You are on page 1of 13

‫شرق السودان ‪ :‬دلتا القاش في ما قبل التاريخ‬

‫ل م حة م وج زة عن أهم ن تا ئج ال بح ث ا لم يدا ن ي في ش رق ال س ود ان‬


‫أ سام ة ع بد ال رحمن ا لنو ر‬

‫الواقع أنه حتى وقت قريب أهملت المراجع سكان شرق السودان القاطنين بمحاذاة‬
‫الحدود الشمالي ة إلثيوبيا‪ ،‬من نهر عطبرة والبحر األحمر والهضبة اإلثي وبية‪ ،‬وظلت‬
‫هذه المن طقة غير معروفة بالنسبة لعلماء اآلثار والم ؤرخين‪ ،‬باستثناء بينة محد ودة‬
‫في أغوردات في وادي برك ة‬ ‫‪Arkell,1954‬‬ ‫جمعها آركل في أربعينيات القرن المنصرم‬
‫بالقرب من‬ ‫‪Shiner,1971‬‬ ‫األوسط‪ ،‬وتلك التى جمعها شينر في ستينيات القرن الماضي‬
‫خشم القربة في وادي عطبرة األوسط‪ .‬ألزمان طويلة عدت المنطقة أرضا ً مو حش ة‬
‫يقطنها بدو لم يسهموا في التاريخ الثقا في القديم لكوش وواد ي النيل عم وما ً‪ .‬وكا ن‬
‫وبعض من الباحثين القلة قد طرحوا فرضية تقول بأن هذه‬ ‫‪Kitchen,1971;1972‬‬ ‫كتشن‬
‫المنطقة كانت هي "بالد بونت" ال مسجلة في النصوص المصرية منذ الدولة القديمة‪.‬‬

‫البينة التاريخية الخاصة بشرق السودان ودلتا القاش شحيحة للغاية‪ .‬ال يوجد ذكر مؤكد‬
‫للمنطقة ال في النقوش المصرية وال في النقوش النبتية والمروية‪ .‬لكن طرح ك ل من‬
‫رأيا ً بأن بالد "جرس"‬ ‫‪Zibelius,1972:170-171‬‬ ‫وزيبليوس‬ ‫‪Zyhlarz,1958‬‬ ‫زهالرز‬
‫المذكورة في قائمة البلدان لتحتمس الثالث تتطاب ق مع المنطق ة الوا قعة بين كسال و قوز‬
‫أن "تسني" المسجلة في قوائم األعداء‬ ‫‪Garstang et al.1911‬‬ ‫رجب‪ .‬ويرى جارستانج‬
‫على جدران معبد "اله الشمس" في مروي‪ ،‬تتط ابق مع تسن يّ االريترية الوا قعة على‬
‫القاش على بعد حوالي ‪ 4 0‬كم إلى الجنوب من كسال‪ .‬النقوش البارزة والنصوص التى‬
‫تروي لنا وقائع البعثة التى أرسلتها الملكة حتشبسوت إلى بالد بونت وجد ت على‬
‫جدران معبد الدير البحري‪ .‬ألزمان طويلة ساد االعتقاد بأن بالد ب ونت تقع في م ن طقة‬
‫القرن األفريقي‪ .‬حاليا ً فإن غالبية الباحثين يطرحون رأيا ً مغايرا ً يقول بموقع بالد بون ت‬
‫في الساحل السوداني من البحر األحمر ‪ . Б е р з и н а , 1 9 9 0‬بالتالي ‪ ،‬ير ون بأن بالد بونت‬
‫شملت الساحل حتى الحدود الشمالية الرتريا واألرض الداخلية المجاورة للساحل‪ .‬من ثم‬
‫فإن العديد من الباحثين يرون بأن السفن المصرية المتجه ة إلى بالد ب ونت رس ت في‬
‫المنطقة الحالي ة بورتسود ان ‪ -‬سواكن‪ .‬وقد ورد في نق ش حتشبسو ت اسم قبيلتي "نمي" و‬
‫"إرم" ضمن القبائل في بالد بونت التى قدمت الجزية للملكة‪ .‬ويطرح اوكونور‬
‫رأيا ً يقول بأن "نمي" هي كتابة خاطئة السم "آمو "‪ ،‬وهى المكان‬ ‫‪O’Connor 1984:117‬‬

‫الذى جلب منه المصريون الذهب‪ .‬أما بخصوص "إرم" فقد دلل أ وك ونور بحجج قوي ة أن‬
‫هذه القبيلة كانت تسكن إلى الشرق من النيل ( وليس إلى الغرب منه كما ساد االعتقاد ) ‪،‬‬
‫تقريبا ً في منطقة ملتقى نهري عطبرة والنيل‪.‬‬

‫من بين أهم السلع التى سعى المصريون لالستحواذ عليها كان الذهب‪ ،‬وهو ما يتوفر‬
‫بكثرة في مناطق عديدة من السودان‪ ،‬رغم أن استخراجه تطلب عم ال ً شاقا ً ‪ .‬ومع أن‬
‫الذه ب ال بد وأنه كان سلعة هامة في األزمان السالفة‪ ،‬لكن استغالله بصورة مكثفة بدأ‬
‫مع المملكة المصرية الحديثة‪ ،‬وأن تأمين الوصول إليه كان من أسباب االحتالل‬
‫المصري للنوبة في المملك ة الحديثة‪ .‬كانت هناك عدة مناطق الستخراج الذه ب والتي‬
‫وجدت طرق تقود إليها‪ .‬جلب "ذهب الواوات" من التالل إلى الشر ق من الن وبة السفلى‬
‫حيث تم الوصو ل إلى المناجم في األساس عن طري ق وادي العالقي الذ ى يتج ه إلى‬
‫الجنوب الشرقي من المحرقة على النيل بعيدا ً إلى المنطقة ال جبلية بمحاذاة الب حر‬
‫‪ . ) V e r c o u t t e r‬ويبدو‬ ‫‪1959‬‬ ‫األحمر (لم زيد من الت ف اص يل حول الم ن اطق الغ ن ية با ل ذهب ا ن ظ ر‬
‫أن البطالس ة شددوا محاوالتهم السيطرة على النوبة السفلى بغرض تأمين الوص ول إلى‬
‫من ا جم الذهب في تالل البحر األحمر عبر الطرق التى فتحها فراعنة المملكة المصرية‬
‫الحديثة‪.‬‬

‫ويبدو أن المصادر الهلنستي ة سجلت سكان يعيش ون في أراضي القاش المن خفضة‪ .‬ف وفقا ً‬
‫فإن الميجاباري الذين ورد وصف لهم في‬ ‫‪Conti Rossini,1925;1928‬‬ ‫لكون ت روسيني‬
‫عمل أجاثار خيد بوصفهم بدوا ً يؤلفون فرعا ً من التر وجليديين‪ ،‬قد يك ونوا سكانا ً لهذه‬
‫المنطقة‪ .‬ويمكن أن يكون وا أسالفا ً للباريا الذين يعيش ون في الوقت الحالي في غرب‬
‫‪.Conti‬‬ ‫‪Rossini 1913‬‬ ‫ارتريا على حد رأي كونتي روسيني‬

‫‪Wolska-‬‬ ‫الميالدي‬ ‫الثال ث‬ ‫القرن‬ ‫في‬ ‫‪Monumentum‬‬ ‫‪Adulitanum‬‬ ‫كتاب‬ ‫وسجل‬


‫التنجاتيين من بين الشعوب التى تبعت ألكسوم‪ ،‬وهم الذين طابقهم‬ ‫‪Konus,1968:372-379‬‬

‫بالسكان الذين يعيشون في‬ ‫‪Huntingford,1974‬‬ ‫وهنتنجفورد‬ ‫‪Kirwan,1972‬‬ ‫كل من كيرو ان‬
‫دلتا القاش ( التاكا ) ‪.‬‬

‫وتذكر النقوش المسيحية للملك عيزانا ( القرن الرابع الميالدي ) غزو الن وبا للمنطقة إلى‬
‫إلى أن السكان‬ ‫‪Fattovich,1987‬‬ ‫الشرق من نهر الستيت‪ ،‬مما يشير في رأي فاتوفت ش‬
‫القا طنين ما بين نهري التكازي وبركة كانوا تابعين للسيطرة األكس ومية‪ .‬ويورد ليتمان‬
‫بأن نقشا ً ما بعد أكسومي للملك دانايل ( حوالي القرن العاشر ‪-‬‬ ‫‪Littmann et al.1913:43‬‬

‫الحادي عشر الميالدي ) يسجل حملة باتجاه كسال تم خاللها غز و الباريا‪.‬‬

‫دللت المعطيات اآلثارية التى تم الحصول عليها خالل الخمس عشرة سنة األخيرة‬
‫والمتعلقة بالثقافات المبكرة في شرق السودان على أن النماذج المقترحة لتفسير الت طور‬
‫الثقافي في مرحل ة ما قبل التاريخ في الشرق ا ألدنى ووادي النيل المصر ي بحاجة إلى‬
‫توسيع مع األخذ بالحسبان إلمكانية وجود عمليات ثقافية بديلة‪.‬‬

‫النموذج التقليدي لالنتقال من ا قتصاد الصيد ‪ -‬الجمع إلى إنتاج الطعام‪ ،‬الذى طرحه‬
‫بداية جوردون تشايلد وتم من ثم إدخا ل تعديالت عليه‪ ،‬بداي ة من قبل بريدوود‬
‫‪ ، B r a i d w o o d‬وال حقا ً من قبل عدد كبير من البا حثين‪ ،‬يفترض أن‬ ‫‪and Willey 1962‬‬

‫األشكال األولى إلنتاج الطعام اتبعت تمركز الصيادين ‪ -‬الجامعين في العصر الحجري‬
‫القديم في مناطق محددة‪ ،‬وفرضت عليهم الحياة هناك بفعل أشكال مختلفة من الضغوط‬
‫الطبيعية‪ ،‬مثل‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬التغيرات المناخية‪ ،‬ونمو الكثافة السكانية وما إلى‬
‫ذلك‪ .‬هناك تدليل شائع يقول بأن إدخال حجارة الرحى واألواني الفخارية ارتبط بنشوء‬
‫تن ظيم اج تماعي ا قتصادي جديد‪ ،‬أطلقت عليه بصفة عامة تسمية "العصر الحجري‬
‫الحديث" ويتميز بحياة االستقرار والنشا طات الزراعية واال قتصاد القروي‪ .‬وينظر‬
‫لإلمكانيات الجديدة الناشئ ة إلنتاج الطعام وتخزينه بوصفها العنصر األول للترات ب‬
‫االجتماعي‪ ،‬الذى يفضي في نهاية المطاف إلى تشك يل "نخبة" ونشؤ نظام الد ولة‪.‬‬
‫خالل األربعين سنة الماضي ة التى شهدت ب حثا ً مكثفا ً في مجال ما قبل التاريخ في شما ل‬
‫شرق أفريقيا‪ ،‬فإن النموذج الذى تقدمه المعطيات اآلثارية من وادي النيل المصري‬
‫أثبت مالءمته التامة مع هذا المخطط‪ .‬لكن وضعا ً مغايرا ً ‪ ،‬على ك لٍ ‪ ،‬كان قد ميز في‬
‫الغالب شر ق السودان‪ ،‬حي ث أعاقت األمطار الصيفي ة والمناخ الجاف نم و المحاصيل‬
‫البرية وتطور الزراعة‪ .‬ومن ثم فإن ما قبل تاريخ شرق السودان قدم فرصة واعدة‬
‫لتقديم نماذج لعمليات ا قتصادي ة واجتماعية مغايرة‪ ،‬وطرق بديلة باتجاه تط وير‬
‫مجتمعات مدينية‪ .‬انطالقا ً من هذه اإلمكانيات الكامن ة قررت اإلدار ة العامة لآلثار‬
‫والمتاحف القومية السوداني ة في عام ‪ 19 8 1‬بدء مشروع االستكشاف اآلثاري المصحو ب‬
‫بعمليات تنقيب في شرق السودان‪ .‬تنفيذا ً لهذا المشروع منح تصديق لبعثتين آثاريت ين‬
‫للعمل‪ ،‬ت حديدا ً ‪ ،‬البعثة المشتركة ل جامعتي الخرطوم ‪/‬دالس‪ ،‬وبعثة المعهد ال جامعي‬
‫للدراسات الش ر قية بجامعة نابولي‪ ،‬في المنطقة بين كسال وخشم القربة‪.‬‬
‫النتائج المبدئية ألعمال البعثتين المذكورتين أوضحت بجالء وجود تواتر ثقافي يغطي‬
‫مجمل الفترة بدءا ً من األلفية العاشرة قبل الميالد حتى القرن الثامن الميالدي‪ .‬تسعى‬
‫هذه الورقة إللقاء ضوء على تلك النتائج وتحليل ها انطال قا ً من تقييم ل لعالقة بين الثقا ف ة‬
‫والبيئة ي تقيد بالحدود التي ثبتها علم اآلثار المعاصر والمتمثلة في عدم إمكانية تجا وز‬
‫أهمية الدور الذي تحتله كل من الثقافة والبيئة بالنسبة لعلم اآلثار‪ .‬وتتطلب معالجة‬
‫البيئة والثقافة الرجوع إلى مبادئ االيكولوجيا الثقا فية وكذلك مبادئ الجيوأركي ولوجيا‪.‬‬
‫فالثقافة التي نعني بها تحديدا ً الجماعة التي تجسد مثل تلك الثقافة‪ ،‬تعيش في تفاع ل مع‬
‫الب يئة الطبيعية‪ ،‬لي س فقط في جوانب الثقافة المادي ة‪ ،‬ولكن أيضا ً الخيارا ت اال قتصادي ة‬
‫وخصائص اإلقامة والديموغرافيا‪ ،‬يتم تحديدها بفعل البيئة‪.‬‬

‫فقد د فع التشديد الذي يضعه علم اآلثار الو ظيفي على المفه وم اإلجرائي للثقافة‪ ،‬أ ي‬
‫للثقافة بوصفها نتاجا ً لو ظيفية نظام وية‪ ،‬إلى الدفع ببعض مسائل إستراتيجية البحث إلى‬
‫الصدارة‪ .‬إحداث تقييما ت ألبعاد الظواهر المكانية‪ .‬شمل ذلك االبتعاد عن االهتمام‬
‫"بوحدة الموقع اآلثاري" التقليدية وتو جيه تركيز البحث إلى اطر إقليمية أكثر اتساعا ً‪،‬‬
‫وإلى االهتمام ب عمليا ت الترسيب‪ ،‬و ب عمليات تكون الموقع اآلثار ي وزوال ه ( المعتمد‬
‫اعتمادا ً كبيرا ً على تقلبات البيئا ت القديمة ) ‪ ،‬وإلى المحتويات الطباقي ة وديناميا ت ما‬
‫بعد الترسيب‪ .‬إلى جانب تلك االعتبارات يجب عدم إغفال الموض وعات ذات الصل ة‬
‫بتوزيع الموارد ( الماء‪ ،‬والنباتا ت‪ ،‬والحيوان‪ ،‬والمواد الخام ) الرتباط ذلك بطبيعة‬
‫البيئة‪.‬‬

‫النقاط األخيرة هذه تم تطويرها‪ ،‬كما هو معلوم‪ ،‬بخاصة في مجال الجي وأركيولوجيا‪،‬‬
‫وهو فرع للمعرفة أبان لعلم اآلثار الطرق التي يمكن من خاللها تطبيق المبادئ‬
‫والتقنيات الكمي ة‪ ،‬بخاصة لدراسة البيئة‪ ،‬في البحث اآلثاري‪ .‬معروف أن أعمال ب وتزر‬
‫تمثل تطويرا ً أساسيا ً لمبادئ علم اآلثار الوظيفي‪ ،‬وتوفر قاعدة متين ة‬ ‫‪Butzer,1982‬‬

‫للبحث اآلثاري الهادف إلى مدنا ليس فحسب باألدوا ت النظرية بل باألدوات التقني ة‬
‫ك ذلك التي يحتاجها عالم اآلثار‪ .‬مثال على ذلك نجده في فهم ب وتزر للثقافة بوصفها‬
‫مفه وما ً ال يتخذ قيمة ميتا فيزيقية لنظام‪ ،‬وال هي بنظام مثالي لسلوك المجتمع وهو الفهم‬
‫الذي تطور في مجال االيكولوجيا الثقافوية‪ .‬على كل يمكن مالحظة رؤية التحول في كال‬
‫الحالتين من االهتم ام باألدوات وتصنيفها التيبولوجي إلى االهتمام بالتحوالت في‬
‫السلوك‪ ،‬أي‪ ،‬التحول إلى الدينامية التي ينظم بها الناس وجودهم من خالل تفاعلهم مع‬
‫اآلخرين وبيئاتهم الثقا فية والطبيعية والميتا فيزيقية ‪ ...‬من هذا المنطلق تحاول الور ق ة‬
‫المقدمة تقييم النتائج األخيرة للبحث اآلثاري الجاري في شرق السودان من وا قع ر ؤي ة‬
‫تتسم بالتشديد على تطور االقتصاد ونمط الحياة العام دون إهمال للتعريف والتعا قب‬
‫والعال قات المتداخلة للصناعات المسماة‪ .‬هكذا نرى أن التحول األكثر ت جليا ً في سل وك‬
‫جماعات شرق السودان في منتصف الهولوسين المبكر يمكن رؤيته ف ي التجارب األ ولى‬
‫إلنتاج الطعام‪ ،‬أي‪ ،‬في االنتقال من حالة اعتماد على البيئة إلى حالة تنظيم "فعلية "‬
‫للموارد وإنتاجها ( أنظر أدناه األطوار التى مرت بها هذه العملية ) ‪ .‬إنتاج الطعام يمكن‬
‫رؤيته بوصفه نتيجة دينامية تكيفية افرزها استغالل اصطفائي مارسه اإلنسان‪ ،‬نتيجة‬
‫خبراته المتراكمة‪ ،‬على البيئة‪.‬‬

‫ورغم انه من الممكن مالحظة أن الوظيفية النظاموية ومفاهيم التكيف ذا ت الصلة بها قد‬
‫الفرد ي‬ ‫اإلسهام‬ ‫تستبعد‬ ‫التي‬ ‫التقافوي ة‬ ‫للظواهر‬ ‫ميكانيكي‬ ‫تفسير‬ ‫إلى‬ ‫تؤدي‬
‫‪ ، H o d d e r , 1 9 8 5‬فانه ال يمكن إنكار أن مفهوم النظاموي ي سمح بالوصول إلى درجة تحكم‬
‫وقياس كمي للمع طيات بدرجة ما كان من الممكن الوصول إليها من خال ل النماذج‬
‫على أن التغير يمكن أن‬ ‫‪Fattovich,1990c‬‬ ‫التقليدية‪ .‬دلل ت نتائج البح ث في دلتا القا ش‬
‫يحدث ال بفعل البيئة وحدها وإ نما أيضا ً بفعل عناصر أخرى مثل الديموغرافيا‪،‬‬
‫واأليدولوجيا الرمزية‪ ،‬والصالت مع المناطق المجاورة ‪ .‬كما وأن النتائج أكدت على أن‬
‫تأثير البيئة في ظروف شرق السودان كان عنصرا ً هاما ً‪ ،‬بل وحاسما ً‪ ،‬في تحديد‬
‫قرارات الجماعات ‪ . S a d r , 1 9 9 3‬كانت إ مكان ي ات االختيار ال زالت عدي دة لدى جماعا ت‬
‫الهولوسين المبكر‪ ،‬وكان ازدهار المدنية على طول مجاري المياه بخاصة نتا جا ً‬
‫لقرارات اتخذتها الجماعات اإلنسانية في تلك المرحلة‪ .‬لكنه و فيما بعد مع بروز‬
‫األطوار الجافة التي ميزت الهولوسين المتأخر أضحت القيود‪ ،‬التي فرضتها البيئ ة‬
‫األكثر صرامة‪ ،‬تفرض اال نتقال من الصيد إلى الفالحة وسط جماعات شرق السودان في‬
‫الهولوسين المبكر‪ .‬في هذه الورقة يتم اعتماد فرضية نموذج ينظر في ه إلنتاج الطعام‬
‫بوصفه تعديال ً للجماعا ت المعتمدة على نمط إنتا ج استح واذي محلي تكيفا ً مع قيود بيئية‬
‫محددة ‪ ،‬والتشديد على الدور الذي يقوم به تقلب الم وارد بوصفه عنصرا ً في زيادة‬
‫القاعدة اإلعاشي ة القابلة لالستغالل‪ .‬باللجوء إلى مث ل هذا المنهج يمكن توفير تقييم حجم‬
‫النشاطات اال قتصادية والتقنية‪ ،‬واألن ظمة االجتماعية السياسية‪ ،‬والمعتقدات والتي تم‬
‫تطويرها وفق الكثا فات السكانية المتفاوتة والحواجز الفيزيقية وس بل المواصال ت‬
‫والموارد المتوفرة‪ .‬هكذا يمكننا رؤية الطريقة المثلى التي تم عبرها استغالل البيئا ت‬
‫المختلفة‪.‬‬

‫إن إعادة تركيب البيئة القديمة في شر ق السودان في الهولوسين الزال ت مسألة عرضة‬
‫للتكهنات‪ .‬تشير البينة المتوفرة إلى مناخ رطب في اله ولوسين المبكر ( حوالي ‪- 6 00 0‬‬
‫‪ 40 0 0‬ق‪.‬م‪ ) .‬وجفاف متزايد خالل الهولوسين األوس ط ( حوالي ‪ 1 0 00 - 4 00 0‬ق‪.‬م‪ ) .‬مع‬
‫‪Geraads,1983; Fattovich,Sadr and‬‬ ‫بيئة سا فنا شجرية في منتصف األلفية الثانية ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪.Vitagliano‬‬ ‫‪1988‬‬

‫عموما ً يبد و أن التقلبات المناخية في شر ق السودان اتبعت المسار نفسه الذ ى ميز شما ل‬
‫أفريقيا وشمالها الشرقي عموما ً‪ .‬تميزت التقلبات بجفاف متزايد من ‪3 0 0 0 - 4 0 0 0‬‬
‫ق‪.‬م‪ ،.‬مع فترة سادت فيها ظروف رطبة إلى حد ما في األلفيتين الثالثة والثانية ق‪.‬م‪.‬‬
‫وحلول الظروف الحالية بحو الي ‪ 1000‬ق‪.‬م‪ ،.‬مع فترة دافئة في بداية األلفية الثانية‬
‫والتثبي ت المتصاعد للمناخ الجاف الحالي في منتصف األلفية الثانية ق‪.‬م‪ ( .‬ا ن ظ ر‬
‫;‪).Butzer,1976‬‬ ‫‪Hassan,1981; Muzzolini, 1982; Williams,1982; Gowlett, 1989‬‬

‫كرون ولوجيا ً فإن ثقافا ت شرق السودان التى تمثل تواترا ً منتظما ً قد صنفت كالتالي‬
‫‪:Fattovich‬‬ ‫‪1994‬‬

‫* الطور األول مثلته مجموعات سكانية استغلت البيئات النهرية والسافانا المحلي ة‬
‫وعاشت في شمال الدلتا خالل األلفيتين السادسة والخامسة ق‪.‬م‪ ( .‬مجموعة أم آدم ) ‪.‬‬
‫وجدت نماذج من الشقوف شبيهة بفخار الخرطوم المبكرة مما قد يشير إلى وجود صل ة‬
‫مع وادي النيل‪.‬‬

‫* الطور الثاني مثلت ه مجموعة صيادين اعتمدوا على ثدييا ت السافانا وسكنوا في‬
‫السهول الممتدة بين شرا ب القاش ونهر عطبرة في األلفية الخامسة ق‪.‬م‪ ( .‬مجم وعة‬
‫مالويا ) ‪ .‬يظهر فخار هذه المجموعة معاصرته لفخار وادي النيل والصحراء‪ .‬وتشير‬
‫المصنوعات الفخارية الناعمة ذات المقبض إلى عالقة هذه المجموعة بمجم وعة أم آدم‬
‫األسبق‪.‬‬

‫* الطور الثالث يمثله أحفاد مجموعة مالويا الذين سكنوا‪ ،‬في األلفية الرابعة واأللفي ة‬
‫المبكرة الثالثة ق‪.‬م‪ ( .‬مجموعة البطانة ) ‪ ،‬في السهو ل بالقرب من المجاري القديمة للقاش‬
‫التى ت نزاح باتجاه نهر عطبرة‪ .‬اعتمد ا قتصادهم المعاشي في األساس على صيد ثدييا ت‬
‫السافانا‪ ،‬وصيد األسماك‪ ،‬واحتما ال ً زراعة ال حبوب‪ .‬بدأ أهل هذه المجم وعة في أوا خر‬
‫األلفية الرابع ة ق‪.‬م‪ .‬في تدجين األبقار‪ .‬وامتد حجم موا قع اإلقامة ليصل الموقع إلى ‪10‬‬
‫هكتارات‪ .‬تشير موضوعات الز ينة القيمة في الموا قع الرئيسة إلى احتمال نش ؤ مجتمع‬
‫تراتبى‪.‬‬

‫* الطور الرابع تمثله مجموعة رعوية‪ ،‬أو رعوية زراعية‪ ،‬سكن أهلها في مجمل الدلت ا‬
‫ومنطق ة شراب القاش من بداية األلفي ة الثالث ة حتى منتصف األلفية الثانية ق‪.‬م‪.‬‬
‫بأنها تمثل استمرارا ً للطور الساب ق‪.‬‬ ‫‪Sadr,1988‬‬ ‫( مجموع ة القاش ) ‪ .‬ويعتقد صدر‬
‫يتفاوت حجم مواقع اإلقامة من أقل من هكتار إلى ‪ 1 3‬هكتار‪ ،‬مع بروز واضح للتراتب‬
‫عن جبانة رسمية مع مسالت ميجاليثي ة‬ ‫‪Fattovich 1988‬‬ ‫االجتماعي‪ .‬وقد كشف فاتوفتش‬
‫في المو قع الرئيس بالدل تا ( محل تيجلينوس ) يرجع ألواخر األلفية الثالثة بداية األلفي ة‬
‫الثاني ة ق‪.‬م‪ .‬دخل السكان في شبك ة صالت واسعة وتبادل تجاري مع مصر‪ ،‬والن وب ة‪،‬‬
‫والجزيرة‪ ،‬وإثي وبيا‪ ،‬وجن وب شبه الجزيرة العربية‪ ،‬وقد كانوا شريكا ً تجاريا ً هاما ً‬
‫‪ . F a t t o v i c h ,‬ويعتقد فاتوفتش بأن شكل الدولة‬ ‫‪Sadr and Vitagliano 1988‬‬ ‫لمملكة كرمة‬
‫‪.Fattovich‬‬ ‫‪1991‬‬ ‫كان أقرب‪ ،‬احتما ال ً ‪ ،‬إلى الدويلة المشيخة‬

‫‪)Arkell,1954‬‬ ‫* الطور الخامس يرتبط ثقا فيا ً بمجم و عة أغوردات في وادي بركة ( ا نظ ر ‪:‬‬
‫وشغلت شمال غرب الدلتا في منتصف األلفية الثانية ق‪.‬م‪.‬‬

‫* الطور السادس مثله سكان زراعيين رعويين‪ ،‬ينحدرون من مجموعة القاش‪ ،‬وسكنوا‬
‫السهول بين نهري القاش وعطبرة‪ ،‬وانتشروا حتى وادي برك ة‪ ،‬من منتصف األلفية‬
‫الثانية حتى منتصف األلفي ة األولى ق‪.‬م‪ ( .‬مجموعة جبل مكرم ) ‪ .‬ويظهر فخار هذه‬
‫المجم وعة شبها ً بفخار المدافن الحفر ‪ pa n- gr a ves‬الشئ الذى د فع كريم صدر‬
‫لالفتراض بوجود صالت لهم أو تمازج مع سكان قادمون من الشمال‪ .‬كان هؤالء السكان‬
‫الزالوا ي حتفظ ون بصالت مع النوب ة‪ ،‬وا حتماال ً مع إثي وبيا وجنوب شبه ال جزيرة العربية‪.‬‬
‫ظل شكل من التعقد االجتماعي با قيا ً‪ .‬في النصف األول لأللفية األولى ق‪.‬م‪ .‬ش غل ه ؤالء‬
‫السكان فقط من طقة ج را ب القاش‪ .‬ي حتم ل أن تك ون المن طقة بحلول تلك الفترة قد ض ُ مت‬
‫إلى دائرة التأثير اإلثيوبي وهو ما تشير إلي ه شقوف فخار أكسومي في موا قع جبل مكرم‬
‫المتأخرة‪.‬‬

‫* الطور السابع يمثله سكان رعويين‪ ،‬مع زراعة محدودة للحبوب‪ ،‬ينحدر ون من‬
‫المجموعة ال سابقة وسكنوا في مجم ل المنطقة الممتدة بين كسال وخشم القرب ة في أ واخر‬
‫األلفية األولى ق‪.‬م‪ .‬وبداية األلفية الميالدية األولى ( مجموعة هاجز ) ‪ .‬تشير التشابهات‬
‫في المصنوعات الفخارية لهذه المجموعة مع نظائرها األكسومية إلى أن المن طقة كانت‬
‫في دائرة التأثيرات اإلثيوبية‪ .‬لم يتم الكشف عن بينة دالة على التعقد الثقافي‬
‫‪.Fattovich,‬‬ ‫‪Sadr and Vitagliano 1988‬‬

‫* الطور الثامن تمثله مجموعة مستقرة‪ ،‬اشتغلت في الغالب بالتجارة بين مصر والن وب ة‬
‫وإثيوبيا‪ ،‬وعاش أهلها في المنطقة المحيطة بجبل التاكا‪ ،‬بالقرب من كسال في منتص ف‬
‫األلفية األولى ق‪.‬م‪ ( .‬مجموعة الختمية ) ‪ .‬تشير المصن وعات الفخارية إلى تشابه مع‬
‫نظائرها المروية المتأخرة و‪ /‬أو ما بعد المروية في وس ط السودان ومع المصنوعات ما‬
‫قبل األكسومية المتأخرة في شمال إثيوبيا‪.‬‬

‫* الطور التاسع يمثله سكان رعويين أو شبه رعويين حاملين تقاليد ثقا فية ترتب ط‬
‫بالتقاليد ما بعد المروية في وسط السودان‪ ،‬ووجد ت آثار هذه المجم وعة في المنطقة إلى‬
‫الجنوب من كسال ويرجع تاريخها إلى أواخر األلفية األولى ق‪.‬م‪. F a t t o v i c h , 1 9 8 9 b .‬‬
‫على أساس البينة التى وفرتها أعمال االستكشاف والتنقيب في ش رق السودان‪ ،‬فإن‬
‫التطور الثقافي للمنطقة يبدو أنه مر بمراحل متعددة حيث شهدت المنطقة في الفترة من‬
‫حوالي ‪ 5 0 00‬ق‪.‬م‪ .‬حتى ‪ 40 0 / 3 00‬ميالدي ة تطور تقاليد محلية تميزت بمصنوعات‬
‫فخارية متفردة ( ما يعرف بـ تقليد عتباي ) ‪ .‬وفي الفترة حوالي ‪ 1 50 0 - 6 00 0‬ق‪.‬م ت وجد‬
‫بينة دالة على نش ؤ صالت مع النوبة والصحراء الشر قية‪ .‬وفي الفترة ‪1 5 0 0 - 2 5 00‬‬
‫ق‪.‬م‪ .‬أخذت المنطقة في االنخراط في شبكة التبادل االقتصادي بين مصر والمناط ق‬
‫الجنوبية لشمال شرق أفريقيا وجنوب شبه الجزيرة العربية‪ .‬هذه الفترة األخيرة هي‬
‫التى يهمنا تسليط الضوء عليها لكونها تقدم البينة المادية األولى للصالت الثقافية‬
‫الناشئة بين شرق السودان وجنوب شبه الجزيرة العربية وعلى تطور ملموس بفعل‬
‫توسع العالقات التجارية لنظام الحكم من مشيخة بسيطة إلى مشيخة مركبة‪.‬‬

‫قبل الشروع في عرض المادة العينية التى وفرتها أعمال التنقيب واالستكشاف األخيرة‬
‫في شرق السودان يجدر أن نشير إلى أن أصول المشيخة والدولة المبكرة وخصائصهما‬
‫‪Johnson and‬‬ ‫األساسية بصورة عامة تمت تغ طيتهما بصورة جيدة في األدب المتخصص‬
‫; ‪ ، E a r l e , 1 9 8 7‬ولهذا فإننا نحتاج هنا إلى‬ ‫‪Earle ,1987; Claessen and Skalick,1978‬‬

‫التركيز فقط على الخواص ذات الصلة مباشرة بموضوع هذه الورقة‪ .‬نقطة ذات أهمي ة‬
‫أساسي ة أنه في الوقت الذى يمكن فيه تقسيم أنظمة الحكم إلى أنواع‪ ،‬فإن حدودا ً تعريفية‬
‫بين تلك األنواع المتقارب ة تكون‪ ،‬بصورة حتمية‪ ،‬مائعة إلى درجة ما‪ .‬ال طيف‬
‫التيبولوجي يجري من المجتمعات ذات النظام األولي المسا واتي‪ ،‬عبر نظام "الشي خ‬
‫الكبير أ و الزعيم "‪ ،‬من ثم المشيخات البسيطة والمركبة إلى‪ ،‬أ خيرا ً ‪ ،‬الدولة المبكرة‬
‫‪ . J o h n s o n‬بمجرد التعرف على خصائص نظام‬ ‫‪and Earle,1987‬‬ ‫وح فيدتها الدولة القومية‬
‫حكم محدد فإنه يصبح ممكنا ً نسبت ه إلى مجموع ة طيف ه‪ ،‬لكنه مع ذلك يتوجب السماح‬
‫بقدر من ميوعة الحدود التعريفية‪ .‬ويرى كل من جونسون وايرل أن المشيخات "في‬
‫النهاية الدنيا‪ ...‬تتشابه مع أنظمة الشيخ الكبير أو الزعيم؛ و في النهاية العليا فإنها‬
‫تتقارب مع الدول‪ .‬األفضل تصور المشيخات سلسلة تطورية للتراتب االج تماعي‬
‫‪.Johnson‬‬ ‫‪and Earle 1987‬‬ ‫ومؤسسات الحكم"‬

‫طالما أن المشيخة والدولة هي مثار موضوعنا‪ ،‬علينا أن نطرح السؤال ‪ :‬ما هي‬
‫الخصائص المشتركة بين النظامين‪ ،‬وما هي أوجه االختالف بينهما؟ الخصائص‬
‫المشترك ة األكثر بروزا ً التى تهمنا هي أن كال النظامين ‪ -‬المشيخة والدول ة ‪ -‬يظهران‬
‫درجة عالي ة نسبيا ً من التكامل ( ن ظام الحكم المنظم يغطي مساحة معتبرة يقطنها عدد‬
‫كبير من السكان ) ؛ وبالتأكيد في نظام الحكم؛ ودرجة واضحة من التراتب‪ ،‬من حي ث‬
‫‪Johnson‬‬ ‫المرتبة االجتماعية والوضع‪ ،‬ومن حيث االمتيازات اال قتصادية أو فقدانها‬
‫‪ . a n d‬أما بالنسب ة لالختال فات فإن جونسون وايرل يطرحان بأن‬ ‫‪Earle,1987:288-291‬‬
‫"الدولة تختلف عن المشيخة في األساس من حيث حجم األولى الكبير‪ ،‬وحجم سكان أكبر‬
‫وأكثر تنوعا ً وتراتب ا جتماعي أشد صرامة"‪ .‬تنتج تلك اال ختالفات بفعل التحوالت‬
‫الوظيفية‪ :‬فكلما تز ايدت درجة التمايز وحجمه تبرز صعوبات التكافل والتي هي‬
‫"خارجة عن السيطرة غير الرسمية للنخبة الوراثية "‪ ،‬أي للمشيخة‪ ،‬وتتطلب بد ال ً عن‬
‫ذلك "بيروقراطية حكومية‪ ،‬وديانة رسمي ة‪ ،‬ونظاما ً قضائيا ً وقوة شرطة"‪.‬‬
‫بالنسبة للتمايز‪ ،‬فإن المشيخات تتألف من سكان يعدون باآلالف أو عشرات اآلالف ( الحد‬
‫األقصى مائة ألف نسمة ) ‪ ،‬في حين تتألف الدول من سكان يعدون بمئات األلوف‬
‫‪ . J o h n s o n‬بالتالي فإن‬ ‫‪and Earle,1987:211,225,246,256; Earle,1987:297‬‬ ‫والماليين "‬
‫الدول تكون ع ادة ذات مساحات أكبر من مساحات المشيخات‪ ،‬مع أنه يوجد تنوع معتبر‬
‫طالما أن كثافة السكان غير متجانسة سواء في المشيخات أو الدول‪ .‬أما فيما يخص ن ظام‬
‫الحكم‪ ،‬فإن لكل من المشيخات والدو ل مستويات عديدة‪ ،‬لكن يشك ل شاغلوا المناصب في‬
‫المشيخات بنية تكون فيها "كل نقطة قطب‪ ..‬مطابقة كليا ً لتلك النقطة في المركز "‬
‫‪ ، C o h e n , 1 9 8 7 : 3 5 - 3 6‬بالتالي ‪ ،‬فإن المشيخات‪ ..‬هى أنظمة قيادة بدرجة عالية من التعميم‬
‫لهذا السب ب‪ ،‬فإن‬ ‫(‪)Earle 1987:289‬‬ ‫يكون فيها للمست ويات المختلفة واجبات متشابهة"‬
‫المشيخا ت يمكن أن تكون عرضة لالنشطار ( خالفا ً للدول ) ‪ ،‬وتنزع "للتفكك وتشكي ل‬
‫وحدات مماثلة"‪ .‬الدو ل‪ ،‬خالفا ً لذلك‪ ،‬يمكن أن "تمثل ن وعا ً جديدا ً كليا ً من الم جتمع"‪،‬‬
‫بأنظمة تبعد النزعات االنشطارية" ‪ . C o h e n , 1 9 8 7 : 3 4‬تنجح الدول في ذلك عن طري ق‬
‫تطوير "أجهزة بيروقرا طية تراتبية ومتخصصة وهذه ال وجود لمثلها في المشيخات ‪،‬‬
‫يك ون فيها شاغلو المناصب معينيين مركزيا ً ويعتمدون في ال حفاظ على مناصبه م‬
‫وترقياتهم على الكفاءة وعلى والئهم للحاكم"‪.‬‬

‫المشيخات والدو ل تتشكل من مجتمعات تراتبية‪ ،‬مع وج ود نخب ذات وضع عالي‪ ،‬عادة‬
‫ما يكونوا أثرياء وذوي نفوذ‪ .‬يتولد التراتب بفعل أنظم ة التم ويل التى تستغل الموار د ‪-‬‬
‫الزراعي ة ووسائل التجارة بعيدة المدى لمصلح ة النخب‪ ،‬لكنها بالقدر نفس ه ضروري ة‬
‫‪ . ) J o h n s o n‬زيادات معد ل‬ ‫(‪and Earle 1987:207-211‬‬ ‫لبقاء المجتمع ككل واستقراره‬
‫( ‪Johnson and‬‬ ‫التراتب تكون أكثر صرامة واشد وضوحا ً في الدولة مقارن ة بالمشيخة‬
‫‪ . ) E a r l e‬في الدولة‪ ،‬يقوم التراتب على قاعدة ال طبقة‪ ،‬ينقسم المجتمع إلى‬ ‫‪1987:246,319‬‬

‫( ‪Johnson and Earle‬‬ ‫حكام ومالك لألراضي من جانب‪ ،‬ومنجين وعامة من جانب ثان‬
‫‪ ، ) 1 9 8 7 : 2 7 0‬كما وقد تتطور طبقة تجار‪.‬‬

‫طالما أن المعطيات اآلثارية هي مصدرنا األوحد بالنسب ة لدراسة التطور الثقافي لشر ق‬
‫الس ودان في الفترة قيد البحث فإننا سنحاول أن نتساءل عما إذا كانت خصائص‬
‫المشيخات قد و جدت انعكاسا ً لها في السجل اآلثاري‪.‬‬
‫تظهر الطرق التجارية للسودان القديم نمطا ً غير معقد يتسم باالستمرارية على مدى‬
‫فترا ت زمنية طويلة‪ .‬الدور السائد الذى قام به نهر الني ل في حياة السكان‪ ،‬مع ك ل‬
‫النشاطات تقريبا ً على ضفتيه‪ ،‬جعل التجارة تتبع النهر‪ .‬كانت الت جارة مع مصر تمثل‬
‫النشاط التجاري األساسي وتتوفر المعل ومات المتعلقة بها فيما يتعلق باتجاهها جن وبا ً‪،‬‬
‫في حين أن تفاصيل النشاطات التجارية باتجاه الغرب والشرق شحيحة ويصعب إعادة‬
‫تركيبها مع أن فرضيات طرحت في هذا الخصوص لكنها ظلت بحاجة إلى المزيد من‬
‫البحث‪ .‬في هذا اإلطار تجئ أهمية النتائج التى توص ل إليها البحث اآلثاري الجاري‬
‫حاليا ً في شرق الس ودان‪.‬‬

‫النتائج المتحصل عليها م ؤخرا ً بفعل تلك األب حاث الميدانية تشير إلى تطور م جتمع‬
‫يعتمد تن ظيما ً أقرب إلى نظام الدويلة المشيخة‪ ،‬مع محل تيجلينوس مركزا ً إداري ا ً‬
‫ومركزا ً ا حتفاليا ً يرتبط بالطقوس الجنائزية‪ .‬وتشير المؤسسات اإلدارية إلى أن شكال ً‬
‫من السيطرة على شبكة إعادة التوزيع قد ظهر في طور مجموعة القاش المبكر‪ .‬وتد ل‬
‫الممارسات الجنائزية على بروز شكل من التراتب ا الجتماعي في طور مجم وعة القاش‬
‫المتأخر‪ .‬أما بقايا المعمار التى تمت دراستها في محل تيجلينوس فتشير إلى مب ان‬
‫ومتاجر ضخمة شيدت من الطوب األخضر ترجع لطور مجموعة القاش المتأخر‪.‬‬

‫إن البينة المادية المتحصل عليها من أعمال التنقيب اآلثار ي في موقع محل تيجلين و س‬
‫تدلل على بدء نشؤ دويلة مشيخة في فترة طوري القاش الكالسيكي والمتأخر‪ ،‬وتم تثبي ت‬
‫دعائم هذا النظام الجديد في طور مجموعة القاش المتأخر‪ .‬ويبدو من المعطيات التى‬
‫أن عملية تثبيت‬ ‫‪Fattovich,Sadr and Vitagliano,1988‬‬ ‫وفرتها األعمال الميدانية األخيرة‬
‫دعائم نظام الدويلة المشيخ ة في دلتا القاش تأثر بالدور الذى أخذت تقوم به في شبك ة‬
‫التبادل التجاري مع مصر في الشمال‪ ،‬والنوبة في الغر ب‪ ،‬والجزيرة في الجنوب‬
‫ا لغربي‪ ،‬وجنوب شبه الجزيرة العربية في الشرق عبر البحر األحمر‪ ،‬ومع القرن‬
‫األفريقي‪ .‬وتشير دراسة الموضوعات الغريبة التى تم العثور عليها في محل تيجلين وس‬
‫إلى أن أهل مجموعة القا ش كانوا قد دخلوا في صالت مع مصر والن وبة وجنوب شب ه‬
‫الجزيرة العربية منذ أزمان طور مجموعة القاش المبكر ( ‪ 23 0 0 - 2 7 00‬ق‪.‬م‪ ) .‬؛ كما‬
‫وأنهم أ قاموا صالت بكرمة‪ ،‬إلى الشمال من البطانة‪ ،‬وجنوب شبه الجزيرة العربي ة في‬
‫طوري مجموعة القاش الوسطى ( ‪ 1 9 00 - 2 3 00‬ق‪.‬م‪ ) .‬والكالسيكي ة ( ‪1 7 00 - 1 9 00‬‬
‫ق‪.‬م‪ ، ) .‬واستمرت تلك الصالت مع كرمة والجزيرة وإثيوبيا وجنوب شبه الجزيرة‬
‫العربي ة في طور مجموعة القاش المتأخرة ( ‪ 1 40 0 - 17 0 0‬ق‪.‬م‪. ) .‬‬

‫انطالقا ً من التفسير المبدئي للنتائج المتحصل عليها من البحث اآلثاري ال جاري حاليا ً‬
‫في شرق السودان فإن عملية تشكل المجتمع المعقد في شرق السودان‪ ،‬تحديدا ً دلت ا‬
‫ نشؤ مجتمع تر اتبي اعتمد على دور في شبكة‬:‫ يبدو في صورته العامة كالتالي‬،‫القاش‬
‫التبادل التجاري مع مصر والنوبة وجنوب شبه الجزيرة العربية في طور مجم وع ة‬
‫ يشدد هذا على قدرات بعض أعضاء المجموعة من ذوي المراكز العل يا‬.‫القاش المبكر‬
‫ وأصبح أهل مجموعة القاش وسطاء بي ن‬.‫لتدعيم سيطرتهم على شبك ة إعادة التوزيع‬
.‫كرمة وجنوب ش به الجزيرة العربية في طوري مجموعة القاش الوسطى والكالسيكية‬
‫وتدل المسالت الرسمي ة التى تم الكش ف عنها في محل تيجلينوس على أن بعض قطاعات‬
‫ وه و ما ساعد على بروز‬،‫السكان تمتعوا بامتيازات فيما يتعلق بالموارد االستراتيجية‬
‫ تثبيت دعائم سلطات إداري ة فاعلة بحلول طور مجم وعة القاش المتأخر‬.‫قيادة قوية‬
‫ارتبط بتوسيع شبكة التباد ل مع مصر والنوبة والجزيرة وجنوب شبه الجزيرة العربية‬
.‫وإثيوبيا‬

‫المراجع‬
Adams W. 1988, ‘The Nile Trade in Post Pharaonic Times’, Sahara 1: 21-36.
Ar kel l A. J. 1950 , ‘ Var i a Sudani ca’ , Jour n al of Eg yp ti an Ar chae ol og y 36 : 24 -42.
Arkell A.J. 1954, ‘Four Occupation Sites at Agordat’, Kush 2: 33-62.
Берзина Я. 1990 , История Африки в Древних и Средневековых Ис точниках,
[Хрестоматия] Москова:10.
Bonnet Ch. (ed), Kerma, Royaume de Nubie, Géneve, Musée d’Art et d’Histoire.
Bonnet Ch. 1986, Kerma Territoire et Métropole, Cairo.
Braidwood and Willey, 1962
Brunstein S.M. 1989, Agatharchides of Cnidus on the Erythraean Sea, London.
Butzer K. 1982, Archaeology as a human ecology: method and Theory for
contextual approach. Cambridge: Cambridge University Press.
Butzer K. 1976, Early Hydr aulic Civilization in Egypt, Chicago.
Callow P. and G.Wahida 1981, ‘Fieldwork in Northern and Eastern Sudan, 19776 -
1980,’ Nyame Akume 18: 34-36.
Caneva I.(ed) 1988, El-Geili – The History of a Middle Nile Environment 7000 BC –
AD 1500, Cambridge Monographs in African Archaeology 29. BAR International
Series 424, Oxford.
Capuano G., A. Manzo and C.Perlingieri 1994, ‘Progress Report on the Pottery
from the Settlement Area at Mahal Teglinos (Kassala), 3rd -2nd millennia BC’,
Études Nubiennes, Actes du VIIe Congres international d’études nubiennes 3-8
septembre 1990, Vol.II, Ch.Bonnet (ed):109-116.
Claessen H. and P.Skalnick (eds), The Early State, The Hague.
Cohen R. 1987, ‘State Origins: A Reappraisal’, in: Claessen H. and P.Skalnick
(eds), The Early State, The Hague.
Conti Rossini C. 1913 , ‘Studi du popolazioni dell’Etiopia Iv: antiche popolazioni
nuba-etiopiche’, in: RSO 6:392-403.
Crowfoot J.W. , ‘Some potsherds from Kassala’, Jour nal of Egyptian Archaeology
14: 112-116.
Earle T. 1987, ‘Chiefdoms in Archaeological and Ethnohistorical perspective’,
Annual Review of Anthropology 16: 279 -308.
Fattovich R. 1987, ‘Some Remarks on the Origins of the Aksumite Stelae’,
Annales d’Ethiopie 14: 43-69.
Fattovich R. 1988, ‘The Stelae of Kassala: a new type of funerary monuments in
the Eastern Sudan’, L’Archéologie du Nil Moyen 3: 55 -63.
Fattovich R. 1989a, ‘The Late Prehistory of the Gash Delta, Sudan’m in:
L.Krzyzaniak (ed), Late Prehistory of the Sahara and the Nile Basin, Poznan,
Archaeological Museum: 481-498.
Fattovich R. 1989b, The Gash Delta between 1000 BC and AD 1000’, in:
S.Donadoni and S.Wenig (eds), Studia Meroitica 1984 10, Berlin, Academie
Verlag: 797-816.
Fattovich R. 1990a, ‘The peopling of the northern Ethiopian -Sudanese borderland
between 7000 and 1000 BP: a preliminary model’, Nubica , (1987-1988): 3-45.
Fattovich R. 1990b, ‘The problem of Punt in the light of the recent field work in
the Eastren Sudan’ , Studien zur Altägyptischen Kultur, Beiheft 5.
Fattovich R. 1990c, ‘The Gash Delta Archaeological Project: 1988 -1989 Field
Seasons’, Nyame Akume 33:16-20.
Fattovich R. 1991, ‘Evidence of Possible Administrative Devices in the Gash
delta (Kassala), 3rd -2nd millennia BC, Archéologie du Nil Moyen 5: 65-78.
Fattovich R., A.E.Marks and A.M.Ali 1984, ‘The Archaeology of the Eastern Sahel,
Sudan: preliminary results’, The African Archaeological Review 2: 173 -188.
Fattovich R., K.Sadr and S.Vitagliano 1988, ‘Societa e Territorio nel Delta Gash
(Sudan), 3000 a. Cr. 300/400 d. Cr.’, Africa (Roma) 43: 394 -453.
Gowlett J.A.J. 1989, ‘Human Adaptation and Long-Term Climatic Change in
Northeast Africa: An Archaeological Perspective’, in: D.H.Johnson and
D.M.Anderson (eds), The Ecology of Survival, London :27-45.
Halaand, Randi 1984, ‘Continuity and Discontinuity – How to account for Two
Thousand Years Gap in the Cultural History of the Khartoum Nile Environment’,
Norvegian Archaeological Review 17: 39-51.
Hassan F.A. 1981, ‘Historical Nile Floods and Their Importance for Change’,
Science 212: 1142-1148.
Hodder I. 1985, ‘Postprocessual archaeol ogy’, in: M.B.Schiffer (ed), Advances in
Archaeological Method and Theory 8, New York: Academic Press: 1 -26.
Huntigford G.W .B. 1974, ‘Three Notes on Early Ethiopian Geography’, Folia
Orientalia 15:197-204.
Johnson A.W. and T.Earle 1987, The Evolution of Human Societies, Stanford.
Kirwan L.P. 1972, ‘The Christian Topography and the Kingdom of Aksum’, The
Geographical Journal 138:166-177.
Kitchen K.A. 1971, ‘Punt and w to get there’, Orientalia 40: 184-207.
Kitchen K.A. 1982, ‘Punt’, Lexikon der Agyptologie IV,8: 1198-1201.
Littmann E., S.Krenker and Th.Von Lüpke 1913, Deutsche-Aksum Expedition, IV,
Berlin.
Marks, A. et al. 1985, ‘The Prehistory of the Central Nile Valley as Seen from its
Eastern Hinterlands: Excavations at Shaqadud, Sudan’, Journal of Field
Archaeology 12: 261-278.
Marks, K.A., A.M.Ali and R.Fattovich 1986, ‘The Archaeology of the Eastern
Sudan: a First Look’, Archaeology 39: 44-50.
Marks, K.A. and A.M.Ali (eds) 1990, The Prehistory of the Eastren Sahel, Dallas.
Muzzolini A. 1982, ‘Les climats sahariens Durant l’Holocène et la fin du
Pléistocène’, in: Travaux du Laboratoire d’Anthropologie, de Prehistoire et
Ethnologie de la Medditerranee Occidentale 2:1-38.
Sadr K. 1986, ‘A pan-Grave Related Culture, Nyame Akuma 27: 48-49.
Sadr K. 1987, ‘The Territorial Expanse of the Pan -Grave Culture, ANM 2:265-291.
Sadr K. 1988, The Development of Nomadism: The View from Ancient Northeast
Africa, Ann Arbor.
Vercoutter J. 1959, ‘The Gold of Kush’, Kush VII:120-153.
Williams M.A.J. 1982, Quaternary Environments in Northern Africa’, in:
M.A.J.Williams and D.A.Adamson (eds), A Land between two Niles, Rotterdam:
13-22.
W olska-Conus W. (ed) 1968, Cosmas Indicopleustes, Topographie Chrétienne,
Paris.
Zibelius K. 1972, Afrikanische Orts- und Volkernamen in hierogl yphischen und
hieratischen Texten, Wiesbaden.
Zyhlarz E. 1958, ‘The Countries of the Ethiopian Empire of Kash (Kush) and
Egyptian Old Ethiopia in the New Kingdom’, Kush 6:7 -39

You might also like