You are on page 1of 13

‫قراءة جديدة لقصة الفلح‬

‫الفصيح‬
‫تسع رسائل إلي الحاكم الفرعوني‬
‫تحدد مفهوم العدالة منذ فجر التاريخ‬

‫** أحمد عبد الرازق أبو‬


‫العل‬

‫ُتعد قصة الفلح الفصيح ‪ -‬برسائلها التسع ‪ -‬من أقدم‬


‫القصص الفرعونية ‪ ،‬وتأتي أهميتها ليس فقط بسبب زمنها‪-‬‬
‫الذي يعود إلي نهاية اللف الثالثة قبل الميلد‪ -‬ولكن بسبب‬
‫أنها ُتعد أهم وثيقة ‪ ،‬تتحدث عن العدل ‪ ،‬وأهمية أن يتحلى به‬
‫الحاكم ‪ ،‬وأهمية أن يدفع الظلم عن المظلومين ‪ ،‬ويردع‬
‫ويعاقب الظالمين ‪ ،‬فضل عن أنها ‪ ،‬تكشف ُبعدا آخر ‪ ،‬وهو‬
‫سعة صدر الحاكم ‪ ،‬ووعيه الشديد ‪ ،‬سعة الصدر تلك ‪ ،‬هي التي‬
‫أعطت الفرصة للفلح المظلوم ‪ ،‬لكي يواصل طرح مظلمته ‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫ول يتوقف عن مخاطبة الحاكم ‪ ،‬ووعيه الشديد ‪ ،‬الذي تجلي‬
‫في رغبته من أن يستفيد من نصائح الفلح ‪ ،‬وحكمه ‪ ،‬وأيضا‬
‫لغته الرشيقة ‪ ،‬التي ُتعد لغة أدبية ‪ ،‬عالية المستوي ‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق بفكرة العدل ‪ ،‬فهي تطرح نفسها ‪ ،‬دائما‬
‫وأبدا ‪ ،‬طالما كان هناك إنسان ‪ ،‬وطالما كان هناك ظالم‬
‫ومظلوم ‪ ،‬وقاهر ومقهور ‪ ،‬وقامع ومقموع ‪ ،‬وتظل تلك‬
‫الفكرة جديرة بالهتمام ‪ ،‬والتناول ‪ ،‬لنها ستكون في نهاية‬
‫المر ‪ ،‬في صالح المجتمع الذي يطبقها ‪ ،‬وفي صالح الحاكم‬
‫الذي يسعى إليها ‪ ..‬إلي هذا الحد ُتصبح فكرة العدالة ‪ ،‬هي‬
‫الفكرة التي ليمكن أن يبتعد عن تحقيقها ‪ ،‬ويتبناها أي مجتمع‬
‫يسعى نحو التقدم ‪ ،‬ويسعى إلي احترام أفراده ‪ ،‬تحقيقا ‪،‬‬
‫لفكرة أخري ‪ ،‬لتقل أهمية عن فكرة العدالة ‪ ،‬وهي فكرة‬
‫الحرية ‪،‬وهذه العلقة بين الفكرتين دائما ما ُتطرح أهميتهما ‪،‬‬
‫وُتطرح المشكلت المتعلقة بهما ‪ ،‬وتدفع المفكرين‬
‫والفلسفة ‪ ،‬منذ أقدم العصور إلي مناقشة أمورهما من زاوية‬
‫‪ :‬أيهما أسبق ‪ -‬من ناحية الهتمام ‪ -‬العدل أم الحرية ؟!‬

‫مفهومان متشابكان ‪ ،‬ل يستغني أحدهما عن الخر ‪ ،‬وبرغم‬


‫هذا يمكن أن يفترقان ‪ ،‬ويتعارضان‪ ،‬ويحدث هذا حين يتحقق‬
‫أي مفهوم منهما ‪ ،‬ول يتحقق المفهوم الخر ‪ ،‬فما قيمة أن‬
‫يكون هناك عدل في مجتمع من المجتمعات ‪ ،‬ول تكون هناك‬
‫حرية ؟؟ والعكس صحيح أيضا‪ ،‬أحيانا يتم التغاضي عن فكرة‬
‫العدل ‪ ،‬من أجل مزيد من الحرية ‪ ،‬بحجة أن الفراد يحتاجون‬
‫إلي حرية الرأي من أجل التعبير عن حياتهم ‪ ،‬ومعتقداتهم ‪،‬‬
‫لكنهم حين يستشعرون أن ثمة ظلم واقع عليهم ‪ -‬برغم ما‬
‫يمارسونه من حرية‪ -‬فإنهم سرعان ما يعودون إلي المناداة‬
‫إلي تحقيق العدل قبل تحقيق الحرية ‪ ،‬وذلك لرفع الظلم‬
‫الواقع عليهم ‪ ،‬وكما تري فان العلقة بين المفهومين علقة‬
‫مضطربة ‪ ،‬ومن أجل أل تصبح كذلك ‪ ،‬فلبد من السعي نحو‬
‫تحقيق المفهومين ‪ ،‬بشكل متوازن ‪ ،‬بحيث ل يطغي أحدهما‬
‫علي الخر ‪ ،‬فل معني للحرية مع غياب العدل ‪ ،‬ول معني‬
‫للعدل مع غياب الحرية ‪.‬ومنذ سنوات ذكر ) هيجل ( " إن أي‬
‫حق مهما كان نوعه ‪ ،‬يشمل في داخله تصور الحرية " ولذلك‬
‫) إذا كانت الحرية قيمة يعتز بها النسان ‪ ،‬ويسمو بها ‪ ،‬فان‬
‫العدل هو الذي ُيضفي عليها قدرها ‪ ،‬هو الذي ُيعلي من‬
‫شأنها ‪ ،‬أو يفضح ممارستها ‪ ،‬هو الذي ُيوقف ظلمها ‪ ،‬ويمنعها‬
‫من أن تتحول إلي اعتداء علي الخر ‪ ،‬من أن تتحول من قيمة‬
‫إنسانية تهدف إلي الرفع من كرامة النسان ‪ ،‬إلي وسيلة‬
‫لظلم أخيه النسان ( )‪ ، (1‬وفي العصر الحديث نري مفكرا‬
‫مثل الدكتور طه حسين ‪ ،‬يتعرض لنفس الشكالية ‪ ،‬فالحرية‬
‫لديه في حاجة إلي أن يدافع عنها أنصارها ‪ ،‬والعدل في حاجة‬

‫‪2‬‬
‫إلي أن يدافع عنه أنصاره ‪ ،‬وبهذا الدفاع المزدوج ‪ ،‬سيتحقق‬
‫المفهومين ‪.‬‬

‫سنتعرض أثناء دراسة هذه القصة ‪ ،‬لتفسير نقطتين‬


‫رئيسيتين ‪ ،‬الولي منهما تتعلق بالجانب الشكلي ‪ ،‬والثانية ‪،‬‬
‫تتعرض للجانب الموضوعي ‪..‬‬

‫وأعني بالجانب الشكلي ‪:‬الطريقة التي مارسها الفلح‬


‫) خون أنبو ‪ (anpu – khun) (2‬لكي يوصل شكواه الطويلة إلي‬
‫الحاكم ‪ ،‬في وقت لم يكن فيه البريد بالشكل الذي كشفت‬
‫وجد ‪ ،‬في فترة أحداث القصة ‪.‬‬
‫عنه الوثائق ‪ -‬فيما بعد ‪ -‬قد ُ‬
‫والجانب الموضوعي ‪ :‬يتعلق بمضمون الرسائل أو الخطب‬
‫التسع ‪.‬‬

‫أول ‪ :‬الجانب الشكلي‪:‬‬

‫نتساءل ‪:‬كيف أن أسلوب الخطاب أو الرسالة الموجهة إلي‬


‫الحاكم ‪ ،‬كان أسلوبا مؤثرا ‪ ،‬وفاعل ‪ ،‬في مصر الفرعونية ‪،‬‬
‫خاصة وأن وسائل نقل الرسائل أو الخطابات ‪ ،‬لم تكن معلومة‬
‫لنا حيث إن النصوص القديمة ‪ ،‬لتذكر إل المعلومات القليلة‬
‫عن الوسيلة التي كان قدماء المصريين ينقلون بها‬
‫خطاباتهم ‪ ،‬ولول مصادفة العثور علي صورة شعرية سجلت‬
‫نظاما للخدمة البريدية في الدولة الحديثة ‪ ،‬لما عرفنا عنه شيئا‬
‫‪.‬ومحتوي الرسالة أو الصورة الشعرية هو ‪ " :‬آه لو تحضر إلي‬
‫حبيبتك ‪ -‬كالرسول الملكي‪ -‬الذي ينتظر سيده الرسالة بصبر فارغ ‪ ،‬إذ‬
‫يتلهف قلبه لسماعها ‪ .‬أعدت له الخيل المسرجة في حظائر كاملة ‪،‬‬
‫وتنتظره الجياد عند المراحل ‪ ،‬والعربة ذات الخيول واقفة في موضعها ‪،‬‬
‫ل يرتاح رسول البريد في رحلته ‪ ،‬وعندما يصل إلي بيت الحبيبة يقفز‬
‫قلبه من شدة الفرح" )‪(3‬‬

‫هذه القصيدة تكشف أن المصريين القدماء عرفوا نظام‬


‫البريد ‪ ،‬لكننا ل نملك المعلومات الكاملة التي ُتفصح عن نظام‬
‫إدارته – في تلك الونة – وعلي حسب ما ذكره ) سليم حسن(‬
‫في موسوعته عن مصر القديمة ‪ ،‬فان أقدم ) ما وصل إلينا من‬
‫الرسائل التي كان يتبادلها أفراد الشعب المصري القديم ‪ ،‬وتصدرها أو‬
‫تتلقاها المصالح الحكومية في داخل البلد وخارجها ‪ ،‬يرجع تاريخها إلي‬
‫الدولة القديمة ‪ ،‬غير أنه لم يصل إلي أيدينا إل عدد يسير جدا من هذه‬
‫الدولة ‪ ،‬أما الدولتان الوسطي والحديثة ‪ ،‬فقد عثر علي مقدار ل بأس به‬
‫من الولي ‪ ،‬وعدد عظيم من الثانية ‪ ..‬وإذا تتبعنا هذه الرسائل من أول‬
‫ظهورها حتى أواخر الدولة الحديثة ‪ ،‬وجدنا أن لكل عصر أسلوبا منفردا‬
‫وذوقا خاصا ‪ ،‬بالضافة إلي أن رسائل كل عصر كانت تتأثر بسابقتها ‪،‬‬
‫ويظهر ذلك جليا في وسائل الدولة الحديثة التي ورثت كثيرا من خصائص‬
‫رسائل الدولة الوسطي ‪ ،‬وبخاصة ما نشاهده من الثر الذي تركته رسائل‬
‫أبو غراب في السرة التاسعة عشرة ( )‪(4‬‬

‫‪3‬‬
‫كتبت علي ورق البردي ‪ ،‬من السرة‬ ‫وهناك رسالة)‪ُ (5‬‬
‫السادسة) ‪2250‬ق‪.‬م( وتتضمن احتجاجا من كاتبها ‪ -‬وهو‬
‫ضابط بالجيش‪ -‬لن فصيلته التي تعمل بمحجر طره ‪ ،‬لم‬
‫تصلها الملبس الجديدة إل بعد ستة أيام ‪ ،‬بينما المر ل يحتاج‬
‫لكثر من يوم واحد ( )‪ (6‬وهناك رسائل أخري ‪ -‬قليلة ‪ -‬من‬
‫الدولة الوسطي ‪ ،‬أما الدولة الحديثة ‪ ،‬فقد بقيت منها رسائل‬
‫كثيرة ‪ ،‬أهمها مرسل من دير المدينة ‪ ،‬وهي قرية في طيبة ‪،‬‬
‫كانت مأوي للفنانين والصناع والعمال الذين بنوا المقابر‬
‫الملكية لسرة الرعامسة)‪(7‬‬

‫وعلي الرغم من أن قصة الفلح الفصيح ترجع أحداثها إلي‬


‫العهد "الهناسي ‪ ،،‬في فترة حكم الملك ) خيتي ( احد ملوك‬
‫هيراكليوبولس ) أهناس المدينة( في نهاية اللف الثالثة قبل‬
‫الميلد ‪ ،‬أقول ‪ :‬علي الرغم من ذلك ‪ -‬وربما قبل أن نعرف‬
‫السلوب المتبع في إرسال الرسائل ‪ -‬فان وثيقة القصة‬
‫تكشف لنا ‪ ،‬أن الرجل البسيط كان في استطاعته أن يرسل‬
‫شكاواه ليس فقط إلي المسئولين في الحكومة ‪ ،‬بل في‬
‫استطاعته أن يرسلها إلي الحاكم نفسه ‪ ،‬بدون وجود حواجز‬
‫تمنعه من القيام بهذا الفعل ‪ ،‬وعلي الرغم من أن العهد الذي‬
‫ترجع إليه هذه القصة ‪ ،‬كان عهدا تسود ) فيه الفوضى ويعم‬
‫الضطهاد )‪ (8‬إل أن الحاكم لم يدر ظهره لشكوى الفلح ‪ ،‬بل‬
‫أهتم بها ‪ -‬علي النحو الذي سنوضحه حين نتكلم عن الشق‬
‫الموضوعي –بل أصدر أوامره بأن يواصل ما بدأه من تعبير عن‬
‫الشكوى ‪ ،‬لعجابه بأسلوب الرجل ‪ ،‬وشجاعته في إبداء الرأي ‪،‬‬
‫ولو كان قد مارس أسلوب القمع مع الفلح‪ ،‬لما كانت هذه‬
‫الشكوى بما تحتويه من معاني وقيم ‪ ،‬قد وصلت إلينا‬
‫باعتبارها أثرا بليغا ‪ ،‬وصالحا للتطبيق حتى اليوم‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬الجانب الموضوعي ) المحتوي(‪:‬‬

‫تلك الخطب التسع التي تم تدوينها في شكل رسائل علي‬


‫ورق البردي ‪ ،‬تحتاج إلي تمعن ‪ ،‬وتحتاج إلي قراءة جديدة ‪،‬‬
‫لعلنا من خللها نستكشف أبعادا مهمة تتعلق بفكرة العدل ‪،‬‬
‫وبفكرة الحرية ‪ ،‬اللتين أشرنا إلي أهميتهما ‪ -‬معا‪ -‬في مقدمة‬
‫هذه الدراسة ‪ ،‬خاصة إذا وضعنا في العتبار أن المر قد تم‬
‫قبل الميلد بثلثة آلف عام !!‬

‫في تلك البقعة التي تعرف الن باسم ) اهناسيا( بمحافظة‬


‫بني سويف ‪ ،‬كان يعيش فلح فقير‪،‬في مجاهل ) وادي‬
‫الملح( ‪ ،‬المعروفة باسم ) وادي النطرون ( ‪ ،‬معتمدا في‬
‫رزقه ‪ ،‬علي ما تنتجه أرضة من محاصيل ‪ ،‬يذهب إلي المدينة‬

‫‪4‬‬
‫لكي يبيعها ‪ ،‬ويعود بالمال الذي يكفيه لحياته المعيشية طوال‬
‫العام ‪ ،‬والي أن يحين موعد الحصاد الجديد ‪ ،‬وبينما هو يستعد‬
‫لبيع محصوله في مصر ‪ ،‬تعرض له أحد الموظفين‬
‫‪،‬ويدعي)تحوت نخت( حين رأي حميره المحملة بالمحاصيل ‪،‬‬
‫وأشياء أخري جمعها الفلح لكي يبيعها ‪ ،‬ففكر في الطريقة‬
‫التي يستطيع بها الحصول علي ما يريد ‪ ،‬وتفتق ذهنه عن حيلة‬
‫مؤداها ‪ :‬أنه أمر أحد رجاله بنشر بعض الملبس في الطريق‬
‫الضيقة التي سيمر عليها الفلح وحميره ‪ ،‬ونتيجة لذلك لم‬
‫تستطع الحمير السير ‪ ،‬بسبب ضيق الطريق ‪ ،‬ويأكل حمار من‬
‫الحمير ‪ ،‬حزمة من أعواد قمح الموظف ‪ ،‬فيتخذ من ذلك‬
‫ذريعة ‪ ،‬للستيلء علي متاع الرجل وحميره ‪ ،‬فهذا جزاء فعله ‪،‬‬
‫كما قال!! وعندما يطالبه الفلح بإعادة ما سلبه منه عنوة ‪،‬‬
‫يرفض ‪ ،‬ويقوم بضربه ‪ ،‬وإيذائه بدنيا ونفسيا ‪ ،‬ومع بكاء الفلح‬
‫لمدة عشرة أيام ‪ ،‬محاول استعطاف الرجل لكي ُيعيد له‬
‫ممتلكاته ‪ ،‬وأمام تهاون الموظف في رد تلك الممتلكات ‪،‬‬
‫ولحساس الفلح بأن كل محاولته قد باءت بالفشل ‪ ،‬يلجأ‬
‫بعدها إلي حاكم المقاطعة ‪ ،‬التي ينتمي إليها الموظف‬
‫المغتصب ‪ ،‬وُيدعي ) رنزي( فيشكو إليه ما حدث من قبل‬
‫) تحوت نخت( ‪ ،‬فيقوم) رنزي ( بجمع مجلس الشراف ‪،‬‬
‫ليفصل في هذا الموضوع ‪ ،‬غير أن أعضاء المجلس ‪ ،‬لم يعلنوا‬
‫حكمهم ‪ ،‬بسبب انحيازهم للغنياء ‪ ،‬ونتيجة لذلك لجأ الفلح‬
‫إلي كتابة شكا يته ‪ ،‬التي انبهر منها ) رنزي( ‪ ،‬فرأي أن المر‬
‫ُجدير بأن يعرضه علي الملك وكان يدعي ) نيكاو رع( ‪ ،‬ولما‬
‫ُأعجب الملك بفصاحة الفلح ‪ ،‬أمر بأل يبت في أمره ‪ ،‬حتى‬
‫يكرر الشكوى ‪ ،‬فيكون ذلك مصدرا للحصول علي تسع رسائل ـ‬
‫أو خطب بليغة ‪ -‬وبعد انتهائه من كتابة الرسالة التاسعة ‪ ،‬يأمر‬
‫الملك رئيس المقاطعة رنزي ‪ ،‬بإحضار الفلح ‪ ،‬وتلبية‬
‫مطالبه ‪ ،‬وتوقيع العقاب علي المغتصب) تحوت نخت( ‪ ،‬وكانت‬
‫العقوبة بالغة القوة ‪ ،‬ورادعة ‪ ،‬حيث أمر بأن تكون كل أملك‬
‫) تحوت ( ملكا للفلح بما في ذلك بيته ‪.‬‬
‫* هذه القصة البسيطة في تفصيلتها ‪ ،‬العميقة في مغزاها‬
‫‪ ،‬تكشف لنا بعض المور التي يمكن إجمالها في النقاط التالية‬
‫‪:‬‬
‫أول ‪ :‬أن تلك الفترة تميزت بانحطاط أخلق الغنياء‪ -‬بشكل‬
‫عام ‪ -‬و موظفي الدولة بشكل خاص ‪ ،‬فضل عن انحياز مجلس‬
‫فض المنازعات للغنياء ‪ ،‬علي حساب مصالح الفقراء ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أن تلك الفترة كانت تعكس ثراء أدبيا ‪ ،‬وثقافيا ‪ -‬برغم‬
‫كتبت به رسائل الفلح ‪.‬‬ ‫ذلك الفساد‪ -‬تجلي في السلوب الذي ُ‬
‫ثالثا‪ :‬أن تلك الفترة ‪ -‬علي الرغم من تردي الوضاع فيها‪،‬‬
‫وتفشي الفوضى‪ -‬كانت تعكس مناخا يسمح للبسطاء من‬
‫الناس أن يعبروا عن أنفسهم ‪ ،‬إذا اقتضت الضرورة ذلك من‬

‫‪5‬‬
‫أجل الدفاع عن مصالحهم ‪ ،‬وكان الحتجاج هو الصورة‬
‫الطبيعية للتعبير‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬كان هناك من يتحلى بالخلق ‪ ،‬والضمير ونموذج ذلك‬
‫) رنزي( حيث لم ينحاز كلية إلي موظفه) تحوت ناخت( ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬أن الملك لم يجابه احتجاج الفلح بالقمع ‪ ،‬بل نراه‬
‫ينحاز للحق ‪ ،‬ولم يستطع إل أن يحقق العدل ‪ .‬فأحسن ‪ -‬منذ‬
‫البداية ‪ -‬إلي الفلح وعائلته‪.‬‬

‫والن ما هي الفكار الرئيسية التي طرحتها الرسائل‬


‫التسع ‪ ،‬تلك التي دفعت الحاكم إلي اتخاذ الموقف السابق‬
‫تجاه الظالم؟؟‬
‫سنعرض هنا الرسالة الولي كاملة ‪ ،‬حتى نتعرف علي بعض‬
‫خصائص خطاب الفلح المصري القديم ‪:‬‬

‫) يا مدير البيت العظيم ‪ ،‬يا سيدي ‪ ،‬يا أعظم‬


‫العظماء ‪ ،‬يا حاكما علي ما قد فني ‪ ،‬ومالم يفني‬
‫) أي حاكما علي كل شيء( وإذا ذهبت إلي بحر‬
‫العدل ) يمتدح عدل رنزي( ‪ ،‬وسحت عليه في نسيم‬
‫رخاء ‪ ،‬فان الهواء لن يمزق قلمك ‪ ،‬وقاربك لن‬
‫يتباطأ ‪ ،‬ولن يحدث لصاريك أي ضرر ‪ ،‬ومرساك لن‬
‫تنكسر ‪ ،‬ولن يغوص قاربك حينما ترسو علي الرض‬
‫) يقصد لن يغرق قاربك( ‪ ،‬ولن يحملك التيار بعيدا ‪،‬‬
‫ولن تذوق أضرار النهر ‪ ،‬ولن تري وجها مرتاعا ‪،‬‬
‫والسمك الخائف سيأتي إليك ‪ ،‬وستصل ) يدك( إلي‬
‫أثمن طائر ‪ ،‬وذلك لنك أب لليتيم ‪ ،‬وزوج للرملة ‪،‬‬
‫وأخ لتلك التي قد ُنبذت ‪ ،‬ومئزر لذلك الذي ل أم له ‪،‬‬
‫دعني أجعل أسمك في هذه الرض يتفق مع كل‬
‫قانون عادل ‪ ،‬فتكون حاكما خاليا من الشر ‪،‬‬
‫مهلكا للكذب ‪ ،‬ومشجعا‬ ‫وشريفا بعيدا عن الدنايا ‪ ،‬و ُ‬
‫للعدل ‪ ،‬ورجل يلبي نداء المستغيث ‪ ،‬أني أتكلم ‪،‬‬
‫فهل لك أن تسمع ؟ أقم العدل أنت يا أيها الممدوح‬
‫مدح بهؤلء الذين يمدحون ) يقصد يحبونك( ‪.‬‬ ‫‪ ،‬الذي ي ُ‬
‫اقض علي فقري ‪ ،‬أنظر أني مثقل بالحمل ‪،‬‬
‫جربني ‪ ،‬أنظر أني في حيرة ( )‪(9‬‬

‫هذه الرسالة برغم ما تنطوي عليه من عبارات آمرة ‪ ،‬إل‬


‫أنها تكشف عن هدوء الفلح ‪ ،‬وقدرته علي كبح غضبه وثورته ‪،‬‬
‫وهو المغتصب حقه ‪ ،‬وتكشف مدي قدرته علي استخدام‬
‫عبارات مؤثرة ‪ ،‬وبالغة الرقة مثل )وإذا ذهبت إلي بحر العدل‬
‫) يمتدح عدل رنزي( ‪ ،‬وسحت عليه في نسيم رخاء ‪ ،‬فان الهواء لن يمزق‬
‫قلمك ‪ ،‬وقاربك لن يتباطأ ‪ ،‬ولن يحدث لصاريك أي ضرر ‪ ،‬ومرساك لن‬
‫تنكسر ‪ ،‬ولن يغوص قاربك حينما ترسو علي الرض ) يقصد لن يغرق‬
‫قاربك( ‪ ،‬ولن يحملك التيار بعيدا ‪ ،‬ولن تذوق أضرار النهر ‪ ،‬ولن تري‬
‫وجها مرتاعا(‬

‫‪6‬‬
‫والعبارات المرة ‪ ،‬في نفس السياق نجدها في قوله ‪) :‬أني‬
‫مدح‬
‫أتكلم ‪ ،‬فهل لك أن تسمع ؟ أقم العدل أنت يا أيها الممدوح ‪ ،‬الذي ي ُ‬
‫بهؤلء الذين يمدحون ) يقصد يحبونك( ‪ .‬اقض علي فقري(‬

‫ومن الرسالة الولي يتضح مضمونها ‪ ،‬بل إسراف ‪ ،‬وبل خوف‬


‫أيضا ‪ ،‬فمضمونها يدور حول فكرة العدالة ‪ ،‬تلك الفكرة التي‬
‫ربطها الفلح ‪ ،‬بدون أن يدري بفكرة الحرية ‪ ،‬علي اعتبار أن‬
‫الفكرتين – كما سبق وذكرنا – ل يبتعدان عن بعضهما البعض‪.‬‬
‫حين يقول في نهايتها ) انظر أني في حيره( إنها حيرة‬
‫النسان الذي يريد أن يكون حرا ‪ ،‬حين يسير ‪ ،‬وحين يمشي ‪،‬‬
‫فل يعترضه أي أحد يسلبه تلك الحرية ‪ ،‬حين أجبره ) رنزي ( أل‬
‫يسير في الطريق المطل عليه بيته ‪ ،‬وحين لعب لعبته ‪ ،‬ونصب‬
‫له الفخ ‪ ،‬إحساس الفلح ) خانوب أنوب( بأنه حين فقد‬
‫حريته ‪ ،‬خسر كل شيء ‪ ،‬هذا الحساس هو الذي دفعه إلي‬
‫مطالبة الحاكم بضرورة تطبيق العدل ) إذا طبقت العدل ستشعر‬
‫بالمن والمان ‪ ،‬فلن يمزق الهواء قلعك ‪ ،‬ولن يتحطم قاربك ‪ ،‬ولن يكون‬
‫بطيء معرضا للخطر ‪ ( ،‬كل هذه المعاني المرتبطة بفكرة‬
‫المان ‪ ،‬هي في حقيقة المر ‪ ،‬تعبير عن الحرية ‪ ..‬التي تتيح‬
‫لممارسها ‪ ،‬فرصة الستمتاع ‪ ،‬والعيش الكريم‪.‬‬
‫هذا الوعي المبكر بفكرة الحرية ‪ ،‬ومفهوم العدالة ‪ ،‬هو الذي‬
‫أتاح‪ -‬فيما بعد ‪ -‬للحكام ‪ ،‬وللفراد العاديين فرصة التعبير‬
‫عنهما ‪ ،‬في رسائل أخري ‪ ،‬وكتابات في مجال الشعر‬
‫والقصة ‪ ،‬تعرفنا علي نماذج منها من خلل ما وصل إلينا من‬
‫إنجازات الدب المصري القديم ‪.‬‬
‫ففي رسالة فرعونية قديمة يقول الحاكم‪:‬‬
‫)إني لم أسيء معاملة ابنة رجل من القوم‪ ،‬لم أظلم أرملة‪ ،‬ولم أهن‬
‫فلحًا‪ ،‬لم أطرد راعيا ً ولم أسخر في أشغالي عمال ً بل أجر‪ ،‬وبهذه‬
‫الطريقة زالت الكآبة عن إقليمي وانعدم الجوع‪ ،‬ولما حل زمن القحط‬
‫اجتهدت في زراعة الرض وأطعمت سكان القليم فلم يجع منه أحد‪،‬‬
‫وكنت أجزل العطاء للرملة والمتزوجة والكبير والصغير(‬
‫وهاهو الملك ) خيتي ( ينصح ابنه بأهمية ضمان رضي الله‬
‫للتمتع بحياة طيبة في عالم الخرة ‪ ،‬فيدعوه إلي إقامة العدل‪،‬‬
‫لنه من أهم الصفات التي يجب أن يتمسك بها الحاكم‬
‫الصالح ‪ ،‬يقول لبنه ‪ ) :‬أقم العدل لتوطد مكانتك علي الرض ‪ ،‬هديء‬
‫الباكي ‪ ،‬ول تظلم الرملة ‪ ،‬ول تغتصب من رجل ميراث أبيه ‪ ،‬ول تضر‬
‫المسئولين في مناصبهم ‪ ،‬ول تتولي العقاب ) بنفسك( أنه ليس مفيد‬
‫بك ‪ ،‬ولكن أتركه للجلدين ‪ ،‬وبدون مبالغة ‪ ،‬وبذلك تستقر الرض ما عدا‬
‫المتمرد ‪ ،‬حينما تتكشف خططه لن الله يعرف الخائن ‪ ،‬والله يعاقب‬
‫بالدم()‪(10‬‬

‫والملك ) بتاح حتب( عندما شعر بتقدمه في السن ‪ ،‬أراد أن‬


‫يعلم ابنه الحكمة فيأمره في رسالة قائل له ‪ ) :‬حصل الخلق ‪،‬‬
‫وأرع واعمل علي نشر العدالة ‪ ،‬وعامل الجميع بصدق ( ويؤكد مرارا‬

‫‪7‬‬
‫علي ) أن أعظم فضيلة دائمة ‪ ،‬يتحلى بها النسان في الحياة هي‬
‫العدالة والخلق العظيم ( )‪(11‬‬

‫وللدباء الفراعنة نقرأ أيبور وهو يقول ‪ ) :‬العدالة هي الحقيقة‬


‫عندما تمارس عملها ‪ ،‬والقاضي هو حامل ميزان كشفها( )‪(12‬‬

‫ويقول )رخمي رع( ‪ ) :‬أيها القاضي ‪:‬إياك أن تكون أحكامك مبنية‬


‫علي رأي مطلق ‪ ،‬بل أرجع فيها إلي الشرائع المرسومة التي تأمر‬
‫بالعدل ‪ ،‬وإنصاف الناس التي وضعها الله ‪ ،‬فالله يأمر بالعدل والحسان‬
‫والنصاف‪ ،‬ول يرضي بالظلم والنحراف عن الحق ‪ ،‬ولتبن رأيك في‬
‫البت في المور بالسانيد ‪ ،‬والبراهين العادلة التي يبهج بها ضميرك( )‬
‫‪(13‬‬

‫وحتى فن السيرة الشخصية الذي ظهر إبان الدولة القديمة ‪،‬‬


‫اهتم بالحديث عن قيمة العدل ‪ ،‬وأهميتها حتى بالنسبة‬
‫للشخص المتوفى ‪ ،‬الذي يكتبها ليذكر فيها الشياء التي فعلها‬
‫في حياته ‪ ،‬وُتعد بمثابة عوامل مساعدة للحصول علي رضا‬
‫الله ‪ ،‬فنقرأ في أحدي تلك السير ‪ ،‬عبارات تتعلق بتلك الفكرة‬
‫‪ ) :‬لقد قلت الحق ومارست العدل ‪ ،‬لقد أحسنت الكلم ووفقت في‬
‫ترديده ‪ ،‬لقد أقمت العدالة حتى يحبني الناس حبا شديدا ‪ ،‬لقد فصلت‬
‫بين خصمين حتى أرضيهما) كليهما( ‪ ،‬لقد أنقذت الضعيف من يدي‬
‫القوى منه ‪ ،‬بقدر ماكان ذلك في استطاعتي ‪ ،‬لقد أعطيت الجائع خبزا ‪،‬‬
‫وأعطيت ملبسا لمن كان عاريا ()‪(14‬‬

‫من المثلة المختارة التي سبق توضيحها يتبين لنا كيف أن‬
‫أقدم رسالة فرعونية ‪ ،‬كتبها الفلح الفصيح ) خانوب أنوب( ‪،‬‬
‫استطاعت أن ُتنتج آثارها في العصور التالية لها ‪ ،‬وحتى الدولة‬
‫الحديثة ‪ ،‬المر الذي جعل مفهوم العدل ‪ ،‬مفهوما إنسانيا عاليا‬
‫في قيمته ‪ ،‬وغاليا في تأثيره ‪ ،‬فالفلح ‪ ،‬الذي بدأ رسالته‬
‫الولي بنبرة إنسانية هادئة كما ذكرت ‪ ،‬لم يستطع أمام إهمال‬
‫رسائله وشكا يته ‪ ،‬أن يحافظ علي هدوئه ‪ ،‬فنراه في الرسائل‬
‫التالية ‪ ،‬وقد ارتفعت نبرة الغضب رويدا رويدا ‪ ،‬حتى أصبحت‬
‫أقرب إلي الصياح والحتجاج‪ ،‬فنراه يقول في آخر رسالة له ‪:‬‬
‫) وقع العقاب ضد من يستحق العقاب ‪ ،‬ولن بكون‬
‫هناك شيء يعادل استقامتك ‪ ،‬هل يخطأ الميزان ‪،‬‬
‫هل يميل إلي جانب ‪ ،‬هل ينحاز ) تحوت( إذا أظهر‬
‫الثلثة تساهل ‪ ،‬إذا يمكنك أن تميل لجانب ‪ ،‬وخذ‬
‫نصيحة ‪ ،‬فالرجل العظيم إذا كان طماعا ‪ ،‬فهو ليس‬
‫حقا عظيم ‪ ،‬واللسان هو الستقامة من الميزان ‪،‬‬
‫والقلب هو الثقل ‪ ،‬والشفتين هما ذراعه ( ووسط‬
‫الحساس بالظلم يصل حديث الفلح لذروته حين‬
‫يقول ) ل تتعامي عن إنسان قد رأيته ‪ ،‬ول تردن‬
‫إنسانا يشكو إليك ‪ ،‬وأترك هذا الخمول حتى إن‬
‫حكمتك القائلة " افعل الخير لمن يفعله لك" يمكن‬
‫أن تروي إلي مسامع كل الناس ‪ ،‬وحتى يرجع إليك‬

‫‪8‬‬
‫الناس يما يتعلق بمطالبهم الحقة ‪ ،‬والخامل ل أمس‬
‫له ‪ ،‬والصم عن العدل ل رفيق له ‪ ،‬والرجل الجشع‬
‫ل فراغ لديه ) أجازة ( ‪ .‬وذلك الذي يوجه إليك التهمة‬
‫يصير رجل فقيرا ‪ ،‬والفقير سيصير شاكيا ‪ ،‬والعدو‬
‫يصبح ذابحا ) للفلح( ‪ ..‬تأمل ‪ ..‬إني أشكو إليك ‪،‬‬
‫وأنت ل تسمع شكواي ‪ ،‬سأذهب ‪ ،‬وأشكو منك إلي )‬
‫أنوبيس()‪(15‬‬

‫سوف استحضر الن كل ما هو متعلق بفكرة العدالة ‪ -‬بشكل‬


‫مباشر ‪ -‬وعندما أقول بشكل مباشر ‪ ،‬فإنما أعني ‪ ،‬العبارات‬
‫التي جاءت فيها كلمة) العدل ( أو) العدالة( مباشرة ‪ ،‬علي‬
‫الرغم من أن السياق كله ‪ -‬السابق واللحق ‪ -‬مرتبط بالفكرة‬
‫ذاتها ‪ ،‬وليس منفصل عنها ‪ ،‬يجيء أحيانا شرحا ‪ ،‬وأحيانا يجيء‬
‫بمثابة ضرب أمثلة ‪ ،‬وأحيانا أخري يجيء تعبيرا عن أحاسيس‬
‫داخلية ‪ُ ،‬يفصح عنها الفلح ‪ ،‬في سياق خطابه ‪.‬‬

‫سوف استحضر ما جاء متعلقا بتلك الفكرة في الخطب )من‬


‫الثانية حتى الثامنة(‪،‬لنتبين كيف أن الفلح ‪ ،‬كان فصيحا‬
‫بالفعل ‪ ،‬حيث نراه يضع قواعد الممارسة الفعلية لفكرةالعدالة‬
‫‪ ،‬وليس فقط الحديث المجرد عنها ‪ ،‬وهذه القواعد ل تختلف‬
‫كثيرا عن القواعد التي وضعتها القوانين المعاصرة لنفس‬
‫الفكرة ‪ ،‬والرسائل ‪ -‬بهذه الصورة ‪ -‬تكشف عن مدي وعي‬
‫المصري القديم بتلك الفكار ‪ ،‬التي تعرضت لها الفلسفة ‪ ،‬ثم‬
‫استفاد منها المشرع حين قام بتشريع القوانين ‪ ،‬هذا الوعي ‪،‬‬
‫هو الذي ميز الشخصية المصرية القديمة ‪ ،‬وجعلها بالفعل ‪،‬‬
‫ممثلة لقدم حضارة في التاريخ ‪ ،‬فالمصري القديم ‪ ،‬حتى ولو‬
‫كان فلحا فقيرا ‪ ،‬يملك من الوعي ما يمكنه من الوقوف في‬
‫مصاف المثقفين ‪ ،‬وهو بهذا الوعي الحضاري ‪ُ ،‬يجبر الحاكم‬
‫علي النصياع لطلباته ‪ ،‬طالما أنها طلبات تصب في صالح‬
‫النسان قبل أي شيء آخر ‪ ،‬لو أن الحاكم كان دكتاتورا مثل ‪،‬‬
‫لما تنبه إلي أهمية تلك الخطابات ‪ ،‬ولهمل ما جاء في رسائله‬
‫الطويلة ‪ ،‬وربما كان قد ادخله المعتقل ‪ ،‬ومنع الطعام عنه ‪،‬‬
‫ليموت مقموعا ‪ ،‬ومقهورا ‪ ،‬لكن الذي حدث عكس ذلك تماما ‪،‬‬
‫إذ إن الحاكم انتبه لوعي ويقظة الفلح ‪ ،‬وعمق تفكيره ‪،‬‬
‫وقدرته الفائقة علي الحتجاج الحضاري ‪ ،‬غير النفعالي ‪،‬‬
‫الحتجاج المثمر ‪ ،‬الذي ُيجبر الخرين ‪ ،‬مهما كانت سطوتهم ‪،‬‬
‫علي احترام طلباته ‪ ،‬واحترام ‪ ،‬لغته ‪ ،‬في المخاطبة ‪ ،‬تلك‬
‫اللغة التي ُتفصح عن انفعالت الفلح المتباينة ‪ ،‬تبعا لطبيعة‬
‫الظرف ‪ ،‬وتبعا لما يعتمل بداخله في اللحظة التي يكتب فيها ‪.‬‬
‫قواعد ممارسة العدالة ‪ ،‬وتطبيقها ‪ ،‬يحددها الفلح في النقاط‬
‫التالية‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ -1‬يجب أل ينحرف الميزان أو يميل ‪ .‬ويجب أن يكون الشخص‬
‫المنوط به تطبيق العدالة غير متذبذب ‪ ،‬أو ملول ‪ ).‬يا خيط‬
‫الميزان الذي يحمل الثقل ‪ ،‬ل يا أيها الحاكم ل تنحرف ‪ ،‬يا‬
‫مثقال الميزان ل تمل ‪ ،‬ويا خيط الميزان ل تتذبذب ملتويا(‬
‫}الشكوى الثانية{ ‪..‬‬
‫‪ -2‬ضرورة توقيع العقاب علي الجاني‪ ) .‬اكبح جماح السارق ‪،‬‬
‫تكونن فيضانا ضد الشاكي‪ ،‬وأحذر‬ ‫دافع عن الفقير ‪ ،‬ول‬
‫من قرب الخرة ‪ ،‬ارغب في أن تعيش طويل علي حسب المثل‬
‫" إن إقامة العدل هو نفس النف" وقع العقاب علي من‬
‫يستحق العقاب ( }الشكوى الثالثة {‪..‬‬
‫‪ -3‬صبر القاضي ‪,‬واتساع صدره عند سماع شكوى المجني يُعد‬
‫معيارا لتحقيق العدل‪.‬‬
‫) كن صبورا حتى يمكنك أن تصل إلي العدل ‪ ،‬أكبح جماح‬
‫اختيارك حتى إن الشخص الذي تعود أن يدخل بسكون يمكنه‬
‫أن يكون سعيدا ‪ ،‬علي أنه ل يوجد إنسان طائش يتفوق في‬
‫عمل ‪ ،‬ول متسرع تطلب مساعدته ‪ ،‬اجعل عينيك تتأملن ‪،‬‬
‫وعلم قلبك‪،‬ول تكونن قاسيا بنسبة قوتك ‪ ،‬خوفا من أن يحيق‬
‫بك الذى( } الشكوى الرابعة{‬
‫‪ -4‬النحياز لي طرف ‪ ،‬من الطراف المتنازعة ‪ ،‬يقضي علي‬
‫فكرة العدل‪.‬‬
‫)إن أملك الرجل الفقير بمثابة النفس له ‪ ،‬ومن‬
‫يغتصبها يكتم أنفه ‪ ،‬ولقد ُنصبت لتسمع الشكاوى ‪،‬‬
‫وتفصل بين المتخاصمين ‪ ،‬وتكبح جماح اللص ‪ ،‬ولكن‬
‫تأمل ‪ ،‬فان ما تفعله هو أنك تعاضد اللص ‪ ،‬والنسان‬
‫يضع ثقته فيك ‪ ،‬ولكنك أصبحت معتديا ‪ ،‬لقد نصبت‬
‫سدا للفقير فاحترس ‪ ،‬الخوف من الغرق ( } الشكوى‬
‫الخامسة{‬
‫‪ -5‬المخطئون يسيئون إلي العدالة‪.‬والقضاء المستقيم هو‬
‫ميزانها‪.‬‬
‫) المغتصب يحط من قدر العدالة ‪ ،‬ولكن الشخص إذا‬
‫قضي بالقسطاط المستقيم ‪ ،‬فان العدالة إذن لن يحاد عنها‬
‫ولن يبالغ في إجرائها ( } الشكوى السادسة{‪.‬‬
‫‪ -6‬انتهاك القانون من قبل القادرين ‪ ،‬ليعني إهمال حقوق‬
‫الفقراء‪.‬‬
‫) إن منتهك حرمة القانون ‪ ،‬وخارق المتبع من المور ‪،‬‬
‫ل يستطيع رجل فقير أن يقاوم نهبه ‪ ،‬إذا لم تواجهه‬
‫العدالة‪..............‬إن خمولك سيضلل بك ‪ ،‬وشراهتك‬
‫ستغشك ‪ ،‬وان عدم اكتراثك سيولد لك أعداء ‪ ،‬ولكن هل‬
‫يمكنك أن تجد فلحا آخر مثلي ؟ وهل الشاكي يقف علي باب‬
‫بيت الخامل؟ علي أنه ل يوجد إنسان صامت قد أنطقته ‪ ،‬ول‬

‫‪10‬‬
‫نائم قد أيقظته ‪ ،‬ول مكتئب قد نشطته ‪ ،‬ول إنسان فمه مغلق‬
‫قد فتحته ‪ ،‬ولجاهل قد جعلته يعرف ‪ ،‬ول غبي قد علمته ‪،‬‬
‫ومع ذلك فان الحكام هم الذين يقصون السوء ‪ ،‬وأرباب الخير‬
‫هم أصحاب فن ليصنعوا أي شيء كائن ‪ ،‬ويصلوا الرؤوس التي‬
‫قد فصلت عن أجسامها( } الشكوى السابعة{‪.‬‬
‫‪ -7‬لن يستطيع النسان إلغاء فكرة العدل ‪ ،‬لن الله يصونها ‪،‬‬
‫فضل عن أن الفكرة يحميها تطبيق القانون ‪.‬‬
‫) أقم العدل لرب العدل ‪ ،‬والذي عدل عدالته موجود‪ ،‬وأنت‬
‫يا أيها القلم ‪ ،‬وأنت يا أيتها البردية ‪ ،‬ويا أيتها الدواة ‪،‬‬
‫ويا"تحوت" ابتعدوا عن عمل السوء ‪ ،‬وعندما يكون الحسن‬
‫حسنا فالمر إذن حسن ‪ ،‬غير أن العدل سيكون إلي البد ‪،‬‬
‫ويذهب مع من يعمله إلي الجبانة ‪ ،‬وسيدفن وتطويه الرض ‪،‬‬
‫محى من الرض ‪ ،‬بل سيذكر للخير ‪ ،‬وهكذا‬ ‫أما أسمه فلن ي ُ‬
‫القانون في كلمة الله‪ ....................‬ول يجوز وجود الظلم‬
‫مع القانون ‪ ،‬وان العمل الحقير ل يصل إلي المدينة ‪ ،‬علي أن‬
‫أصغر الشياء ستصل إلي الريف!!( } الشكوى الثامنة{‪..‬‬

‫تلك بعض الشارات التي تضمنتها رسائل المصري )خانوب‬


‫أنوب( ‪ ،‬المعروف باسم الفلح الفصيح ‪ ،‬تلك الشارات التي ل‬
‫تختلف كثيرا عن معايير وشروط تطبيق العدالة في عصرنا‬
‫الحالي ‪ ،‬برغم آلف السنين التي مرت عليها ‪ ..‬وحين نتأمل‬
‫أحوال مصر منذ عهد الفراعنة ‪ ،‬حتى اليوم ‪ ،‬نري أن ثمة نقاط‬
‫اتفاق مازالت قائمة ‪ ،‬فيما يتعلق بتلك الفكرة ‪ ،‬فنحن في‬
‫عصر ‪ ،‬تتهاوي فيه القيم النبيلة ‪ ،‬وتصعد بدل منها قيم رديئة ‪،‬‬
‫ربما يغشي فكرة العدل بعض الضباب ‪ ،‬لكنه وبقراءة التاريخ ‪-‬‬
‫قراءة جيدة ‪ -‬نعلم أنه سينقشع ‪ ،‬طالما أن هناك من يدافعون‬
‫عن الحق ‪ ،‬ويدافعون عن القيم النبيلة ‪ ،‬وسيظل الصراع قائما‬
‫بين الذين يمارسون البناء ‪ ،‬والذين يمارسون الهدم ‪.‬فعلي‬
‫الرغم من أن فكرة العدالة في مصر الفرعونية ‪ ،‬كانت قد‬
‫بدأت في وقت مبكر جدا )ثلث آلف سنة قبل الميلد ( ‪ ،‬إل‬
‫أن التاريخ يشير إلي التحول الذي حدث بعد ألفي سنة من‬
‫كتابة رسائل الفلح ‪ ،‬أي في اللف الخير ‪ -‬تحديدا ‪ -‬قبل‬
‫الميلد‪ ..‬حيث بدأت عناصر التجربة الحضارية التي قامت حول‬
‫الوادي في النحلل ‪ ،‬والنهيار‪ ..‬بسبب تآكل نظام العدل‪..‬‬
‫والنزوع إلي استغلل أفراد الشعب من العمال والفلحين‬
‫الذين أرهقتهم الضرائب ‪ ،‬وسودت حياتهم السخرة‪..‬‬

‫وبرغم أن الفراعنة المتأخرين من الرعامسة‪ ..‬استمروا في‬


‫احترام القوانين‪..‬إل أن الظلم الجتماعي كان قد تفشي‪..‬‬
‫وسيطرت المؤسسة الدينية‪ -‬التي مثلها كهنة آمون‪ -‬علي كل‬
‫شيء ‪ ،‬فساءت أحوال العامة‪ ..‬وفرض أصحاب القطاعيات‬
‫والثروات ‪ ،‬أنفسهم علي كل شيء ‪ ،‬وأصبحت مصر كأنها ملك‬

‫‪11‬‬
‫خاص لهم ‪ -‬وحدهم ‪ -‬المر الذي‬
‫ساعد علي حدوث حركة تغيير كبري ‪ ،‬علي يد )حريحور( وبدأت‬
‫معه السرة الواحدة والعشرين ‪ ،‬تمارس مهامها الصلحية ‪،‬‬
‫كبداية لعصر جديد عرف باسم ) عصر النتقال الثالث(‪-1070‬‬
‫‪ 712‬ق‪.‬م‬
‫فهل يعيد التاريخ نفسه ‪ -‬الن ‪ -‬هنا في مصر ‪ ،‬حيث إننا‬
‫علي مشارف عصر جديد ‪ ،‬نتمنى أن ينتصر لفكرة العدل ‪،‬‬
‫ولفكرة الحرية‪.‬‬

‫أحمد عبد‬
‫الرازق أبو العل‬

‫ديسمبر ‪2007‬‬

‫هوامش‪:‬‬
‫)‪ (1‬العدل والحرية ‪ -‬سالم القمودي ‪-‬الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع ‪-‬‬
‫بنغازي ‪1997 -‬‬
‫صفحة ‪27‬‬
‫)‪ (2‬هناك بعض الترجمات لسمه علي هذا النحو‪) :‬خانوب أنوب(‬
‫)‪ (3‬أنظر معجم الحضارة المصرية القديمة الذي كتبه مجموعة من الكتاب‬
‫سونرون – جان يويوت‪ -‬أ‪.‬أ‪.‬س‪ .‬ادواردز‬ ‫هم ‪ :‬جورج بوزنر‪ -‬سيرج‬
‫‪ -‬ف‪.‬ل‪.‬ليونيه‪ -‬جان دوريس‪ -‬وترجمه ‪ :‬أمين سلمة وراجعه د‪ .‬سيد‬
‫توفيق – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة السرة ‪ 1996‬صفحة ‪80‬‬
‫)‪ (4‬موسوعة مصر القديمة ‪ -‬سليم حسن ‪ -‬الجزء السابع عشر – الدب‬
‫المصري القديم – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة السرة ‪2000‬‬
‫صفحة ‪330‬‬
‫)‪ (5‬توجد هذه الرسالة في المتحف المصري ‪ -‬القاهرة ‪.‬‬
‫)‪ (6‬أنظر في هذا الشأن كتاب كنوز الفراعنة – ت‪.‬ج‪.‬ه ‪ .‬جيمز – ترجمة‬
‫د ‪ .‬أحمد زهير أمين – مراجعة د‪ .‬محمود ماهر طه‪ -‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب – مكتبة السرة ‪ 1999‬صفحة ‪172-‬‬
‫)‪ (7‬كنوز الفراعنة ‪ -‬المرجع السابق صفحة ‪173‬‬
‫)‪ (8‬سليم حسن ‪ -‬المرجع السابق صفحة ‪55‬‬
‫)‪ (9‬أنظر سليم حسن ‪ -‬المرجع السابق صفحة ‪59‬‬
‫)‪ (10‬تطور المثل العليا في مصر القديمة – د‪ .‬محمد علي سعد الله ‪-‬‬
‫مؤسسة شباب الجامعة ‪ -‬السكندرية‪ – 1989 -‬صفحة ‪158‬‬
‫)‪ (11‬الحكم والمثال والنصائح عند المصريين القدماء – محرم كمال –‬
‫اللف كتاب الثانية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – الطبعة الثانية ‪1998‬‬
‫صفحة ‪10‬‬
‫)‪ (12‬الحكم والمثال في الدب الفرعوني – د‪ .‬سيد كريم ‪ -‬الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب ‪ -‬مكتبة السرة ‪ – 1997‬صفحة ‪148‬‬
‫)‪ (13‬د‪ .‬سيد كريم – مرجع سابق صفحة ‪148‬‬
‫)‪ (14‬حضارة مصر الفرعونية – فرا نسوا دوما – ترجمة ماهر جويجاتي –‬
‫المشروع القومي للترجمة – المجلس العلى للثقافة – رقم ‪1987- 48‬‬
‫صفحة ‪538‬‬

‫‪12‬‬
‫)‪ (15‬سليم حسن – المرجع السابق – صفحة ‪69‬‬
‫** كل الستشهادات الخاصة بشكاوى الفلح الفصيح ‪ُ ،‬نشرت في كتاب )‬
‫مصر القديمة (‪ -‬سليم حسن الجزء السابع عشر – الدب المصري‬
‫القديم – مكتبة السرة ‪ – 2000-‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪.‬‬

‫‪13‬‬

You might also like