Professional Documents
Culture Documents
الفصيح
تسع رسائل إلي الحاكم الفرعوني
تحدد مفهوم العدالة منذ فجر التاريخ
1
ول يتوقف عن مخاطبة الحاكم ،ووعيه الشديد ،الذي تجلي
في رغبته من أن يستفيد من نصائح الفلح ،وحكمه ،وأيضا
لغته الرشيقة ،التي ُتعد لغة أدبية ،عالية المستوي .
أما فيما يتعلق بفكرة العدل ،فهي تطرح نفسها ،دائما
وأبدا ،طالما كان هناك إنسان ،وطالما كان هناك ظالم
ومظلوم ،وقاهر ومقهور ،وقامع ومقموع ،وتظل تلك
الفكرة جديرة بالهتمام ،والتناول ،لنها ستكون في نهاية
المر ،في صالح المجتمع الذي يطبقها ،وفي صالح الحاكم
الذي يسعى إليها ..إلي هذا الحد ُتصبح فكرة العدالة ،هي
الفكرة التي ليمكن أن يبتعد عن تحقيقها ،ويتبناها أي مجتمع
يسعى نحو التقدم ،ويسعى إلي احترام أفراده ،تحقيقا ،
لفكرة أخري ،لتقل أهمية عن فكرة العدالة ،وهي فكرة
الحرية ،وهذه العلقة بين الفكرتين دائما ما ُتطرح أهميتهما ،
وُتطرح المشكلت المتعلقة بهما ،وتدفع المفكرين
والفلسفة ،منذ أقدم العصور إلي مناقشة أمورهما من زاوية
:أيهما أسبق -من ناحية الهتمام -العدل أم الحرية ؟!
2
إلي أن يدافع عنه أنصاره ،وبهذا الدفاع المزدوج ،سيتحقق
المفهومين .
3
كتبت علي ورق البردي ،من السرة وهناك رسالة)ُ (5
السادسة) 2250ق.م( وتتضمن احتجاجا من كاتبها -وهو
ضابط بالجيش -لن فصيلته التي تعمل بمحجر طره ،لم
تصلها الملبس الجديدة إل بعد ستة أيام ،بينما المر ل يحتاج
لكثر من يوم واحد ( ) (6وهناك رسائل أخري -قليلة -من
الدولة الوسطي ،أما الدولة الحديثة ،فقد بقيت منها رسائل
كثيرة ،أهمها مرسل من دير المدينة ،وهي قرية في طيبة ،
كانت مأوي للفنانين والصناع والعمال الذين بنوا المقابر
الملكية لسرة الرعامسة)(7
4
لكي يبيعها ،ويعود بالمال الذي يكفيه لحياته المعيشية طوال
العام ،والي أن يحين موعد الحصاد الجديد ،وبينما هو يستعد
لبيع محصوله في مصر ،تعرض له أحد الموظفين
،ويدعي)تحوت نخت( حين رأي حميره المحملة بالمحاصيل ،
وأشياء أخري جمعها الفلح لكي يبيعها ،ففكر في الطريقة
التي يستطيع بها الحصول علي ما يريد ،وتفتق ذهنه عن حيلة
مؤداها :أنه أمر أحد رجاله بنشر بعض الملبس في الطريق
الضيقة التي سيمر عليها الفلح وحميره ،ونتيجة لذلك لم
تستطع الحمير السير ،بسبب ضيق الطريق ،ويأكل حمار من
الحمير ،حزمة من أعواد قمح الموظف ،فيتخذ من ذلك
ذريعة ،للستيلء علي متاع الرجل وحميره ،فهذا جزاء فعله ،
كما قال!! وعندما يطالبه الفلح بإعادة ما سلبه منه عنوة ،
يرفض ،ويقوم بضربه ،وإيذائه بدنيا ونفسيا ،ومع بكاء الفلح
لمدة عشرة أيام ،محاول استعطاف الرجل لكي ُيعيد له
ممتلكاته ،وأمام تهاون الموظف في رد تلك الممتلكات ،
ولحساس الفلح بأن كل محاولته قد باءت بالفشل ،يلجأ
بعدها إلي حاكم المقاطعة ،التي ينتمي إليها الموظف
المغتصب ،وُيدعي ) رنزي( فيشكو إليه ما حدث من قبل
) تحوت نخت( ،فيقوم) رنزي ( بجمع مجلس الشراف ،
ليفصل في هذا الموضوع ،غير أن أعضاء المجلس ،لم يعلنوا
حكمهم ،بسبب انحيازهم للغنياء ،ونتيجة لذلك لجأ الفلح
إلي كتابة شكا يته ،التي انبهر منها ) رنزي( ،فرأي أن المر
ُجدير بأن يعرضه علي الملك وكان يدعي ) نيكاو رع( ،ولما
ُأعجب الملك بفصاحة الفلح ،أمر بأل يبت في أمره ،حتى
يكرر الشكوى ،فيكون ذلك مصدرا للحصول علي تسع رسائل ـ
أو خطب بليغة -وبعد انتهائه من كتابة الرسالة التاسعة ،يأمر
الملك رئيس المقاطعة رنزي ،بإحضار الفلح ،وتلبية
مطالبه ،وتوقيع العقاب علي المغتصب) تحوت نخت( ،وكانت
العقوبة بالغة القوة ،ورادعة ،حيث أمر بأن تكون كل أملك
) تحوت ( ملكا للفلح بما في ذلك بيته .
* هذه القصة البسيطة في تفصيلتها ،العميقة في مغزاها
،تكشف لنا بعض المور التي يمكن إجمالها في النقاط التالية
:
أول :أن تلك الفترة تميزت بانحطاط أخلق الغنياء -بشكل
عام -و موظفي الدولة بشكل خاص ،فضل عن انحياز مجلس
فض المنازعات للغنياء ،علي حساب مصالح الفقراء .
ثانيا :أن تلك الفترة كانت تعكس ثراء أدبيا ،وثقافيا -برغم
كتبت به رسائل الفلح . ذلك الفساد -تجلي في السلوب الذي ُ
ثالثا :أن تلك الفترة -علي الرغم من تردي الوضاع فيها،
وتفشي الفوضى -كانت تعكس مناخا يسمح للبسطاء من
الناس أن يعبروا عن أنفسهم ،إذا اقتضت الضرورة ذلك من
5
أجل الدفاع عن مصالحهم ،وكان الحتجاج هو الصورة
الطبيعية للتعبير.
رابعا :كان هناك من يتحلى بالخلق ،والضمير ونموذج ذلك
) رنزي( حيث لم ينحاز كلية إلي موظفه) تحوت ناخت( .
خامسا :أن الملك لم يجابه احتجاج الفلح بالقمع ،بل نراه
ينحاز للحق ،ولم يستطع إل أن يحقق العدل .فأحسن -منذ
البداية -إلي الفلح وعائلته.
6
والعبارات المرة ،في نفس السياق نجدها في قوله ) :أني
مدح
أتكلم ،فهل لك أن تسمع ؟ أقم العدل أنت يا أيها الممدوح ،الذي ي ُ
بهؤلء الذين يمدحون ) يقصد يحبونك( .اقض علي فقري(
7
علي ) أن أعظم فضيلة دائمة ،يتحلى بها النسان في الحياة هي
العدالة والخلق العظيم ( )(11
من المثلة المختارة التي سبق توضيحها يتبين لنا كيف أن
أقدم رسالة فرعونية ،كتبها الفلح الفصيح ) خانوب أنوب( ،
استطاعت أن ُتنتج آثارها في العصور التالية لها ،وحتى الدولة
الحديثة ،المر الذي جعل مفهوم العدل ،مفهوما إنسانيا عاليا
في قيمته ،وغاليا في تأثيره ،فالفلح ،الذي بدأ رسالته
الولي بنبرة إنسانية هادئة كما ذكرت ،لم يستطع أمام إهمال
رسائله وشكا يته ،أن يحافظ علي هدوئه ،فنراه في الرسائل
التالية ،وقد ارتفعت نبرة الغضب رويدا رويدا ،حتى أصبحت
أقرب إلي الصياح والحتجاج ،فنراه يقول في آخر رسالة له :
) وقع العقاب ضد من يستحق العقاب ،ولن بكون
هناك شيء يعادل استقامتك ،هل يخطأ الميزان ،
هل يميل إلي جانب ،هل ينحاز ) تحوت( إذا أظهر
الثلثة تساهل ،إذا يمكنك أن تميل لجانب ،وخذ
نصيحة ،فالرجل العظيم إذا كان طماعا ،فهو ليس
حقا عظيم ،واللسان هو الستقامة من الميزان ،
والقلب هو الثقل ،والشفتين هما ذراعه ( ووسط
الحساس بالظلم يصل حديث الفلح لذروته حين
يقول ) ل تتعامي عن إنسان قد رأيته ،ول تردن
إنسانا يشكو إليك ،وأترك هذا الخمول حتى إن
حكمتك القائلة " افعل الخير لمن يفعله لك" يمكن
أن تروي إلي مسامع كل الناس ،وحتى يرجع إليك
8
الناس يما يتعلق بمطالبهم الحقة ،والخامل ل أمس
له ،والصم عن العدل ل رفيق له ،والرجل الجشع
ل فراغ لديه ) أجازة ( .وذلك الذي يوجه إليك التهمة
يصير رجل فقيرا ،والفقير سيصير شاكيا ،والعدو
يصبح ذابحا ) للفلح( ..تأمل ..إني أشكو إليك ،
وأنت ل تسمع شكواي ،سأذهب ،وأشكو منك إلي )
أنوبيس()(15
9
-1يجب أل ينحرف الميزان أو يميل .ويجب أن يكون الشخص
المنوط به تطبيق العدالة غير متذبذب ،أو ملول ).يا خيط
الميزان الذي يحمل الثقل ،ل يا أيها الحاكم ل تنحرف ،يا
مثقال الميزان ل تمل ،ويا خيط الميزان ل تتذبذب ملتويا(
}الشكوى الثانية{ ..
-2ضرورة توقيع العقاب علي الجاني ) .اكبح جماح السارق ،
تكونن فيضانا ضد الشاكي ،وأحذر دافع عن الفقير ،ول
من قرب الخرة ،ارغب في أن تعيش طويل علي حسب المثل
" إن إقامة العدل هو نفس النف" وقع العقاب علي من
يستحق العقاب ( }الشكوى الثالثة {..
-3صبر القاضي ,واتساع صدره عند سماع شكوى المجني يُعد
معيارا لتحقيق العدل.
) كن صبورا حتى يمكنك أن تصل إلي العدل ،أكبح جماح
اختيارك حتى إن الشخص الذي تعود أن يدخل بسكون يمكنه
أن يكون سعيدا ،علي أنه ل يوجد إنسان طائش يتفوق في
عمل ،ول متسرع تطلب مساعدته ،اجعل عينيك تتأملن ،
وعلم قلبك،ول تكونن قاسيا بنسبة قوتك ،خوفا من أن يحيق
بك الذى( } الشكوى الرابعة{
-4النحياز لي طرف ،من الطراف المتنازعة ،يقضي علي
فكرة العدل.
)إن أملك الرجل الفقير بمثابة النفس له ،ومن
يغتصبها يكتم أنفه ،ولقد ُنصبت لتسمع الشكاوى ،
وتفصل بين المتخاصمين ،وتكبح جماح اللص ،ولكن
تأمل ،فان ما تفعله هو أنك تعاضد اللص ،والنسان
يضع ثقته فيك ،ولكنك أصبحت معتديا ،لقد نصبت
سدا للفقير فاحترس ،الخوف من الغرق ( } الشكوى
الخامسة{
-5المخطئون يسيئون إلي العدالة.والقضاء المستقيم هو
ميزانها.
) المغتصب يحط من قدر العدالة ،ولكن الشخص إذا
قضي بالقسطاط المستقيم ،فان العدالة إذن لن يحاد عنها
ولن يبالغ في إجرائها ( } الشكوى السادسة{.
-6انتهاك القانون من قبل القادرين ،ليعني إهمال حقوق
الفقراء.
) إن منتهك حرمة القانون ،وخارق المتبع من المور ،
ل يستطيع رجل فقير أن يقاوم نهبه ،إذا لم تواجهه
العدالة..............إن خمولك سيضلل بك ،وشراهتك
ستغشك ،وان عدم اكتراثك سيولد لك أعداء ،ولكن هل
يمكنك أن تجد فلحا آخر مثلي ؟ وهل الشاكي يقف علي باب
بيت الخامل؟ علي أنه ل يوجد إنسان صامت قد أنطقته ،ول
10
نائم قد أيقظته ،ول مكتئب قد نشطته ،ول إنسان فمه مغلق
قد فتحته ،ولجاهل قد جعلته يعرف ،ول غبي قد علمته ،
ومع ذلك فان الحكام هم الذين يقصون السوء ،وأرباب الخير
هم أصحاب فن ليصنعوا أي شيء كائن ،ويصلوا الرؤوس التي
قد فصلت عن أجسامها( } الشكوى السابعة{.
-7لن يستطيع النسان إلغاء فكرة العدل ،لن الله يصونها ،
فضل عن أن الفكرة يحميها تطبيق القانون .
) أقم العدل لرب العدل ،والذي عدل عدالته موجود ،وأنت
يا أيها القلم ،وأنت يا أيتها البردية ،ويا أيتها الدواة ،
ويا"تحوت" ابتعدوا عن عمل السوء ،وعندما يكون الحسن
حسنا فالمر إذن حسن ،غير أن العدل سيكون إلي البد ،
ويذهب مع من يعمله إلي الجبانة ،وسيدفن وتطويه الرض ،
محى من الرض ،بل سيذكر للخير ،وهكذا أما أسمه فلن ي ُ
القانون في كلمة الله ....................ول يجوز وجود الظلم
مع القانون ،وان العمل الحقير ل يصل إلي المدينة ،علي أن
أصغر الشياء ستصل إلي الريف!!( } الشكوى الثامنة{..
11
خاص لهم -وحدهم -المر الذي
ساعد علي حدوث حركة تغيير كبري ،علي يد )حريحور( وبدأت
معه السرة الواحدة والعشرين ،تمارس مهامها الصلحية ،
كبداية لعصر جديد عرف باسم ) عصر النتقال الثالث(-1070
712ق.م
فهل يعيد التاريخ نفسه -الن -هنا في مصر ،حيث إننا
علي مشارف عصر جديد ،نتمنى أن ينتصر لفكرة العدل ،
ولفكرة الحرية.
أحمد عبد
الرازق أبو العل
ديسمبر 2007
هوامش:
) (1العدل والحرية -سالم القمودي -الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع -
بنغازي 1997 -
صفحة 27
) (2هناك بعض الترجمات لسمه علي هذا النحو) :خانوب أنوب(
) (3أنظر معجم الحضارة المصرية القديمة الذي كتبه مجموعة من الكتاب
سونرون – جان يويوت -أ.أ.س .ادواردز هم :جورج بوزنر -سيرج
-ف.ل.ليونيه -جان دوريس -وترجمه :أمين سلمة وراجعه د .سيد
توفيق – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة السرة 1996صفحة 80
) (4موسوعة مصر القديمة -سليم حسن -الجزء السابع عشر – الدب
المصري القديم – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة السرة 2000
صفحة 330
) (5توجد هذه الرسالة في المتحف المصري -القاهرة .
) (6أنظر في هذا الشأن كتاب كنوز الفراعنة – ت.ج.ه .جيمز – ترجمة
د .أحمد زهير أمين – مراجعة د .محمود ماهر طه -الهيئة المصرية العامة
للكتاب – مكتبة السرة 1999صفحة 172-
) (7كنوز الفراعنة -المرجع السابق صفحة 173
) (8سليم حسن -المرجع السابق صفحة 55
) (9أنظر سليم حسن -المرجع السابق صفحة 59
) (10تطور المثل العليا في مصر القديمة – د .محمد علي سعد الله -
مؤسسة شباب الجامعة -السكندرية – 1989 -صفحة 158
) (11الحكم والمثال والنصائح عند المصريين القدماء – محرم كمال –
اللف كتاب الثانية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – الطبعة الثانية 1998
صفحة 10
) (12الحكم والمثال في الدب الفرعوني – د .سيد كريم -الهيئة
المصرية العامة للكتاب -مكتبة السرة – 1997صفحة 148
) (13د .سيد كريم – مرجع سابق صفحة 148
) (14حضارة مصر الفرعونية – فرا نسوا دوما – ترجمة ماهر جويجاتي –
المشروع القومي للترجمة – المجلس العلى للثقافة – رقم 1987- 48
صفحة 538
12
) (15سليم حسن – المرجع السابق – صفحة 69
** كل الستشهادات الخاصة بشكاوى الفلح الفصيح ُ ،نشرت في كتاب )
مصر القديمة ( -سليم حسن الجزء السابع عشر – الدب المصري
القديم – مكتبة السرة – 2000-الهيئة المصرية العامة للكتاب.
13