You are on page 1of 80

‫الودُو ِد‬

‫َ‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫َــ‬ ‫ن‬‫ـ‬‫م‬‫ِ‬
‫ـان َمـ ْذهــ َ ِ‬
‫ب‬ ‫في بيـــ َ ِ‬
‫الوجــُـو ِد‬
‫وحدَ ِة ُ‬
‫ْ‬
‫تصنيف‬
‫األستاذ العالمة المتقن‬
‫سعيد فودة‬
‫حفظه هللا تعالى‬

‫‪ 1423‬هـ ‪ 2002 -‬م‬

‫‪1‬‬
‫لست عدواً للصوفية‪ ،‬وال منكراً‬
‫[ اعلم أيها القارئ العزيز‪ ،‬أين ُ‬
‫لوجود أولياء هللا وكرامتهم‪.‬‬
‫وأعرتف أبن علم العلماء قد ال يكفي يف إصالح الناس وهتذيب‬
‫ُ‬
‫نفوسهم‪ ،‬بل ويف هتذيب العلماء أنفسهم‪ ،‬فتحصل احلاجة إىل الطرق‬
‫الصوفية إلكمال هذا النقص بتدريب املسلمني ومترينهم على العمل‬
‫مبقتضى علم العلماء من أحكام الشرع األنور‪ ،‬ال ملصادمة علم العلماء‬
‫ومذاهب أهل السنة يف أصول الدين وفروعه‪.‬‬
‫ولست أيضاً من الوهابيني الذين ال حيرتمون عباد هللا املكرمني بعد‬
‫ُ‬
‫موهتم‪.‬‬
‫وال أدعي الفضل على أحد‪ ،‬وال أحس ُد أحداً على فضله‪.‬‬
‫ومع هذا كله فإين عبد هللا‪ ،‬ال عبد أي أحد اشتهر أبنه ويل من‬
‫أولياء هللا‪ ،‬فال أضحي مبقام ريب جل وعال ملنـزلة ذاك الويل عند الناس‪،‬‬
‫وال أعرتف له ابمتياز أن يقول يف ذات هللا ما ال يقبله العقل وال شرع‬
‫اإلسالم‪ ،‬وال ابمتياز أن يفسر كالم هللا وكالم رسوله مبا يشاء هواه‬
‫ويشبه التالعب هبما أو يضاد ما سيقا له ]‪.‬‬

‫العاََِل (‪)92/3‬‬
‫و‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫العقل والعِ‬
‫موقف ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫شيخ اإلسالم‬
‫مصطفى صبري‬
‫رحمه هللا تعالى‬

‫‪2‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫مقـ ِدمة‬
‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على سيدنا محمد‬
‫أفضل األنبياء والمرسلين‪:‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫رمبا كانت مسألة وحدة الوجود من أهم املسائل العويصة والكبرية اليت دار‬
‫حوهلا البحث والنظر بني أطراف عديدة‪ ،‬ال يف التاريخ اإلسالمي فقط‪ ،‬بل يف‬
‫اتريخ الفكر اإلنساين بشكل عام‪ ،‬وال أقول إن هذه النظرية كانت منتشرة مقبولة‬
‫بني الناس منذ أوائل التاريخ اإلنساين‪ ،‬ال‪ ،‬بل أقول فقط إهنا كانت من املسائل اليت‬
‫وضعها العقل اإلنساين حتت النظر والبحث‪ ،‬بل أستطيع أن أقول أكثر من ذلك‪،‬‬
‫إن هذه املسألة َل تزل من املسائل املردودة منذ أبعد األزمان والتاريخ‪ ،‬إال عند طائفة‬
‫حمصورة معدودة من الفالسفة الذين َل يكتب ألرائهم النجاح واالنتشار والقبول‬
‫مقارنة بغريها من املسائل‪.‬‬
‫إن فكرة توحيد هللا تعاىل هي الفكرة األبعد واألكثر قبوالا عند اجلنس‬
‫البشري‪ ،‬وتوحيد اإلله‪ ،‬ال يعين من قريب وال من بعيد‪ ،‬املعىن الذي يريده القائلون‬
‫بوحدة الوجود‪ ،‬فاإلميان بوحدة هللا تعاىل أساسه هو االعتقاد أبنه ال واجب للوجود‬
‫وجل‪ ،‬وأنه هو الفاعل املختار‪ ،‬ال مؤثر يف الوجود إال هو‪ ،‬وأنه ال‬ ‫إال هو عز َّ‬
‫اشرتاك بينه وبني املخلوقات يف حقيقة الذات وال يف حقيقة الصفات‪ ،‬وإن كان‬
‫االشرتاك يف اإلطالق اللغوي حاصالا بني اخلالق واملخلوق يف بعض األلفاظ‪ ،‬كاسم‬
‫العاَل‪ ،‬يطلق على اإلنسان وعلى هللا تعاىل‪ ،‬واسم السميع والبصري‪ ،‬وغريها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫فاالشرتاك واقع فقط يف اللفظ‪ ،‬وال اشرتاك يف املعىن‪ .‬وأما االشرتاك يف األحكام‬
‫واالعتبارات والنسب فال حمذور منه‪ ،‬كما هو معلوم‪ ،‬وبناء عليه جتوز القسمة إىل‬
‫الواجب واملمكن‪ ،‬والقدمي واحلادث‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫وفكرة التوحيد كما هي عند أهل السنة ال تنايف تعدد الوجود واملوجود‪ ،‬كما‬
‫سيتضح‪ ،‬فتكثر الوجود واملوجود‪ ،‬هو أساس التوحيد عند أهل السنة‪ ،‬مبعىن أن‬
‫التوحيد إمنا هو حصر الوجود الواجب يف هللا تعاىل‪ ،‬وال يتضمن ذلك نفي الوجود‬
‫اجلائز عن املخلوقات‪.‬‬
‫واحلقيقة أن مذهب وحدة الوجود من املذاهب املشكلة اخلطرية‪ ،‬وسوف‬
‫أوضح جهة اخلطورة يف ما سيأيت من املباحث‪.‬‬
‫وأساس هذا املذهب هو االعتقاد أبنه ال وجود إال هلل تعاىل‪ ،‬وأن املخلوقات‬
‫ال وجود هلا‪ ،‬وإمنا ينسب إليها الوجود على سبيل اجملاز‪ ،‬وأما يف احلقيقة فال وجود‬
‫هلا مطلقا‪.‬‬
‫وهذا هو املقصود من القول بوحدة الوجود‪ ،‬فال موجود مطلق ا إال هللا تعاىل‪،‬‬
‫أو ال وجود مطلقا إال هلل تعاىل‪ ،‬وما يظهر لنا من ذوات موجودة‪ ،‬فإنه ال وجود هلا‬
‫غري عني وجود هللا تعاىل‪ ،‬فهي قائمة بعني وجوده عز امسه‪ ،‬ومذهب وحدة الوجود‬
‫يستلزم أن إثبات الوجود مطلقا لغري هللا تعاىل إمنا هو نوع من أنواع الشرك‪،‬‬
‫والتوحيد عندهم‪ ،‬إمنا هو نفي الوجود عن كل ما سوى هللا‪ ،‬واعتقاد أن كل السوى‬
‫هو عني هللا‪ .‬فتكثر الوجود منفي عندهم‪ ،‬ويتبقى وحدة الوجود‪.‬‬
‫وكما هو واضح‪ ،‬فإنه يوجد فرق عظيم بني اعتقاد أهل السنة وبني اعتقاد‬
‫أهل الوحدة‪ .‬وهذا ما سأوضحه يف هذه الرسالة‪.‬‬
‫وال بد أوالا من أن أذكر السبب يف أتليف هذه الرسالة‪ ،‬والغاية منها‪ ،‬فال‬
‫شك أن كل فعل حكيم من أفعالنا احلادثة‪ ،‬له سبب وله غاية‪.‬‬ ‫َّ‬
‫إنين مع طول صحبيت لعلم التوحيد‪ ،‬وحمبيت له‪ ،‬ومعرفيت للعديد من تفاصيله‪،‬‬
‫اتَّضح عندي علو شان هذا العلم‪ ،‬وتبني يل ملاذا مساه علماؤان احملققون بعلم أصول‬
‫الدين‪ ،‬وما ذلك إال لعلو شأنه وعظيم خطره‪ ،‬يف تصحيح اآلراء‪ ،‬ونقد األوهام‪،‬‬
‫والتفريق بني احلق والباطل من امليول واألفكار‪ ،‬فهو العلم احلاكم على سائر العلوم‪،‬‬

‫‪4‬‬
‫ومنه تستمد سائر العلوم أصوهلا الكلية‪ ،‬وتنبين عليه أهم قواعدها‪ .‬ومنه عرفت أن‬
‫هللا تعاىل أوجب على املكلفني نقد اآلراء الباطلة‪ ،‬ونصرة احلق اليقني‪ ،‬ودفع أوهام‬
‫املتومهني‪ ،‬والرد على القائلني بغري علم‪.‬‬
‫أيت يف بعض األزمان أن مذهب التجسيم انتشر بني الناس‪،‬‬ ‫ولذلك ملا ر ُ‬
‫وطالت مبادئه حىت عقول املثقفني‪ ،‬ومحلة الشهادات العالية‪ ،‬فقد متسكوا مبفاهيم‬
‫مذهب التجسيم‪ ،‬حىت دون أن يعرف بعضهم أهنم كذلك‪ ،‬واخندع كثري منهم أبمساء‬
‫قد َر هللا تعاىل أن تربز حلكمة ال شك فيها‪ ،‬تفيد متييز الصادقني عن غريهم‪.‬‬‫المعة َّ‬
‫ط به هذا املذهب من أنصار وأعوان‪ ،‬وتنوع‬ ‫أيت ذلك‪َ ،‬ل مينعين ما أحي َ‬ ‫فلما ر ُ‬
‫أرد عليهم ببيان حقيقة اعتقادهم‪،‬‬
‫وسائلهم اليت ميلكوهنا يف إشاعة مذهبهم‪ ،‬من أن َّ‬
‫أبسلوب ال أظن أحدا من أهل هذا العصر قام به‪ ،‬وكان هديف من ذلك هو متييز‬
‫احلق عن الباطل‪ ،‬فمن اتبع احلق فإمنا يتبعه عن بينة‪ ،‬ومن يتبع الباطل فال حجة له‪.‬‬
‫وملا كان سبيل احلق واحدا‪ ،‬وسبل الباطل متكثرة متعددة‪َ ،‬ل يقتصر الباطل‬
‫على مذهب التجسيم‪ ،‬بل كانت له صور متنوعة‪ ،‬وأشكال خمتلفة‪ ،‬وكم كان عجيب‬
‫أن مذهب وحدة الوجود ال يزال له يف الوجود نصري وأعوان‪ ،‬وكثري‬ ‫عندما عرفت َّ‬
‫من هؤالء من املشايخ الذين ينتسبون يف ظاهر كالمهم إىل األشاعرة من أهل‬
‫يصرحون أن مذهب وحدة الوجود مطابق ملا يقوله السادة األشاعرة‪،‬‬ ‫السنة‪ ،‬بل ِ‬
‫بعض من أعرفه ويعرفين‪ ،‬والعجب أن كثريا من أساليب اجملسمة‬ ‫وكان أن مال إليهم ُ‬
‫يتبعها هؤالء يف استجالب األعوان واألنصار‪ ،‬حىت وإن كانت ممنوعة شرع ا‪ ،‬أو‬
‫مؤدية إىل مفاسد ال تعد وال حتصى‪.‬‬
‫وأكثر الذين يؤيدون وحدة الوجود إن َل يكن مجيعهم‪ ،‬هم من الصوفية‪ ،‬أي‬
‫إن الصوفية كلهم يقولون بوحدة الوجود‪ ،‬ال بل‬ ‫املنتسبني إىل التصوف‪ ،‬وال أقول َّ‬
‫كثري من الصوفية ينفون وحدة الوجود‪ ،‬ويرفضوهنا‪ ،‬ولكن غاية ما أقوله هو أن أكثر‬
‫القائلني ابلوحدة‪ ،‬من الصوفية‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وأيضا فقد الحظت أن كثريا من هؤالء يدعون يف أول الطريق أهنم منتسبون‬
‫إىل األشاعرة‪ ،‬وأن عقائد األشعرية موافقة ملذهب وحدة الوجود‪ ،‬وهذا ادعاء كبري ال‬
‫دليل هلم عليه‪ ،‬وواقع األمر أن الصوفية القائلني بوحدة الوجود (وليس كل الصوفية‬
‫كذلك) إمنا يدعون انتساهبم إىل األشعرية‪ ،‬ألهنم يعرفون أن األشعرية هم أكرب‬
‫الفرق اإلسالمية‪ ،‬واالنتساب إىل أكرب الفرق اإلسالمية أمر حيميهم من أعدائهم‪.‬‬
‫سن هلم هذا األمر إمنا هو ابن عريب احلامتي الصويف املشهور‪،‬‬ ‫وأعتقد أن من َّ‬
‫صاحب الفتوحات املكية‪ ،‬الذي جعل يف صدر كتابه هذا خمتصرا يف العقائد وصفه‬
‫أبنه "عقيدة العوام"‪ ،‬وهو عبارة عن ملخص لعقيدة األشعرية‪ ،‬وَل يبتدئ ابن عريب‬
‫كتابه هذا هبذا املختصر إال تروجيا له بني الناس‪ ،‬ال اعتقادا خالصا هبذه العقيدة‪.‬‬
‫وقد اخندع بذلك كثري من الناس والعلماء فصاروا يتوقفون يف مسائل كثرية‬
‫موجودة يف كتب ابن عريب ملالحظتهم ابتداءه هبذه العقيدة يف أول كتابه‪ ،‬فيقولون‬
‫كيف ميكن أن يقول ابن عريب بعقيدة وحدة الوجود وقد ابتدأ كتابه بعقيدة‬
‫األشاعرة؟! وكيف ميكن أن يقول ابن عريب ابلفيض الفلسفي وهو قائل بعقيدة‬
‫األشاعرة؟! وكيف وكيف‪ ...‬بل صار بعض العلماء إذا أراد أن يوضح عقيدة ابن‬
‫عريب يكتفي بذكر هذا املختصر املشار إليه‪.‬‬
‫وكل ذلك يف نظري غري صحيح وال موافق للتحقيق‪ ،‬ألن الصحيح أن ابن‬
‫عريب وإن ابتدأ كتابه بذلك املختصر‪ ،‬إال أنه مساه بعقيدة العوام‪ ،‬وعقبه بعقيدة‬
‫إن البن عريب كتب ا كثرية غري هذه الصفحات اليت ابتدأ‬ ‫اخلواص وخاصة اخلاصة‪ ،‬مث َّ‬
‫هبا "الفتوحات املكية"‪ ،‬وكثري من هذه الكتب فيها من العقائد ما خيالف ما صرح‬
‫جيوُز الباحث لنفسه أن جيعل من هذا املنت املختصر‬ ‫به يف عقيدته تلك‪ .‬فكيف ِ‬
‫حاكما ََ على كل تلك الكتب والكلمات املصرحة ابخلالف؟ إن هذا لعمري‬
‫احنراف عن احلق‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ولنرجع إىل وحدة الوجود‪ ،‬فهي َل تكن مقصورة على ابن عريب‪ ،‬بل قال هبا‬
‫غريه‪ ،‬ممن سبقه ومن تاله‪.‬‬
‫قلت سابقا‪ :‬إن هناك سببا ََ دفعين إىل الشروع يف كتابة هذه الرسالة‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬
‫أن بعض الناس يف هذا الزمان قالوا مبذهب وحدة الوجود أو مالوا إليه‪ ،‬وملا كنت‬
‫أردت أن أحرر كالما ولو خمتصرا‬
‫أعلم أن هذا املذهب خمالف لعقيدة أهل احلق‪ُ ،‬‬
‫يف نقد ذلك‪ ،‬وبيان احنرافه عن احلق‪ .‬وقد نظرت يف واقع هؤالء ورأيت أهنم يدورون‬
‫على كالم ابن عريب أساسا‪ ،‬ويستأنسون بغريه من الناس‪ ،‬ولكن حمورهم هو ابن‬
‫عريب‪ ،‬وشراحه‪.‬‬
‫عبد الغين‬
‫الشيخ ُ‬
‫ُ‬ ‫ومن أكرب من صرح بوحدة الوجود على طريقة ابن عريب‬
‫النابلسي‪ ،‬صاحب رسالة (إيضاح املقصود من وحدة الوجود)‪ ،‬وله كتاب آخر يف‬
‫نفس املوضوع‪ ،‬أمساه (الوجود احلق واخلطاب الصدق)‪.‬‬
‫وقد عرفت أن هؤالء أشاعوا الرسالة املسماة (إبيضاح املقصود) بينهم‪،‬‬
‫واعتمدوها بياان لعقيدة وحدة الوجود‪ ،‬وقد اغرت بعضهم مبا فيها من كالم‪ ،‬واتبعهم‬
‫شيخ وتوقريه‪ ،‬أو عن جمرد‬
‫اآلخرون من غري فهم بل جملرد تقليد انشيء عن حمبة ٍ‬
‫هوى نشأوا عليه‪ ،‬وصاروا يستخفون بكالم العلماء من أهل السنة يقدمون كالم‬
‫هؤالء على كالمهم‪.‬‬
‫وهذه الرسالة كتبها الشيخ عبد الغين ليوضح فيها معىن وحدة الوجود الذي‬
‫ينبغي على الناس –حسب رأيه‪ -‬القول به‪ ،‬ويدافع عنها‪ ،‬ويقرر بعدة وجود أن‬
‫مذهب األشاعرة موافق لوحدة الوجود‪.‬‬
‫وهذا االدعاء غريب‪ ،‬وقد استنكرتُه ملا رأيته‪ ،‬وتعجبت كيف يصرح واحد‬
‫مثل الشيخ عبد الغين بذلك الرأي واالدعاء‪ ،‬ويتجاهل كثريا من قواعد األشاعرة ال‬
‫تتوافق مع القول حبدة الوجود وال مع مقتضياهتا‪ ،‬بل تنافرها وتناقضها‪ ،‬وختالفها‬
‫أشد املخالفة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫أيت الرسالة‪ ،‬أحببت أن أكتب عليها بعض التعليقات والنقود‪ ،‬وذلك‬ ‫وملا ر ُ‬
‫بياانا للرأي الذي يوافق عليه علماء أهل السنة‪ ،‬وإرشادا للقاصر‪ ،‬ودفعا للمغرت مبثل‬
‫هذا الكالم عن أن ينجرف وراء أتويالت فاسدة لقواعد التوحيد‪ ،‬كان ينبغي أن ال‬
‫تنطلي على املبتدئني فضالا عن أن يغرت هبا من يعترب نفسه مربزا يف علم التوحيد‪.‬‬
‫ولكن وإن كنت أقول ذلك‪ ،‬فإنين أعرف أن بعض املسائل خاصة يف علم‬
‫التوحيد قد تكون واضحة عند البعض‪ ،‬أشد الوضوح‪ ،‬وهي عينها مشكلة يف أشد‬
‫مراحل اإلشكال عند غريهم‪ .‬وخصوصا إذا كان الناظر قد تلبس أصالا مبحبة‬
‫وتقليد من هو قائل مبذهب وحدة الوجود‪ ،‬فكيف إذا كان يعتقد بواليته وأبنه خامت‬
‫األولياء‪ ،‬أو أعظم العارفني وسيدهم‪ ،‬وكيف إذا كانوا يعتقدون أنه ال يقول أبمر إال‬
‫إذا أوحى هللا تعاىل به إليه‪ ،‬فهو ال يكتب شيئا إال أبمر‪ ،‬وإال بوحي‪ ،‬وإال بكشف‪،‬‬
‫فهو العارف الذي يدور على كالمه العارفون‪ ،‬فهو قطب الرحى وحجر الزاوية‪،‬‬
‫وعمود اخليمة‪.‬‬
‫وإذا كان القائل بذلك املذهب يعتقد أن املخالف ملذهب وحدة الوجود َل‬
‫يرتق بعد إىل مراتب التحقيق‪ ،‬وَل تدخل يف نفسه معاين الدين‪ ،‬وَل خيرج عن طور‬ ‫َّ‬
‫العقل الظاهر‪ ،‬فهو ال يعرف املعاين الباطنة للكالم‪ ،‬والعقل عند هؤالء ليس إال‬
‫أوهام ا وخياالت دائرة على اخنداع أبمور يستقيها الواحد من احلواس الظاهرة‪،‬‬
‫فالعقل ال يفيد يف املعارف احلقيقية‪ ،‬وال بد من الكشف واملعاينة‪ ،‬حىت يتبني لك‬
‫أن وجود احلق ليس غري وجود اخللق‪ ،‬فالوجود واحد‪ ،‬واحلق واحد‪.‬‬
‫إذا كان الناس القائلون هبذا املذهب يعتقدون هبذه اآلراء‪ ،‬فكيف نرجو منهم‬
‫أن يعيدوا النظر مبا يقولون‪ ،‬وهم ال يعتربون غريهم يستحقون القول أصالا‪ ،‬فاألغيار‬
‫هم أصل اجلهل‪ ،‬وهم أهل الظاهر احملتجبون عن احلق ابملظاهر‪ ،‬وهم املتعلقون‬
‫ابلرسوم وقد غابت عنهم احلقائق‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫واحلقيقة أن املسألة أكرب من أن أدعي حلَّها هبذه الرسالة الصغرية‪ ،‬ولكن رمبا‬
‫تكون هذه الرسالة فاحتة لبحوث أخرى تدور حول نفس املوضوع‪ ،‬جتلي أغواره‪،‬‬
‫وتنبه الناس إىل احملذورات العديدة املرتتبة على القول به‪ ،‬ولعمق املوضوع فقد أردت‬
‫أن أهتم مبناقشة رسالة الشيخ عبد الغين النابلسي فقط‪ ،‬واالهتمام ببيان املغالطات‬
‫اليت وقع هبا‪ ،‬واملعاين الباطلة اليت أودعها يف هذه الرسالة‪ ،‬فهي وإن كانت صغرية‬
‫احلجة إال أن فيها أصوال عديدة ينبين عليها مذهب وحدة الوجود‪ .‬فرمبا إذا بينت‬
‫خطأ بعض هذه القواعد‪ ،‬وأظهرت بوضوح خمالفة وحدة الوجود ملذهب أهل السنة‬
‫األشاعرة‪ ،‬رمبا يكون هذا دافعا للبعض لكي يعيد النظر يف موقفه‪ ،‬وحياول أن يتجرد‬
‫من مجيع العالئق الدنيوية اليت يتلبس هبا‪ ،‬لعل ذلك يكون مساعدا له للخروج من‬
‫ظلم نفسه وغريه‪ .‬فالناظر إذا َل جيرد نفسه ن العالئق الغريبة عن حمل النظر‪ ،‬ال بد‬
‫أن يقع يف الغلط واملغالطة‪.‬‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬فهذه الرسالة دعوة إىل اإلخوة املخالفني واملوافقني إلعادة‬
‫النظر لتحرير العقل والفكر من األوهام العالقة فيها‪ ،‬وال يضري هذه الدعوة أن‬
‫يتخللها نقد صريح‪ ،‬رمبا جيرح البعض‪ ،‬ويضايقه‪ ،‬ولكن هذا من لوازم النقد‪ ،‬فال‬
‫يعيبه‪ ،‬ومن وجد فيها خطأ أرجو منه أن يدلين عليه‪ ،‬ويصوبين فيه‪ ،‬فإمنا العلم‬
‫يتكامل ابلنقد واملراجعة والتحرير الصريح املبين على القواعد العلمية املقررة عند‬
‫احملققني من علمائنا‪.‬‬
‫وهللا املوفق‬
‫سعيد فودة‬
‫وليس لنا إىل غري هللا حاجة وال مطلب‬

‫‪9‬‬
‫تمهيد‬
‫موضوع هذه الرسالة هو بيان املفاسد اليت يشتمل عليها مذهب وحدة‬
‫الوجود‪ ،‬وسوف أقسمها إىل قسمني رئيسيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬حيتوي على بيان مفهوم وحدة الوجود أبوجز شكل ممكن‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬حيتوي على نقد رسالة الشيخ عبدالغين النابلسي (إيضاح املقصود‬
‫من وحدة الوجود)‪.‬‬
‫وغاييت من هذه الرسالة أمران‪:‬‬
‫األول‪ :‬بيان فساد مذهب وحدة الوجود‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬بيان أن مذهب وحدة الوجود ال ميكن أن يكون متوافق ا مع عقيدة‬
‫األشاعرة‪ ،‬وأنه ال ميكن أن يكون الواحد من الناس قائالا بوحدة الوجود‪ ،‬ويدعي أنه‬
‫أشعري‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬إن املذهب االشعري ال ميكن أن جيتمع مع عقيدة وحدة‬
‫الوجود‪.‬‬
‫وال أدعي أنين سأستويف البحث يف هذا املوضوع‪ ،‬بل مرادي إمنا هو لفت‬
‫أنظار القراء واملهتمني‪ ،‬إىل خطورة هذا املذهب‪ ،‬وبعض لوازمه الفاسدة‪ ،‬وذلك‬
‫على حسب ما يتيحه الوقت والظرف‪.‬‬
‫وأان ال أشك أنه سيكون يل كالم تفصيلي واتم يف حبث خمتلف نواحي هذا‬
‫املذهب والرد على القائلني به وبيان غاايهتم املختلفة يف كتاب مستقل إن شاء هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬وحىت ذلك احلني أرجو أن يكون حبثي هذا حمققا ملا رجوته منه‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الباب األول‬
‫في بيان مذهب وحدة الوجود‬

‫إن مذهب وحدة الوجود عويص متعدد األطراف‪ ،‬كثري الفروع واجلوانب‪،‬‬
‫ولكنه مع ذلك ينبين على أصول كلية‪ ،‬مشرتكة‪ ،‬وسوف أبني هنا أهم هذه األصول‬
‫وأشري بعد ذلك إىل بعض األمور املتفرعة على هذه األصول‪ ،‬وإن كان القوم‬
‫خيتلفون يف بعضها‪ ،‬وكان بعضهم يصرح هبا وبعضهم يلوح‪.‬‬
‫وسأحاول فيما يلي أن أوضح أبقرب صورة حمور هذه القضية‪.‬‬
‫عندما يقول الواحد‪" :‬أان موجود"‪ ،‬فإنه يفهم ما معىن ذلك‪ ،‬وكذلك فإن‬
‫السامع هلذا الكالم يفهم أيضا ما يريده املتكلم‪ ،‬وخالصة هذا املعىن هو إثبات‬
‫الوجود للذات‪ ،‬وعندما يقول آخر "أان موجود"‪ ،‬فإن نفس السامع يفهم أيضا‬
‫إثبات الوجود لآلخر‪ ،‬ويفهم من مالحظة العبارة الصادرة عن األول‪ ،‬والعبارة‬
‫الصادرة عن الثاين‪ ،‬أن وجود األول غري وجود الثاين‪ ،‬وهذا الفهم هو الفهم الظاهر‬
‫املتبادر إىل ظاهر العقل‪ ،‬وهو املوافق للغة‪ ،‬وال يصح للواحد أن يقول إن املتبادر إىل‬
‫مثل‬
‫الفهم‪ ،‬هو أن وجود األول نفس وجود الثاين‪ ،‬نعم قد يقال إن وجود األول‪ُ ،‬‬
‫الوجود الثاين‪ ،‬ولكن أن يقال إنه هو عينه‪ ،‬فال‪ ،‬ويوجد فرق كبري بني أن يقال إن‬
‫الشيء مثل الشيء‪ ،‬وبني أن يقال إنه هو عينه‪ ،‬فاملثلية ال تثبت إال ابلتغاير‪،‬‬
‫خبالف العينية‪.‬‬
‫وكذلك فوجود اجلبل مفهوم‪ ،‬ووجود هذا البيت مفهوم‪ ،‬وال شك أن وجود‬
‫اجلبل غري وجود البيت‪ .‬وسوف أوضح ذلك بشكل أكرب‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫إننا عندما نقول البيت موجود‪ ،‬فإن معىن هذه العبارة يتضمن إثبات "كون‬
‫البيت موجودا"‪ ،‬وهذا ال بد أن يسبقه إثبات الوجود للبيت‪ ،‬مبعىن أنه لكي يشتق‬
‫اسم لشيء‪ ،‬فيجب أن يكون الشيء موصوفا أبصل مصدر هذا االسم‪ ،‬أي أصل‬
‫مصدر االشتقاق‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فال بد من إثبات كون البيت له وجود‪ ،‬فالقول‬
‫أبن البيت موجود‪ ،‬يسبقه االعتقاد إبثبات الوجود للبيت‪.‬‬
‫وكذلك فعندما نقول‪ :‬إن اجلبل موجود‪ ،‬فخالصة هذا الكالم إمنا هو إثبات‬
‫وجود للجبل‪ ،‬بنفس األسلوب السابق‪.‬‬
‫فاحلاصل من هذا الكالم أننا نثبت وجودا معينا للجبل‪ ،‬ووجودا آخر‬
‫للبيت‪ ،‬واملتبادر للذهن والعقل‪ ،‬هو أن الوجود األول غري الوجود الثاين‪ ،‬فهاهنا‬
‫وجودان اثنان‪ ،‬كل منهما غري اآلخر يف اخلارج‪ ،‬أي يف العاَل اخلارجي‪ ،‬وإن كان‬
‫أصل املعىن املتبادر إىل ذهننا من إثبات الوجود للجبل مثل املعىن املتبادر إىل ذهننا‬
‫من إثبات الوجود للبيت‪ ،‬بل رمبا ال يبعد أن يقال إن املعىن املتبادر يف احلالة األوىل‬
‫هو عني املعىن املتبادر يف احلالة الثانية‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هل كون املعىن املتبادر هو عينه يف احلالتني أو مثله‪ ،‬هل يقتضي هذا‬
‫أن يكون ما صدق عليه املعىن يف احلالة األوىل هو عني ما صدق عليه املعىن يف‬
‫احلالة الثانية؟!‬
‫إننا ال نشك حلظة يف أن املصداق متغاير يف احلالتني‪ ،‬وتغاير املصداق ال‬
‫يستلزم تغاير املعىن املتبادر كما ال خيفى‪ ،‬وحنن ال نقصد ابملعىن الصورة اخليالية‬
‫املستحضرة يف الذهن عند قولنا اجلبل موجود‪ ،‬بل ال نقصد أكثر من استحضار‬
‫مفهوم الوجود ومعناه‪ ،‬ال الصورة اجلبلية وال الصورة البيتية‪ ،‬فهااتن الصوراتن‬
‫ومهيتان‪ ،‬مبعىن أهنما حاضراتن يف الوهم ال يف العقل‪ ،‬ومقام الكالم هنا إمنا هو‬
‫العقل ال الوهم‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫خنلص من هذا الكالم كله‪ ،‬أن معىن الوجود مفهوم بداهة‪ ،‬أو يكاد يكون‬
‫كذلك‪ ،‬وال نريد ابملعىن حقيقة الوجود‪ ،‬بل ال نريد أكثر من مفهومه احلاضر يف‬
‫الذهن عند احلكم به على املاهيات كاجلبل والبيت‪ ،‬وغريمها‪.‬‬
‫وأيضا‪ ،‬فإننا رأينا أن التغاير يف الوجود املتحقق يف اخلارج هو األصل‪ ،‬وهو‬
‫املتبادر إىل الذهن‪ ،‬ولذلك قلنا إن وجود اجلبل يف اخلارج غري وجود البيت يف‬
‫اخلارج‪ ،‬وإن كان معىن الوجود هلما واحدا يف الذهن‪ .‬فاالتفاق يف املفهوم ال يستلزم‬
‫بد من مالحظته‪.‬‬‫االتفاق يف املصداق‪ ،‬وهذا الفرق مهم جدا ال َّ‬
‫وما مضى كان عرضا سهالا ملا يقول به أهل السنة وأكثر الفالسفة‬
‫واملتكلمون يف هذه املسألة‪.‬‬
‫وأما غريهم‪ ،‬فقد قالوا‪ :‬إن ما يظهر لنا أنه تكثر يف الوجود اخلارجي فما هو‬
‫كذلك‪ ،‬بل هذا حمض الوهم‪ ،‬والواقع يف اخلارج ليس إال وجودا واحدا‪ ،‬ولكنه يظهر‬
‫يف صور كثرية‪ ،‬مبعىن أن املوجود فعالا إمنا هو واحد حقيقي‪ ،‬ال كثرة وجودية فيه‪،‬‬
‫وأما ما نالحظه من كثرة‪ ،‬فإمنا هي كثرة ومهية‪ ،‬أو إضافية اعتبارية‪ .‬وهؤالء هم‬
‫القائلون بوحدة الوجود‪ ،‬وسوف ننقل بعض كالمهم فيما يلي لنبني مذهبهم كما‬
‫يريدون هم‪.‬‬
‫يعتربُ أن الوجود املتحقق هو الوجود الواجب فقط‪،‬‬ ‫إن مذهب وحدة الوجود ِ‬
‫وال وجود للممكنات مطلقا‪ ،‬فوجود املمكنات مستحيل يف اخلارج‪ ،‬واملمكن‬
‫املتحقق إمنا هو تلبس الوجود الواجب أبحكام املمكنات‪ .‬وهذا كما هو معلوم‬
‫ألن وجوده جائز‪ ،‬وعدمه‬ ‫خمالف ملا قرره أهل السنة من أن املمكن‪ ،‬إمنا كان ممكنا‪َّ ،‬‬
‫جائز‪ ،‬أي إن العقل ميكن أن ينسب إليه الوجود‪ ،‬وميكن أن ينسب إليه العدم‪ ،‬وأما‬
‫على مذهب أهل الوحدة‪ ،‬فليس األمر كذلك‪ ،‬ألن وجود املمكن عندهم مستحيل‬
‫مطلقا‪ ،‬فال ميكن للعقل أن ينسب الوجود إىل املمكن‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫واحلقيقة أن هذا القول عندهم مرتتب على القول أبن الوجود ال ميكن أن‬
‫ينعدم‪ ،‬وال ميكن أن يطرأ‪ ،‬مبعىن أنه ال ميكن أن حيدث وجود بعد عدم‪ ،‬وال أن‬
‫ينعدم وجود‪ ،‬فال يوجد خلق للوجود‪ ،‬بل اخللق إمنا هو تقدير للوجود عندهم‪ ،‬أي‬
‫أن اخللق إمنا هو تصوير الوجود بقدر وبصفة املمكن‪ ،‬وهذا الوجود الذي يظهر‬
‫بصفة املمكن هو الوجود الواجب ألنه ال وجود غريه عندهم‪ ،‬ولذلك يقولون إن هللا‬
‫تعاىل –وهو الوجود الواجب‪ -‬جتلى لذاته أبحكام املمكنات‪ ،‬وإمنا الثابت عندهم‬
‫جمرد رسوم وتقييدات للواجب الوجود‪ ،‬وال يوجد موجود واجب وموجود جائز بل‬
‫ال موجود إال واجب‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الفصل األول‬
‫قواعد وضوابط عامة في وحدة الوجود‬

‫سوف أورد فيما يلي بعض أهم الضوابط والقواعد اليت يتميز هبا مذهب‬
‫وحدة الوجود‪ ،‬لكي أستعني هبا فيما أييت من املباحث‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬الوجود املمكن والوجود الواجب‪:‬‬


‫ينص أهل السنة على أن هناك وجودين‪ :‬األول وجود واجب وهو وجود هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬والثاين وجود جائز ممكن‪ ،‬وهو وجود العاَل‪ ،‬وهو كل ما سوى هللا تعاىل من‬
‫أحملت إليه سابقا‪ ،‬والوجود املمكن‬
‫املوجودات‪ .‬وهذا هو معىن تكثر الوجود الذي ُ‬
‫عندهم َل يكن ليوجد إال بقدرة هللا تعاىل‪ ،‬وهو حادث‪ ،‬مبعىن أنه موجود بعد‬
‫العدم‪ ،‬أي إنه موجود بعد عدم نفسه‪ ،‬وإجياده هو فعل هللا تعاىل‪ ،‬ووجود العاَل هو‬
‫أثر إجياد هللا تعاىل له‪ ،‬ونفس اإلجياد نسبة بني هللا تعاىل وبني العاَل‪ .‬وسوف أييت‬
‫بيان هلذا املعىن‪.‬‬
‫وأما القائلون ابلوحدة‪ ،‬فهم يعتقدون أنه ال وجود إال الوجود الواجب‪ ،‬وهو‬
‫وجود واحد ال يتعدد وال يتكثر‪ ،‬وأما العاَل فهو موجود بنفس وجود هللا تعاىل‪ ،‬ال‬
‫إبجياده‪ ،‬مبعىن أن العاَل إمنا هو صورة ومظهر للوجود اإلهلي‪ ،‬وَل حيدث وجود العاَل‬
‫بعد عدمه‪ ،‬بل احلادث عندهم إمنا هو صورة العاَل بعد عدمها‪ ،‬والصورة عني املظهر‬
‫اإلهلي‪ ،‬ولذلك يقولون إن هللا تعاىل جتلى لنفسه‪.‬‬

‫اثنياً‪ :‬املمكنات غري مستحيلة الوجود‬

‫‪15‬‬
‫قسموا املوجودات إىل الواجب واملمكنة‪ ،‬قالوا‪ :‬إن‬ ‫إن أهل السنة ملا َّ‬ ‫َّ‬
‫املمكنات غري مستحيلة الوجود‪ ،‬ومعىن ذلك أن أي أمر ممكن‪ ،‬فمعىن إمكانه هو‬
‫أنه ميكن وجوده وميكن عدمه‪ ،‬وعند وجوده جيوز عليه االتصاف ابلصفات‬
‫املتقابلة‪ ،‬كاحلركة والسكون إن كان جسما‪ ،‬أو الصفات املتقابلة إن َل يكن جسما‪،‬‬
‫وهذا على قول من قال إبمكان وجود غري األجسام‪ .‬فاملالئكة عند هؤالء ليسوا‬
‫أبجسام وجيوز عليهم االتصاف ابلصفات املتقابلة فليس كل املالئكة على نفس‬
‫الصورة‪.‬‬
‫ولكن القائلني مبذهب وحدة الوجود‪ ،‬ال يقولون إبمكان وجود املمكن‪ ،‬بل‬
‫يقولون ابستحالته‪ ،‬وإمنا املمكن ينحصر أبحكامه‪ ،‬وماهيته‪ ،‬فاملمكن عندهم‬
‫مستحيل الوجود‪ ،‬وأما ماهيته‪ ،‬فمعىن إمكاهنا إمنا هو قدرة هللا تعاىل على التلبس‬
‫والظهور أبحكامها‪ ،‬فهو الظاهر يف املظاهر‪ ،‬فاجلسم مثالا ليس موجودا بوجود‬
‫ممكن‪ ،‬فاملاهية اجلسمانية ظاهرة بعني الوجود اإلهلي‪ ،‬فاهلل تعاىل هو الذي تصور‬
‫أبحكام اجلسمية من الطول والعرض واالرتفاع واحلركة‪ ،‬والصورة اجلسمانية اخلاصة‪.‬‬
‫ومثال هذا الكالم الصورة الظاهرة على شاشة التلفزيون‪ ،‬كيف تظهر صورة‬
‫بعد أخرى على نفس الشاشة‪ ،‬فالشاشة نفسها مظهر ‪-‬أي احملل الذي يظهر فيه‪-‬‬
‫تلك الصور املتالحقة‪ ،‬واحدة بعد األخرى‪ ،‬فلو رأينا سيارة أو رجالا يف التلفزيون‪،‬‬
‫فال يوجد ال رجل وال سيارة فيه‪ ،‬بل املوجود فيه إمنا هو صورة الرجل والسيارة‪،‬‬
‫وأحكام الرجل والسيارة‪ ،‬فاألشعة التلفزيونية تتجلى هبا هذه الصور لألعني‪ ،‬وال‬
‫حقيقة وراء نفس الصور إال الشعاع‪ ،‬فالشعاع واحد‪ ،‬ولكنه يظهر مبظاهر خمتلفة‪.‬‬
‫وكذلك فال حقيقة وراء املوجودات املتكثرة إال حقيقة واحدة وهي الوجود‬
‫اإلهلي‪ ،‬فهو الظاهر يف املظاهر‪ ،‬وال وجود خاص لنفس العاَل‪ ،‬بل الوجود كله هلل‬
‫تعاىل‪ ،‬ولكن هللا تعاىل أظهر صورة العاَل يف ذاته‪ ،‬أي إنه جتلى بصورة العاَل‪ ،‬وجتلى‬
‫بصورة املمكنات‪ ،‬وهذه الصور هي اليت يسموهنا ابلقيود اليت إذا جترد الواحد عنها‬

‫‪16‬‬
‫وختلص منها ابجملاهدات عرف أنه هو‪ ،‬ال غريه‪ ،‬أي إذا استطاع اإلنسان أن يتجرد‬
‫من مالحظة هذه الصور‪ ،‬فإنه سيعرف أن حقيقة وجودها الذي وجدت هي به‪،‬‬
‫إمنا هو عني وجود هللا تعاىل ال غري وجود هللا تعاىل‪.‬‬

‫اثلثاً‪ :‬الوجود العيين والوجود العرضي‬


‫يقسم متكلمو أهل السنة املوجودات احلادثة إىل أعيان وأعراض‪.‬‬
‫واألعيان ‪-‬مجع عني‪ -‬إشارة إىل املوجود الذي ال حيتاج يف قيامه إىل حمل‪،‬‬
‫وذلك كاجلسم‪ ،‬فهو قائم بنفسه‪.‬‬
‫وأما األعراض فهي األمور اليت وجودها يف نفسها هو عني وجودها يف‬
‫غريها‪ ،‬والعرض ال يقوم بنفسه فاللون ال وجود له إال يف وجوده يف اجلسم‪ ،‬وال‬
‫وجود له يف اخلارج إال كذلك‪ ،‬فالعرض حمتاج إىل اجلسم لكي يتحقق له وجود‪.‬‬
‫واحلقيقة أن األعراض ال وجود هلا يف اخلارج بوجود استقاليل أصلي بل‬
‫تبعي‪ ،‬فقط على أهنا حاالت للجسم‪ ،‬أو أمور تطرأ عليه يف نفسه‪ ،‬أو أهنا تغريات‬
‫حاصلة فيه‪ ،‬فحصوهلا يف اجلسم يستلزم حصول تغريات على نفس اجلسم‪.‬‬
‫فاألعراض واألجسام (األعيان) اثبتة يف اخلارج‪ ،‬وكون األجسام ال حتتاج إىل‬
‫حمل لتقوم فيه‪ ،‬كاألعراض عندما حتتاج إىل اجلسم يف قيامها‪ ،‬أقول كون األجسام‬
‫كذلك ال يستلزم أهنا ال حتتاج إىل علة لكي توجد‪ ،‬وال يستلزم كوهنا ال حتتاج إىل‬
‫فاعل يف وجودها‪ ،‬فيوجد فرق إذن بني االحتياج إىل احملل وبني االحتياج إىل‬
‫الفاعل‪ ،‬فمع أن اجلسم ال حيتاج إىل ٍ‬
‫حمل ليقوم فيه‪ ،‬ولكنه حيتاج إىل الفاعل لكي‬
‫يوجد‪ ،‬فهو حمتاج إىل العلة الفاعلية وليس حمتاج ا من حيث هو جسم إىل علة‬
‫قابلية‪ ،‬أي ليس حمتاجا إىل حمل لكي يوجد فيه‪ ،‬وأما العرض فهو حمتاج إىل الفاعل‬
‫واحملل‪ ،‬فاحتياج العرض إىل غريه أشج من احتياج اجلسم والعني‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫وال يصح أن يقوم اجلوهر (العني) بعرض‪ ،‬وال أن يقوم جبوهر آخر‪ ،‬مبعىن أن‬
‫اجلوهر ال يقوم يف جوهر آخر‪ ،‬كم يقوم العرض يف جوهر غريه‪.‬‬
‫هذا هو خالصة قول علماء السنة يف هذه املسألة‪.‬‬
‫وأما القائلون مبذهب وحدة الوجود‪ ،‬فال يوجد عندهم إال موجود واحد قائم‬
‫بذاته‪ ،‬أي غري حمتاج إىل حمل ليقوم فيه‪ ،‬وهو واجب الوجود‪ ،‬وأما ما نالحظه يف‬
‫العاَل من أجسام وأعراض‪ ،‬فإمنا هي صور األجسام واألعراض القائمة بذات الباري‬
‫جل‪ ،‬فكما جتلى سيدان جربيل لسيدان حممد عليه السالم بصورة آدمي فكذلك‬
‫يتجلى هللا تعاىل عندهم بصورة العاَل مبا فيها من تنوع وتقييدات‪ ،‬ولكن يبقى هو‬
‫هو‪ ،‬وليس هو عني العاَل‪ ،‬ألن العاَل هو حمض الصور‪ ،‬وهللا تعاىل حمض الوجود‪،‬‬
‫فال عاَل حقيقي فعالا عندهم‪ ،‬بل إمنا هو هللا تعاىل‪ ،‬فحقيقة وجود العاَل إمنا هو‬
‫عني وجود هللا‪.‬‬
‫وال يعين هذا أهنم ال يفرقون بني اجلوهر والعرض‪ ،‬بل يفرقون‪ ،‬ولكن بناء‬
‫على هذا األصل الكبري القائلني به‪ ،‬ورمبا نشري إىل كيفية تفريقهم بني اجلوهر‬
‫والعرض الحق ا‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬ال وجود إال هلل تعاىل‬


‫هكذا يعتقد القائلون مبذهب وحدة الوجود‪ ،‬ألن العاَل عندهم ليس له‬
‫وجود‪ ،‬بل إمنا هو صورة ٍ‬
‫وجتل لوجود هللا تعاىل‪ ،‬فال وجود إال له‪ ،‬عز امسه‪.‬‬
‫وأما أهل احلق‪ ،‬فقد اتضح مما سبق أهنم قائلون بتكثر الوجود‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فإن وجود العاَل خمالف يف حقيقته لوجود هللا تعاىل‪ ،‬فال اشرتاك إال يف االسم‪ ،‬وأما‬
‫احلقيقة فال‪ .‬فأين الوجود احلادث من الوجود الواجب ؟‬

‫خامساً‪ :‬الشرك واإلميان‬


‫‪18‬‬
‫بوجود سوى‬ ‫ٍ‬ ‫اإلنسان يكون مشركا عند القائلني بوحدة الوجود إذا قال‬
‫وجود هللا تعاىل‪ ،‬وما ذلك إال ألن حقيقة هللا تعاىل عندهم‪ ،‬هي حمض الوجود‪ ،‬فال‬
‫السر فإهنم ينفون الوجود عن كل ما‬ ‫وجود إال هلل‪ ،‬وهللا عني حقيقة الوجود‪ ،‬وهلذا ِ‬
‫سوى هللا تعاىل‪ ،‬فكل السوى عدم‪ ،‬وإطالق الوجود على العاَل إطالق جمازي‬
‫حمض‪ ،‬وليس حقيقيا‪ ،‬فلما كان حقيقة هللا عندهم هي الوجود‪ ،‬فال جيوز أن ينسب‬
‫الوجود إىل غري هللا تعاىل‪.‬‬
‫وأما أهل السنة‪ ،‬فإهنم ال يقولون أبن وجود العاَل جمازي‪ ،‬بل إنه وجود‬
‫حقيقي‪ ،‬ولكنه مع ذلك خمالف لوجود هللا تعاىل يف احلقيقة‪ ،‬فال اشرتاك يف احلقيقة‪،‬‬
‫ولذلك ال يلزم الشرك عندما نثبت الوجود للعاَل‪ ،‬وإطالق اسم الوجود على العاَل‬
‫إمنا هو إطالق حقيقي‪ ،‬من ابب إطالق األمساء املشرتكة على معانيها‪.‬‬
‫ولكن إذا دققنا النظر يف ما ذكرانه سابقا‪ ،‬فإننا نعلم الفرق بني وجود هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬وبني وجود العاَل‪.‬‬
‫فإن هللا تعاىل وجوده لذاته وبذاته‪ ،‬وأما العاَل فإن وجوده بذاته ولكن لغريه‪،‬‬
‫ومعىن ذلك أن العاَل ليس عرض ا حاالا يف غريه‪ ،‬ولذلك فهو موجود بذاته‪ ،‬ولكنه‬
‫فإن علة وجوده ليس عني ذاته‪ ،‬ألن عني ذاته‪ ،‬ال‬ ‫مع ذلك موجود بتأثري من غريه‪َّ ،‬‬
‫جيب وجوده عقالا‪ ،‬بل العقل إمنا حيكم على عني ذات العاَل ابإلمكان‪ ،‬ومعىن‬
‫اإلمكان كما قلنا سابقا‪ ،‬إمنا هو صحة نسبة الوجود ونفيه عنه‪ .‬وملا كان سبب‬
‫وجود العاَل هو غريه‪ ،‬وهو قدرة هللا تعاىل‪ ،‬أي أن هللا تعاىل أراد إجياد العاَل ُفوِج َد‬
‫العاَل‪ ،‬فما دامت قدرة هللا تعاىل متعلقة إبجياد العاَل فإن العاَل يبقى موجودا‪ ،‬ألن‬
‫تعلق قدرة هللا تعاىل ابلعاَل هو علة وجود العاَل‪ ،‬وما دام العاَل موجودا‪ ،‬فإن علته‬
‫وهي تعلق القدرة به‪ ،‬جيب بقاء وجودها‪ ،‬أو ميكن أن نقول‪ ،‬إنه ما دامت القدرة‬
‫متعلقة ابلعاَل‪ ،‬فإنه يبقى موجودا‪ ،‬ولكن إذا انقطع تعلق القدرة اإلهلية ابلعاَل‪ ،‬انعدم‬
‫العاَل‪ ،‬فإنه ال يستحق الوجود لذاته‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وملا الحظ بعض علماء السنة هذا الفرق بني وجود العاَل وبني وجود هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬أطلقوا على العاَل أن وجوده جمازي‪ ،‬هبذا املعىن‪ ،‬وَل يريدوا أن العاَل غري‬
‫موجود أصال‪ ،‬بل إهنم ملا الحظوا قوة وجود هللا تعاىل ابملقارنة مع وجود العاَل‪ ،‬صار‬
‫وجود العاَل ابلنسبة إىل وجود هللا تعاىل كأنه وجود جمازي‪ ،‬ألنه ال يقوم إال إبجياد‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬كما ال يقوم اجملاز إال بناء على لفظ له معىن حقيقي‪.‬‬
‫فإن أهل السنة إذا أطلقوا القول أبن العاَل له وجود جمازي َل يريدوا إال هذا‬
‫املعىن‪ ،‬وأما القائلون بوحدة الوجود‪ ،‬فإهنم عندما يطلقون على العاَل أن وجوده‬
‫جمازي‪ ،‬فإهنم يريدون حقيقة هذا اللفظ‪ .‬فإطالق أهل السنة اسم اجملاز على العاَل‬
‫جماز‪ ،‬وإطالق أهل الوحدة اسم اجملاز على العاَل حقيقة عندهم‪.‬‬
‫واإلنسان يكون مشرك ا عند أهل الوحدة ما دام معتقدا بوجود العاَل‪ ،‬ولكنه‬
‫يصل إىل أعلى مراتب التوحيد إذا اعتقد بعدم العاَل‪ ،‬وان وجوده هو عني وجود هللا‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫وأما أهل السنة فإن اإلنسان يكون مشركا عندهم‪ ،‬إذا اعتقد استقالل العاَل‬
‫ابلوجود لذاته‪ ،‬وأما إذا اعتقد أن العاَل موجود بوجود مغاير لوجود هللا تعاىل‪ ،‬ولكن‬
‫بقاءه كذلك متعلق بتعلق قدرة هللا تعاىل فإنه يكون قد وصل إىل التوحيد احلقيقي‪.‬‬
‫ولذلك فإن التوحيد عند القائلني مبذهب وحدة الوجود معناه‪ :‬ال وجود إال‬
‫هلل تعاىل‪ ،‬فهم ينفون وجود كل ما سوى هللا تعاىل‪.‬‬
‫وأما توحيد أهل السنة‪ ،‬فإنه يتم إبثبات أن كل األفعال فإمنا هي هلل تعاىل‪.‬‬
‫وال يصح االعتقاد بعدما مضى أبن أهل السنة يلزمهم على مذهبهم القول‬
‫ابشرتاك هللا تعاىل مع خلقه حبقيقة الوجود‪ ،‬أي من حيث مصداقه‪ ،‬فإنه ال يقول‬
‫ذلك إال من جهل مذهب أهل السنة‪ ،‬أو أراد ترويج مذهبه‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬الوصول إىل هللا تعاىل‬


‫‪20‬‬
‫التصوف عند أهل السنة عبارة عن جماهدة للنفس ورغباهتا املخالفة للدين‬
‫اإلسالمي ولشريعة هللا تعاىل‪ ،‬وليس كل رغبات النفس خمالفة للشريعة‪ ،‬وهو أيضا‬
‫حماولة دائمة لرتويضها على شرع هللا تعاىل‪ ،‬والرتقي هبا عن طريق التزامها ابلشريعة‬
‫إىل أعلى املراتب والكماالت الالئقة ابلوجود اإلنساين‪.‬‬
‫فالتصوف على هذا هو خالصة ورأس التدين من حيث إنه فعل لإلنسان‬
‫املكلف‪ ،‬وليس من حيث إنه عقيدة‪ ،‬فال عقيدة خاصة ابلتصوف‪ ،‬بل إنه غاية‬
‫االلتزام ابلدين‪.‬‬
‫فعندما ميارس علماء أهل السنة من الصوفية اجملاهدات‪ ،‬فإن غايتهم هو‬
‫تكميل ذواهتم‪ ،‬ال إفناؤها‪ ،‬وغايتهم إمنا هي تقوية مالحظتهم الحتياجهم إىل هللا‬
‫تعاىل يف كل حركة من احلركات ويف كل سكنة من السكنات‪.‬‬
‫فصوفية أهل السنة مع بقاء مالحظتهم لوجود أنفسهم‪ ،‬إال إهنم ال يزالون‬
‫يرتقون يف اإلحساس بشدة احتياج هذا الوجود الذي منحهم إايه هللا تعاىل إىل‬
‫إمداد هللا تعاىل وإىل قوته‪ ،‬فالصوفية عند أهل السنة هم أشد الناس إحساسا‬
‫ابالحتياج إىل هللا تعاىل‪ ،‬وذلك مع مالحظتهم لوجود أنفسه ذلك الوجود احملتاج‬
‫احلادث‪ ،‬وهذا هو السر يف صعوبة الرتقي على عامة الناس‪ ،‬واملنحرفني يف علم‬
‫التوحيد‪ ،‬فكيف يرتقى املنحرف عن أصول الدين يف هذه املراتب وهو يعتقد أنه‬
‫مستغن يف وجوده عن هللا تعاىل ؟ وما فائدة اجملاهدة‪ ،‬إذا كان يعتقد أنه عني الذات‬
‫اإلهلية‪ ،‬وأنه ال وجود له ؟‬
‫وأما القائلون بوحدة الوجود‪ ،‬فإن التصوف عندهم طريق إىل االعتقاد بفناء‬
‫ذواهتم فناء فعليا‪ ،‬وعدم وجودهم بوجود مغاير لوجود هللا تعاىل‪ ،‬بل وجودهم عندهم‬
‫هو عني وجود هللا تعاىل‪ .‬واجملاهدات عندهم طريق إىل االنعتاق عن التقيدات‬
‫الومهية اليت يتومهون هبا أهنم موجودون‪ ،‬فهذه القيود احلادثة عندهم‪ ،‬سبب يف اعتقاد‬
‫عامة الناس أبهنم موجودون‪ ،‬ولكن اخلواص عندهم يعتقدون أن وجودهم هذا ما‬

‫‪21‬‬
‫هو إال وجود جمازي‪ ،‬متوهم‪ ،‬فهم يف جماهداهتم حياولون أن يرتقوا عن أوحال الوهم‪،‬‬
‫ويصلوا إىل أهنم عني الذات إلهلية‪ ،‬أو بعبارة أصح‪ ،‬يصلوا إىل أن وجودهم هو عني‬
‫وجود الذات اإلهلية‪.‬‬
‫ومن هنا برز عندهم مصطلح العوام واخلواص‪ ،‬وإن كان مستخدما عند أكثر‬
‫الفرق اإلسالمية‪ ،‬إال أهنم استعملوه مبعىن خاص‪ ،‬فاخلواص عندهم هم من اعتقدوا‬
‫أنه ال وجود إال هلل تعاىل‪ ،‬والعوام هم من ساروا مع أوهامهم‪ ،‬واعتقدوا بوجود ذواهتم‬
‫بوجود غري وجود هللا تعاىل‪.‬‬
‫والقائلون ابلوحدة عندما يعتقدون بذلك‪ ،‬فهم ال يريدون فقط نفي االعتقاد‬
‫بوجود مستقل يف القيام عن وجود هللا‪ ،‬بل يريدون نفي كل وجود مغاير لوجود هللا‬
‫تعاىل‪ .‬وفرق عظيم بني نفي اعتقاد استقالل الوجود احلادث عن وجود هللا تعاىل‪،‬‬
‫وبني نفي الوجود احلادث أصالا‪ .‬فال وجود حاداثا مطلقا عندهم‪ ،‬بل كل الوجود‬
‫قدمي‪ ،‬وهو هو وجود هللا‪ ،‬الذي ظهر لذاته أبحكام املمكنات‪.‬‬
‫فاحلادث عندهم هو فقط ظهور أحكام املمكنات بوجود هللا تعاىل‪ ،‬وليس‬
‫ظهور عني املمكنات‪ ،‬فهذا مستحيل عندهم‪.‬‬
‫فالوصول عند الصوفية القائلني بوحدة الوجود عبارة عن ظهور أن وجودان‬
‫هو عني وجود هللا تعاىل‪ ،‬فهو ظهور احتاد وجودان بوجود هللا تعاىل‪ ،‬ولكن ال بعد‬
‫تعدد وتكثر‪ ،‬بل نفي الكثرة أصالا‪ ،‬واعتقاد أهنا جمرد وهم‪.‬‬
‫وأما الوصول عند صوفية أهل السنة فهو االعتقاد ابالفتقار إىل هللا تعاىل يف‬
‫كل شيء‪ ،‬مع بقاء مالحظة أن وجودان مغاير لوجود هللا تعاىل‪ .‬فال احتاد مطلقا‬
‫عند أهل السنة‪.‬‬
‫والقائلون بوحدة الوجود ينفون االحتاد الناتج عن اثنني‪َّ ،‬‬
‫ألن االثنينية عندهم‬
‫منفية‪ ،‬والتكثر وهم حمض‪ ،‬ولذلك أيضا ينفون احللول‪ ،‬ألن احللول سراين شيء‬
‫موجود يف شيء موجود آخر‪ ،‬وال موجود إال هللا عندهم‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ولذلك فال يبعد عندهم نفي احللول واالحتاد‪ ،‬بل ذلك واجب‪ ،‬ألن احللول‬
‫واالحتاد ال يصدقان إال بعد االعتقاد ابلتكثر وتعدد الوجود‪ ،‬فكيف يقال بذلك‬
‫والوجود واحد عندهم‪ .‬فنفي احللول واالحتاد ليس دليالا على براءة النايف من وحدة‬
‫الوجود‪ ،‬إال بعد بيان مراده وعلة نفيه‪.‬‬
‫بينما أهل السنة ينفون احللول واالحتاد ويقولون يف نفس الوقت بتكثر‬
‫الوجود وتعدده‪ ،‬فالوجود اجلائز هو غري الوجود الواجب‪ .‬ولكن أهل السنة ينفون‬
‫احللول واالحتاد الستحالة احتاد هللا تعاىل مبخلوقاته‪ ،‬واستحالة سراينه وحلوله فيها‪،‬‬
‫وليس علة النفي نفيهم لوجود املخلوقات كما هو زعم القائلني بوحدة الوجود‪.‬‬

‫سابعاً‪ :‬ال فعل إال هلل تعاىل‬


‫لقد قلنا إن أهل السنة يقولون إن العاَل موجود‪ ،‬وهللا تعاىل موجود‪ ،‬وال‬
‫مر‪ ،‬وهذا العاَل هو أثر فعل هللا‬ ‫اشرتاك بني وجود هللا تعاىل ووجود العاَل‪ ،‬كما َّ‬
‫تعاىل‪ ،‬أو عني فعله‪ ،‬وذلك مع كون وجوده غري وجود هللا تعاىل‪ ،‬فهم يقولون إنه‬
‫عني فعل هللا تعاىل أو أثر فعله جل شأنه‪.‬‬
‫وسوف نوضح ذلك زايدة توضيح فنقول‪ :‬إان إذا نظران إىل هللا والعاَل‪،‬‬
‫وأتملنا يف النسبة بينهما‪ ،‬وأدران الكالم على هذه الثالثة؛ ينتج إمكان قسمة‬
‫املذهب اإلسالمية على النحو التايل‪:‬‬
‫إما أن يقال بتكثر الوجود أو وحدته‪ ،‬فعلى القول بكثرة الوجود‪ ،‬فههنا ثالثة‬
‫أمور هللا‪ ،‬والعاَل‪ ،‬والنسبة بينهما‪ ،‬والعاَل عبارة عن وجود ‪ +‬ماهية‪ ،‬فتصبح األمور‬
‫املقابلة هلل تعاىل ثالثة‪ ،‬الوجود واملاهية والنسبة‪ ،‬فالسؤال هنا عن فاعلية هللا تعاىل‬
‫مباذا تتعلق‪.‬‬
‫فجمهور أهل السنة وبعض املعتزلة يقولون إن هللا تعاىل فاعل ابإلرادة‬
‫للماهيات والوجود اخلاص والنسبة الزمة لذلك‪ ،‬ألن النسبة الزمة على ضرورة الربط‬
‫‪23‬‬
‫بني قدرة هللا تعاىل وبني أثر القدرة الذي هو الوجود املتعني للعاَل‪ .‬وهذا القول مبين‬
‫على أن هللا تعاىل جاعل للماهيات أيضا‪.‬‬
‫ومجهور املعتزلة وبعض أهل السنة القائلني بعدم جمعولية املاهيات‪ ،‬قالوا إن‬
‫هللا تعاىل فاعل ابإلرادة للوجود اخلاص للعاَل‪ ،‬وابلتايل تلزم النسبة الرابطة بني العاَل‬
‫وخالقه‪ ،‬وذلك لعدم استغناء العاَل بعد وجوده عن فاعله‪.‬‬
‫ولكن الفارق بني أهل السنة واملعتزلة هنا أن املعتزلة حيكمون الصالح‬
‫واألصلح وأهل السنة ال‪ ،‬واإلرادة عند املعتزلة ليست صفة هلل بل فعله‪ ،‬وأما أهل‬
‫السنة فاإلرادة صفة له جل وعال‪.‬‬
‫وأما االفالسفة فيقولون أيضا أبن الوجود اخلاص أثر هلل واجب الوجود‪،‬‬
‫ولكن على سبيل التعليل ال على سبيل الفعل‪ ،‬وهذا مبين على قوهلم أبن هللا بذاته‬
‫علة لوجود العاَل‪ ،‬وعلى نفي اإلرادة‪.‬‬
‫وأما من قال بعدم تكثر الوجود‪ ،‬فهم يبنون قوهلم هذا على استحالة وجود‬
‫العاَل بوجود خاص به‪ ،‬مغاير لوجود العاَل‪ ،‬فيقولون‪ :‬إن ماهية العاَل هلا أحكام‪،‬‬
‫واملاهيات ليست جمعولة هلل تعاىل‪ ،‬فاهلل تعاىل ليس بفاعل إال للنسبة‪ ،‬والنسبة هذه‬
‫ليست بني طرفني كما يف األقوال السابقة‪ ،‬ألنه ال وجود إال وجود هللا تعاىل‪ ،‬بل‬
‫هي نسبة من طرف واحد‪ ،‬ويسموهنا نسبة إشراقية‪ ،‬ألن هللا تعاىل تشرق ذاته‬
‫ابلنسبة‪ ،‬مث إما أن تكون هذه النسبة عدمية حمضة بناء على تواطؤ وجود الواجب‬
‫الواحد‪ ،‬أو انتزاعية قائمة على أن الوجود الواجب الواحد مشكك‪ ،‬قابل للشدة‬
‫والضعف‪.‬‬
‫فاهلل تعاىل ليس بفاعل إال للنسبة عند القائلني بوحدة الوجود‪ ،‬وهذه النسبة‬
‫قائمة بذاته عز وجل‪ ،‬وهذا هو معىن قوهلم إن هللا تعاىل جتلى أبحكام املمكنات‪،‬‬
‫أو أبحكام املاهيات‪ ،‬وهكذا يفسرون قوله تعاىل كل يوم هو يف شأن‪ ،‬مبعىن أن‬
‫الشؤون تظهر بذاته تعاىل كل يوم وكل ساعة‪ ،‬وكل آن من اآلانت‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ففعل هللا تعاىل عند أهل السنة هو العاَل من حيث هو موجود يف اخلارج‪،‬‬
‫والنسبة الزمة له‪ ،‬فإن الحظوا جمموع هذا املعىن‪ ،‬يقولون إن العاَل هو أثر قدرة هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬وإذا َل يالحظوا النسبة الثابتة قالوا إن العاَل هو عني الفعل‪ ،‬ولكنهم على كل‬
‫األقوال ال يقولون إن الفعل قائم بذات هللا تعاىل‪.‬‬
‫وأما القائلون بوحدة الوجود‪ ،‬فلما انتفى وجود العاَل اخلارجي عندهم‪ ،‬وَل‬
‫يبق بعد إال النسبة‪ ،‬فاهلل تعاىل ليس فاعالا إال للنسبة‪ ،‬والنسبة هذه قائمة بعني‬
‫وجود هللا تعاىل‪ ،‬وملا كانت النسبة ليست موجودة بنفسها‪ ،‬فال وجود مستقل‬
‫للنسبة عن ما تقوم هي به‪ ،‬وملا َل يكن مثة موجود إال هللا تعاىل‪ ،‬فالنسبة قائمة بعني‬
‫ذاته جل وعال‪.‬‬
‫وهلذا يعربون عن ذلك أبن العاَل موجود بوجود هللا تعاىل‪ ،‬وال يقولون إن‬
‫العاَل موجود إبجياد هللا تعاىل‪ ،‬بل هو قائم بعني وجود هللا تعاىل‪ .‬ألن العاَل ليس إال‬
‫النسبة فال وجود له‪ ،‬وليس العاَل إال جمرد االنتساب هلل تعاىل‪ ،‬ولذلك فاملخلوقات‬
‫عندهم معدومة حقيقة‪ ،‬وموجودة جمازا لتلبسها بوجود هللا تعاىل الذي ليس وجودا‬
‫هلا‪.‬‬
‫ولذلك يعتقدون أن الواحد من املخلوقات إذا جترد عن قيوده اليت هي عني‬
‫النسبة‪ ،‬رأى أن وجوده هو عني وجود هللا تعاىل‪ ،‬ولكن كان ينبغي أن يقولوا أن‬
‫هذه القيود هي قيود للذات اإلهلية ونسب الحقة هلا‪ ،‬وال يقولوا أهنا قيود‬
‫للمخلوقات‪ ،‬ألنه ال وجود للمخلوقات قط‪ ،‬ومن ليس له وجود فكيف يتجرد عنه‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫الرد على رسالة النابلسي‬
‫المسماة‬
‫(إيضاح المقصود من وحدة الوجود)‬

‫إن الشيخ عبد الغين النابلسي‪ ،‬ألـَّف العديد من الرسائل والكتب يف العديد‬
‫من املسائل واملواضيع‪ ،‬يف الفقه واحلديث والتصوف والتوحيد‪ ،‬وال خيلو كتاب من‬
‫كتبه من إشارات إىل عقيدة وحدة الوجود‪ ،‬فهو يصرح هبا وال يلوح‪ ،‬وينتهز الفرصة‬
‫بعد الفرصة يف سبيل بيان هذه العقيدة ونصرهتا‪.‬‬
‫وقد كتب كتاابا مطوالا يف توضيح معىن وحدة الوجود ونصرهتا وإثباهتا‪ ،‬مساه‬
‫(الوجود احلق واخلطاب الصدق)‪ ،‬وألف رسالة خمتصرة لنفس الغاية مساها (إيضاح‬
‫املقصود من وحدة الوجود)‪ ،‬يف صفحات معدودة‪.‬‬
‫وحنن سوف خنصص هذا الفصل لنقد ما أودعه الشيخ عبد الغين النابلسي‬
‫يف رسالته‪ ،‬ونعتمد يف ذلك على حتليل عبارته‪ ،‬بناء على ما سبق بيانه من قواعد‬
‫وأصول‪ ،‬وبناء على ما وضحه أئمة القائلني بوحدة الوجود يف كتبهم ورسائلهم‬
‫وأورادهم وأشعارهم‪ ،‬وإشاراهتم وكلماهتم املرسلة املنقولة عنهم‪.‬‬
‫سبب أتليف الرسالة‬
‫لقد حدد النابلسي هدفه من أتليف الرسالة فقال ص‪" :6‬هذه رسالة عملتها‬
‫يف حتقيق املعىن املراد عند أهل هللا تعاىل احملققني األجماد‪ ،‬إبطالق وحدة الوجود‪،‬‬
‫وقوهلم‪ :‬ال شيء مع هللا تعاىل موجود‪ ،‬وبيان صحة هذه املقالة‪ ،‬ونفي ما عداها من‬
‫ضالالت أهل الغواية واجلهالة‪ ،‬واحلكم على ما خيالف ذلك ابالستحالة"‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫النابلسي يقرر يف هذه املقدمة أن سبب أتليفه للرسالة هو حتقيق معىن وحدة‬
‫الوجود‪ ،‬ويعرتف أن هذه العقيدة صحيحة‪ ،‬وأن ما عداها إمنا هو ضالالت‪ ،‬ومن‬
‫خيالفها فهو من أهل الغواية واجلهالة‪ ،‬بل إن كل ما خيالفها من العقائد فإمنا هو‬
‫مستحيل‪ ،‬مث ينسب هذه العقيدة إىل احملققني األجماد من أهل هللا تعاىل‪ ،‬وسوف‬
‫نعرف أمساء بعض هؤالء من النابلسي كما سيذكرهم بعد قليل‪.‬‬
‫والنابلسي يقرر أن ملخص عقيدة وحدة الوجود هو (ال شيء مع هللا تعاىل‬
‫موجود)‪ ،‬وهذا هو معناها الذي سبق أن أشران إليه يف الفصول السابقة‪ ،‬وهذا املعىن‬
‫هو املعىن الباطل املخالف لعقيدة أهل السنة‪ ،‬كما قلنا‪ ،‬ولكن النابلسي يعكس‬
‫الوضع هنا‪.‬‬
‫والذي ال بد من مالحظته هو أن الصوفية القائلني بوحدة الوجود ال يعرتفون‬
‫لعلماء التوحيد أبهنم هم الذين يقررون العقائد الصحيحة‪ ،‬بل يعتربوهنم جمرد‬
‫متكلمني ابلباطل‪ ،‬ويتهموهنم أبهنم ال يستندون إال إىل اجلهل‪ ،‬ويصفوهنم أبهنم‬
‫حمجوبون‪ ،‬واحلجب هنا يف اصطالح الصوفية انشئ عن أن املتكلمني يعتقدون‬
‫بكثرة الوجود‪ ،‬أي إهنم يقولون إن هللا تعاىل خلق العاَل املوجود بقدرته‪ ،‬وهذا يلزم‬
‫منه تكثر الوجود واملوجود‪ ،‬وإن كان العاَل ال ميكن استمرار وجوده إال إبذن هللا‬
‫تعاىل وتعلق قدرته تعاىل إبجياده‪.‬‬
‫فمن يعتقد أن العاَل موجود‪ ،‬فإنه عند أهل الوحدة حمجوب عن احلقيقة‪،‬‬
‫واحلقيقة عندهم هي أن هللا تعاىل َل خيلق شيئ ا من العدم‪ ،‬وَل يوجد العاَل من عدم‪،‬‬
‫بل َل يوجد شيئا مطلقا‪ .‬وإذا كانوا يعتقدون هبذا األمر فالطبيعي عندهم أن القائل‬
‫ابلكثرة يف املوجودات يكون حمجوابا عن احلقيقة‪.‬‬
‫ولكن اعتبارهم ووصفهم للمتكلمني هبذه األوصاف ال يقلب احلق ابطالا‪،‬‬
‫فالكفار كانوا يقولون عن سيدان حممد عليه الصالة والسالم أنه صابئ‪ ،‬والنصارى َل‬
‫يعرتفوا بنبوة النيب‪ ،‬واليهود ينكروهنا‪ ،‬والشيوعيون كانوا ينكرون اإلسالم‪ ،‬ويقولون‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫إن املسلمني جاهلون العتقادهم بوجود هللا تعاىل‪ ،‬والصوفية هنا يقولون إن‬
‫املتكلمني جاهلون العتقادهم بوجود العا ََل‪ ،‬وكلٌّ يـُغَِين على لَْياله‪.‬‬

‫القائلون بعقيدة وحدة الوجود‬


‫َّد النابلسي بعض أمساء القائلني بعقيدة وحدة الوجود‪ ،‬وأشهرهم‪ ،‬وذلك‬
‫عد َ‬
‫ليعزز عند القارئ أن هذه العقيدة صحيحة لشهرة القائلني هبا‪ ،‬وهذا األساس‬
‫لتدعيم املذاهب ليس كافي ا على إطالقه كما استعمله النابلسي‪ ،‬وسوف نبني ذلك‬
‫فيما يلي‪ ،‬ولكن نذكر أوالا عبارة النابلسي يف هذا املقام لكي نستطيع حتليلها‬
‫ونقدها‪.‬‬
‫قال الشيخ عبدالغين النابلسي يف ص‪" :6‬اعلم أن هذه املسألة وهي مسألة‬
‫وحدة الوجود‪ ،‬قد كثـَّرَ العلماء فيها الكالم قدمياا وحديثاا‪ ،‬وردها قوم قاصرون‬
‫غافلون عن معناها حمجوبون‪ ،‬وقبلها قوم آخرون عارفون حمققون‪ ،‬ومن ردها لعدم‬
‫فهم معناها عند القائلني هبا‪ ،‬وتوهم منها املعىن الفاسد فال التفات لرده كائناا من‬
‫كان لصده عن احلق‪ ،‬وإمنا رده يف احلقيقة ألمر واقع على فهمه من املعىن الفاسد‪،‬‬
‫ال على هذه املسألة‪ ،‬فهو الذي صور الضالل ورده‪ ،‬وأما القائلون هبا فإهنم العلماء‬
‫احملققون والفضالء العارفون أهل الكشف والبصرية املوصوفون حبسن السرية وصفاء‬
‫السريرة‪ ،‬كالشيخ األكرب حميي الدين ابن عريب‪ ،‬والشيخ شرف الدين بن الفارض‪،‬‬
‫والعفيف التلمساين‪ ،‬والشيخ عبد احلق بن سبعني‪ ،‬والشيخ عبدالكرمي اجليلي‪،‬‬
‫وأمثاهلم‪ ،‬قدس هللا أسرارهم‪ ،‬وضاعف أنواهم‪ ،‬فإهنم قائلون بوحدة الوجود‪ ،‬هم‬
‫وأتباعهم إىل يوم القيامة إن شاء هللا تعاىل‪ .‬وليس قوهلم بذلك خمالفاا ملا عليه أهل‬
‫السنة واجلماعة‪ ،‬وحاشاهم من املخالفة‪ ،‬وغنما املنكر عليهم وعلى أمثاهلم أنكر من‬
‫قصور فهمه وقلة معرفته ابصطالحهم وعدم علمه‪ ،‬فإن علومهم مبنية على الكشف‬

‫‪28‬‬
‫والعيان‪ ،‬وعلومهم غري مستفادة من اخلواطر الفكرية واألذهان وبداية طريقهم‬
‫التقوىوالعمل الصاحل‪ ،‬بداية طريق غريهم مطالعة الكتب"‬
‫هذه الفقرة فيها عدة دعاوي‪:‬‬
‫الدعوى األوىل‪ :‬أن الكالم يف عقيدة وحدة الوجود قدمي عند العلماء‪.‬‬
‫الدعوى الثانية‪ :‬أن الذين ردوا ورفضوا عقيدة وحدة الوجود هم احملجوبون‪،‬‬
‫ومن قبلها وقال هبا فهم العارفون احملققون‪.‬‬
‫الدعوى الثالثة‪ :‬يوجد معىن صحيح لوحدة الوجود ومعىن آخر فاسد‪.‬‬
‫الدعوى الرابعة‪ :‬القول بوحدة الوجود ال خيالف قول أهل السنة‪.‬‬
‫وسوف ندير الكالم على هذه الدعاوي على الرتتيب املذكور‪.‬‬

‫حملة عن اتريخ وحدة الوجود‬


‫إن الكالم عن كون عقيدة وحدة الوجود مذهب ا له اتريخ يف مذاهب‬
‫املتقدمني من الفالسفة يف الشرق والغرب‪ ،‬ال إشكال فيه‪ ،‬ولكن القول أبنه كان‬
‫مذهب ا مرضي ا عنه بني املسلمني يف العصور املتقدمة‪ ،‬حمل إشكال كبري‪ ،‬وهو ادعاء‬
‫جمرد عن الدليل‪ ،‬بل خمالف له‪.‬‬
‫ولينظر هل قول النابلسي أبن "الكالم فيها قدمي عند العلماء"‪ ،‬يسلم له؟!‬
‫وهل يريد منه القول أبهنم كانوا يتكلمون يف وحدة الوجود على سبيل القبول هلا‪.‬‬
‫فإن كان يريد ذلك فهو ليس بصحيح‪ ،‬بل الصحيح أن العلماء كانوا‬
‫يتكلمون يف وحدة الوجود على سبيل الرد والنقض‪ ،‬وَل يوافقوا على صحة هذه‬
‫العقيدة‪ ،‬بل إن الصحيح أن حقيقة مذهب وحدة الوجود املتكاملة‪ ،‬إمنا ظهرت‬
‫متأخرة بني املسلمني‪ ،‬أي إن التصريح هبا ظهر بينهم متأخرا‪ ،‬وَل يكونوا يتكلمون‬
‫هبا صراحة يف األزمان املتقدمة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫مث إن بعض من أشار إىل وحدة الوجود وإىل القول هبا من املتقدمني‪ ،‬حكم‬
‫عليه كثري من العلماء املتقدمني ابالحنراف والزندقة‪ ،‬ومنهم احلالج‪ ،‬وقصته مشهورة‬
‫معروفة‪ ،‬وقد يستغرب البعض من نسبتنا القول بوحدة الوجود إليه‪ ،‬واملشهور أنه‬
‫كان قائالا ابالحتاد واحللول‪ ،‬ولكن هذا االستغراب ينحل مبجرد معرفة وقراءة كلماته‬
‫نفسها‪ ،‬مث فهمها‪ .‬وقد يقول البعض إن احلالج َل يكن قائال بوحدة الوجود‪ ،‬بدليل‬
‫وجود كالم له موافق يف كثري من ظاهره لكالم أهل السنة‪ ،‬واجلواب‪ ،‬كما أنه يوجد‬
‫له كالم حيتمل موافقة أهل السنة‪ ،‬ولكنه يصح محله على عقيدة وحدة الوجود‪ ،‬وملا‬
‫وجد له كالم أصرح يف القول بوحدة الوجود‪ ،‬قلنا بظهور اعتقاده بوحدة الوجود‪.‬‬
‫واألمر حيتمل النظر‪.‬‬
‫وأيضا إذا تنبهنا إىل أن مصطلح وحدة الوجود َل يظهر إال يف القرون‬
‫املتأخرة‪ ،‬وعلى أقل تقدير القرن السادس والسابع‪ ،‬وقبل ذلك كانت توجد إشارات‬
‫إىل هذا املذهب‪ ،‬فالذين كانوا يقولون به َل يكن عندهم اسم له‪ ،‬والذين ردوا عليه‪،‬‬
‫أطلقوا عليه أقرب اسم معروف لديهم‪ ،‬وأقرب مذهب إىل وحدة الوجود هو احللول‬
‫واالحتاد‪ ،‬بفارق أن احللول واالحتاد يسبقه التكثر يف الوجود‪ ،‬خبالف وحدة الوجود‪،‬‬
‫والنتيجة بينهم واحدة‪ ،‬وهي أن اخللق عني اخلالق‪ ،‬وأيضا عدم التكثر يف الوجود‪،‬‬
‫بل تصبح أنت هو‪ ،‬وهو أنت‪.‬‬
‫فجاء إطالق اسم احللول واالحتاد على وحدة الوجود من هذا اجلانب ال‬
‫رد على القائلني ابحللول واالحتاد‪ ،‬فاحلقيقة أنه رد‬
‫غري‪ ،‬فتصبح النتيجة أن بعض من َّ‬
‫على وحدة الوجود‪.‬‬
‫فالقول إذن أبن وحدة الوجود كانت مقبولة مشهورة عند العلماء املتقدمني‪،‬‬
‫قول ابطل‪ ،‬بل ادعاء قبوهلا بني العلماء املتأخرين أيضا مردودة‪ ،‬فأكثر املتأخرين‬
‫ردوها‪ ،‬كما ردها أكثر املتقدمني‪.‬‬

‫‪30‬‬
31
‫هل املعارضون لوحدة الوجود حمجوبون‬
‫احلقيقة أن القول أبن من نفى وحدة الوجود حمجوبون‪ ،‬وأن من قال هبا فهو‬
‫املكشوف له‪ ،‬واملطلع على احلقيقة‪ ،‬هو قول مغالطي ال يقوم على دليل‪ .‬وإطالقه‬
‫هكذا سفسطة واضحة‪.‬‬
‫إن وحدة الوجود أصالا حسب املعايري العلمية والعقلية الرصينة قول َل يتضح‬
‫برهانه بعد‪ ،‬واختلف فيه الناس‪ ،‬وإن كان أكثر اخللق ينفونه‪ ،‬ولكن قول البعض‬
‫منهم به‪ ،‬ال جيوز اختاذه دليالا على صحته يف نفسه‪ ،‬فال خيلو قول ابطل أو صحيح‬
‫من أن يوجد قائل به من الناس‪.‬‬
‫وكون القائل به حمجوابا‪ ،‬ال يصح قوله إال ممن يعتقد بصحة وحدة الوجود‪،‬‬
‫ويقطع هبا‪ ،‬ولكن هذا احملجوب حيكم أيض ا على القائل بوحدة الوجود ابحلجب‬
‫واجلهل أيضا‪.‬‬
‫واستعمال لفظ احلجب هنا للداللة على اجلهل موافق ملذهب أهل الوحدة‪،‬‬
‫ألن احلجب مقابل للكشف‪ ،‬والطريق الصحيح للعلم عندهم هو الكشف‪ ،‬فمن ال‬
‫كشف له‪ ،‬فهو حمجوب‪ ،‬ولكن أهل احلق يستعملون مصطلح العلم واجلهل‪ ،‬ال‬
‫مصطلح الكشف واحلجب‪ ،‬فمن خالف احلق فهو جاهل‪ ،‬أو معاند‪ ،‬ومن وافق‬
‫احلق وقال به‪ ،‬فهو عاَل أو متيقن‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫املعىن الصحيح واملعىن الباطل لوحدة الوجود‬
‫إن البدء ابلقول أبن لوحدة الوجود معىن صحيح ا ومعىن آخر ابطالا‪ ،‬ال‬
‫يسمن وال يغين من جوع‪ ،‬فاجملسمة يقولون إن َّ‬
‫احلد واجلسمية هلا معىن حممود ومعىن‬
‫آخر مذموم‪ ،‬أو معىن صحيح ومعىن آخر ابطل‪ ،‬وكل إنسان ميكن أن يتبع هذا‬
‫السبيل‪ ،‬وهذا املنهج إمنا هو اخلطوة األوىل يف سبيل تشكيك الناس يف احلكم مطلقا‬
‫ابلبطالن على وحدة الوجود‪ ،‬وهذا هو نفس هدف اجملسمة من ادعاءاهتم‪.‬‬
‫واحلق أنه ال يلتفت إىل القائلني هبذا القول مطلقا‪ ،‬بل إذا سلمنا بوجود‬
‫معنيني أحدمها صحيح واآلخر ابطل‪ ،‬فإن هذا يوجب االبتعاد عن استعمال مثل‬
‫هذا اللفظ يف مقام الدعوة إىل علم التوحيد‪ .‬وعلى كل األحوال‪ ،‬فإننا سوف ما دار‬
‫حول هذا املعىن بني العلماء‪.‬‬
‫لقد اشتهر بني بعض من تكلم يف وحدة الوجود أن لوحدة الوجود معنيني‬
‫أحدمها ابطل واآلخر صحيح‪ ،‬واحتج البعض مبا قاله الصاوي يف ذلك املعىن يف‬
‫شرحه على جوهرة التوحيد‪ ،‬ومبا ذكره بعض العلماء‪ ،‬وسوف أبني هنا حقيقة هذا‬
‫احلال ليعرف هل استناد هؤالء صحيح أم ابطل‪.‬‬
‫ولكي نتوصل إىل ذلك سوف أنقل النص الذي يعتمدون عليه يف ذلك‬
‫املقام‪ ،‬وحنلله‪ ،‬لنعرف حقيقة املقام‪.‬‬
‫قال الصاوي يف شرحه على جوهرة التوحيد(]‪:)[1‬‬
‫"تنبيه‪:‬‬
‫شاع على ألسنة العوام‪( :‬هللا موجود يف كل الوجود)‪ ،‬وهو كالم صحيح يف‬
‫نفسه‪ ،‬ألن مفاده وحدة الوجود‪ ،‬لكنه غري الئق منهم‪ ،‬إليهام احللول‪ ،‬وأتويله أن‬
‫تقول‪:‬‬
‫‪33‬‬
‫معناه أنه مع كل موجود‪ ،‬أي‪ :‬ال يغيب عن موجود أصالا‪ ،‬ومعيته معه‬
‫معناها‪ :‬تصرفه فيه وتدبريه له‪ ،‬معية معنوية ال يعلمها إال هو‪ ،‬كما أن ذاته ال‬
‫يعلمها إال هو‪ ،‬ال خيفى عليه شيء يف األرض وال يف السماء‪.‬‬
‫ومن كالم ابن وفا‪ .....:‬أن من أعظم إشارات وحدة الوجود‪ ،‬قوله‬
‫ِ‬
‫يكف‬ ‫تعاىل(سنريهم آايتنا يف اآلفاق ويف أنفسهم حىت يتبني هلم أنه احلق‪ ،‬أ ََوََلْ‬
‫بكل ٍ‬
‫شيء‬ ‫بربك أنه على كل شيء شهيد‪ ،‬أال إهنم يف ِمْريٍَة من لقاء رهبم‪ ،‬أال إنه ِ‬
‫حميط)‬
‫قول أيب مدين‬ ‫ومن ألطف إشاراهتا كما قال شيخنا األمري يف حاشيته ُ‬
‫التِلِمساين‪:‬‬
‫ـت م ـ ـراتدا بلـ ــو َ كمـ ـ ِ‬
‫ـال‬ ‫إن كن ـ َ‬ ‫الوجود وما حـوى‬ ‫َ‬ ‫هللاَ قُ ْل َوذَ ِر‬
‫عــدم علــى التفصــيل واإلمجـ ِ‬
‫ـال‬ ‫فالك ـ ـ ـ ــل دون هللا إن حققت ـ ـ ـ ــه‬
‫ل ــواله يف َْحمـ ـ ٍو ويف اض ــمحالل‬ ‫واعلـ ـ ــم أبنـ ـ ــك والع ـ ـ ـواَلَ كلَّهـ ـ ــا‬
‫فوج ـ ـ ــوده ل ـ ـ ــواله ع ـ ـ ــني حم ـ ـ ــال‬ ‫م ــن ال وج ــود لذات ــه مــن ذات ــه‬
‫ش ـ ــيئا س ـ ــوى املتك ـ ــرب املتع ـ ــايل‬ ‫والع ــارفون فَـنُ ـوا ب ــه َل يش ــهدوا‬
‫يف احلــال واملاضــي واالسـ ِ‬
‫ـتقبال‬ ‫ورأوا س ـ ـ ـ ـ ـواه عل ـ ـ ـ ــى احلقيق ـ ـ ـ ــة‬
‫هالكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬

‫انتهى كالم الصاوي‪.‬‬


‫ومن أتملنا لكالم الصاوي‪ ،‬نرى أنه يتألف من املعاين التالية‪:‬‬
‫األول‪ :‬حمل الكالم هي عبارة دائرة على ألسنة العوام‪ ،‬حاصلها أن هللا تعاىل‬
‫موجود يف كل الوجود‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أتويل هذه العبارة على معىن مقبول‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫الثالث‪ :‬استشهاد بكالم بعض القائلني بوحدة الوجود‪.‬‬
‫فنبدأ أوالا ابملعىن األول والثاين‪ ،‬فنقول‪ :‬العبارة كما قال الصاوي‪ ،‬دائرة على‬
‫ألسنة العوام‪ ،‬وليست دائرة على ألسنة العلماء‪ ،‬وهذه العبارة حتتاج إىل أتويل‪،‬‬
‫ومعلوم أن التأويل يلجأ إليه عندما يوجد إشكال يف النص من حيث املعىن املتبادر‬
‫إىل الذهن عند قراءته‪ ،‬فيلزمنا إذن أن نبني املعىن الباطل املتبادر إىل الذهن عند‬
‫قراءة هذه العبارة‪.‬‬
‫وهذا املعىن الباطل هو كما نص عليه الصاوي‪ :‬إيهام احللول‪ ،‬واحللول معناه‬
‫حل يف خملوقاته‪ ،‬أو العكس‪ .‬وهو ابطل قطعا‪.‬‬ ‫أن هللا تعاىل َّ‬
‫والصاوي حيكم على العبارة يف نفسها ابلصحة‪ ،‬وحيكم عليها بوجوب‬
‫أتويلها إليهامها هذا املعىن الباطل‪.‬‬
‫وحنن قد عرفنا الدافع إىل التأويل‪ ،‬وهو إيهام احللول‪ ،‬فما هو املعىن املفهوم‬
‫من العبارة الذي يربر لنا القول أبن العبارة صحيحة يف نفسها‪ .‬لقد علَّ َل الصاوي‬
‫حكمه ابلصحة للعبارة أبن مفادها (وحدة الوجود)‪.‬‬
‫إذن مصطلح وحدة الوجود عند الصاوي له معىن صحيح‪ ،‬وهو املعىن الذي‬
‫وضحه الصاوي يف أتويله للعبارة‪ ،‬وحاصل هذا التأويل أنه أول حرف (يف) الوارد يف‬
‫العبارة‪ ،‬مبعىن املعية‪ ،‬فصارت العبارة ‪ (:‬هللا موجود مع كل موجود)‪ ،‬وحنن إن نظران‬
‫إىل هذه العبارة‪ ،‬رأيناها مطابقة من حيث املعين لآلية الواردة يف القرآن (وهو معكم‬
‫أينما كنتم)‪ ،‬فالصاوي إذن يصرف حرف اجلر (يف) عن ظاهره وهو معىن الظرفية‪،‬‬
‫إىل معىن املعية‪ ،‬الوارد أصله يف القرآن‪ ،‬مث بعد ذلك‪ ،‬أي ملا صار معىن العبارة‬
‫مطابق ا ملعىن اآلية الكرمية‪ ،‬سلط الصاوي على العبارة التأويل الذي ذكره العلماء‬
‫لآلية الكرمية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫فاملعية الواردة يف القرآن معناها تصرف هللا تعاىل لكل املوجودات‪ ،‬وتدبريه‬
‫هلا‪ ،‬ال وجوده معها‪ ،‬وال كون وجودها عني وجوده‪ ،‬مث قال‪ :‬إن هذه املعية معية‬
‫معنوية ال يعلمها إال هو‪ ،‬كما أن ذاته ال يعلمها إال هو‪.‬‬
‫إذن فاحلاصل أن العبارة حمل التحليل‪ ،‬إذا قلنا أن معناها صحيح‪ ،‬فإن املعىن‬
‫الصحيح الذي نصرفها إليه‪ ،‬هو معىن املعية املعنوية اليت معناها تدبري هللا تعاىل‬
‫للمخلوقات‪.‬‬
‫إذن املعىن الصحيح الذي يراه الصاوي لوحدة الوجود‪ ،‬هو معىن املعية‬
‫املعنوية‪ ،‬ال املعية احلقيقية‪ ،‬أي املعية الذاتية‪ ،‬اليت قال هبا بعض الناس‪ ،‬واليت‬
‫حاصلها أن هللا تعاىل متحد يف وجوده مع وجود املخلوقات‪ ،‬أو أن وجود‬
‫املخلوقات هو عني وجود هللا تعاىل‪ ،‬وهو املعىن الصحيح لوحدة الوجود‪ ،‬الذي‬
‫وضحناه سابقا يف التمهيدات‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬إذا قلنا أن لوحدة الوجود معىن صحيح‪ ،‬فإن هذا املعىن الصحيح راجع‬
‫إىل أن هللا تعاىل مدبر جلميع املخلوقات‪ ،‬ومتصرف فيها‪ ،‬وعاَل هبا‪ ،‬وال يعزب عن‬
‫علمه أي شيء يف الوجود‪.‬‬
‫أي إننا إذا قبلنا وحدة الوجود على رأي الصاوي‪ ،‬فإننا ال جيوز أن حنملها‬
‫على معىن غري املعىن الذي ذكرانه‪ ،‬وهو معىن املعية على رأي أهل السنة ال على‬
‫رأي القائلني بوحدة الوجود احلقيقية‪.‬‬
‫وهذا يف احلقيقة نفي لوحدة الوجود‪ ،‬كما يقول هبا ابن عريب والنابلسي‪،‬‬
‫وليس موافقة على هذا املعىن‪.‬‬
‫وأما املعىن الثالث‪ ،‬وهو االستشهاد بكالم البعض كابن وفا‪ ،‬والتلمساين‪،‬‬
‫فأكتفي هنا ابلقول أبن ابن وفا حسب ما يظهر يل من قراءة ما نقل عنه‪ ،‬قائل‬
‫بوحدة الوجود على معناها الباطل‪ ،‬واستشهاده ابآلية املذكورة‪ ،‬فوجه االستدالل‬
‫هبا‪ ،‬أن اآلايت اليت يف اآلفاق ويف األنفس‪ ،‬هي عني املوجودات اليت هي مظاهر‬
‫‪36‬‬
‫الذات اإلهلية‪ ،‬فهذا اآلايت هي موجودات بنفس وجود الذات اإلهلية‪ ،‬ال بوجود‬
‫آخر خاص هبا‪ ،‬فمن رأى هذه اآلايت‪ ،‬ورأى أهنا مظاهر‪ ،‬علم أن هللا تعاىل هو‬
‫احلق‪ ،‬أي هو الثابت‪ ،‬وهو املوجود احلق بوجود خاص‪ ،‬ال غري‪ ،‬أي يعلم الناظر أن‬
‫هذه اآلايت ما هي إال مظاهر ال وجودات مغايرة لوجود هللا تعاىل‪.‬‬
‫وأما التلمساين‪ ،‬فكالمه يف هذه األبيات الشعرية‪ ،‬ليس نصا يف وحدة‬
‫الوجود ابملعىن احلقيقي كما يقول به ابن عريب والنابلسي‪ ،‬وهو املعىن الباطل الذي‬
‫ال يقبله أهل السنة‪ ،‬وليس كذلك نصا صرحيا يف املعىن الذي ميكن أن يقبله العلماء‬
‫ومنهم الصاوي‪ ،‬والذي أرجعه إىل معىن املعية املعنوية‪ ،‬ال املعية الذاتية‪.‬‬
‫فاحلاصل أننا خنالف الصاوي يف فهمه لكالم ابن وفا‪ ،‬والتلمساين‪ ،‬فهو‬
‫حيمل كالمهما على املعىن الصحيح املقبول عنده‪ ،‬ولكننا نرى أن كالمهما ليس‬
‫كذلك‪ ،‬ومحله على ما قال حيتاج إىل قرائن أخرى قد ال تتوفر له‪.‬‬
‫فنحن نوافق إذن الصاوي يف خالصة املعىن الذي محل عليه كالم العوام‪،‬‬
‫ولكننا ال نوافقه يف تفاصيل كالمه‪ ،‬وال نوافقه يف احلكم بتصحيح العبارة حبجة أن‬
‫مفادها هو وحدة الوجود‪ ،‬ألن معىن املعية املعنية‪ ،‬ال يسمى عند العلماء بوحدة‬
‫الوجود‪ ،‬فتسميته للمعية ابسم وحدة الوجود‪ ،‬غري صحيح‪ .‬بل وحدة الوجود آيِل‬
‫إىل املعية الذاتية‪ ،‬اليت حاصلها أن ال معية أصالا‪ ،‬بل الكل واحد‪ .‬مث إن معىن‬
‫مصطلح (وحدة الوجود) ليس معىن مقبوال مشهور القبول حىت يتخذ معيارا لقبول‬
‫الكالم ورده‪ .‬بل هو مشكل يف غاية اإلشكال كما سنبني‪ ،‬وكما وضحنا سابق ا‪.‬‬
‫فهذا هو تعليقنا املختصر على عبارة الصاوي‪.‬‬
‫وقد ذكر العالمة األمري يف حاشيته على شرح الشيخ عبد السالم على‬
‫جوهرة التوحيد‪ ،‬كالما له تعلق مبا هنا ولذلك سوف نذكره لزايدة الفائدة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫قال العالمة األمري(]‪ )[2‬تعليقا على قول الشارح‪(" :‬فواجب له) صفة نفسية‬
‫له (الوجود) الذايت مبعىن أنه وجد لذاته ال لعلة فال يقبل العدم ال أزالا وال أبدا‬
‫لوجوب افتقار العاَل وكل جزء من أجزائه إليه تعاىل"‪:‬‬
‫"(قوله‪ :‬الذايت) وأما غريه فهو فعله‪ ،‬وذهب بعض املتصوفة والفالسفة إىل أنه‬
‫تعاىل الوجود املطلق‪ ،‬وأن غريه ال يتصف ابلوجود أصال‪ ،‬حىت إذا قالوا اإلنسان‬
‫موجود‪ ،‬فمعناه أن له تعلقا ابلوجود وهو هللا تعاىل‪ ،‬وهو كفر‪ ،‬وال حلول وال احتاد‪.‬‬
‫فإن وقع من أكابر األولياء ما يوهم ذلك أ ُِوَل مبا يناسبه كما يقع منهم يف‬
‫وحدة الوجود‪ ،‬كقول بعضهم ما يف اجلبة إال هللا‪ ،‬أراد أن ما يف اجلبة بل والكون كله‬
‫ال وجود له إال ابهلل‪ ،‬فاهلل ميسك السموات واألرض أن تزوال‪ ،‬ولئن زالتا إن‬
‫أمسكهما من أحد من بعده‪ ،‬وذلك اللفظ وإن كان ال جيوز شرع ا إليهامه‪ ،‬لكن‬
‫القوم اترة تغلبهم األحوال‪ ،‬فإن اإلنسان ضعيف إال من متكن إبقامة املوىل سبحانه‪.‬‬
‫ورأيت يف مفاتيح الكنوز أن احلالج قال‪( :‬أان) وفيه بقية من شعوره بنفسه‪ ،‬مث فين‬
‫بشهوده فقال‪ ( :‬هللا)‪ ،‬فهما كلمتان يف مقامني خمتلفني‪ ،‬لكن ممن أفىت بقتله اجلنيد‬
‫كما يف شرح الكربى عمالا بظاهر الشريعة الذي هو أمر الباطن الظاهر‪.‬‬
‫وابجلملة فاملقام العظيم ال حتيط به العبارة‪ ،‬والوجدان خيتلف حبسب ما يريد‬
‫احلق(]‪ ".)[3‬انتهى‬
‫هذا هو كالم األمري الذي اعتمد عليه الصاوي‪ ،‬وكالم األمري أكثر حتقيقا‬
‫من كالم الصاوي‪ ،‬واملتأمل فيه يرى أنه يتألف من املعاين األساسية التالية‪:‬‬
‫أوال اَ‪ :‬وضح ما هو مذهب وحدة الوجود عند الصوفية القائلني به‪ ،‬وحكم‬
‫عليه أبنه كفر‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬حدد املوقف الشرعي الذي جيب اختاذه من الكلمات الدالة على‬
‫وحدة الوجود‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫فأما املعىن األول‪ ،‬فقد بني رمحه هللا أن معىن وحدة الوجود‪ ،‬هو أنه ال وجود‬
‫إال هلل تعاىل‪ ،‬ألن هللا تعاىل هو الوجود املطلق‪ ،‬وهو عني مذهب وحدة الوجود‬
‫الباطل‪ ،‬وبناء على هذا املذهب يلزم أنه ال وجود لغريه أصالا‪ ،‬وابلتايل فإن معىن‬
‫قوهلم اإلنسان موجود‪ ،‬أنه له تعلق ابلوجود‪ ،‬أي أنه عبارة عن نسبة بني ماهية‬
‫وهوية اإلنسان وبني وجود هللا تعاىل الذي هو الوجود املطلق‪ ،‬وهو املراد بقوهلم أبن‬
‫هللا تعاىل يظهر أبحكام املمكنات‪ ،‬ويتجلى لذاته بذاته‪ ،‬وهذا املعىن معىن ابطل‬
‫عند العالمة األمري‪ ،‬وهو كفر ال ريب فيه‪ ،‬ومع ذلك فال حلول وال احتاد‪ ،‬أي إن‬
‫القائل هبذا املعىن ال يلزمه القول ابحللول وال القول ابالحتاد‪ ،‬ألنه ال تكثر للوجود‬
‫أصالا عنده‪ ،‬وهو كفر‪ .‬فاألمري إذن مييز هنا ابلضبط املذهب احلقيقي لوحدة‬
‫الوجود‪ ،‬وينص على بطالنه‪.‬‬
‫مث يبني املوقف العملي من كلمات صادرة عن الناس يظهر فيها هذا املعىن‪،‬‬
‫كقول احلالج ما يف اجلبة إال هللا‪ ،‬فاألمري فسره أبنه أراد أن الكون كله ال يوجد إال‬
‫إبجياد هللا تعاىل‪ ،‬بناء على ما قاله أوالا من أن الوجود الذايت إمنا هو هلل تعاىل وحده‪،‬‬
‫والوجود املفتقر لسائر العاَل‪ ،‬وهذا وإن كان هو املذهب الصحيح‪ ،‬إال إننا ال نقطع‬
‫أنه مراد احلالج‪ ،‬فإن كلمته رمبا يظهر منها مع غريها من كلماته املنقولة عنه معىن‬
‫وحدة الوجود ابملعىن الباطل الذي حكم عليه األمري أبنه كفر‪.‬‬
‫وإرجاعه اختالف العبارات عن هؤالء الناس حبسب اختالف األحوال‬
‫واملقامات‪ ،‬وقدرهتم على هذه املواقف‪ ،‬وإن كان قاله غريه‪ ،‬إال أن هذا التعليل ال‬
‫ينبغي أن مينعنا من اختاذ موقف من نفس هذه الكلمات أبهنا ابطلة‪ ،‬وهو عني ما‬
‫فعله األمري هنا‪.‬‬
‫إ َذ ْن فاملقصود عند العلماء امللتزمني أبحكام الشريعة‪ ،‬من أنه يوجد معىن‬
‫صحيح لوحدة الوجود‪ ،‬هو أنه جيب علينا أتويل الكالم الدال على املعىن الباطل‬
‫الذي يقول به أصحاب هذا املذهب‪ ،‬ملعىن آخر مقبول عندان إذا صدرت هذه‬

‫‪39‬‬
‫الكلمات ممن اشتهر عندان حسن سريته‪ ،‬فاملسألة إذن ليست إال موقفا عمليا مما‬
‫ينقل من كلمات معناها الظاهر ابطل‪ ،‬وهذا املعىن الصحيح حاصله أن الكون‬
‫والعاَل املوجود‪َ ،‬ل يكن ليوجد بسبب علة ذاتية له‪ ،‬بل وجود إمنا هو بسبب إجياد‬
‫هللا تعاىل إايه‪ .‬فوجود العاَل ليس عني وجود هللا تعاىل‪.‬‬
‫هذا الكالم وإن كان خمتصرا يف ما يدعيه البعض من وجود معىن صحيح‬
‫لوحدة الوجود‪ ،‬إال إننا نرجو كفايته يف هذا املقام‪ ،‬وسوف أييت لنا كالم آخر عند‬
‫نقد كالم النابلسي املتعلق هبذا املقام‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫هل القول بوحدة الوجود ال خيالف قول أهل السنة‬
‫هذا هو املعىن الرابع مما ذكره النابلسي الذي سوف نقوم بتحليله هنا‪.‬‬
‫إن الشيخ النابلسي َّادعى يف كالمه السابق أن االعتقاد بوحدة الوجود على‬
‫صر‪ -‬ال خيالف مذهب أهل السنة مطلق ا‪.‬‬ ‫املعىن الصحيح –كما ي ِ‬
‫ُ‬
‫وقد عرفنا مما مضى قصة املعىن الصحيح واملعىن الفاسد لوحدة الوجود‪،‬‬
‫وعرفنا أنه ال يوجد معنيان‪ ،‬بل املعىن الذي يسميه بعض العلماء أبنه صحيح‪ ،‬إمنا‬
‫هو أتويل للعبارات الظاهرة يف املعىن الباطل‪ ،‬هروابا من احلكم ابلتكفري على من‬
‫قاهلا‪ ،‬واملعىن املؤول ال يقال عليه إنه معىن اثن‪ ،‬بل ال معىن حقيقي إال واحد‪،‬‬
‫واآلخر مؤول‪ ،‬هذا عند أهل السنة‪ ،‬وأما عند القائلني بوحدة الوجود‪ ،‬فاملعىن‬
‫احلقيقي عندهم لوحدة الوجود هو املعىن الباطل هلا عند علماء أهل السنة‪ ،‬كما‬
‫رأينا ذلك يف عبارة العالمة األمري‪.‬‬
‫وسنعرف املعىن الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي‪ ،‬لنعرف أن لوحدة‬
‫الوجود معىن ابطالا آخر عند الفريقني أقصد أهل السنة والقائلني بوحدة الوجود كما‬
‫عند النابلسي وابن عريب‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وهذا املعىن اآلخر‪ ،‬هو يف احلقيقة مذهب آخر‬
‫قال به بعض املنحرفني ومسوه ابسم وحدة الوجود‪ ،‬وهو وجه آخر لوحدة الوجود‬
‫النابلسية‪.‬‬
‫وال نريد هنا أن نعلق على ادعاء النابلسي أبن النافني لوحدة الوجود إمنا هم‬
‫جاهلون‪ ،‬وعلومهم غري صحيحة‪ ،‬وأهنم َل يعرفوا اصطالح القائلني هبا‪ ،‬وما قاله من‬
‫أن علوم القائلني هبا مبين على الكشف والعيان‪ ،‬فإن الكشف ليس طريقا من طرق‬
‫املعرفة عند أهل السنة‪ ،‬ألنه ال ضابط له‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫نص العلماء على كونه ليس‬ ‫وأنت ترى أن النابلسي يقدم الكشف الذي َّ‬
‫طريقا للعلم عند أهل السنة‪ ،‬يقدمه على النظر الصحيح الذي عرب عنه تنـزيالا من‬
‫َخذ من الكتب‪ ،‬وكيف يَ ُذم األخ َذ من الكتب وقد أنزل هللا تعاىل إلينا‬
‫مقامه أبنه أ ْ‬
‫كتاابا لنأخذ منه‪ ،‬وأمر العلماء بتدوين ما عرفوه يف الكتب‪ ،‬فهل يكون هذا كافيا‬
‫لذم علوم النافني لوحدة الوجود‪ ،‬كال‪ ،‬بل األمر ال يتعدى أن يكون زايدة تشنيع‬
‫من النابلسي لينفر أتباعه من كتب العلماء الراسخني من أهل السنة‪.‬‬
‫ولكن الذي ال بد من تقريره هنا‪ ،‬أن العلماء الذين نفوا وحدة الوجود هم‬
‫من أعاظم أهل العلم‪ ،‬ومن األئمة املتَّبعني‪ ،‬وال يقال على هؤالء أهنم جاهلون‪ ،‬وال‬
‫أهنم غري عاملني‪ ،‬فمنهم السعد التفتازاين‪ ،‬ومنهم عالء الدين البخاري‪ ،‬ومنهم عالء‬
‫الدولة السمناين‪ ،‬ومنهم األئمة املتقدمون الذين أنكروا على احلالج كاجلنيد‪،‬‬
‫مر‬
‫وأصحابه‪ ،‬ومنهم من شنع على ابن عريب خاصة كالسرهندي النقشبندي‪ ،‬وقد َّ‬
‫معنا كالم العالمة األمري‪ ،‬وغريهم كثري‪ ،‬وأما الذين يلزم من كالمهم الرد على‬
‫مذهب وحدة الوجود‪ ،‬فهم أعاظم علماء األمة‪ ،‬من القرون األوىل واملتأخرة‪ ،‬وليس‬
‫هذا املوضع هو املالئم الستقراء أمسائهم‪ ،‬ولكين ال أعتقد أن أحدا يقول أبن هؤالء‬
‫جاهلون ابالصطالح‪ ،‬أو من احملجوبني‪ ،‬وليت شعري إذا كان هؤالء حمجوبني‪،‬‬
‫فمن هم الذي انكشفت هلم احلقيقة‪.‬‬
‫واحلاصل من هذا أن قول النابلسي أبن وحدة الوجود ال يعارض مذهب‬
‫أهل السنة جمرد ادعاء‪ ،‬ال دليل عليه‪ ،‬بل الدليل قائم على بطالنه‪ ،‬وحنن سوف‬
‫نبني ذلك تفصيال يف أثناء نقدان لباقي كالم النابلسي يف رسالته هذه‪ ،‬وسوف‬
‫يتضح لنا بصراحة أن مذهب وحدة الوجود ال ميكن أن يتوافق مع مذهب أهل‬
‫السنة‪ ،‬وال ميكن أن يوجد إنسان قائل بوحدة الوجود‪ ،‬يف حال كونه معتقدا أبقوال‬
‫أهل السنة‪ ،‬إذن؛ فمذهب وحدة الوجود ال ميكن اجتماعه مع مذهب أهل احلق‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫موقف النابلسي من علم الكالم‬
‫وقد أوجب النابلسي على كل واحد بعد ذلك(]‪ " :)[4‬أن يبحث عنه –أي‬
‫عن املعىن الصحيح لوحدة الوجود‪ ،-‬ويتحقق به على الوجه التام‪ ،‬وحيفظ عليه‬
‫ويرتك ما عداه من أقوال علماء الكالم‪ ،‬ألنه القول احلق واالعتقاد الصدق‪،‬‬
‫والواجب أيضاا محايته من طعن الطاعنني وذم اجلاهلني له‪ ،‬املتكلمني فيه من غري‬
‫معرفة به الضالني املضلني‪".‬اهـ‪.‬‬
‫إذن جيب شرعا على اإلنسان املكلف أن يبحث عن املعىن الصحيح لوحدة‬
‫الوجود‪ ،‬وأن يؤمن به‪ ،‬وأن يدافع عنه‪ ،‬وحيرم عليه ابلتايل أن يتأثر بكل من خيالف‬
‫القول بوحدة الوجود‪.‬‬
‫وإجياب القول بوحدة الوجود‪ ،‬على كل مكلف‪ ،‬هو إفراط يف االنتصار هلذا‬
‫املذهب الذي ذمه أكثر علماء األمة احملققني‪ ،‬ينقلب هذا املذهب عند النابلسي‬
‫إىل فرض عني على كل مكلف‪ ،‬فسبحان هللا!‬
‫وهذا املوقف العملي من النابلسي ينبين على عدم اكرتاثه مطلقا ابملخالفني‪،‬‬
‫وذلك لسبب بسيط جدا وهو أن املخالفني لوحدة الوجود ال يعتمدون على‬
‫الكشف‪ ،‬مث هم خيالفون أولياء هللا الذين انكشف هلم احلجاب‪ ،‬واطلعوا على‬
‫املغيبات عياانا‪.‬‬
‫إذا التفتنا حنن إىل هذه اخللفية للمعتقد بوحدة الوجود فإننا نرى موقف‬
‫النابلسي املتشدد من املخالفني مربرا‪.‬‬
‫وأما علم الكالم وعلماء الكالم عند النابلسي فهو علم مذموم‪ ،‬كما هو‬
‫حكمه ابلضبط عند اجملسمة والفالسفة‪ ،‬وأما علم الكالم عند أهل السنة فهو علم‬
‫أصول الدين وهو علم واجب على الكفاية‪ ،‬ألن به ميكن الكشف عن البدع‬

‫‪43‬‬
‫االعتقادية‪ ،‬وبواسطة القواعد املبينة فيه‪ ،‬ميكن الرد على املخالفني للدين اإلسالمي‪،‬‬
‫الرِديَِّة‪ ،‬كامل َج ِس َم ِة‬
‫وعلماء الكالم هم الذين ميكنهم الرد على أصحاب املذاهب َّ‬
‫ُ‬
‫والقائلني بعصمة األئمة‪ ،‬والقائلني حبلول هللا تعاىل يف أبدان األئمة‪ ،‬وعلى املذاهب‬
‫املناقضة لإلسالم الذي هو الدين احلق‪ ،‬كالشيوعية والرأمسالية والنصرانية واليهودية‪،‬‬
‫وغريها‪ ،‬من املذاهب املناقضة للدين اإلسالمي‪.‬‬
‫هكذا هم علماء الكالم عند أهل السنة‪ ،‬ولكنهم عند النابلسي أصحاب‬
‫كالم ابطل‪ ،‬جمرد كالم يف كالم‪ ،‬ال يغين وال يفيد‪ ،‬فهل موقف النابلسي يعكس‬
‫حقيقة موقف أهل السنة ؟!‬
‫إنه من الواضح اجللي أن النابلسي خيالف كالم علماء أهل السنة عندما‬
‫يضع علماء الكالم يف حمل العابثني‪ ،‬واحلقيقة أن هذا ليس موقف النابلسي فقط‬
‫بل هو موقف مجيع القائلني بوحدة الوجود قاطبة‪ ،‬كابن عريب‪ ،‬وابن سبعني‪،‬‬
‫وغريهم‪ ،‬ومجيع أتباعهم‪ ،‬بل إنين يف هذا الزمان رأيت بعض القائلني بذلك واملتأثرين‬
‫مبوقف ابن عريب‪ ،‬من يقلل من شأن علماء الكالم‪ ،‬ويدعي أهنم عابثون‪ ،‬وهو مع‬
‫قوله الفاسد هذا يعتقد أنه موافق ألهل السنة‪ ،‬ومتبع هلم‪ ،‬وواقع احلال أنه خيالفهم‬
‫بل يناقض أقواهلم‪ ،‬ويعاديها اعلم أو َل يعلم‪.‬‬
‫والسبب يف أن القائلني بوحدة الوجود يعرتضون على علماء الكالم‪ ،‬ويذمون‬
‫النظر العقلي املبين على القواعد اليت بينها العلماء يف علم الكالم واملنطق وأصول‬
‫الفقه‪ ،‬هو أن عقيدة وحدة الوجود ال تتفق مع القواعد املقررة اليت حققها علماء‬
‫اإلسالم‪ ،‬بل إن الذي يتبع القواعد الصحيحة فإنه ال شك سينتهي إىل خمالفة‬
‫القول بوحدة الوجود‪ ،‬وإىل نفيها‪ ،‬وهكذا هم علماء الكالم الذين يتبعون هذه‬
‫رد على أصحاب الوحدة‬ ‫القواعد النظرية العظيمة‪ ،‬فقد كان املتكلمون هم من َّ‬
‫الوجودية‪ ،‬من الفالسفة والصوفية‪ ،‬فلذلك كان أهم األمور اليت يوصي هبا أهل‬
‫الوحدة أتباعهم هي عدم التعمق يف علم الكالم‪ ،‬وعدم االعتماد على القواعد‬

‫‪44‬‬
‫النظرية‪ ،‬بل إهنم يصرحون أبن علماء الكالم هم أهل الرسوم واملتبعون لظواهر‬
‫األمور‪ ،‬ويصفون أنفسهم أبهنم أهل الكشف والتحقيق‪ ،‬املطلعون على حقائق‬
‫األمور ابلكشف العيان‪ ،‬ويقولون أبهنم يستمدون علومهم ومعارفهم من احلق‬
‫مباشرة‪ ،‬خبالف علماء الكالم‪ ،‬الذين أيخذون علومهم ومعارفهم عن األموات‪.‬‬
‫مث إن بعض املشايخ املعاصرين القائلني بوحدة الوجود ينهون أتباعهم عن‬
‫األخذ عمن يتمسك ابلقواعد النظرية وأساليب أهل السنة يف البحث والنظر‪،‬‬
‫وحيضوهنم على التمسك ابملكاشفات اليت نص أهل السنة أنفسهم على أهنا ال تفيد‬
‫العلم‪.‬‬
‫فيتضح من ذلك أن أهل الوحدة خمالفون ألهل السنة يف الطريقة ويف‬
‫األحكام‪ ،‬وهذا يعين أهنم خيالفوهنم يف املذهب العقائدي‪ ،‬واملوقف العملي التابع‬
‫لذلك‪.‬‬
‫وما أقرب هذا األسلوب الذي يتبعه النابلسي هنا وابن عريب وغريهم‪،‬‬
‫أبسلوب ابن تيمية‪ ،‬واحلقيقة أن طريقة معاجلة القائلني بوحدة الوجود للنصوص‬
‫الشرعية قريبة جدا من الطريقة اليت تبعها اجملسمة‪ ،‬واملوقف العملي الذي يتخذه‬
‫هؤالء من خمالفيهم قريب جدا من موقف أولئك‪ .‬واجلامع املشرتك بينهم هو عدم‬
‫كون مذهبهم مبني ا على أدلة قوية‪ ،‬بل َّ‬
‫إن مذهبهم مبين على جمرد تومها فاسدة ال‬
‫قيمة هلا يف ميزان العلم والنظر والقواعد العقلية‪ ،‬ولذلك فإن كال هذين الفريقني‬
‫يهربون من االحتكام إىل املنهج العقلي يف النظر والبحث‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫بيان وحدة الوجود عند النابلسي‬
‫قال الشيخ عبد الغين النابلسي(]‪" :)[5‬واعلم أن ليس املراد بوحدة الوجود‬
‫خالف ما عليه أئمة اإلسالم‪ ،‬بل املراد يف ذلك ما اتفق عليه مجيع اخلاص والعام‪،‬‬
‫وما هو معلوم من الدين ابلضرورة من غري إنكار أصالا من مؤمن وال من كافر‪ ،‬وال‬
‫يتصور فيه إنكار عند العقالء من األانم‪.‬‬
‫إن مجيع العواَل كلها على اختالف أجناسها وأنواعها وأشخاصها موجودة‬
‫من العدم بوجود هللا تعاىل ال بنفسها‪ ،‬وإذا كان كذلك فوجودها الذي هي موجودة‬
‫به يف كل حملة هو وجود هللا تعاىل‪ ،‬ال وجود آخر غري وجود هللا تعاىل‪.‬‬
‫فالعواَل كلها من جهة نفسها معدومة بعدمها األصلي‪ ،‬وأما من جهة وجود‬
‫هللا تعاىل فهي موجودة بوجوده تعاىل‪ ،‬فوجود هللا تعاىل ووجودها الذي هي موجودة‬
‫به وجود واحد‪ ،‬وهو وجود هللا تعاىل فقط‪ ،‬وهي ال وجود هلا من جهة نفسها‬
‫أصالا‪ ،‬وليس املراد بوجودها الذي هو وجود هللا تعاىل عني ذاهتا وصورها‪ ،‬بل املراد‬
‫ما به ذواهتا وصورها اثبتة يف أعياهنا‪ ،‬وما ذلك إال وجود هللا تعاىل إبمجاع العلماء‬
‫العقالء منها‪ ،‬وأما ذواهتا وصورها من حيث هي يف أنفسها‪ ،‬مع قطع النظر عن‬
‫إجياد هللا تعاىل هلا بوجودها]‪ [6‬سبحانه‪ ،‬فال وجود ألعياهنا أصالا‪.‬‬
‫وأما الوجود الذي به تلك الذوات والصور موجودة فال شك أبنه وجود هللا‬
‫تعاىل عند مجيع العقالء بال خالف‪ ،‬وكالم احملققني من أهل هللا تعاىل عن هذا‬
‫الوجود ال عن الوجود الذي هو عني ذات املوجود‪ ،‬فاخلالف يف رد القول بوحدة‬
‫الوجود وقبوله‪ ،‬مبين على تعيني املراد ابلوجود‪ ،‬فمن فسره بعني ذات الوجود يرد‬
‫القول بوحدة الوجود‪ ،‬إلثباته وجوداا حاداثا‪ ،‬هو عني ذات املوجود احلادث‪ ،‬ومع‬
‫ذلك رده للقول بوحدة الوجود حمض خطأ‪ ،‬ألن هذا الوجود احلادث الذي يزعم أنه‬
‫‪46‬‬
‫وجود اثن غري وجود هللا تعاىل‪ ،‬قائم عنده بوجود هللا تعاىل‪ ،‬فرجع الوجود كله إىل‬
‫وجود هللا تعاىل عنده أيضاا‪.‬‬
‫ومن فسر الوجود هبا صار بيان الوجود املوجود احلادث موجوداا‪ ،‬فإنه يقبل‬
‫القول بوحدة الوجود ويعتقده حقاا‪ ،‬وهو الصواب الذي ترجع إليه األقوال مجيعها‪،‬‬
‫ألن وجود هللا تعاىل الذي به كل موجود موجوداا إبمجاع العقالء‪ ،‬فاخلالف يف ذلك‬
‫لفظي راجع إىل تفسري املراد من لفظ الوجود‪ ".‬اهـ‪.‬‬
‫ولنا على هذه الفقرة مالحظات‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬يدعي النابلسي يف هذه الفقرة أن وحدة الوجود متفق عليها بني مجيع‬
‫املسلمني‪ ،‬بل يدعي أهنا معلومة ابلضرورة‪ ،‬وهذا االدعاء غريب جدا‪ ،‬فلو أنه‬
‫اكتفى ابدعاء قيام األدلة عليها‪ ،‬لكان أمرا معتادا‪ ،‬ولكن ال جيوز لنا أن نستغرب‬
‫من هذا املوقف‪ ،‬إذ كيف يقارن النابلسي نفسه بغريه‪ ،‬وهو أيخذ علومه مكاشفة‬
‫وعياانا‪ ،‬وغريه أيخذها ابلنظر ؟! ولكن على كل األحوال‪ ،‬كان ينبغي أن ال يغفل‬
‫النابلسي أن بعض الصوفية أيض ا املشهود هلم ابلقدم الراسخة أنكروا على القائلني‬
‫بوحدة الوجود‪ ،‬واعتربوها بدعة وجمرد خيال‪.‬‬
‫ألي أحد أن يدعي أن قوله وعقيدته ضرورية وقطعية‪،‬‬ ‫واحلقيقة أنه ميكن ِ‬
‫ولكن هذا ال يكون إال جمرد ادعاء عا ٍر مادام عارايٍ عن الدليل !!‬
‫فإننا ال ميكن أن ننسى ابن تيمية كيف يدعي اإلمجاع من السلف واخللف‪،‬‬
‫ووجود النص من القرآن والسنة بل من مجيع العقالء على عقيدة التجسيم اليت يقول‬
‫هبا ؟‬
‫وكيف يدعي ابن عريب أن ما يقوله إمنا جاء به عن طريق الكشف واملعاينة‬
‫!!‬
‫وكيف يقول ابن رشد أن فلسفته موافقة لألدلة العقلية القطعية اليت ال تردد‬
‫كل واحد َل يعتمد يف أخذه ملذهبه على القواعد العقلية الصحيحة‪،‬‬ ‫لكن َّ‬
‫فيها‪ ،‬و َّ‬
‫‪47‬‬
‫اليت قررها علماء الشريعة املقتدى هبم‪ ،‬وليس أهل الوحدة‪ ،‬فإنه من الطبيعي أن‬
‫يكون هبذه النفسية الشديدة التعصب ملا يقول‪ ،‬فهو يف احلقيقة ال ميلك برهاانا على‬
‫تدعيم موقفه‪ ،‬إال تعصبه له‪.‬‬
‫ولكن لو كان معىن وحدة الوجود كما وصفه النابلسي يف الوضوح واالشتهار‬
‫والقطعية‪ ،‬فإننا نستبعد جدا أن يقع حوهلا هذا اخلالف الكبري بني املسلمني منذ‬
‫أوائل ظهورها إىل هذا الزمان‪ ،‬شأهنا يف ذلك شأن أي مذهب آخر‪ ،‬وحنن نقول‬
‫أيضا‪ ،‬لو كان مذهب الشيعة بوجود نص قطعي على إمامة اإلمام علي بن أيب‬
‫طالب‪ ،‬بعد النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬لو كان ذلك صحيحا‪ ،‬فإننا نستبعد جدا‬
‫أن يقع خالف كبري مرتامي األطراف بني املسلمني حول هذه املسألة‪ ،‬ويتقاتلوا‬
‫عليها‪ ،‬إىل هذا الزمان‪ ،‬ولوال أهنا مبنية على حمض تعصب خملوط ابدعاء يستند إىل‬
‫تومهات ألدلة غري قاطعة‪ ،‬ملا حصل ذلك‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬بقية كالم النابلسي عبارة عن تلخيص جيِد ملفهوم وحدة الوجود على‬
‫طريقة ابن عريب‪ ،‬يفهم ذلك العاقلون‪ ،‬وحاصل ذلك أن املخلوقات هلا ذوات‪،‬‬
‫وهذه الذوات خاصة ابملخلوقات‪ ،‬وكل خملوق له ذات‪ ،‬وهذه الذات ال وجود هلا‪،‬‬
‫بل حقيقتها إمنا هو جمرد كوهنا ذااتا حمضة‪ ،‬أي ماهية وصورة‪ ،‬وأما الوجود فبما أنه‬
‫ال ثبوت للوجود إال هلل تعاىل‪ ،‬فالوجود واحد‪ ،‬على رأيهم‪ ،‬فينتج من ذلك كله أن‬
‫هذه الذوات والصور واملاهيات قائمة بوجود هللا تعاىل‪ ،‬ألنه ال وجود غريه‪ ،‬فهي‬
‫معدومة بعدمها األصلي فعالا وال تزال كذلك‪ ،‬فال وجود إال هلل تعاىل‪ ،‬قبل اخللق‬
‫وبعده‪ ،‬فال تكثر للوجود‪ ،‬وهذه الذوات أيضا موجودة بنفس وجود هللا تعاىل‪ ،‬ال‬
‫وجود هلا يف أنفسها‪ ،‬كما ال وجود هلا ألنفسها‪ ،‬وال وجود هلا أبنفسها‪ ،‬فهي أقرب‬
‫ما تكون كاألعراض القائمة يف اجلواهر‪ ،‬فال وجود هلا يف أنفسها إال عني وجودها‬
‫يف اجلواهر‪ .‬وهكذا يتصور القائلون بوحدة الوجود الذات اإلهلية وعملية اخللق‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ولكن إذا كان هذا هو حقيقة معىن وحدة الوجود‪ ،‬فكيف يتجرأ النابلسي‬
‫أن يقول أبن هذا املعىن متفق عليه ومتقرر بني احملققني‪ ،‬وال ميكن ألحد أن خيالفه‪،‬‬
‫كيف يقول ذلك واحلاصل أن أكثر الناس خيالفون هذا املعىن ألن أكثر الناس‬
‫يقولون بتكثر الوجود ؟! وَل يقل بوحدة الوجود إال بعض طوائف من الصوفية‬
‫والفالسفة وغريهم‪.‬‬
‫إن ادعاء النابلسي االتفاق على هذا املذهب ادعاء بال دليل‪ ،‬فهو مردود‪.‬‬
‫اثلثا اَ‪ :‬ليتأمل القارئ يف العبارات التالية اليت أطلقها النابلسي‪:‬‬
‫إن مجيع العواَل كلها على اختالف أجناسها وأنواعها وأشخاصها‬ ‫‪-‬‬
‫موجودة من العدم بوجود هللا تعاىل ال بنفسها‪ ،‬وإذا كان كذلك فوجودها الذي هي‬
‫موجودة به يف كل حملة هو وجود هللا تعاىل‪ ،‬ال وجود آخر غري وجود هللا تعاىل‪.‬‬
‫وأما من جهة وجود هللا تعاىل فهي موجودة بوجوده تعاىل‬ ‫‪-‬‬
‫فوجود هللا تعاىل ووجودها الذي هي موجودة به وجود واحد‪ ،‬وهو‬ ‫‪-‬‬
‫وجود هللا تعاىل فقط‪ ،‬وهي ال وجود هلا من جهة نفسها أصال‬
‫وأما ذواهتا وصورها من حيث هي يف أنفسها‪ ،‬مع قطع النظر عن‬ ‫‪-‬‬
‫إجياد هللا تعاىل هلا بوجوده سبحانه‪ ،‬فال وجود ألعياهنا أصالا‪.‬‬
‫كل هذه الفقرات والعبارات يرتكز معناها على أن وجود هللا تعاىل هو نفسه‬
‫الوجود الذي توجد به املخلوقات‪ ،‬ونريد هنا أن حنلل هذا املعىن ليزداد وضوحا‪.‬‬
‫إن الذوات عند النابلسي هي عني الصور والتجليات‪ ،‬وهذه الصور ال تقوم‬
‫أن األعراض ال تقوم بذاهتا‪ ،‬أما اجلواهر فهي قائمة ابلذات‪ ،‬فال حتتاج‬ ‫بذاهتا‪ ،‬كما َّ‬
‫إىل حمل‪ ،‬بل ما حتتاج إليه إمنا هو املخصص‪ ،‬أي الفاعل‪ ،‬فاملخلوقات عنده هي‬
‫جمرد صور يكوهنا هللا تعاىل بذاته‪ ،‬أي بوجوده‪ ،‬فهي لذلك مظاهر الذات ومظاهر‬
‫احلق‪ ،‬واملظهر هو الصورة‪ ،‬والصورة تقوم ابلذات وال تقوم بذاهتا هي‪ ،‬فكل العواَل‬
‫قائمة بذات احلق‪ ،‬ألهنا ال قيام هلا بذاهتا‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫وأهل السنة يقولون إن العاَل هو جواهر وأعراض‪ ،‬واجلواهر قائمة ال يف حمل‪،‬‬
‫بل أبنفسها‪ ،‬والعاَل جبواهره وأعراضه غري قائم ابهلل تعاىل‪ ،‬وال بذات هللا تعاىل‪ ،‬بل‬
‫هللا تعاىل هو الفاعل للعاَل واخلالق له‪ ،‬ولذلك يقال إن العاَل موجود لغريه أي‬
‫بسبب غريه‪ ،‬ولكنه قائم بذاته‪ ،‬مبعىن أنه غري قائم يف غريه‪.‬‬
‫فالعاَل الذي هو خملوق هلل تعاىل غري قائم بذات هللا تعاىل وال قائم بوجوده‬
‫كما يعرب النابلسي‪ ،‬بل هو موجود هلل تعاىل‪ ،‬أي بسبب هللا تعاىل‪.‬‬
‫وأما قول النابلسي أبن العاَل موجود بوجود هللا تعاىل‪ ،‬فاإلشكال وحمل جتلي‬
‫املعىن املراد‪ ،‬هو حرف الباء‪ ،‬فقوله (ابهلل) هو الذي عليه دوران املعىن‪ ،‬فالباء كما‬
‫هو معلوم إما أن تكون سببية‪ ،‬وإما للمالبسة‪ ،‬وأما قولنا إن العاَل موجود لغريه وهو‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬فالالم هنا هي الم السببية‪ ،‬وال إشكال هنا فاملعىن املراد واضح وغري‬
‫حمتمل‪ ،‬كما عند النابلسي‪ .‬فالباء إذا أريد هبا املالبسة‪ ،‬فيصبح العاَل مالبس لوجود‬
‫هللا تعاىل عند النابلسي‪ ،‬وهو ما يريده القائلون بوحدة الوجود‪ ،‬فال وجود لغري هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬وأما لو أريد هبا السببية‪ ،‬فريجع املعىن إىل كالم أهل السنة وهو ما خيالفونه‬
‫صراحة بقوهلم إنه ال وجود لغري هللا تعاىل‪.‬‬
‫والعجب من استعمال النابلسي حرف الباء هنا ووضوح إرادته ملا قلناه‪ ،‬ومع‬
‫ذلك يوجد بعض املتعصبني من أتباعه‪ ،‬يقولون‪" :‬رمبا أراد معىن السببية"‪ ،‬يظنون‬
‫أهنم بذلك األسلوب يزيلون اخلالف ويرفعونه‪ ،‬وهيهات‪ ،‬فال ترتفع اخلالفات برمبا‬
‫وليت ولعل‪.‬‬
‫وتكريره استعمال حرف الباء هنا دليل على إرادته للمعىن الذي ذكرانه‪.‬‬
‫مث قال النابلسي‪:‬‬
‫"وكالم احملققني من أهل هللا تعاىل يف مسألة الوجود من أعلى عليني‪ ،‬وكالم‬
‫غريهم فيها من أسفل سافلني‪ ،‬وكون املراد ابلوجود ما به كل موجود موجود يف‬
‫القدمي واحلادث أقرب إىل التحقيق‪ ،‬فإنه ال غىن للموجود املمكن عن الوجود القدمي‬
‫‪50‬‬
‫أصالا‪ ،‬فوجوده هو وجوده‪ ،‬وذات املوجود املمكن وصورته غري املوجد القدمي‪ ،‬فهما‬
‫اثنان والوجود الذي مها موجودان به وجود واحد‪ ،‬هو للقدمي ابلذات واحلادث‬
‫ابلغري‪ ،‬فالقدمي موجود بوجود هو عني ذات القدمي‪ ،‬وليس احلادث هو عني ذات‬
‫القدمي‪ ،‬وال القدمي هو عني ذات احلادث‪ ،‬بل كل واحد منهما مباين لآلخر يف ذاته‬
‫وصفاته وإن اجتمعا يف الظهور ابلوجود الواحد وثبوت العني به‪ ،‬فإن الوجود الواحد‬
‫للقدمي ابلذات وللحادث ابلقدمي ال بذاته‪ ،‬فالوجود الواحد يف القدمي وجود مطلق‬
‫على وجه ال أعظم منه‪ ،‬ويف احلادث وجود مقيد على وجه يليق ابحلادث أدىن من‬
‫الوجه األول دنوا صادرا من جهة القدمي‪".‬‬
‫يقطع النابلسي هنا أبن كالم القائلني بوحدة الوجود كالم ال ريب يف‬
‫صحته‪ ،‬وأنه ليس قابالا للنقض وال للمراجعة‪ ،‬ولكن احلقيقة أن كالمه اشتمل على‬
‫مغالطات نبينها فيما يلي‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬إن ما به كل موجود موجود هو الوجود فعالا‪ ،‬ولكن ال يلزم لكي‬
‫تصح هذه العبارة أن يكون الوجود واحدا‪ ،‬كما يدعيه النابلسي وغريه‪ ،‬بل تصح‬
‫هذه العبارة مع القول بتعدد وتكثر الوجود‪ ،‬فوجود كل موجود هو عني ذلك‬
‫املوجود‪ ،‬وليس أمرا غريه‪ ،‬وهذا هو مذهب اإلمام األشعري‪ ،‬ولكن النابلسي‪ ،‬يقول‬
‫إن كل موجود إمنا وجوده هو عني وجود هللا تعاىل‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬يصرح النابلسي أن وجود كل ممكن إمنا هو عني وجود هللا تعاىل‪،‬‬
‫واالختالف إمنا هو يف كون املمكن صورة ومظهرا من مظاهر احلق‪ ،‬واحلق ليس‬
‫شيئا من هذه الصور‪ ،‬بل هذه الصور إمنا تنسب إىل الوجود نسبة إضافة ال غري‪،‬‬
‫كما تنسب العرض إىل اجلوهر‪ ،‬فصور املمكنات اتبعة لوجود احلق‪ ،‬وال وجود هلا‬
‫يف أنفسها‪.‬‬
‫وأهل السنة يقولون‪ :‬إن كل ممكن حيتاج يف وجوده وبقائه إىل هللا تعاىل‪ ،‬ال‬
‫من حيث إنه ال يقوم إال بذات هللا تعاىل‪ ،‬ولكن من حيث إنه ال ميكن حتققه يف‬
‫‪51‬‬
‫اخلارج إال إبجياد هللا تعاىل له وتعلق قدرته جل شأنه به‪ ،‬فما دام تعلق القدرة اثبتا‬
‫فإن املمكن موجود‪ ،‬وإذا انقطع هذا التعلق انعدم املوجود املمكن‪ ،‬وواضح أن هذا‬
‫جل شأنه كما يقول به أهل‬ ‫القدر ال يستلزم قيام الصورة املمكنة بعني وجود احلق َّ‬
‫الوحدة‪.‬‬
‫اثلثاً‪ :‬االثنينية اليت يقول هبا النابلسي ليست هي اثنينية وجودية‪ ،‬بل هي‬
‫اثنينية املظهر والوجود‪ ،‬وهي اثنينية الصورة والوجود الذي هو وجود الواحد احلق‪.‬‬
‫فالوجود الذي به توجد ذات املمكن وصورته هو وجود واحد وهو وجود هللا تعاىل‪.‬‬
‫فيثبت موجودان بوجود واحد‪ ،‬املوجود األول هو املمكن واملوجود الثاين هو‬
‫احلق تعاىل‪ ،‬ومها موجودان بوجود واحد‪ ،‬وحقيقة املوجود املمكن غري حقيقة املوجود‬
‫القدمي‪ ،‬ألن املمكن ما هو إال صورة ال قيام هلا إال بذات القدمي‪ ،‬كمظهر له واعتبار‬
‫من اعتباراته‪ ،‬ووجود القدمي هو عني ذاته‪ ،‬ولكن وجود املمكن هو غريه ألنه عني‬
‫وجود القدمي‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫وحدة الوجود قريبة من احللول واالحتاد‬
‫نعم إن مذهب وحدة الوجود قريب من احللول واالحتاد‪ ،‬ولكن بفارق أن‬
‫احللول واالحتاد يستلزم أكثر من موجود‪ ،‬ووحدة الوجود‪ ،‬ينفي ذلك‪ ،‬ورمبا كان هذا‬
‫هو السبب يف أن العلماء املتقدمني كانوا ينسبون إىل القائلني ابلوحدة‪ ،‬القول‬
‫ابحللول واالحتاد‪ ،‬وذلك لعالقتهما القريبة‪.‬‬
‫إن القائل بوحدة الوجود يقول إن اإلنسان يتخلص من مالحظة القيودات‬
‫الومهية احلادثة واليت هبا يرى لنفسه وجودا مستقالا عن وجود هللا‪ ،‬وهذه التقييدات‬
‫مر بيانه‪ ،‬فإن ختلص العارف من مالحظة وهم‬ ‫ما هي إال اعتبارات عدمية كما َّ‬
‫الوجود املستقل‪ ،‬ظهر له أبن وجوده هو عني وجود هللا تعاىل‪ ،‬فال وجود إال هلل‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫ولكن إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فما هي هذه املوجودات اليت نراها حولنا ؟!‬
‫إن هذا السؤال يكون صعب ا جدا اجلواب عليه على طريقة أهل الوحدة‪،‬‬
‫ولكنهم ال يعدمون طريقة ولو ملفقة‪ ،‬فيقولون بكل وضوح‪ ،‬أبن هذه القيودات ما‬
‫هي إال أوهام ووجودات جمازية‪ ،‬ال حقيقة هلا يف نفس األمر‪ ،‬إال من حيث هي‬
‫مظاهر‪ ،‬واملظهر من حيث هو مظهر ما هو إال اعتبار للظاهر يف هذا املظهر‪.‬‬
‫ولذلك قال النابلسي يف ص‪" :11‬وكذلك وجود هللا تعاىل املطلق إذا ظهر‬
‫على احلوادث املفروضة املقدرة وجوداا مقيداا ال يلزم أن يكون قد تغري عما هو عليه‬
‫من إطالقه‪ ،‬فإنه وجود مطلق ال ينقسم وال يتغري‪ ،‬وكيف املعدوم بغري املوجود‬
‫احلق(]‪ ، )[7‬وإمنا التغري والتبديل واقع يف الذوات احلادثة وصورها‪ ،‬فاهلل تعاىل يغريها‬
‫كيف شاء‪ ،‬ويقلبها من عدمها األصلي إىل وجودها الطارئ الذي هو عني وجوده‬
‫سبحانه فتتصف بوجوده سبحانه على حده كائنا هبا كما كانت متصفة به يف‬
‫‪53‬‬
‫الوجود العلمي من غري أن ينقسم وجوده سبحانه وال يتغري بسبب هذا االتصاف‬
‫املذكور‪ ،‬كما أن املاء الصايف إذا فرضنا وقدران أننا وضعنا فيه زاجا فإنه يصري أسود‬
‫اللون من غري أن يتغري هو يف نفسه وال زال عنه صفاه‪".‬اهـ‬
‫فالنابلسي يرى أن املخلوقات املمكنة تتصف بعني وجود هللا تعاىل‪ ،‬فوجود‬
‫الواجب صار صفة للممكنات‪ ،‬وهذا هو معىن تعبريه أبهنا موجودة به الذي نبهنا‬
‫إليه سابقا‪.‬‬
‫ومثال اللون واملاء الذي وضحه يبني متاما املعىن الذي ننسبه إىل النابلسي‪،‬‬
‫فاملخلوقات (الزاج‪ ،‬اللون) احلادثة أمور قائمة ابلذات احلق والوجود املطلق (املاء)‪،‬‬
‫واملاء يصبح ظاهرا ابللون‪ ،‬ولكن ماهيته ال تتغري كما هو معلوم‪ ،‬فاهلل تعاىل يكون‬
‫ظاهرا ابملخلوقات املمكنة‪ ،‬يف حال أنه ال يتغري عن حقيقته اليت هي الوجود‬
‫املطلق‪.‬‬
‫نص‬
‫وهذا هو مفهوم احللول واالحتاد‪ ،‬أو هو قريب منه‪ ،‬وهو املفهوم الذي َّ‬
‫علماء أهل السنة على أن القائل به كافر‪.‬‬
‫وقد الحظ النابلسي هذا املعىن ولذلك حاول بكل سرعة أن ينفيه عن‬
‫األذهان‪ ،‬ولذلك أكمل قائالا‪" :‬وكذلك إذا فرضنا وقدران أن فيه زجنفرا فإنه يصري‬
‫أمحر اللون وهكذا مجيع األلوان‪ ،‬واملاء ال يتغري أصالا يف نفسه وال يزول صفاه عنه‪،‬‬
‫ومها شيئان ماء وزاج أو ماء وزجنفر‪ ،‬ال شيء واحد لكنه ماء حمقق وزاج أو زجنفر‬
‫مفروض مقدر‪ ،‬ومها موجودان بوجود واحد‪ ،‬وهو وجود املاء فقط‪ ،‬وليس الزاج‬
‫املفروض موجوداا بوجود آخر عني وجود املاء‪ ،‬بل ال وجود له أصالا مع وجود املاء‪،‬‬
‫والوجود للماء وحده‪ ،‬ولكنه استعري للزاج املفروض املقدر أو الزجنفر وجود املاء‬
‫لكونه مفروضاا مقدراا فيه وال حال يف املاء شيء‪ ،‬وال احتد املاء مع ذلك الزاج‬
‫املفروض املقدر‪ ،‬وال الزاج مع املاء وإمنا مها حقيقتان ماء حقيقي موجود بنفسه وزاج‬

‫‪54‬‬
‫أو زجنفر مفروض مقدر ال وجود له بنفسه‪ ،‬بل بوجود املاء الفارض املقدر له‬
‫فيه‪".‬اهـ‬
‫لو اكتفى النابلسي هبذا املثال على صورته السابقة بدون تقييد كما فعل‬
‫هنا‪ ،‬ملا كان املثال كافيا لبيان وحدة الوجود‪ ،‬ولذلك حاول يف هذه الفقرة أن يبني‬
‫أصر على أنه جمرد أمر مفروض ومقدر‬ ‫كيف أن اللون ال وجود له يف نفسه‪ ،‬و َّ‬
‫فقط‪ ،‬وأىن له ذلك‪ ،‬فال أحد جيهل أن اللون له وجود يف نفسه‪ ،‬ولذلك خيلط‬
‫ابملاء‪ ،‬واللون الذي ظهر املاء به هو لون الزجنفر أو الزاج‪ ،‬ال جمرد لون مفروض‬
‫مقدر‪ ،‬كما يدعي النابلسي‪.‬‬
‫وإذا كان األمر كما نقول‪ ،‬فإن احلقيقة أن ما هنا هو حلول واحتاد ال وحدة‬
‫وجود‪ .‬أو هو اختالط ومزج بني أمرين وليس جمرد أمر واحد كما يريده النابلسي‪.‬‬
‫وأان أتعجب كيف يقول النابلسي أبن اللون ما هو إال أمر مقدر ومفروض‬
‫واحلال أن له حقيقة يف نفسه بدون املاء‪ ،‬وهذا القدر ال ينكره أحد‪.‬‬
‫حل يف املاء‪ ،‬واحتد به نوع احتاد‪،‬‬
‫وكيف ينفي النابلسي أن يكون الزجنفر قد َّ‬
‫واحلال أن هذا هو الواقع ابلفعل يف اخلارج‪ ،‬وهو أمر ال جيوز أن يكون مورد الشك‬
‫والقلق‪.‬‬
‫فاحلاصل أن هذا املثال يبني أن وحدة الوجود مستحيلة‪ ،‬وال بد من فرض‬
‫الكثرة‪ ،‬ليستقيم لنا بيان اخللق‪ ،‬وال ميكن أن يكون اخللق واملخلوقات جمرد أمور‬
‫مقدرة ومفروضة‪ ،‬كما يدعي أصحاب هذا املذهب الغريب‪.‬‬
‫ونقول للنابلسي‪ :‬نعم ميكن أن تقول أبن الوجود اجلوهري واحد‪ ،‬ولكن‬
‫التعدد والتكثر الظاهر انتج من احتاد أعراض ممكنة هبذا الوجود اجلوهري‪ ،‬وعلى كل‬
‫قدرت املعىن‪ ،‬فإنه ينتج عندان أن الوجود الذي به تقوم األكوان‬
‫األحوال‪ ،‬ومهما َ‬
‫واأللوان يتغري وتبدل ويتحد بغريه وحيل فيه غريه‪ ،‬سواء كان هذا الغري عرضا أم‬
‫جوهرا‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫مث تعرض النابلسي لكون الوجود مشرتكا‪ ،‬فقال‪" :‬إن الوجود مشرتك حبسب‬
‫الظاهر بني املوجود احملقق وهو املاء‪ ،‬وبني املفروض املقدر وهو الزاج أو الزجنفر‪ ،‬فال‬
‫ميتنع أن يكون مشرتكاا أصالا يف حقيقة األمر‪ ،‬كما أن اللفظ الواحد إن كان مشرتكاا‬
‫يف االستعمال بني معناه احلقيقي املوضوع ومعناه اجملازي املوضوع له‪ ،‬ال ميتنع أن ال‬
‫يكون مشرتكا أصال يف الوضع‪ ،‬بل الوجود هو وجود املاء احملقق وحده‪ ،‬والزاج‬
‫والزجنفر املفروض املقدر له وجود آخر مفروض مقدر مثل هو عني ذاته ونفس‬
‫صورته" اهـ‪.‬‬
‫كذا قال‪ ،‬واحلقيقة أن الكالم يف االشرتاك إما أن يكون على اللفظ‪ ،‬أو‬
‫على مصداق الوجود‪ ،‬أي ما يقع عليه لفظ الوجود يف اخلارج أو يف نفس األمر‪.‬‬
‫فإن كان على اللفظ‪ ،‬فهذا يلزم عنه أن يكون الوجود احلقيقي أمرا واحدا‪ ،‬والثاين‬
‫جمازا‪ ،‬واجملاز يف الوجود إما أن يستلزم نفي التكثر فيه أصالا‪ ،‬أو ال يستلزم‪ ،‬فإن‬
‫استلزم‪ ،‬فهو وحدة الوجود‪ ،‬وإال فإن اخلالف يكون لفظي ا فقط‪ ،‬أو أن يكون لفظ‬
‫الوجود واقعا على حقيقتني خمتلفتني اثبتتني يف اخلارج‪ ،‬وهذا القول هو قول اإلمام‬
‫األشعري‪ ،‬فإنه قائل أبن وجود كل شيء هو عني ذلك الشيء‪ ،‬أي إن الوجود ليس‬
‫زائدا على حقيقة املوجود‪ ،‬بل هو عينه‪.‬‬
‫وأما مذهب اإلمام الرازي فهو قائل أبن الوجود عبارة عن لفظ واقع على‬
‫معىن واحد فقط‪ ،‬هو مشرتك اشرتاكا معنوايا بني الواجب واملمكن‪ ،‬واشرتاكه اشرتاك‬
‫يف العروض ال يف احلقيقة الستحالة اشرتاك أمر حقيقي بني الواجب واملمكن‪.‬‬
‫وقد وضح النابلسي االشرتاك على غري حقيقته اليت ذكرانها‪ ،‬بل خلط بني‬
‫االشرتاك يف اللفظ وبني االشرتاك يف املصداق‪ ،‬وهو االشرتاك اخلارجي‪ ،‬واحلقيقة أن‬
‫ال اشرتاك عنده‪ ،‬ألن االشرتاك يشرتط فيه سبق التكثر‪ ،‬وال تكثر على مذهب‬
‫وحدة الوجود‪ ،‬فكيف يقال ابالشرتاك‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫مث حاول النابلسي بعد ذلك أن يؤول مذهب اإلمام األشعري واإلمام الرازي‬
‫ليكوان متوافقني مع ما يقول به هو من وحدة الوجود‪ ،‬وكالمه ال قيمة له‪ ،‬فقد قال‪:‬‬
‫"بل الوجود هو وجود املاء احملقق وحده‪ ،‬والزاج والزجنفر املفروض املقدر له وجود‬
‫آخر مفروض مقدر مثل هو عني ذاته ونفس صورته مثلما قال األشعري رمحه هللا‬
‫تعاىل وزاد على ذاته وصورته كما قال الفخر الرازي وهو مذكور يف مواضع من علم‬
‫الكالم‪ ،‬يف مبحث الوجود‪ ،‬فإن القائلني بوحدة الوجود مرادهم ابلوجود الوجود‬
‫الذي به صار املوجود موجودا‪ ،‬ال الوجود الذي هو مفروض مقدر‪ ،‬لكن من‬
‫جنسه‪ ،‬فافهم هذا املثال‪ ،‬وهلل املثل األعلى يف السموات‪ ".‬اهـ‪.‬‬
‫ولكن قد تبني لنا أن مذهب األشعري ال ميكن التقاؤه مع مذهب وحدة‬
‫الوجود‪ ،‬ألنه قائل أبن وجود كل شيء عني ذلك الشيء‪ ،‬على املعىن الذي ذكرانه‬
‫سابقا‪ ،‬وأما اإلمام الرازي فقد وضحنا مذهبه أيضا‪ ،‬وال يتفق مذهبه مع قول أهل‬
‫الوحدة‪ ،‬والنابلسي يهمه جدا أن يبني أن مذهب األشعري ال يتعارض مع ما يقول‬
‫به من الوحدة‪ ،‬ال ألن كالم األشعري وال ألن كالم الرازي مهم جدا عنده‪ ،‬بل ألن‬
‫أكثر العلماء يف اإلسالم يتبعون هذين اإلمامني‪ ،‬وأما عنده فإن كلمة واحدة من‬
‫ابن عريب ‪-‬الذي يتعلم بواسطة املكاشفة الصرحية‪ ،‬وابرتفاع احلجاب بينه وبني احلق‬
‫تعاىل!‪ -‬تغنيه عن كالم كثري للرازي واألشعري مع ا‪.‬‬
‫وتفسريه الوجود عند أهل الوحدة أبنه الذي به صار كل موجود موجودا‪ ،‬ال‬
‫يكفي ليدلل على صحة مذهبه‪ ،‬ألن الوجود اخلاص لكل ممكن أخرجه هللا‬
‫تعاىل من العدم إىل الوجود‪ ،‬هو الذي به يصري هذا املمكن موجودا‪ ،‬فإنه وجوده‬
‫اخلاص‪ ،‬وقولنا إن الوجود اخلاص هو الذي به صار املمكن موجودا‪ ،‬ال يستلزم أن‬
‫يكون علة كل ممكن عني ذاته‪ ،‬بل علة كل ممكن وسببه هو تعلق قدرة هللا تعاىل‪،‬‬
‫ولكن هذا املمكن ال يقوم يف اخلارج يف ذات هللا تعاىل وال بوجود هللا تعاىل كما‬
‫يقول أهل الوحدة‪ ،‬بل يقوم بعني ذات اليت هي الوجود اخلاص‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫واملثال الذي وضحه النابلسي ال يربئه من القول بوحدة الوجود ابملعىن الذي‬
‫وضحناه حنن سابقا‪ ،‬وال تنفي عنه الشنائع اليت تلزم القائلني ابلوحدة‪.‬‬
‫إن املشكلة الكربى عند النابلسي هي أنه ال يتصور قيام أي ممكن إال بعني‬
‫ذات هللا تعاىل‪ ،‬وبعني وجود احلق تعاىل‪ ،‬وسواء عنده يف ذلك للممكن العرض أو‬
‫املمكن اجلوهر‪.‬‬
‫والتناقض الكبري الواضح عند القائلني ابلوحدة‪ ،‬هي قوهلم أن كما قال‬
‫النابلسي ‪":‬املخلوق ابلنظر إىل ذاته إمنا هو عدم صرف‪ ،‬وإمنا وجوده بوجود هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬فالوجود هلل تعاىل وحده وإن وجد به ما سواه"‪.‬اهـ‪ ،‬فكيف يكون املخلوق‬
‫املمكن عدما صرفا يف ذاته ويكون قائما بذات هللا تعاىل‪ ،‬وكيف يكون يف ذاته‬
‫عدم ا صرف ا وهللا تعاىل خالقه‪ ،‬أخيلق هللا تعاىل عدم ا صرف ا‪ ،‬أم يقوم يف ذاته تعاىل‬
‫عدم صرف‪.‬‬
‫وال يضطر أحد إىل القول مبذهب وحدة الوجود إذا تنبه إىل احلقائق اليت‬
‫بيناها فيما مضى‪ ،‬من الفرق بني قيام الشيء يف نفسه وبنفسه ولنفسه‪ ،‬أو قيامه‬
‫بغريه أو لغريه‪ ،‬فإن اإلنسان إذا أتمل يف هذه املعاين َل يبق عنده حمل للشك والرتدد‬
‫يف عدم احلاجة إىل القول حبدة الوجود‪.‬‬
‫واحلقيقة أن الوحدة املطلقة عند أهل السنة ال ترجع إىل الوحدة يف الوجود‪،‬‬
‫بل إىل الوحدة يف األفعال‪ ،‬ولذلك فإهنم أرجعوا كل شيء إىل كونه خملوقا هلل تعاىل‪،‬‬
‫وَل يقولوا إن كل شيء موجود ابهلل تعاىل‪ ،‬ألن ذلك يلزم أن يكون كل شيء عرض ا‪،‬‬
‫الستحالة قيام اجلوهر ابجلوهر‪ ،‬ويلزم بعد ذلك قيام األعراض ابلذات اإلهلية وهو‬
‫مستحيل‪.‬‬
‫والنابلسي يرفض إثبات وجود آخر غري وجود هللا تعاىل‪ ،‬ويعترب كل من أثبت‬
‫وجود اثنيا للمخلوقات فإنه يلزمه إثبات املضاهاة التامة بني العاَل واملعلوم‪ ،‬والصانع‬
‫واملصنوع‪ .‬وهذا اإللزام كما تراه أيها القارئ إلزام ابطل‪ ،‬ال يلزم من أثبت أكثر من‬

‫‪58‬‬
‫موجود‪ ،‬ألنه يقول مع كثرة املوجودات‪ ،‬إن حقائقها خمتلفة‪ ،‬وليست حقائقها‬
‫متساوية‪ ،‬فمن أين يلزمه إثبات املضاهاة بني اخلالق واملخلوق؟! فما هذا الكالم إال‬
‫جمرد اهتام ال دليل عليه من النابلسي كأكثر ما يف هذا الكتاب‪ ،‬ساحمه هللا‪.‬‬
‫وأما عند النابلسي فحقيقة املخلوق خمتلفة اختالفا اتما عن حقيقة الواجب‪،‬‬
‫ألن حقيقة املخلوق عدم صرف‪ ،‬وحقيقة الواجب وجود اتم‪ ،‬فال مشاهبة بينهما‪،‬‬
‫‪":‬ألن املفروض املقدر يف نفسه عدم صرف‪ ،‬وكيفية الوجود حيل به يف العدم‪،‬‬
‫وكذلك ال يتصور أن يتحد معه أصال‪ ،‬ألن احلقيقتني متباينتان تباينا كليا‪ ،‬حبيث ال‬
‫مشاهبة بينهما أصالا‪ ،‬فحقيقة احلق وجود صرف مطلقا حىت عن اإلطالق ألنه قيد‪،‬‬
‫وحقيقة املفروض املقدر عدم صرف مقيد‪ ".‬اهـ‪.‬‬
‫هذا هو ما يعتقده النابلسي والقائلون بوحدة الوجود معه‪ ،‬فوجود املخلوقات‬
‫متوهم‪ ،‬واحلقيقة أهنا غري موجودة‪ ،‬بل هي عدم صرف‪ ،‬وهي وجود مقدر يف وجود‬
‫هللا تعاىل‪.‬‬
‫مث قال النابلسي‪" :‬واألمر كله راجع على كل حال إىل وجود هللا تعاىل عن‬
‫اجلميع‪ ،‬فوجود هللا تعاىل هو الوجود‪ ،‬والوجود كله بال وجود هللا تعاىل عدم صرف‪،‬‬
‫فال وجود إال وجوده تعاىل‪ ،‬فكلهم قائلون بوحدة الوجود طوعا أو كرها‪ ".‬اهـ‪.‬‬
‫الوجود القائم بذاته لذاته ال أحد يعدده‪ ،‬وال أحد يقول بكثرته‪ ،‬ولكن‬
‫الوجود املستقل يف القيام بذاته‪ ،‬وإن كان معلوال ومسبَّبا لغريه‪ ،‬فأكثر اخللق والعقالء‬
‫أىن له‬
‫يقولون به‪ ،‬والنابلسي حياول بكل طريقة أن يلزم الناس بوحدة الوجود‪ ،‬و َّ‬
‫ذلك‪ ،‬ووحدة الوجود عنده أن ال يكون مثة موجود إال هللا تعاىل‪ ،‬وسائر األمور‬
‫األخرى من املمكنات قائمة بذاته‪ ،‬اتبعة له يف الوجود‪ ،‬بل وموجودة بنفس وجوده‪،‬‬
‫وهذا املذهب ضعيف ال دليل عليه إال جمرد حتكمات وتومهات كشف ومعاينة‪.‬‬
‫وكيف أمكن للنابلسي أن جيزم ههنا أن اجلميع يلزمهم القول بوحدة الوجود‬
‫على املعىن الذي يقول به هو‪ ،‬واحلال أن أكثر املتكلمني الذين يسميهم هو‬

‫‪59‬‬
‫ومجاعته أصحاب الرسوم‪ ،‬ينفون وحدة الوجود‪ ،‬ويثبتون كثرته‪ ،‬ولكن مع قوهلم‬
‫بكثرته يقولون ابحتياج سائر املوجودات يف قيامها وبقائها إىل واجب الوجود الواحد‬
‫احلق‪.‬‬
‫وهذا املعىن ليس هو املقصود عند النابلسي‪ ،‬بل هو يريد أن ال يثبت وجود‬
‫قط إال للحق‪ ،‬فكل ما عداه فهو نفي حمض!‬
‫فكيف إذا كان األمر كذلك‪ ،‬يقول النابلسي أن اجلميع يلزمهم القول بوحدة‬
‫الوجود ؟!!‬
‫أليس هذا جمرد هتويل يشابه هتويالت اجملسمة كابن تيمية عندما يدعون أن‬
‫سائر العقالء يلزمهم القول ابجلهة أو أهنم يثبتون اجلهة هلل تعاىل؟!‬
‫إن مثل هذه املباحث ال يليق ابلعاقل أن يتبع هذه الطريقة من التهويل‪،‬‬
‫ألهنا إن جازت على العامة والغافلني من الناس‪ ،‬فإهنا ال جتوز على العقالء الناهبني‪،‬‬
‫واألمر موقوف أخريا على اقتناع العقالء ألهنم هبم يقتدي العامة‪ ،‬بل إن هذا‬
‫التشدد يرتك أثرا سلبيا كبريا يف نفوس العوام والعلماء‪ ،‬فيدفع العوام إىل التعصب‬
‫والتشدد‪ ،‬ويدفع العلماء إىل مهامجة هذا املذهب بشدة وقسوة كما حصل عند‬
‫البعض‪ ،‬فال يستفيد أصحاب هذا املذهب إال مناصرة جاهل وعداء عاَل‪.‬‬
‫وملا كان النابلسي غارق ا حىت أذنيه يف القول بوحدة الوجود‪ ،‬توهم أنه ال‬
‫دليل واحد عند املخالفني من العلماء املتكلمني‪ ،‬فقال ص‪":17‬واحلاصل أن مجيع‬
‫حق معهم يف الطعن على القائلني بوحدة الوجود من احملققني‬‫علماء الظاهر ال َّ‬
‫العارفني القائلني بذلك على وجه احلق والصواب كما ذكران"‪.‬اهـ‬
‫وهو يوهم بذلك أن املخالفني لوحدة الوجود من العلماء إمنا خيالفوهنا لكوهنم‬
‫َل يتبني هلم املعىن الصحيح من هذا املذهب‪ ،‬وهو ادعاء بعيد‪ ،‬ال برهان عليه‪ ،‬بل‬
‫الرباهني قائمة على أن املخالفني قد فهموا متام الفهم معىن الوحدة‪ ،‬وردوا عليها‬
‫أبدلة صحيحة‪ ،‬وأتمل كيف يسمي املخالفني لوحدة الوجود بعلماء الظاهر‪،‬‬

‫‪60‬‬
‫ويسمي القائلني هبا ابلعارفني احملققني‪ ،‬وهذه التسمية تداولوها كابرا عن كابر‪،‬‬
‫وتناقوهلا حىت صارت عالمة عليهم‪ ،‬وال يريدون هبا إال التنقيص من علم علماء‬
‫الشريعة‪ ،‬الذين أيخذون ابلظاهر من العقول واملنقول‪ ،‬وهذه هي الطريقة احلقة‪،‬‬
‫ويريد أصحاب الوحدة بذلك إعالء مذهبهم وأصحاهبم‪ ،‬بوصفهم أبمساء عالية‬
‫املعاين مثل احملققني‪ ،‬والعارفني‪ ،‬واملكاشفني‪ ،‬وال ينخع هبذه الطريقة إال العوام كما‬
‫قلنا‪ ،‬بل إن هذه الطرق اليت يتبعها أصحاب املذاهب الباطلة عالمة على بطالن‬
‫أقواهلم فإهنم ال جيدون ما يتشبثون به إال مثل هذه الطريق والوسائل الدعائية القائمة‬
‫على جمرد الرتويج الذي ال حاصل حتته‪ ،‬إال طلب خداع العوام‪ ،‬وأتييدهم‪.‬‬
‫ولو كان أصحاب هذه الطريقة قائلون ابحلق ومعهم األدلة على ذلك‪ ،‬ملا‬
‫ركنوا إىل مثل هذه الطرق املكشوفة‪ ،‬بل متسكوا أوالا بذكر األدلة وإفحام اخلصوم‬
‫كما فعل أصحابنا من املتكلمني من أهل السنة‪ ،‬ومن بعد ذلك ميكنهم أن يسموا‬
‫أنفسهم مبا يشاؤون من األمساء‪ ،‬ولكن ذلك ال يكون إال بعد إقامة احلجة‪ ،‬وال‬
‫يكون هو بعينه احلجة‪ ،‬فما هذه األمساء إذن إال أمساء يـَتَ َسمو َن هبا ال حاصل‬
‫حتتها‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫املعىن الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي‬
‫ملا ذكر النابلسي املعىن الذي يعتقد به من وحدة الوجود‪ ،‬أشار إىل أن هناك‬
‫من قال بوحدة الوجود ولكن على معىن ابطل ال يوافقهم هو عليه‪ ،‬وسوف نورد‬
‫كالمه يف بيان املعىن الباطل لوحدة الوجود اآلن‪ ،‬ومن مث نوضحه‪ ،‬ونعلق على‬
‫كالمه‪.‬‬
‫قال النابلسي ص‪" :17‬وأما القائلون بوحدة الوجود من اجلهلة الغافلني‬
‫والزاندقة امللحدين الزاعمني أبن وجودهم املفروض املقدر هو بعينه وجود هللا تعاىل‪،‬‬
‫وذواهتم املفروضة املقدرة هي بعينها ذات هللا تعاىل‪ ،‬وصفاهتم املفروضة املقدرة هي‬
‫بعينها صفات هللا تعاىل‪ ،‬الذين حيتالون بذلك على إسقاط األحكام الشرعية عنهم‪،‬‬
‫وإبطال امللة احملمدية وإزالة التكليف عن نفوسهم‪ ،‬والطعن عليهم بسبب القول‬
‫بوحدة الوجود على هذا املعىن الفاسد طعن صحيح‪ ،‬وعلماء الظاهر مثابون بذلك‬
‫كمال الثواب من امللك الوهاب‪ ،‬والعارفون احملققون معهم يف هذا الطعن من غري‬
‫خالف‪".‬اهـ‪.‬‬
‫مث ذكر كالما عن اجليلي يذم هؤالء‪ ،‬مث قال‪ ":‬انتهى كالمه هذا عن القائلني‬
‫بوحدة الوجود على حسب ما ذكرانه من املعىن الفاسد‪ ،‬ولكن علماء الظاهر إذا‬
‫ترقوا من الطعن يف هؤالء الرعاع السفلة املارقني من الدين مروق السهم من الرمية‬
‫إىل الطعن يف تلك السادة األئمة العارفني احملققني‪ ،‬بظنهم أهنم يقولون بوحدة‬
‫الوجود مثل قوهلم‪ ،‬كان ذلك أمرا شنيعا يف الدين‪ ،‬وال يـُرْ ِضي مَنْ يـُْؤِمنُ ابهلل واليوم‬
‫اآلخر‪".‬اهـ‬
‫إذن فاملعىن الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي هو أن يعتقد اإلنسان أن‬
‫وجوده املقيد املفروض هو عني وجود هللا تعاىل‪ ،‬وتوضيح ذلك ابالعتماد على ما‬

‫‪62‬‬
‫مر‪ ،‬أن هناك أمرين‪ ،‬األول هو الوجود املطلق‪ ،‬وهو عني وجود هللا تعاىل‪ ،‬والثاين‬ ‫َّ‬
‫هو التقييدات الواردة على هذا الوجود‪ ،‬وهي اليت يسميها أهل الوحدة ابلصور‬
‫واملظاهر‪ ،‬والتقييدات‪ ،‬فيثبت أمران‪ ،‬فوجود هللا تعاىل عند النابلسي‪ ،‬هو ذلك‬
‫الوجود املطلق عن كل قيد حىت عن قيد اإلطالق‪ ،‬وأما الوجود املقيد فهو الوجود‬
‫املمكن‪ ،‬وهو يف احلقيقة ليس موجودا بل هو عدم حمض‪ ،‬ال حتقق له‪ ،‬وال وجود‪،‬‬
‫وإطالق الوجود عليه جمرد أمر جمازي‪ ،‬يصح نفيه على قوانني اللغة‪.‬‬
‫فهذا هو خالصة معىن وحدة الوجود‪ ،‬وأما املعىن الباطل الفاسد الذي ينبه‬
‫عليه النابلسي ويذم القائلني به‪ ،‬فهو القول أبن هذا الوجود املقيد هو عني وجود‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬فاحلاصل أن هذا القول يؤدي إىل أن هناك احتادا بني املوجودات‪،‬‬
‫وجمموعها يسمى بوجود هللا تعاىل‪ ،‬وليس هو وحدة وجود‪ ،‬ورمبا لذلك نفى‬
‫النابلسي هذا املعىن‪ ،‬فنسبة القيد إىل املطلق ابطل‪.‬‬
‫فهذا املعىن ابطل عند النابلسي كما هو ابطل عند علماء أهل السنة‪ ،‬ولكن‬
‫النابلسي حيصر البطالن فيه‪ ،‬وحيكم ابلصحة على مذهبه هو‪ ،‬وعلماء أهل السنة‬
‫يبطلون أيضا مذهب النابلسي‪.‬‬
‫والنابلسي يصور املسألة كما لو كان علماء أهل السنة قد الحظوا بطالن‬
‫هذا املعىن الباطل من الوحدة‪ ،‬فتوسلوا به إلبطال املعىن الصحيح الذي يدعيه‬
‫النابلسي وغريه‪ ،‬ويعترب هذا األمر غري موافق للشريعة‪ ،‬ألنه يعتقد أن املعىن الذي‬
‫يقول به النابلسي حق عنده‪.‬‬
‫ولكن احلقيقة أن أهل السنة أبطلوا املعنيني معا‪ ،‬أقصد املعىن الذي يصححه‬
‫النابلسي واملعىن الذي يبطله هو‪.‬‬
‫والنابلسي يعرتض على هذا املوقف‪ ،‬ويريد من علماء أهل السنة أن‬
‫يصححوا املعىن الذي يصححه هو‪ ،‬ويبطلوا املعىن الذي يبطله‪ ،‬هذا هو ما يريده‬
‫النابلسي‪ ،‬وهو منهج غلط وطريق غري صحيح‪ ،‬كما ال خيفى‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫وال يهمنا حنن أن يغضب النابلسي ملخالفة الناس له‪ ،‬بل ما يهمنا هو أال‬
‫يغضب هللا تعاىل‪ ،‬وجتنب غضبه تعاىل إمنا يكون يف اتباع القول احلق ال غري‪ ،‬سواء‬
‫قال به النابلسي أو ال‪.‬‬
‫والوجود املقدر املفروض الذي يثبته النابلسي إمنا هو نفي حمض يف اخلارج‪،‬‬
‫مر بيان ذلك‪ ،‬أو إنه جمرد عرض قائم ابلوجود القدمي‪ ،‬وكل من‬ ‫وليس بشيء‪ ،‬كما َّ‬
‫هذين التقديرين حمض ابطل‪.‬‬
‫واحلقيقة أن نظرة مذهب وحدة الوجود كما يبينها النابلسي وهي عينها اليت‬
‫يقول هبا ابن عريب‪ ،‬غريبة جدا‪ ،‬أي أستغرب أن يقول هبا واحد من املسلمني‪،‬‬
‫وجهة الغرابة تتجلى يف قول النابلسي ص‪":19‬والوجود املفروض املقدر عدم صرف‬
‫يف نفسه‪ ،‬وإمنا الوجود احملقق وجود احلق تعاىل وحده اخلالق‪ ،‬أي الفارض املقدر‬
‫لكل شيء‪ ،‬أو املوجد بطريق الفرض والتقدير لكل شيء‪ ،‬وال يقال لو كان كل‬
‫شيء من املخلوقات مفروضا مقدراا ملا كان كما نشاهده حمسوساا ومعقوالا اثبتاا‬
‫موجوداا حمققاا‪ ،‬ألان نقول فرض هللا وتقديره لوجودات األشياء يف أعياهنا‪ ،‬ليس‬
‫كفرضنا حنن وتقديران للشيء املعدوم‪ ،‬وقد جعل هللا تعاىل ما نفرضه ونقدره‪ ،‬أنزل‬
‫رتبة منا ليكون ذلك فينا مثاال ملا يفرضه هللا تعاىل ويقدره من وجودات األشياء‬
‫املعدومة‪ ،‬وأهنا أنزل منه تعاىل يف الوجود‪".‬اهـ‬
‫أرأيت وجه الغرابة فيما نقلناه عن النابلسي‪ ،‬إن املوجودات عنده جمرد تقدير‬
‫يف ذات هللا تعاىل‪ ،‬وجمرد فرض وتقدير يف نفسه جل شأنه‪ ،‬والتقدير والفرض ليس‬
‫مثل املق ِد ِر والفارض‪ ،‬ومثل لتوضيح ذلك املعىن‪ ،‬ما نفرضه ونقدره يف أنفسنا‪ ،‬فإنه‬
‫ُ‬
‫أنزل منا وجودا ورتبة‪ ،‬وال ينفي ذلك أنه جمرد فرض وتقدير‪ ،‬وهذا الفرض والتقدير‬
‫حمله يف أنفسنا وليس يف اخلارج‪ ،‬فال وجود له إال من جهة كونه تقدير وفرض قائم‬
‫يف أنفسنا‪ ،‬واملخلوقات كذلك ما هي إال جمرد تقديرات وفرضيات يف نفس هللا‬
‫تعاىل وهو الوجود احلق عنده‪ ،‬وكما أن ال قيام هلذه التقديرات والفرضيات إال يف‬

‫‪64‬‬
‫نفس اإلنسان‪ ،‬فكذلك فإن املخلوقات املمكنة‪ ،‬ما هي إال جمرد تقديرات‬
‫وفرضيات يف نفس هللا تعاىل‪.‬‬
‫فما العاَل كله إال جمرد تقدير للواجب الوجود وهو الوجود املطلق‪،‬‬
‫والتقديرات ما هي إال اعتبارات ونسب قائمة يف ذات هللا تعاىل‪ ،‬ال قيام هلا إال يف‬
‫عني ذات احلق‪ ،‬وهذا هو معىن وحدة الوجود‪.‬‬
‫ووحدة الوجود عند النابلسي هو املذهب احلق‪ ،‬الذي ال ريب فيه‪ ،‬وخمالفه‬
‫كافر‪ ،‬قال النابلسي ص ‪" :19‬فإذا حكمنا على اجلاهل مبا يرى يف مذهب حكمنا‬
‫بكفره حيث أنكر ما هو احلق على أهل احلق‪".‬اهـ‬
‫فوحدة الوجود حق اثبت عند‪ ،‬وعند أصحابه‪ ،‬وخمالفها كافر ال ريب يف‬
‫كفره‪.‬‬
‫وقد وجه النابلسي يف آخر رسالته هذه نصيحة حاصلها أن‪" :‬اجلاهل الذي‬
‫ال يعرف علوم األذواق‪ ،‬وإمنا علمه الذي هو غري عامل به أيضاا‪ ،‬مأخوذ من‬
‫الكتب واألوراق له مندوحة عن اإلنكار‪ ،‬وهو حتسني الظن ابهلل تعاىل‪ ،‬واالعرتاف‬
‫أبهنم أعلم منه ابهلل تعاىل‪ ،‬وأنه جاهل بكالمهم‪ ،‬فال ضرورة له يف اإلنكار عليهم‪،‬‬
‫مع علمه بكفر من أنكر احلق إمجاعاا‪".‬اهـ‬
‫وحاصل هذه النصيحة أن خمالف وحدة الوجود ابملعىن الذي ذكره النابلسي‪،‬‬
‫هو أن خمالفها ال شك جاهل ابهلل تعاىل‪ ،‬وأن من قال هبا ال شك أنه من العارفني‬
‫الكاملني‪ ،‬الذين ال جتوز خمالفتهم‪ ،‬وال اإلنكار عليهم‪ ،‬فإذا اعتقد املخالف نزول‬
‫مرتبته العلمية عن املثبتني‪ ،‬فإن عليه أن حيسن الظن بكالمهم‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هذه النصيحة مبنية على ابطل وكل ما هو مبين على ابطل فهو‬
‫ابطل‪ ،‬فإن النصيحة جيب أن تكون بعد إقامة احلجة‪ ،‬وَل يقم النابلسي احلجة على‬
‫أحد‪ ،‬بل غاية ما كرره يف كالمه‪ ،‬جمرد وصف القائلني ابلعلم‪ ،‬واملنكرين ابجلهل‪،‬‬
‫ووصفه غري مسلم له‪ ،‬وَل يقم دليالا واحدا على ما قاله‪ ،‬نعم لقد أرجأ االستدالل‬

‫‪65‬‬
‫على ما قاله إىل حمل آخر‪ ،‬وحنن قد تعقبناه يف غري موضع من كتبه اليت ذكر فيها‬
‫بعض األدلة ونقضنا عليه مجيع ما ذكره على أنه دليل وزيفنا كالمه‪ ،‬وبيَّـنَّا أنَّه َل‬
‫يقمه إال على جمرد الوهم‪.‬‬
‫وكيف جيوز للنابلسي أن يستهني مبن استمد علومه من الكتب‪ ،‬وقد أنزل‬
‫هللا تعاىل كتابه هداية للناس‪ ،‬وفرقاانا بني احلق والباطل‪ ،‬وَل جيعل هللا تعاىل حجته يف‬
‫كشف من يسميهم النابلسي ابلعارفني‪ ،‬بل أودع حجته يف كتابه الكرمي‪ ،‬وجعل‬
‫عليها العقل السليم عالمة‪.‬‬
‫وال يقصد النابلسي من ذلك إال جعل الكشف بعينه دليالا على وحدة‬
‫الوجود‪ ،‬وحنن ال نرى للكشف كشفا‪ ،‬وقد نص علماء السنة على أنه ليس من‬
‫طرق العلم واملعرفة عند أهل احلق‪ ،‬والقائلون بوحدة الوجود يعتربون الكشف‬
‫واإلهلام طريق املعرفة األهم‪ ،‬فهم يف ذلك خمالفون ألهل السنة وألهل احلق‪.‬‬
‫وأغرب ما يف الكتاب ما نقله النابلسي عن‪" :‬الشيخ أمحد القشاشي املدين‬
‫رمحه هللا تعاىل يف رسالته يف وحدة الوجود عن ابن كمال ابشا رمحه هللا تعاىل ومن‬
‫خطه نقل‪ ،‬كما صرح بذلك‪ ،‬أنه جيب على ويل األمر أن حيمل الناس على القول‬
‫بوحدة الوجود‪ ".‬اهـ‪.‬‬
‫فسبحان هللا تعاىل‪ ،‬من أوضح حجة وأبني برهاانا‪ ،‬وحدة الوجود‪ ،‬أم ما ذكره‬
‫اإلمام مالك يف موطئه‪ ،‬وقد رفض اإلمام مالك عرض اخلليفة أن حيمل الناس على‬
‫الناس على القول بوحدة‬ ‫ما يف كتابه‪ ،‬ولكننا نرى النابلسي يؤيد أن حيمل اإلمام َ‬
‫الوجود وهو املذهب الذي اشتد اختالف الناس فيه‪ ،‬حىت بلغ من بعض كبار‬
‫العلماء أن يكفر القائل هبا‪ ،‬وحيكم بزندقته‪ ،‬وها حنن نرى النابلسي يقول بوجوب‬
‫القول هبا‪ ،‬وبلزوم محل اإلمام للناس على القول هبا‪ .‬فسبحان هللا تعاىل‪ ،‬فانظر‬
‫أصحاهبا إىل التمسك مبثل هذه املواقف‬ ‫َ‬ ‫كيف تدعو البدعة واالحنراف العقائدي‬
‫املختلَّ ِة الضعيفة لبادئ الرأي‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وما أقرب هذا املوقف إىل موقف املعتزلة الذين اشتطوا وغلوا يف قوهلم خبلق‬
‫القرآن‪ ،‬حىت أوجبوا على الناس أن يقولوا هبا‪ ،‬ولو أهنم تركوا األمر إىل الدليل‪،‬‬
‫وأودعوا هذه املسألة للناس يتجادلون هبا فيما بينهم‪ ،‬ملا أنكر عليهم أحد من الناس‬
‫كما أنكروا‪ ،‬ولكان هلم شأن وأي شأن يف اتريخ املسلمني !!‬
‫وهبذا نكون قد انتهينا من التعليق على ما يف رسالة الشيخ عبدالغين‬
‫النابلسي‪ ،‬ونقدان ما فيها من مدعيات‪ ،‬وأقوال فاسدة‪ ،‬واكتفينا إبشارات واضحة‪،‬‬
‫كما اكتفى مؤلفها مبثل ذلك‪ ،‬ليكون مقابلة الشيء مبثله‪ ،‬وقد تركنا التفصيل يف‬
‫الرد على أدلة القوم يف قوهلم بوحدة الوجود إىل موضع أكثر مناسبة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫الباب الثاني‬
‫وحدة الوجود بيـن الفالسفة‬

‫هــذا البــاب وضــعته لكــي أوضــح بعــض احلقــائق املختلفــة عــن عقيــدة وحــدة‬
‫الوجود‪ ،‬ال من حيـث إن ابـن عـريب والنابلسـي أو غـريهم‪ ،‬قـائلون هبـا‪ ،‬بـل مـن حيـث‬
‫امتــدادها بــني املفك ـرين املتقــدمني واملتــأخرين‪ ،‬وبــني الفالســفة عل ــاختالف مــذاهبهم‬
‫وأوضاعهم‪.‬‬
‫وال أريد أن يكون هذا أترخيا لوحدة الوجود بل جمرد لفت نظر إىل بعض مـن‬
‫قــال هبــا ليتبــني لنــا مــدى االنفعــال احلاصــل بــني القــائلني هبــا‪ ،‬أو مــدى االش ـرتاك يف‬
‫أقواهلم ومذهبهم‪.‬‬
‫إكسينوفان‬
‫إن م ــذهب وح ــدة الوج ــود ممت ــد من ــذ أوائ ــل الفكــر الفلس ــفي وامتداداتــه ال ــيت‬
‫متثلت يف اليوانن‪ ،‬فممن قال بوحدة الوجود إكسينوفان‪.‬‬
‫قال عبد الرمحن بدوي يف كتابه ربيع الفكر اليوانين ص‪" :118‬ومن هنا فمن‬
‫ال ـراجح متام ـا إن إكســينوفان كــان موحــدا‪ ،‬لكــن علــى أي حنــو جيــب أن نفهــم هــذا‬
‫التوحيــد؟ أنفهمــه علــى طريقــة املــؤهلني أم علــى طريقــة القــائلني بوحــدة الوجــود؟ هنــا‬
‫خيتلــف املؤرخــون أشــد االخــتالف‪ ،‬ولكــن خالصــة ال ـرأي أن إكســينوفان كــان يقــول‬
‫بوحدة الوجود وَل يكن يقول ابلتأليه ابملعىن املفهـوم ألنـه مجـع بـني الطبيعـة وبـني هللا‪،‬‬
‫وحتدث عن هللا بوصفه الطبيعة‪ ،‬وعن الطبيعة بوصفها هللا‪ ".‬اهـ‪.‬‬
‫فهــذا الفيلســوف اليــوانين يقــول إذن بوح ـدة الوجــود‪ ،‬وهــو يعتقــد أن هللا هــو‬
‫الطبيعــة‪ ،‬والطبيعــة هــي هللا‪ ،‬وحنــن نفهــم أن بــني هــذا املعــىن لوحــدة الوجــود وبــني مــا‬

‫‪68‬‬
‫وضحناه عن النابلسي فرقا‪ ،‬ولكن خالصة املـذهبني‪ ،‬أنـه ال يوجـد إال موجـود واحـد‬
‫حقيقي يف الكون‪ ،‬البعض يسميه ابإلله‪ ،‬والبعض يسميه ابلطبيعة‪ ،‬ولذلك قال عبـد‬
‫الـ ــرمحن بـ ــدوي عـ ــن إكسـ ــينوفان ص‪" :120‬وإذا نظ ـ ـران إىل إكسـ ــينوفان مـ ــن انحيـ ــة‬
‫الوج ــود ألفين ــاه أوال ينس ــب إىل هللا الص ــفات ال ــيت سينس ــبها اإليلي ــون م ــن بع ـ ُـد إىل‬
‫الوجود‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وحنــن نعلــم أن الصــفات الــيت ينســبها القــائلون إىل الوجــود املطلــق هــي عــني‬
‫الصــفات الــيت ينســبوهنا إىل هللا تعــاىل‪ ،‬مبعــىن أن هللا تعــاىل هــو عينــه الوجــود املطلــق‪،‬‬
‫مر توضيحه سابقا‪ .‬وابلتايل فال يوجد فرق كبري من هذين املذهبني‪.‬‬ ‫كما َّ‬

‫برمنيدس‬
‫إن برمنيدس نظر إىل الوجود على أنه شيء جمرد وليس هو الطبيعة نفسها‪.‬‬
‫ق ــال ب ــدوي يف ص‪" :121‬كم ــا أض ــاف إىل الوج ــود الص ــفات األص ــلية ال ــيت‬
‫جتعل من هذا الوجود كاأللوهية سواء بسواء‪ ،‬وهلذا َل يكن يفرق بني الوجود واآلهلة‪،‬‬
‫ألنه ابتدأ من مسألة الوجود‪ ،‬أبن قال إن الشيء احلقيقي الوحيد هو الوجود‪ ،‬أما ما‬
‫عداه فهو عدم‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وأوضح بدوي مـذهب برمنيـدس ‪" :‬مث إن الوجـود إذا كـان كـذلك فهـو واحـد‬
‫ومطلـق‪ ،‬وذلـك ألنــه إذا َل يكـن واحـدا فمعــىن هـذا أنـه متعــدد‪ ،‬ومعـىن أنـه متعــدد أن‬
‫هنــاك شــيئا آخــر غــري الوجــود بــه يكــون التعــدد والتفرقــة‪ ،‬وملــا كــان الوجــود هــو كــل‬
‫شيء‪".‬‬
‫وهــذه احلجــة هــي نفــس مــا ن ـراه عــد املتــأخرين مــن القــائلني بوحــدة الوجــود‪،‬‬
‫ولعـل برمنيـدس يكـون أقــرب الفالسـفة املتقـدمني إىل مـذهب وحــدة الوجـود كمـا نـراه‬
‫عند ابن عريب والقونوي والنابلسي وغريهم ممن يقول به من اإلسالميني‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫مث قــال‪" :‬وإذن ف ــالوجود ه ــو الكــل‪ ،‬وه ــو واحــد وهــو اثبــت وه ــو أزيل وه ــو‬
‫أبــدي ‪ ،‬واآلن فمــا هــو الفكــر‪ ،‬إن الفكــر ال ميكــن أن يكــون غــري الوجــود‪ ،‬والوجــود‬
‫ال ــذي يعق ــل ذات ــه ه ــو أيض ــا وج ــود‪ ،‬ف ــالوجود والفك ــر إذا‪ ،‬أو الوج ــود واملاهي ــة كم ــا‬
‫سيقال فيما بعد‪ ،‬شيء واحد‪".‬اهـ‪.‬‬
‫إن هـ ــذه الفكـ ــرة هـ ــي فكـ ــرة أصـ ــيلة يف مـ ــذهب وحـ ــدة الوجـ ــود‪ ،‬وهبـ ــا أخـ ــذ‬
‫املتأخرون واملتقدمون منهم‪ ،‬من ابن عريب إىل املال صـدرا‪ ،‬والقونـوي‪ ،‬حـىت الفالسـفة‬
‫األوروبيون القائلون بوحدة الوجود مثل هيجل فقد قالوا هبا أيضا‪.‬‬
‫لقد مجع هؤالء بني الفكر والوجود بل جعلوا الفكر مرتبة من مراتب الوجود‪،‬‬
‫وهللا عند املتأخرين جتلى مبظاهر املمكنات نتيجة جتلي معلوماته يف عني ذاته‪.‬‬
‫نعــم حنــن جنــد يف مــا نقــل مــن كــالم عــن هــؤالء املتقــدمني مــن الفالســفة أهنــم‬
‫ـود املــادي احملســوس‪ ،‬وأحيــاانا يريــدون املعقــول‪ ،‬وهــم يف ذلــك‬ ‫يقصــدون ابلوجــود الوجـ َ‬
‫كمثــل الفالســفة املتــأخرين‪ ،‬حنــو ســبينوزا الــذي قــال بوحــدة الوجــود املاديــة فهــو مــن‬
‫الذين أهلوا الطبيعة‪ ،‬وقريب منه برمنيدس هذا‪ ،‬وإن حتدث عن الوجود من حيث هو‬
‫عقل وجمرد‪.‬‬
‫وغريه طبعوا اإلله‪ ،‬فجعلوا اإلله عني الطبيعة !! وهلل يف خلقه شؤون‪ ،‬فاخللق‬
‫خلق واحلق حق‪.‬‬
‫ول ــذلك ق ــال ب ــدويعن برمني ــدس ص‪" :125‬وخالص ــة م ــا نقول ــه حن ــن ه ــو أن‬
‫الوج ــود عن ــد برمني ــدس ل ــيس ه ــو الوج ــود احلس ــي‪ ،‬كم ــا أن ــه ل ــيس الوج ــود املنطق ــي‬
‫الصرف‪ ،‬بل هو وجـود حـاول صـاحبه أن يرتفـع بـه عـن الوجـود احلسـي‪ ،‬لكـن درجـة‬
‫التجريــد‪ ،‬فيمــا يتصــل ابلوجــود َل تكــن كافيــة لكــي جتعــل مــن هــذا الوجــود وجــودا ال‬
‫حسيا أو وجودا منطقيا‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وحق له أن يكون كذلك عند برمنيدس‪ ،‬فإن الفكـرة َل تكـن بعـد قـد ختمـرت‬
‫يف أذه ــاهنم‪ ،‬وإن ك ــان م ــن أت ــى بع ــده ق ــد ص ــرف ق ــدرا عظيم ــا م ــن طاقات ــه الفكري ــة‬

‫‪70‬‬
‫العقلي‪ ،‬والبعض منهم مزج بينهمـا يف مـذهب‬
‫َّ‬ ‫ليختار أحد اجلانبني‪ ،‬أعين احلسي أو‬
‫َ‬
‫واحد ونظرة عقلية واحدة صرفة‪ ،‬وكل منهم له طريقة تناسبه‪.‬‬

‫فالسفة العصور الوسطى‬


‫قال عبدالرمحن بدوي يف كتابـه خريـف الفكـر اليـوانين يف ص‪" :163‬والطبيعـة‬
‫تنقسم عند رجال العصور الوسطى إىل طبيعة فاطرة وطبيعة مفطورة‪ ،‬والطبيعة األوىل‬
‫هي هللا الذي خيلق األشياء‪ ،‬واألشياء املخلوقة هي الطبيعة اخلارجية‪ ،‬ولكـن اسـبينوزا‬
‫يقول إن الطبيعـة الفـاطرة هـي اجلـوهر‪ ،‬والطبيعـة املفطـورة هـي أحـوال اجلـوهر وصـفاته‬
‫الذاتية‪".‬اهـ‪.‬‬
‫واصـ ــطالح اسـ ــبينوزا يطـ ــابق مفهـ ــوم وحـ ــدة الوجـ ــود الـ ــذي يقـ ــول بـ ــه بعـ ــض‬
‫الصــوفية‪ ،‬إال أن اســبينوزا مييــل إىل وحــدة الوجــود املاديــة‪ ،‬وهــؤالء مييلــون إىل وحــدة‬
‫الوجود اجملردة‪.‬‬
‫وقــال بــدوي يف ص‪" :165‬مث يالحــظ مــن انحيــة أخــرى أن هــؤالء الفالســفة‬
‫السابقني علـى سـقراط َل يضـعوا تفرقـة بـني هللا والطبيعـة‪ ،‬بـل تصـوروا أن الطبيعـة هـي‬
‫هللا‪ ،‬وهللا ه ــو الطبيع ــة‪ ،‬وه ــذا امل ــذهب ه ــو امل ــذهب املع ــروف ابس ــم م ــذهب وح ــدة‬
‫الوج ـ ـ ـود‪ panthiesme ،‬م ـ ـ ــن املق ـ ـ ــدم ‪ pan‬أي ك ـ ـ ــل‪ ،‬والكلم ـ ـ ــة ثي ـ ـ ــوس أي هللا‪،‬‬
‫ومـذهب وحـدة الوجــود يقـول إنــه ال شـيء إال هللا‪ ،‬وأن كـل األشــياء األخـرى ليســت‬
‫غري مظاهر خارجية وأحوال هلل‪ ،‬وعلى هذا األساس قام مـذهب اسـبينوزا الـذي يـرى‬
‫أن هللا هو الكل ويسميه اجلوهر‪ ،‬وينظر إىل اجلوهر أو هللا من انحيتني‪:‬انحيـة الفكـر‬
‫وانحيــة االمت ــداد‪ ،‬أي أن هللا شــيء واح ــد يظهــر علــى ص ــورتني ص ــورة االمت ــداد أي‬
‫املادة وصـورة الفكـر أي الـروح‪ ،‬وإمـا أن يكـون هـذا املـذهب هـو القـول أبن ال شـيء‬
‫إال العــاَل وأن هللا لــيس شــيئا آخــر غــري العــاَل كلــه‪ ،‬والطبيعــة أو العــاَل الــذي هــو الكــل‬
‫هو املادة اليت هي روحية يف اآلن نفسه‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫ومم ــن تص ــوروا أو آمن ـوا مب ــذهب وح ــدة الوج ــود عل ــى ه ــذه الص ــورة دي ــدرو مث‬
‫الطــرف اليســار م ــن املدرســة اهليجلي ــة‪ ،‬وم ــذهب وحــدة الوج ــود ينقســم إىل قس ــمني‬
‫وحدة وجود ابطنة ووحدة وجود صدورية‪ ،‬أما وحدة الوجـود الباطنـة فهـي الـيت تقـول‬
‫أبن هللا ح ــال يف الك ــون‪ ،‬أم ــا وح ــدة الوج ــود الص ــدورية فه ــي ال ــيت تق ــول أبن املب ــدأ‬
‫تصـدر عنـه املوجـودات أو هللا تصــدر عنـه املخلوقـات‪ ،‬وهــذا الصـدور ال ميـس جــوهر‬
‫هللا مطلقا‪، .‬قد كان هـذا النـوع موجـودا خصوصـا عنـد األفالطونيـة احملدثـة‪ ،‬أي عنـد‬
‫مدرسـة اإلســكندرية‪ ،‬ووحــدة الوجـود الباطنــة هــي مـا يســمى تقريبــا ابسـم احللــول ولــو‬
‫أن احللـ ــول فكـ ــرة دينيـ ــة وليسـ ــت فكـ ــرة فلسـ ــفية ابملعـ ــىن احلقيقـ ــي‪ ،‬ومـ ــن هنـ ــا جـ ــاء‬
‫االختالف الدقيق بني كلتا الكلمتني وحدة الوجود واحللول‪.‬‬
‫وإذا قلن ــا إن املب ــدأ احل ــال يف الك ــون واح ــد فحينئ ــذ ميك ــن أن نس ــمي وح ــدة‬
‫الوجــود ابســم الواحديــة ‪ ، monism‬وهــذه الكلمــة أول مــن قاهلــا هــو فولــف املتــو‬
‫ســنة ‪ ،1754‬وقــد عــىن هبــا املــذاهب التوكيديــة الــيت تقــول أبن جــوهر العــاَل واحــد‪،‬‬
‫وعلى هذا تنقسم هذه املذاهب إىل قسمني‪ :‬تلك اليت تقول أبن هذا اجلوهر الواحد‬
‫هــو املــادة كمــا يفعــل املــذهب الواحــدي‪ ،‬أو أن هــذا اجلــوهر الواحــد هــو الــروح كمــا‬
‫يفعــل املــذهب الروحــي أو املثــايل‪ ،‬وهيجــل يعـ ِـرف املــذهب الواحــدي أبنــه املــذهب‬
‫الذي يوحد بني املوضوع ونقيض املوضوع وعن طريق مركب املوضـوع‪ .‬وهـذا املركـب‬
‫موضوع هـو الفكـرة املطلقـة أو الـروح الكليـة عنـد هيجـل‪ .‬ويطلـق علـى هـذا األسـاس‬
‫مــذهب الواحديــة علــى املــذاهب احلديثــة الــيت أتثــرت ابملــذهب أو الفلســفة اهليجليــة‪،‬‬
‫فمذهب براديل يسمى أيضا ابسم املذهب الواحدي ألنه يقول أبن العـاَل عقلـي وأن‬
‫الكــون واحــد‪ ،‬وأن هللا هــو الكــون وأن املــادة ظــاهرة وأن احلـوادث ليســت إال مظــاهر‬
‫فحسب‪ ،‬وهبذا ينكر الفردية وينكر االختالف‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫واملــذهب الــذي يضــاد مــذهب بـراديل هــذا هــو املــذهب الــذي يقــول ابلفرديــة‬
‫والكثــرة واالختالف‪،‬وهــو املــذهب املعــروف ابســم مــذهب التعــدد‪ ،‬وأشــهر رجالــه يف‬
‫العصر احلديث وليم مجس‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وقد سقت هذه الفقرة لتوضيح حقيقة وحـدة الوجـود وبعـض مـن قـال بـه مـن‬
‫القرون املعاصرة‪ ،‬وعلى أي معىن قالوا به‪ ،‬وإنين أرى أنه ال اخـتالف كبـريا بـني أقـوال‬
‫القائلني بوحدة الوجود عل اختالف مفاهيمها عندهم‪ ،‬وبني املعاصرين‪.‬‬

‫اسبينوزا‬
‫س ــوف أه ــتم هن ــا ببي ــان رأي اس ــبينوزا الفيلس ــوف األورويب املعاص ــر اليه ــودي‬
‫األصــل‪ ،‬يف هــذه املســألة‪ ،‬والســبب يف ذلــك أنــه متيــز ب ـرأي مــن بــني فالســفة أورواب‪،‬‬
‫يستحق أن يلتفت إليه‪ ،‬وابلنسبة لبحثنا هذا‪ ،‬فإنه قريب ويف غاية القرب منه‪.‬‬
‫لق ــد أراد وال ــده أن يص ــري حاخام ــا يه ــوداي‪ ،‬كم ــا ق ــال يوس ــف ك ــرم يف اتري ــخ‬
‫الفلس ـ ـ ـ ــفة احلديث ـ ـ ـ ــة ص‪" :106‬ولك ـ ـ ـ ــن داخل ـ ـ ـ ــه الش ـ ـ ـ ــك يف ال ـ ـ ـ ــدين فع ـ ـ ـ ــدل ع ـ ـ ـ ــن‬
‫مشــروعه‪ ،‬وحتــول إىل العلــوم اإلنســانية‪ ،‬وأخــذ يــرتدد علــى األوســاط الربوتســتانتية‪،‬‬
‫فلقي فيها طبيبا تيوصوفيا من القائلني بوحدة الوجود لقنه الطبيعة واهلندسة والفلسفة‬
‫الديكارتية"‪.‬اهـ ‪.‬‬
‫وق ــال ك ــرم يف ص‪" :107‬ي ــتم ع ــرض مذهب ــه بتلخ ــيص ثالث ــة م ــن كتب ــه ه ــي‬
‫إصالح العقل‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والرسالة الالهوتيـة السياسـية‪ ،‬وأصـحها كتـاب األخـالق‪،‬‬
‫فإنــه جــامع يلخــص الكتــب الســابقة ويكملهــا‪ ،‬وقــد هنــج فيــه املــنهج اهلندســي وهــو‬
‫املنهج الالئق مبذهب وحدة الوجود الذي ينزل من الواحد إىل الكثري‪".‬اهـ‪.‬‬
‫إن أهــم كلمــة تــدور حــول فلســفة اســبينوزا هــي كلمــة اجلــوهر‪ ،‬وتنبــين عليهــا‬
‫ض‪ ،‬وهـو يعـين ابجلـوهر كمـا قـال ِو ْل ديورانـت‬ ‫الع َـر ُ‬ ‫مفـاهيم أخـرى عنـده هـي الصـفة و َ‬
‫يف قصة الفلسفة ص ‪" :216‬إننا لـو قـاران اآلن تقسـيمه للعـاَل إىل جـوهر وعـرض مـع‬
‫‪73‬‬
‫تقس ــيمه ل ــه يف كتاب ــه إص ــالح العق ــل إىل نظ ــام أب ــدي للق ـوانني وعالق ــات اثبت ــة م ــن‬
‫جهة‪ ،‬والنظام املؤقت لألشياء الزائلة من جهة أخرى‪ ،‬فإن هذا يسـوقنا النتيجـة وهـي‬
‫أن سبينوزا يعين ابجلوهر هنا تقريبا ما قصده ابلنظام األبدي هناك‪.‬‬
‫فلنعترب ذلك كعنصـر واحـد يف كلمـة اجلـوهر وهبـذا فإنـه يشـري إىل بنـاء الوجـود‬
‫يف ذاتــه الكــامن حتــت كــل األشــياء واحل ـوادث‪ ،‬والــذي يشــري إىل لــب العــاَل‪ .‬ولكــن‬
‫سبينوزا ميثل اجلوهر ابلطبيعة وهللا‪ ،‬وهو يتصور الطبيعة أو الكون ذات مظهرين فهي‬
‫فعالــة حيويــة ابلطبيع ــة م ــن جه ــة‪ ،‬وهــي منفعلــة خملوق ــة م ــن جه ـة أخــرى‪ ،‬وإن ه ــذا‬
‫اجلانب املنفعل هو املادة وما تشتمل عليه الطبيعة اخلارجية مـن غـاابت‪ ،‬وهـواء ومـاء‬
‫وجبال وحقول وعشرات األلوف من األشياء اخلارجية‪ ،‬وهذه الطبيعة كلها من إنتاج‬
‫اجلانب الفعال وخلقه‪ ،‬وعندئذ يكـون يف الكـون قـوة خالقـة ختلـق األشـياء وهـي الـيت‬
‫يسميها (جوهر وهي هللا) وفيه أشياء خملوقة وهي األعراض أو العاَل‪.‬‬
‫ومــن هــذا يتضــح لنــا أن ســبينوزا يقســم الكــون إىل جــوهر وعــرض‪ ،‬إىل قــدمي‬
‫وحادث‪ ،‬إىل هللا والعاَل احملسوس‪ ،‬أما اجلوهر أو هللا فهو حقيقة ال مادة هلا‪ ،‬خبالف‬
‫عــاَل األشــياء‪ ،‬وقــد يســاعدان املقطــع اآليت عل توضــيح فكــرة ســبينوزا‪( :‬إين أتصــور هللا‬
‫والطبيعــة يف ص ــورة ختتلــف متامــا ع ــن الص ــورة ال ــيت ي ص ــورها املســيحيون املت ــأخرون‬
‫عــادة‪ ،‬ألنــين أعتقــد أن هللا هــو األصــل ولــيس الطــارئ‪ ،‬وأن هللا هــو الســبب جلميــع‬
‫األشــياء‪ ،‬أقــول‪:‬إن كــل شــيء كــامن يف هللا‪ ،‬وكــل شــيء حييــا ويتحــرك يف هللا‪ ،‬وإنــين‬
‫متفق يف هذا مع الرسول بولس‪ ،‬ورمبا أكون متفقا مع كل واحد من فالسفة القدمي‪،‬‬
‫على الرغم من أن طريقيت ختتلـف عـن طـريقتهم‪ ،‬وقـد أجـرؤ علـى القـول أن رأيـي هـو‬
‫نفــس ال ـرأي الــذي جــاء بــه العربانيــون يف القــدمي‪ ،‬علــى كــل حــال لقــد أخطــأ فهمــي‬
‫أولئك الذي يقولـون إن غرضـي هـو أن أبـني أن هللا والطبيعـة شـيء واحـد‪ ،‬والقـائلون‬
‫هبـ ــذا يفهمـ ــون مـ ــن لفـ ــظ الطبيعـ ــة كتلـ ــة معينـ ــة مـ ــن امل ــادة اجملسـ ــدة‪ ،‬إنـ ــين ال أقصـ ــد‬
‫ذلك‪".‬اهـ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫ه ــو ال يقص ــد ذل ــك ألن ــه يع ــين ابهلل جم ــرد القـ ـوانني ال ــيت حتك ــم ه ــذه الطبيع ــة‬
‫الظاهرة‪ ،‬وهو ما نبه إليـه ول ديورانـت يف أول كالمـه‪ ،‬مث قـال ديورانـت‪":‬وهو يكتـب‬
‫مرة اثنية عن الدين والدولة‪ (:‬إنين أقصد مبساعدة هللا نظـام الطبيعـة الثابـت الـذي ال‬
‫يتغــري‪ ،‬أو سلســلة األحــداث الطبيعيــة)‪ ،‬إن ق ـوانني الطبيعــة العامــة وأوامــر هللا اخلالــدة‬
‫شــيء واحــد‪ ،‬وإن كــل األشــياء تنشــأ مــن طبيعــة هللا الالهنائيــة كمــا ينشــأ مــن طبيعــة‬
‫املثلث أن زواايه الـثالث تسـاوي قـائمتني‪ ،‬وإن هللا ابلنسـبة إىل العـاَل كقـوانني الـدوائر‬
‫ابلنسبة إىل الـدوائر كلهـا‪ ،‬فـاهلل هـو السلسـلة السـببية الكـامن وراء كـل األشـياء‪ ،‬وهـو‬
‫قــانون تركيــب العــاَل‪ ،‬وهــذا الكــون املتماســك مــن األع ـراض واألشــياء مــن هللا مبثابــة‬
‫اجلس ـ ــر م ـ ــن تص ـ ــميمه وبنائ ـ ــه وتركيب ـ ــه‪ ،‬والقـ ـ ـوانني الرايض ـ ــية واملبكانيكي ـ ــة الـ ـ ـيت ب ـ ــين‬
‫عليها‪".‬اهـ‪.‬‬
‫ففلس ــفته إذن توحي ــد ب ــني هللا وب ــني الع ــاَل املوج ــود يف اخل ــارج‪ ،‬نع ــم ل ــيس هللا‬
‫عنده جزءا من مادة العاَل‪ ،‬بل هو روح العاَل وقوانينه‪ .‬وهـذه هـي وحـدة الوجـود الـيت‬
‫قــال هبــا اســبينوزا‪ .‬وكــذلك قــال د‪.‬حســن حنفــي يف كتابــه (يف الفكــر الغــريب املعاصــر)‬
‫ص ‪" :69‬إن هللا هو الطبيعة الطابعة والعاَل هو الطبيعة املطبوعة"‪" ،‬إن قدرة الطبيعة‬
‫هي قدرة هللا‪ ،‬وقدرة هللا مماثلة ملاهيته"‪ ،‬هذه هي أهم فكرة يف فلسفة سبينوزا‪.‬‬
‫وقد خلص يوسف كرم يف كتبه (اتريخ الفلسفة احلديثة) تلخيص ا جيدا فلسفة‬
‫اســبينوزا يف هللا والطبيعــة‪ ،‬وحاصــل مــا ذكــره يف ص ‪ 111‬أن اجلــوهر علــة ذاتــه‪ ،‬أي‬
‫ماهيتـه تنطــوي علـى وجــوده‪ ،‬أن اجلــوهر المتنـاهي‪ ،‬إذ لــو كــان متناهيـا لكــان متصــال‬
‫جبـواهر أخــرى حتــده وكــان اتبعــا هلــا متصــورا هبــا ال بذاتــه‪ ،‬وأن اجلــوهر واحــد‪" :‬إذ لــو‬
‫كــان هنــاك جــوهران أو أكثــر لكــان كــل جــوهر حيــد اآلخــر ولبطــل أن يكــون اجلــوهر‬
‫جـوهرا أي متصـورا بذاتـه‪ ،‬وعلـى ذلــك فـاجلوهر موجـود ابلضـرورة أو واجـب الوجــود‪،‬‬
‫ســرمدي ال يكــون وال يفســد‪ ،‬فــإذا وجــد شــيء عــداه َل ميكــن أن يكــون هــذا الشــيء‬
‫إال ص ــفة للج ــوهر األوح ــد أو ح ــاال جزئي ــا يتجل ــى في ــه اجل ــوهر‪ ،‬وبعب ــارة أخ ــرى إن‬

‫‪75‬‬
‫اجلــوهر هــو الطبيعــة الطابعــة أي اخلالقــة مــن حيــث هــو مصــدر الصـفات واألح ـوال‪،‬‬
‫وه ـ ــو الطبيع ـ ــة املطبوع ـ ــة أي املخلوق ـ ــة م ـ ــن حي ـ ــث ه ـ ــو ه ـ ــذه الص ـ ــفات واألحـ ـ ـوال‬
‫أنفسها‪".‬اهـ‪.‬‬
‫هــذه الفقــرة توضــح ابلضــبط املـراد مــن وحــدة الوجــود عنــد ســبينوزا‪ ،‬وهــي كمــا‬
‫ترى مطابقة ملفهوم وحدة الوجود عند النابلسي وابن عريب‪ ،‬إال ما فيهـا مـن ميـل إىل‬
‫الوحدة املادية‪ ،‬خبالفها عند هيجل الفيلسوف األملاين املشـهور‪ ،‬فـاحلوادث هـي جمـرد‬
‫أعراض حقيقية على اجلوهر الواحد الذي هو املوجود الوحيد‪.‬‬
‫هيجل‬
‫قـال يوســف كــرم يف اتريـخ الفلســفة احلديثــة يف ص‪" :275‬أيخـذ هيجــل علــى‬
‫فختــه أن املنطــق عنــده هــو األان حيــدث الــالأان حيــدث األان لكــي يتغلــب عليــه جمهــود‬
‫حــر‪ :‬فـاملطلق أحــد طــريف التضــاد‪ ،‬فهــو لــيس مطلقـا‪ ،‬وأيخــذ علــى شــلنج أن املطلــق‬
‫عنــده هــو األصــل املشــرتك املتجــانس لــألان ولــالأان تتحــد فيــه األضــداد مجيعــا ولكــن‬
‫املطلــق هبــذا الوصــف هــو أصــل جمــرد‪ ،‬هــو أشــبه شــيء ابلليــل تبــدو فيــه مجيــع البقــر‬
‫سودا‪ ،‬ال يكشف لنا عن السبب الذي من أجله يصدر عنه العاَل وال كيف يصدر‪،‬‬
‫أما هيجل فيتفق معهما يف وحدة الوجود‪ ،‬ويرى أن املطلق هو الوجود الواقعي مبا يف‬
‫مــن روح ال متنــاه أو مثــال أو عقــل كلــي أو مبــدأ خــالق مــنظم‪ ،‬وأن الطبيعــة والفكــر‬
‫حــاالن لــه‪ ،‬يظهــر الفكــر يف وقــت مــن أوقــات تظــور الطبيعــة‪ ،‬ال أهنمــا وجهــان لــه‬
‫متوازاين‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وتســاءل حســن حنفــي يف كتابــه (يف الفكــر الغــريب املعاصــر) ص ‪" :158‬هــل‬
‫فكـر هيجـل فلســفة أم ديـن؟ إذا نظـران إىل العـدد اهلائــل مـن التحلــيالت الـيت يقــدمها‬
‫هيجــل للمفــاهيم وللتصــورات ولألفكــار‪ ،‬تــداخلها وختارجهــا وتوســطها لوجــدان أهنــا‬
‫فلســفة‪ ،‬بــل وفلســفة غارقــة يف التجريــد واملذهبيــة ولكننــا إذا نظـران إىل مضــموهنا وإىل‬

‫‪76‬‬
‫مسارها العام‪ ،‬وجدانها ال تفرتق عـن الـدين بوجـه عـام‪ ،‬ون املسـيحية بوجـه خـاص‪،‬‬
‫حىت إنه ميكن القول أبن فلسفة هيجل دين ُم َقنَّع‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وهذا الكالم يثبت لنا أن فلسفة هيجل الـيت كانـت صـورة عـن وحـدة الوجـود‬
‫متأثرة متام التأثر ابلداينة املسيحية‪ ،‬ولكنـه بـدل أن يعتـرب املسـيح فقـط هـو هللا‪ ،‬صـار‬
‫عنده الوجود كله عني هللا‪ ،‬وما يف الوجود من أشياء فإمنا هي اعتبـارات فكريـة هلل أو‬
‫للوجود‪ .‬قال حسن حنفي يف ص‪ ":186‬الدين املطلق هو هناية تطور األداين كلها‬
‫وهــو يف رأي هيجــل الــدين املســيحي أو ديــن الــوحي أو الــدين الــذي يتكشــف‪ ،‬فهــو‬
‫الــدين املطلــق ألنــه اســتطاع أن يتجــاوز حســية الــدين الطبيعــي وماديتــه كمــا اســتطاع‬
‫أيضــا أن يتعــدى صــورية ديــن الفرديــة الروحيــة وضــرورايهتا‪ ،‬وهــو ديــن الــوحي ألنــه هــو‬
‫الوحيد يف رأي هيجل‪ ،‬الذي تلقى رسالة من السماء أي إنه دين الكلمة‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وإذا عرفنــا ذلــك‪ ،‬عرفنــا ملــاذا أتثــر بعــض الغ ـربيني املتبعــني للفيلســوف هيجــل‬
‫مبـذهب وحـدة الوجـود كمـا قـال بــه اإلسـالميون‪ ،‬ففلسـفة هيجـل مـأخوذة مـن الــدين‬
‫املســيحي‪ ،‬بصــورة أو أخــرى‪ ،‬وملــا كــان بعــض هــؤالء يدرســون الالهــوت املســيحي‪،‬‬
‫وتعرفوا على عقيدة وحدة الوجود كما قال هبا ابن عريب وأتباعه‪ ،‬أحب بعـض هـؤالء‬
‫هــذه العقيــدة واعتــربوا أنفســهم اتبعــني البــن عــريب‪ ،‬وهــم يف احلقيقــة اتبعــون هليجــل‬
‫وللــدين املســيحي‪ .‬قــال حســن حنفــي يف ص‪"190‬كانــت مهمــة هيجــل كلهــا هــي‬
‫الــدفاع عــن املســيحية وتربيرهــا عقــال كمــا كــان يفعــل فالســفة العصــر الوسيط‪".‬اه ــ‪،‬‬
‫وقــال يف ص‪":234‬ومــن انحيــة أخــرى يــتهم هيجــل اإلســالم واملســلمني ابلتعصــب‬
‫وابحلماس األعمى ملوضوع جمرد سليب مما تضح يف احلروب والفتوح حىت أصبح املبدأ‬
‫لديهم هو الدين واإلرهاب‪ ،‬كما كان املبدأ عند روبسبري احلرية واإلرهاب‪".‬اهـ‬
‫ولنس ــتمع إىل م ــا يقولــه ال ــدكتور زك ـراي إب ـراهيم وه ــو مــن أه ــم م ــن كت ــب ع ــن‬
‫هيجـ ــل يف كتـ ــاب كبـ ــري مسـ ــاه (هيجـ ــل أو املثاليـ ــة املطلقـ ــة)‪ ،‬فقـ ــد قـ ــال يف ص‪:36‬‬

‫‪77‬‬
‫"والظ ــاهر أن عقلي ــة هيج ــل الش ــاب ق ــد وقع ــت يف تل ــك اآلون ــة حت ــت أتث ــري بع ــض‬
‫النزعات التأليهية الطبيعية‪ ،‬إن َل نقل بعض االجتاهات القائلة بوحدة الوجود‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وقــال يف ص‪" :37‬مث كانــت صــداقة هيجــل لكــل مــن هلــدرلن وشــلنج فل ــم‬
‫يلبث فيلسوفنا أن اجتـه إحنـو عبـادة اليـوانن‪ ،‬كمـا احنـاز إىل املـذاهب الواحديـة القائلـة‬
‫بضرب من احلقيقة اإلهلية الشاملة‪".‬اهـ‪.‬‬
‫مث تكلــم زكـراي إبـراهيم عــن قصــيدة كتبهــا هيجــل ووصــفها يف ص‪" :47‬ومــن‬
‫اآلاثر اليت خلفها لنا هيجـل أيضـا يف هـذه الفـرتة قصـيدة أهـداها إىل هلـدرلن بعنـوان‬
‫إلوزيس‪ ،‬وهي قصيدة صوفية يتغىن فيها هيجل بروعة ذلك الكل الذي هو مستغرق‬
‫فيه مأخوذ بسحره‪ ،‬مـذهول لسـره‪ ،‬ولـئن كـان بعـض النقـاد حـاول أن خيلـع عـن هـذه‬
‫القصيدة كل طابع صويف‪ ،‬خصوصا وأن هيجل نفسه كان قد ألغى جبرة قلمه بعـض‬
‫أبي ــات منه ــا كان ــت تتض ــمن مع ــاين الوج ــد الص ــويف‪ ،‬إال أن م ــن املؤك ــد أن يف ه ــذه‬
‫القصيدة إمياان ضمنيا بوحدة الوجود ونشوة دينية هي نشوة العابد املستغرق يف حب‬
‫هللا‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وقــال يف ص‪" :61‬ولــيس الواقــع يف نظــر هيجــل جمــرد جمموعــة مــن املوجــودات‬
‫املنفصلة‪ ،‬بـل هـو حقيقـة كليـة أو مبـدأ واحـد يطـوي يف ثنـاايه كـل مـا يف الوجـود مـن‬
‫كثرة‪".‬اهـ‪.‬‬
‫وهــذا هــو ملخــص لعقيــدة وح ـدة الوجــود‪" .‬ولكــن االرتــداد إىل الكــل أو إىل‬
‫الوح ــدة ال يتحق ــق إال ع ــرب اإلنسان"‪.‬اهـ ــ‪ ،‬وه ــو ع ــني م ــا يقول ــه أه ــل الوح ــدة م ــن‬
‫اإلسالميني‪ ،‬وأرى أنه ال بـد أن يكـون هيجـل قـد أتثـر كغـريه ابإلسـالميني‪ ،‬وهـو أمـر‬
‫غري بعيد‪ ،‬فقد حصل ذلك لبعض أهم الفالسفة مثل ديكارت‪ ،‬وليبنتز‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫إذن هيجــل كانــت فلســفته مثبتــة لوحــدة الوجــود املتــأثرة ابملســيحية‪ ،‬واســبينوزا‬
‫يــدعي أن فلســفته يف وحــدة الوجــود ممثلــة للداينــة اليهوديــة احلقيقيــة الــيت َل يتابعهــا‬
‫اليهود املتأخرون!!‬

‫‪78‬‬
‫وأخ ـريا قــال د‪ .‬زك ـراي إب ـراهيم يف ص‪" :96‬وأمــا املدرســة اهليجليــة نفســها فقــد‬
‫انقس ــمت بعـ ــد وفـ ــاة زعيمه ـ ـا إىل جن ــاحني‪ :‬جن ــاح مييـ ــين ع ــاد إىل النزعـ ــة التأليهيـ ــة‬
‫التقليدية‪ ،‬وحاول أن يطبع الفلسفة اهليجلية كلها بطـابع الهـويت بروتسـتانيت‪ ،‬وجنـاح‬
‫استغل ما يف الفلسـفة اهليجليـة مـن نـزوع واضـح حنـو وحـدة الوجـود‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يساري متطرف‬
‫وانتهــى يف خامتــة املطــاف إىل نزعــة إحلادي ــة صــرحية‪ ،‬وه ــؤالء ه ـم اهليجلي ــون الش ــبان‬
‫الذين برز منهم شرتاوس وفويرابخ وكارل ماركس‪...‬اخل" اهـ‪.‬‬
‫إذن نزعــة وحــدة الوجــود تــؤدي يف كثــري مــن األوقــات إىل اإلحلــاد‪ ،‬وهــذه هــي‬
‫التهمة اليت كان بعض العلماء املتقدمني يتهمون هبا القائلني بوحدة الوجود‪ ،‬وقد آل‬
‫األمر ببعض من قال بوحدة الوجود يف التـاريخ اإلسـالمي إىل القـول ابإلحلـاد‪ ،‬وكـون‬
‫العاَل كله هو هللا‪ ،‬وهو عني اإلحلاد‪.‬‬
‫وقد نبه إليهم كثري من النـاس ومـنهم النابلسـي يف رسـالته الـيت علقنـا عليهـا يف‬
‫مر‪.‬‬
‫هذه الرسالة كما َّ‬

‫‪79‬‬
‫الخاتمة‬
‫وإىل هنا أقف يف هذه العجالة اليت أرجو أن تكون مفيدة يف ابهبا‪ ،‬حيث إن‬
‫الكالم يف هذه املسألة طويل الـذيل‪ ،‬وأان أرجـو أن يـوفقين هللا تعـاىل إىل كتـاب أكثـر‬
‫تفصــيالا‪ ،‬أانقــه فيــه هــذا املــذهب بدقائقــه وتفصــيالته ولوازمــه‪ ،‬وأبــني حقيقــة هــذا‬
‫املذهب الذي ال ميثل أبي حال من األحوال معتقد أهل السنة واجلماعة األشاعرة‪.‬‬
‫وهللا اهلــادي‪ ،‬وهــو املوفــق للص ـواب‪ ،‬وإليــه املرجــع واملــدب‪ ،‬وآخــر دع ـواان أن‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫ش ــرح الص ــاوي عل ــى ج ــوهرة التوحي ــد‪ ،‬ص‪ ،142‬حتقي ــق وتعلي ــق د‪ .‬عب ــدالفتاح‬ ‫]‪[1‬‬
‫البزم‪ ،‬طباعة دار ابن كثري‪ ،‬دمشق‪-‬بريوت‪.‬‬
‫حاشية األمري على شرح الشيخ عبدالسالم املـالكي عل جـوهرة التوحيـد‪ ،‬ص‪،59‬‬ ‫]‪[2‬‬
‫مطبعة مصطفى البايب احلليب‪.‬‬
‫مث ذكـر العالمــة األمـري بعــد ذلـك مــا مضـى نقلــه عـن الصــاوي مـن كــالم ابـن وفــا‪،‬‬ ‫]‪[3‬‬
‫والتلمساين‪.‬‬
‫إيضاح املقصود‪ ،‬ص‪.8‬‬ ‫]‪[4‬‬
‫إيضاح املقصود من وحدة الوجود‪ ،‬ص‪.8‬‬ ‫]‪[5‬‬
‫كذا ابملطبوع‪ :‬والصحيح‪ :‬بوجوده‪.‬‬ ‫]‪[6‬‬
‫هذه العبارة قلقة‪ ،‬ورمبـا يكـون أصـلها أن املعـدوم الـذي هـو املخلـوق القـائم ابحلـق‬ ‫]‪[7‬‬
‫احلق‪ ،‬فاملعدوم ال يؤثر يف املوجود‪ .‬يف املوجود‪.‬‬‫ال يغَِريُ املوجود َّ‬

‫‪80‬‬

You might also like