالصة املـذهبني ،أنـه ال يوجـد إال موجـود واحـد
حقيقي يف الكون ،البعض يسميه ابإلله ،والبعض يسميه ابلطبيعة ،ولذلك قال عبـد
الـ ــرمحن بـ ــدوي عـ ــن إكسـ ــينوفان ص" :120وإذا نظ ـ ـران إىل إكسـ ــينوفان مـ ــن انحيـ ــة
الوج ــود ألفين ــاه أوال ينس ــب إىل هللا الص ــفات ال ــيت سينس ــبها اإليلي ــون م ــن بع ـ ُـد إىل
الوجود".اهـ.
وحنــن نعلــم أن الصــفات الــيت ينســبها القــائلون إىل الوجــود املطلــق هــي عــني
الصــفات الــيت ينســبوهنا إىل هللا تعــاىل ،مبعــىن أن هللا تعــاىل هــو عينــه الوجــود املطلــق،
مر توضيحه سابقا .وابلتايل فال يوجد فرق كبري من هذين املذهبني. كما َّ
برمنيدس
إن برمنيدس نظر إىل الوجود على أنه شيء جمرد وليس هو الطبيعة نفسها.
ق ــال ب ــدوي يف ص" :121كم ــا أض ــاف إىل الوج ــود الص ــفات األص ــلية ال ــيت
جتعل من هذا الوجود كاأللوهية سواء بسواء ،وهلذا َل يكن يفرق بني الوجود واآلهلة،
ألنه ابتدأ من مسألة الوجود ،أبن قال إن الشيء احلقيقي الوحيد هو الوجود ،أما ما
عداه فهو عدم".اهـ.
وأوضح بدوي مـذهب برمنيـدس " :مث إن الوجـود إذا كـان كـذلك فهـو واحـد
ومطلـق ،وذلـك ألنــه إذا َل يكـن واحـدا فمعــىن هـذا أنـه متعــدد ،ومعـىن أنـه متعــدد أن
هنــاك شــيئا آخــر غــري الوجــود بــه يكــون التعــدد والتفرقــة ،وملــا كــان الوجــود هــو كــل
شيء".
وهــذه احلجــة هــي نفــس مــا ن ـراه عــد املتــأخرين مــن القــائلني بوحــدة الوجــود،
ولعـل برمنيـدس يكـون أقــرب الفالسـفة املتقـدمني إىل مـذهب وحــدة الوجـود كمـا نـراه
عند ابن عريب والقونوي والنابلسي وغريهم ممن يقول به من اإلسالميني.
69
مث قــال" :وإذن ف ــالوجود ه ــو الكــل ،وه ــو واحــد وهــو اثبــت وه ــو أزيل وه ــو
أبــدي ،واآلن فمــا هــو الفكــر ،إن الفكــر ال ميكــن أن يكــون غــري الوجــود ،والوجــود
ال ــذي يعق ــل ذات ــه ه ــو أيض ــا وج ــود ،ف ــالوجود والفك ــر إذا ،أو الوج ــود واملاهي ــة كم ــا
سيقال فيما بعد ،شيء واحد".اهـ.
إن هـ ــذه الفكـ ــرة هـ ــي فكـ ــرة أصـ ــيلة يف مـ ــذهب وحـ ــدة الوجـ ــود ،وهبـ ــا أخـ ــذ
املتأخرون واملتقدمون منهم ،من ابن عريب إىل املال صـدرا ،والقونـوي ،حـىت الفالسـفة
األوروبيون القائلون بوحدة الوجود مثل هيجل فقد قالوا هبا أيضا.
لقد مجع هؤالء بني الفكر والوجود بل جعلوا الفكر مرتبة من مراتب الوجود،
وهللا عند املتأخرين جتلى مبظاهر املمكنات نتيجة جتلي معلوماته يف عني ذاته.
نعــم حنــن جنــد يف مــا نقــل مــن كــالم عــن هــؤالء املتقــدمني مــن الفالســفة أهنــم
ـود املــادي احملســوس ،وأحيــاانا يريــدون املعقــول ،وهــم يف ذلــك يقصــدون ابلوجــود الوجـ َ
كمثــل الفالســفة املتــأخرين ،حنــو ســبينوزا الــذي قــال بوحــدة الوجــود املاديــة فهــو مــن
الذين أهلوا الطبيعة ،وقريب منه برمنيدس هذا ،وإن حتدث عن الوجود من حيث هو
عقل وجمرد.
وغريه طبعوا اإلله ،فجعلوا اإلله عني الطبيعة !! وهلل يف خلقه شؤون ،فاخللق
خلق واحلق حق.
ول ــذلك ق ــال ب ــدويعن برمني ــدس ص" :125وخالص ــة م ــا نقول ــه حن ــن ه ــو أن
الوج ــود عن ــد برمني ــدس ل ــيس ه ــو الوج ــود احلس ــي ،كم ــا أن ــه ل ــيس الوج ــود املنطق ــي
الصرف ،بل هو وجـود حـاول صـاحبه أن يرتفـع بـه عـن الوجـود احلسـي ،لكـن درجـة
التجريــد ،فيمــا يتصــل ابلوجــود َل تكــن كافيــة لكــي جتعــل مــن هــذا الوجــود وجــودا ال
حسيا أو وجودا منطقيا".اهـ.
وحق له أن يكون كذلك عند برمنيدس ،فإن الفكـرة َل تكـن بعـد قـد ختمـرت
يف أذه ــاهنم ،وإن ك ــان م ــن أت ــى بع ــده ق ــد ص ــرف ق ــدرا عظيم ــا م ــن طاقات ــه الفكري ــة
70
العقلي ،والبعض منهم مزج بينهمـا يف مـذهب
َّ ليختار أحد اجلانبني ،أعين احلسي أو
َ
واحد ونظرة عقلية واحدة صرفة ،وكل منهم له طريقة تناسبه.
72
واملــذهب الــذي يضــاد مــذهب بـراديل هــذا هــو املــذهب الــذي يقــول ابلفرديــة
والكثــرة واالختالف،وهــو املــذهب املعــروف ابســم مــذهب التعــدد ،وأشــهر رجالــه يف
العصر احلديث وليم مجس".اهـ.
وقد سقت هذه الفقرة لتوضيح حقيقة وحـدة الوجـود وبعـض مـن قـال بـه مـن
القرون املعاصرة ،وعلى أي معىن قالوا به ،وإنين أرى أنه ال اخـتالف كبـريا بـني أقـوال
القائلني بوحدة الوجود عل اختالف مفاهيمها عندهم ،وبني املعاصرين.
اسبينوزا
س ــوف أه ــتم هن ــا ببي ــان رأي اس ــبينوزا الفيلس ــوف األورويب املعاص ــر اليه ــودي
األصــل ،يف هــذه املســألة ،والســبب يف ذلــك أنــه متيــز ب ـرأي مــن بــني فالســفة أورواب،
يستحق أن يلتفت إليه ،وابلنسبة لبحثنا هذا ،فإنه قريب ويف غاية القرب منه.
لق ــد أراد وال ــده أن يص ــري حاخام ــا يه ــوداي ،كم ــا ق ــال يوس ــف ك ــرم يف اتري ــخ
الفلس ـ ـ ـ ــفة احلديث ـ ـ ـ ــة ص" :106ولك ـ ـ ـ ــن داخل ـ ـ ـ ــه الش ـ ـ ـ ــك يف ال ـ ـ ـ ــدين فع ـ ـ ـ ــدل ع ـ ـ ـ ــن
مشــروعه ،وحتــول إىل العلــوم اإلنســانية ،وأخــذ يــرتدد علــى األوســاط الربوتســتانتية،
فلقي فيها طبيبا تيوصوفيا من القائلني بوحدة الوجود لقنه الطبيعة واهلندسة والفلسفة
الديكارتية".اهـ .
وق ــال ك ــرم يف ص" :107ي ــتم ع ــرض مذهب ــه بتلخ ــيص ثالث ــة م ــن كتب ــه ه ــي
إصالح العقل ،واألخالق ،والرسالة الالهوتيـة السياسـية ،وأصـحها كتـاب األخـالق،
فإنــه جــامع يلخــص الكتــب الســابقة ويكملهــا ،وقــد هنــج فيــه املــنهج اهلندســي وهــو
املنهج الالئق مبذهب وحدة الوجود الذي ينزل من الواحد إىل الكثري".اهـ.
إن أهــم كلمــة تــدور حــول فلســفة اســبينوزا هــي كلمــة اجلــوهر ،وتنبــين عليهــا
ض ،وهـو يعـين ابجلـوهر كمـا قـال ِو ْل ديورانـت الع َـر ُ مفـاهيم أخـرى عنـده هـي الصـفة و َ
يف قصة الفلسفة ص " :216إننا لـو قـاران اآلن تقسـيمه للعـاَل إىل جـوهر وعـرض مـع
73
تقس ــيمه ل ــه يف كتاب ــه إص ــالح العق ــل إىل نظ ــام أب ــدي للق ـوانني وعالق ــات اثبت ــة م ــن
جهة ،والنظام املؤقت لألشياء الزائلة من جهة أخرى ،فإن هذا يسـوقنا النتيجـة وهـي
أن سبينوزا يعين ابجلوهر هنا تقريبا ما قصده ابلنظام األبدي هناك.
فلنعترب ذلك كعنصـر واحـد يف كلمـة اجلـوهر وهبـذا فإنـه يشـري إىل بنـاء الوجـود
يف ذاتــه الكــامن حتــت كــل األشــياء واحل ـوادث ،والــذي يشــري إىل لــب العــاَل .ولكــن
سبينوزا ميثل اجلوهر ابلطبيعة وهللا ،وهو يتصور الطبيعة أو الكون ذات مظهرين فهي
فعالــة حيويــة ابلطبيع ــة م ــن جه ــة ،وهــي منفعلــة خملوق ــة م ــن جه ـة أخــرى ،وإن ه ــذا
اجلانب املنفعل هو املادة وما تشتمل عليه الطبيعة اخلارجية مـن غـاابت ،وهـواء ومـاء
وجبال وحقول وعشرات األلوف من األشياء اخلارجية ،وهذه الطبيعة كلها من إنتاج
اجلانب الفعال وخلقه ،وعندئذ يكـون يف الكـون قـوة خالقـة ختلـق األشـياء وهـي الـيت
يسميها (جوهر وهي هللا) وفيه أشياء خملوقة وهي األعراض أو العاَل.
ومــن هــذا يتضــح لنــا أن ســبينوزا يقســم الكــون إىل جــوهر وعــرض ،إىل قــدمي
وحادث ،إىل هللا والعاَل احملسوس ،أما اجلوهر أو هللا فهو حقيقة ال مادة هلا ،خبالف
عــاَل األشــياء ،وقــد يســاعدان املقطــع اآليت عل توضــيح فكــرة ســبينوزا( :إين أتصــور هللا
والطبيعــة يف ص ــورة ختتلــف متامــا ع ــن الص ــورة ال ــيت ي ص ــورها املســيحيون املت ــأخرون
عــادة ،ألنــين أعتقــد أن هللا هــو األصــل ولــيس الطــارئ ،وأن هللا هــو الســبب جلميــع
األشــياء ،أقــول:إن كــل شــيء كــامن يف هللا ،وكــل شــيء حييــا ويتحــرك يف هللا ،وإنــين
متفق يف هذا مع الرسول بولس ،ورمبا أكون متفقا مع كل واحد من فالسفة القدمي،
على الرغم من أن طريقيت ختتلـف عـن طـريقتهم ،وقـد أجـرؤ علـى القـول أن رأيـي هـو
نفــس ال ـرأي الــذي جــاء بــه العربانيــون يف القــدمي ،علــى كــل حــال لقــد أخطــأ فهمــي
أولئك الذي يقولـون إن غرضـي هـو أن أبـني أن هللا والطبيعـة شـيء واحـد ،والقـائلون
هبـ ــذا يفهمـ ــون مـ ــن لفـ ــظ الطبيعـ ــة كتلـ ــة معينـ ــة مـ ــن امل ــادة اجملسـ ــدة ،إنـ ــين ال أقصـ ــد
ذلك".اهـ.
74
ه ــو ال يقص ــد ذل ــك ألن ــه يع ــين ابهلل جم ــرد القـ ـوانني ال ــيت حتك ــم ه ــذه الطبيع ــة
الظاهرة ،وهو ما نبه إليـه ول ديورانـت يف أول كالمـه ،مث قـال ديورانـت":وهو يكتـب
مرة اثنية عن الدين والدولة (:إنين أقصد مبساعدة هللا نظـام الطبيعـة الثابـت الـذي ال
يتغــري ،أو سلســلة األحــداث الطبيعيــة) ،إن ق ـوانني الطبيعــة العامــة وأوامــر هللا اخلالــدة
شــيء واحــد ،وإن كــل األشــياء تنشــأ مــن طبيعــة هللا الالهنائيــة كمــا ينشــأ مــن طبيعــة
املثلث أن زواايه الـثالث تسـاوي قـائمتني ،وإن هللا ابلنسـبة إىل العـاَل كقـوانني الـدوائر
ابلنسبة إىل الـدوائر كلهـا ،فـاهلل هـو السلسـلة السـببية الكـامن وراء كـل األشـياء ،وهـو
قــانون تركيــب العــاَل ،وهــذا الكــون املتماســك مــن األع ـراض واألشــياء مــن هللا مبثابــة
اجلس ـ ــر م ـ ــن تص ـ ــميمه وبنائ ـ ــه وتركيب ـ ــه ،والقـ ـ ـوانني الرايض ـ ــية واملبكانيكي ـ ــة الـ ـ ـيت ب ـ ــين
عليها".اهـ.
ففلس ــفته إذن توحي ــد ب ــني هللا وب ــني الع ــاَل املوج ــود يف اخل ــارج ،نع ــم ل ــيس هللا
عنده جزءا من مادة العاَل ،بل هو روح العاَل وقوانينه .وهـذه هـي وحـدة الوجـود الـيت
قــال هبــا اســبينوزا .وكــذلك قــال د.حســن حنفــي يف كتابــه (يف الفكــر الغــريب املعاصــر)
ص " :69إن هللا هو الطبيعة الطابعة والعاَل هو الطبيعة املطبوعة"" ،إن قدرة الطبيعة
هي قدرة هللا ،وقدرة هللا مماثلة ملاهيته" ،هذه هي أهم فكرة يف فلسفة سبينوزا.
وقد خلص يوسف كرم يف كتبه (اتريخ الفلسفة احلديثة) تلخيص ا جيدا فلسفة
اســبينوزا يف هللا والطبيعــة ،وحاصــل مــا ذكــره يف ص 111أن اجلــوهر علــة ذاتــه ،أي
ماهيتـه تنطــوي علـى وجــوده ،أن اجلــوهر المتنـاهي ،إذ لــو كــان متناهيـا لكــان متصــال
جبـواهر أخــرى حتــده وكــان اتبعــا هلــا متصــورا هبــا ال بذاتــه ،وأن اجلــوهر واحــد" :إذ لــو
كــان هنــاك جــوهران أو أكثــر لكــان كــل جــوهر حيــد اآلخــر ولبطــل أن يكــون اجلــوهر
جـوهرا أي متصـورا بذاتـه ،وعلـى ذلــك فـاجلوهر موجـود ابلضـرورة أو واجـب الوجــود،
ســرمدي ال يكــون وال يفســد ،فــإذا وجــد شــيء عــداه َل ميكــن أن يكــون هــذا الشــيء
إال ص ــفة للج ــوهر األوح ــد أو ح ــاال جزئي ــا يتجل ــى في ــه اجل ــوهر ،وبعب ــارة أخ ــرى إن
75
اجلــوهر هــو الطبيعــة الطابعــة أي اخلالقــة مــن حيــث هــو مصــدر الصـفات واألح ـوال،
وه ـ ــو الطبيع ـ ــة املطبوع ـ ــة أي املخلوق ـ ــة م ـ ــن حي ـ ــث ه ـ ــو ه ـ ــذه الص ـ ــفات واألحـ ـ ـوال
أنفسها".اهـ.
هــذه الفقــرة توضــح ابلضــبط املـراد مــن وحــدة الوجــود عنــد ســبينوزا ،وهــي كمــا
ترى مطابقة ملفهوم وحدة الوجود عند النابلسي وابن عريب ،إال ما فيهـا مـن ميـل إىل
الوحدة املادية ،خبالفها عند هيجل الفيلسوف األملاين املشـهور ،فـاحلوادث هـي جمـرد
أعراض حقيقية على اجلوهر الواحد الذي هو املوجود الوحيد.
هيجل
قـال يوســف كــرم يف اتريـخ الفلســفة احلديثــة يف ص" :275أيخـذ هيجــل علــى
فختــه أن املنطــق عنــده هــو األان حيــدث الــالأان حيــدث األان لكــي يتغلــب عليــه جمهــود
حــر :فـاملطلق أحــد طــريف التضــاد ،فهــو لــيس مطلقـا ،وأيخــذ علــى شــلنج أن املطلــق
عنــده هــو األصــل املشــرتك املتجــانس لــألان ولــالأان تتحــد فيــه األضــداد مجيعــا ولكــن
املطلــق هبــذا الوصــف هــو أصــل جمــرد ،هــو أشــبه شــيء ابلليــل تبــدو فيــه مجيــع البقــر
سودا ،ال يكشف لنا عن السبب الذي من أجله يصدر عنه العاَل وال كيف يصدر،
أما هيجل فيتفق معهما يف وحدة الوجود ،ويرى أن املطلق هو الوجود الواقعي مبا يف
مــن روح ال متنــاه أو مثــال أو عقــل كلــي أو مبــدأ خــالق مــنظم ،وأن الطبيعــة والفكــر
حــاالن لــه ،يظهــر الفكــر يف وقــت مــن أوقــات تظــور الطبيعــة ،ال أهنمــا وجهــان لــه
متوازاين".اهـ.
وتســاءل حســن حنفــي يف كتابــه (يف الفكــر الغــريب املعاصــر) ص " :158هــل
فكـر هيجـل فلســفة أم ديـن؟ إذا نظـران إىل العـدد اهلائــل مـن التحلــيالت الـيت يقــدمها
هيجــل للمفــاهيم وللتصــورات ولألفكــار ،تــداخلها وختارجهــا وتوســطها لوجــدان أهنــا
فلســفة ،بــل وفلســفة غارقــة يف التجريــد واملذهبيــة ولكننــا إذا نظـران إىل مضــموهنا وإىل
76
مسارها العام ،وجدانها ال تفرتق عـن الـدين بوجـه عـام ،ون املسـيحية بوجـه خـاص،
حىت إنه ميكن القول أبن فلسفة هيجل دين ُم َقنَّع".اهـ.
وهذا الكالم يثبت لنا أن فلسفة هيجل الـيت كانـت صـورة عـن وحـدة الوجـود
متأثرة متام التأثر ابلداينة املسيحية ،ولكنـه بـدل أن يعتـرب املسـيح فقـط هـو هللا ،صـار
عنده الوجود كله عني هللا ،وما يف الوجود من أشياء فإمنا هي اعتبـارات فكريـة هلل أو
للوجود .قال حسن حنفي يف ص ":186الدين املطلق هو هناية تطور األداين كلها
وهــو يف رأي هيجــل الــدين املســيحي أو ديــن الــوحي أو الــدين الــذي يتكشــف ،فهــو
الــدين املطلــق ألنــه اســتطاع أن يتجــاوز حســية الــدين الطبيعــي وماديتــه كمــا اســتطاع
أيضــا أن يتعــدى صــورية ديــن الفرديــة الروحيــة وضــرورايهتا ،وهــو ديــن الــوحي ألنــه هــو
الوحيد يف رأي هيجل ،الذي تلقى رسالة من السماء أي إنه دين الكلمة".اهـ.
وإذا عرفنــا ذلــك ،عرفنــا ملــاذا أتثــر بعــض الغ ـربيني املتبعــني للفيلســوف هيجــل
مبـذهب وحـدة الوجـود كمـا قـال بــه اإلسـالميون ،ففلسـفة هيجـل مـأخوذة مـن الــدين
املســيحي ،بصــورة أو أخــرى ،وملــا كــان بعــض هــؤالء يدرســون الالهــوت املســيحي،
وتعرفوا على عقيدة وحدة الوجود كما قال هبا ابن عريب وأتباعه ،أحب بعـض هـؤالء
هــذه العقيــدة واعتــربوا أنفســهم اتبعــني البــن عــريب ،وهــم يف احلقيقــة اتبعــون هليجــل
وللــدين املســيحي .قــال حســن حنفــي يف ص"190كانــت مهمــة هيجــل كلهــا هــي
الــدفاع عــن املســيحية وتربيرهــا عقــال كمــا كــان يفعــل فالســفة العصــر الوسيط".اه ــ،
وقــال يف ص":234ومــن انحيــة أخــرى يــتهم هيجــل اإلســالم واملســلمني ابلتعصــب
وابحلماس األعمى ملوضوع جمرد سليب مما تضح يف احلروب والفتوح حىت أصبح املبدأ
لديهم هو الدين واإلرهاب ،كما كان املبدأ عند روبسبري احلرية واإلرهاب".اهـ
ولنس ــتمع إىل م ــا يقولــه ال ــدكتور زك ـراي إب ـراهيم وه ــو مــن أه ــم م ــن كت ــب ع ــن
هيجـ ــل يف كتـ ــاب كبـ ــري مسـ ــاه (هيجـ ــل أو املثاليـ ــة املطلقـ ــة) ،فقـ ــد قـ ــال يف ص:36
77
"والظ ــاهر أن عقلي ــة هيج ــل الش ــاب ق ــد وقع ــت يف تل ــك اآلون ــة حت ــت أتث ــري بع ــض
النزعات التأليهية الطبيعية ،إن َل نقل بعض االجتاهات القائلة بوحدة الوجود".اهـ.
وقــال يف ص" :37مث كانــت صــداقة هيجــل لكــل مــن هلــدرلن وشــلنج فل ــم
يلبث فيلسوفنا أن اجتـه إحنـو عبـادة اليـوانن ،كمـا احنـاز إىل املـذاهب الواحديـة القائلـة
بضرب من احلقيقة اإلهلية الشاملة".اهـ.
مث تكلــم زكـراي إبـراهيم عــن قصــيدة كتبهــا هيجــل ووصــفها يف ص" :47ومــن
اآلاثر اليت خلفها لنا هيجـل أيضـا يف هـذه الفـرتة قصـيدة أهـداها إىل هلـدرلن بعنـوان
إلوزيس ،وهي قصيدة صوفية يتغىن فيها هيجل بروعة ذلك الكل الذي هو مستغرق
فيه مأخوذ بسحره ،مـذهول لسـره ،ولـئن كـان بعـض النقـاد حـاول أن خيلـع عـن هـذه
القصيدة كل طابع صويف ،خصوصا وأن هيجل نفسه كان قد ألغى جبرة قلمه بعـض
أبي ــات منه ــا كان ــت تتض ــمن مع ــاين الوج ــد الص ــويف ،إال أن م ــن املؤك ــد أن يف ه ــذه
القصيدة إمياان ضمنيا بوحدة الوجود ونشوة دينية هي نشوة العابد املستغرق يف حب
هللا".اهـ.
وقــال يف ص" :61ولــيس الواقــع يف نظــر هيجــل جمــرد جمموعــة مــن املوجــودات
املنفصلة ،بـل هـو حقيقـة كليـة أو مبـدأ واحـد يطـوي يف ثنـاايه كـل مـا يف الوجـود مـن
كثرة".اهـ.
وهــذا هــو ملخــص لعقيــدة وح ـدة الوجــود" .ولكــن االرتــداد إىل الكــل أو إىل
الوح ــدة ال يتحق ــق إال ع ــرب اإلنسان".اهـ ــ ،وه ــو ع ــني م ــا يقول ــه أه ــل الوح ــدة م ــن
اإلسالميني ،وأرى أنه ال بـد أن يكـون هيجـل قـد أتثـر كغـريه ابإلسـالميني ،وهـو أمـر
غري بعيد ،فقد حصل ذلك لبعض أهم الفالسفة مثل ديكارت ،وليبنتز ،وغريهم.
إذن هيجــل كانــت فلســفته مثبتــة لوحــدة الوجــود املتــأثرة ابملســيحية ،واســبينوزا
يــدعي أن فلســفته يف وحــدة الوجــود ممثلــة للداينــة اليهوديــة احلقيقيــة الــيت َل يتابعهــا
اليهود املتأخرون!!
78
وأخ ـريا قــال د .زك ـراي إب ـراهيم يف ص" :96وأمــا املدرســة اهليجليــة نفســها فقــد
انقس ــمت بعـ ــد وفـ ــاة زعيمه ـ ـا إىل جن ــاحني :جن ــاح مييـ ــين ع ــاد إىل النزعـ ــة التأليهيـ ــة
التقليدية ،وحاول أن يطبع الفلسفة اهليجلية كلها بطـابع الهـويت بروتسـتانيت ،وجنـاح
استغل ما يف الفلسـفة اهليجليـة مـن نـزوع واضـح حنـو وحـدة الوجـود، َّ يساري متطرف
وانتهــى يف خامتــة املطــاف إىل نزعــة إحلادي ــة صــرحية ،وه ــؤالء ه ـم اهليجلي ــون الش ــبان
الذين برز منهم شرتاوس وفويرابخ وكارل ماركس...اخل" اهـ.
إذن نزعــة وحــدة الوجــود تــؤدي يف كثــري مــن األوقــات إىل اإلحلــاد ،وهــذه هــي
التهمة اليت كان بعض العلماء املتقدمني يتهمون هبا القائلني بوحدة الوجود ،وقد آل
األمر ببعض من قال بوحدة الوجود يف التـاريخ اإلسـالمي إىل القـول ابإلحلـاد ،وكـون
العاَل كله هو هللا ،وهو عني اإلحلاد.
وقد نبه إليهم كثري من النـاس ومـنهم النابلسـي يف رسـالته الـيت علقنـا عليهـا يف
مر.
هذه الرسالة كما َّ
79
الخاتمة
وإىل هنا أقف يف هذه العجالة اليت أرجو أن تكون مفيدة يف ابهبا ،حيث إن
الكالم يف هذه املسألة طويل الـذيل ،وأان أرجـو أن يـوفقين هللا تعـاىل إىل كتـاب أكثـر
تفصــيالا ،أانقــه فيــه هــذا املــذهب بدقائقــه وتفصــيالته ولوازمــه ،وأبــني حقيقــة هــذا
املذهب الذي ال ميثل أبي حال من األحوال معتقد أهل السنة واجلماعة األشاعرة.
وهللا اهلــادي ،وهــو املوفــق للص ـواب ،وإليــه املرجــع واملــدب ،وآخــر دع ـواان أن
احلمد هلل رب العاملني.
ش ــرح الص ــاوي عل ــى ج ــوهرة التوحي ــد ،ص ،142حتقي ــق وتعلي ــق د .عب ــدالفتاح ][1
البزم ،طباعة دار ابن كثري ،دمشق-بريوت.
حاشية األمري على شرح الشيخ عبدالسالم املـالكي عل جـوهرة التوحيـد ،ص،59 ][2
مطبعة مصطفى البايب احلليب.
مث ذكـر العالمــة األمـري بعــد ذلـك مــا مضـى نقلــه عـن الصــاوي مـن كــالم ابـن وفــا، ][3
والتلمساين.
إيضاح املقصود ،ص.8 ][4
إيضاح املقصود من وحدة الوجود ،ص.8 ][5
كذا ابملطبوع :والصحيح :بوجوده. ][6
هذه العبارة قلقة ،ورمبـا يكـون أصـلها أن املعـدوم الـذي هـو املخلـوق القـائم ابحلـق ][7
احلق ،فاملعدوم ال يؤثر يف املوجود .يف املوجود.ال يغَِريُ املوجود َّ
80